فِكرُ الله يوفق بينهما
خُذ حالةَ أولئك الذين يذهبون إلى أن المعرفة المسبقة لا تُضفِي ضرورةً على المستقبل وأن حرية الإرادة لا تُقيِّدها المعرفة المسبقة، أود أن أعرف لماذا تَعتبر حجتَهم غير مُقْنعة، فالمصدر الوحيد لبرهانك على قدرية المستقبل هو اعتقادُك أن ما يُعرَف مسبقًا لا يمكن إلا أن يحدث، إذن إذا كانت المعرفة المسبقة، كما اعترفت لتوِّك، لا تَفرض أيَّ قدريةٍ على المستقبل فلماذا تكون الأفعال الإرادية مُسيرةً قسرًا إلى نتيجةٍ محددة؟
ولكن لنفترض جدلًا، كيما ترى ما يترتب عليه، أن ليس ثمة معرفةٌ مسبقة، في هذه الحالة لن تكون أفعال الإرادة مسيَّرةٌ قسرًا، أليس كذلك؟»
لعلك ستقول: ولكن إذا لم تكن المعرفة المسبقة تُشكِّل ضرورةً على أحداث المستقبل فإنها رغم ذلك «علامةٌ» sign تدُلُّ على أن هذه الأحداث المستقبلية سوف تقع حتمًا، في هذه الحالة، وحتى إذا لم تكن هناك معرفةٌ مسبقة، يكون من الواضح للجميع أن وقوع أحداث المستقبل هو أمر مقدَّرٌ جبري إذ إن العلامات تدل فقط على ما تشير إليه ولكنها لا تُحدثه.
علينا إذن أن نُثبت أولًا أن كلَّ ما يحدث فهو يحدث بالضرورة حتى يتضح أن المعرفة المسبقة هي علامةٌ على هذه الضرورة، وإلا فإذا لم يكن ثمة ضرورةٌ فهيهات للمعرفة المسبقة أن تكون علامةً على شيءٍ هو غير موجود، إنه لمما لا خلاف عليه أن البراهين يجب أن تستند إلى منطقٍ صارمٍ لا إلى «علامات» أو إلى حُججٍ مجلوبةٍ من الخارج، ينبغي أن تُستنبط البراهين من حججٍ مُتَّسقةٍ متماسكة يأخذ بعضها بحُجز بعضٍ وتُفضِي الواحدة منها إلى الأخرى.
من المحال أن ما يُرى مسبقًا كحدثٍ مستقبلي لا يقع في حينه، إن ذلك ليكون أشبه بأن نعتقد أن ما تراه العناية مسبقًا كأحداثٍ مستقبليةٍ هي أحداثٌ لن تقع، بدلًا من أن نعتقد أنها رغم وقوعها فهي لم تكن بطبيعتها مقدرةً جبريةً، وليس من العسير عليك أن تراها على هذا النحو، فنحن نَشَهد كثيرًا من الأشياء وهي تجري أمام أعيننا، مثل الأفعال التي نرى سائقي العربات يؤدُّونها لكي يتحكموا في عرباتهم ويقودوها وغير ذلك مما شابه، فهل ثمة أي ضرورةٍ تَقْسر أيَّ شيءٍ من هذه الأشياء على أن يحدثَ كما يحدث؟»
ستقول ولكن هذه هي ذات النقطة التي نبحثها: وهي ما إذا كان من الممكن وجود أي معرفةٍ مسبقةٍ للأشياء التي لا يخضع حدوثها للضرورة، أنا لا أرى أي تناقضٍ هنا، أما أنت فترى أن ضرورة الأحداث تترتب على كونها تُرى مسبقًا، فإذا لم تكن ثمة ضرورةٌ فلا يمكن للأحداث أن تُعرف مسبقًا؛ لأنك تعتقد أنه لا شيء يمكن أن تشمله المعرفة ما لم يكن يقينيًّا، فإذا عُرفت مسبقًا أحداثٌ غير يقينية الحدوث كما لو كانت يقينية لكانت هذه المعرفة مجرد ظنٍّ غائمٍ لا معرفةً حقيقية، وشتان بين الظن والمعرفة.
وسبب هذا الخطأ أن الناس تظن أن كل معرفتها تعتمد على طبيعة موضوعات المعرفة وقابليتها لأن تُعرف، وهذا خطأٌ فادح، والنقيض هو الصحيح: فكل ما يُعرَف إنما يُعرف وفقًا للقدرة المعرفية ﻟ «العارِف» لا لطبيعة الشيء «المعروف» (المدرك)، دعني أوضح لك ذلك بمثال: فاستدارة جسمٍ ما قد تُدرَك بطريق البصر وقد تُدرَك بطريق اللمس، أما البصر فيظل على مسافةٍ من الجسم ويَرَى الكلَّ في آنٍ واحدٍ بواسطة أشعة الضوء، وأما اللمس فيقترب من الجسم ويمسك بمحيطه الحقيقي ويدرك استدارته جزءًا جزءًا، وكذلك الإنسان نفسه يشاهد بطرقٍ متعددةٍ بواسطة «الإدراك الحسي» sense perception و«المُخيَّلة» imagination و«العقل» reason و«الفكر» intelligence١ فالحواس تفحص هيئته كمركَّبٍ من المادة، بينما المخيلة تدرك هيئته وحدها بدون مادة، أما العقل فيتجاوز الخيال أيضًا وبإدراكٍ كلي يتأمَّل في النوع أو الجنس المتضمن في صميم الأمثلة الفردية، غير أن هناك الرؤية العليا للفكر، والتي تتخطى مجال الكلي وتشهد الصورة البسيطة نفسها بالنظر الخالص للعقل.
النقطة الرئيسية التي تعنينا هنا هي أن الأعلى في المعرفة يتضمن الأدنى، ولكن من المحال على الإطلاق أن يسمو الأدنى إلى الأعلى، فالحواس لا يمكنها أن تدرك أي شيءٍ عدا المادة، والمخيلة لا يمكن أن ترى إلى الجنس الكلي، والعقل لا يمكن أن يمسك الصورة البسيطة، أما الفكر فكأنما ينظر من أعلى ويدرك الصورة البسيطة، ثم يميز كلَّ ما يندرج تحتها ولكن بتلك الطريقة التي يدرك بها الصورة نفسها التي لا يمكن أن تُعرف لأي وسيلة أخرى: فهو يعرف معرفة العقل بالكليات ومعرفة الخيال بالهيئة ومعرفة الحواس بالمادة، من دون أن يستخدم العقل ولا الخيال ولا الحواس، وإنما بلمحةٍ ذهنيةٍ واحدةٍ تنظر إلى كل شيءٍ بتصورٍ واضحٍ للكل.
والعقل أيضًا عندما يَنظر إلى الكليات من دون أن يستخدم الخيال أو الحواس فإنه يُدرك الموضوعات المتخيَّلة والمحسوسة لكلٍّ من المخيِّلة والحس، فالعقل هو ما يُعرِّف المفهوم الكلي: «الإنسان حيوانٌ عاقلٌ يمشي على قدمين»، وحيث إن هذا المفهوم كليٌّ فالجميع يعلم أنه مفهومٌ يمكن أن يُتخيَّل بالخيال ويحس بالحواس، بينما ينظرها العقل لا من خلال الخيال أو الحواس ويُحس بالحواس، بينما ينظرها العقل لا من خلال الخيال أو الحواس بل من خلال التصور العقلي، والمخيلة أيضًا ربما تكون قد استمدت قدرتها الأصلية على رؤية هيئة الأشياء وتكوينها من الحواس، غير أنها في غياب الحواس تظل لها القدرة على أن تعاين كلَّ الأشياء المُحسَّة لا من خلال الإدراك الحسي بل من خلال الإدراك الخيالي.
وها أنت ترى أنها جميعًا في أسلوبها في المعرفة إنما تستخدم قدرتها على المعرفة وليس قدرة موضوعات المعرفة على أن تُعرف، وهذا ما يصح وما يَلِيق وما يُعقل، فحيث إن كل حُكمٍ هو فعلٌ لمن يحكم فلا بد لكلٍّ من أن يؤدي عملَه بقدرته هو لا بقدرةٍ سواه.»
•••