الفكر الأعلى
-
فالإحساس المحض المجرد من أي صنفٍ آخر من العرفان قد مُنح للحيوانات التي لا تَقوَى على الحركة، من قبيل بلح البحر وغيره من أنواع المحار الذي ينمو على الصخور.
-
والتخيل قد مُنِح للحيوانات التي لديها القدرة على الحركة، والتي يبدو أن لديها شيئًا من الإرادة لكي تختارَ أشياء وتتجنب أشياء.
-
والعقل ينتمي حصرًا إلى الجنس البشري كما أن الفكر ينتمي حصرًا إلى الألوهة، والنتيجة أن هذا الصنف من العرفان يتجاوز الأصناف الأخرى ولا تقتصر معرفتُه على موضوعاته الخاصة بل تشمل أيضًا موضوعات الأصناف الأخرى من العرفان.
افترض إذن أن الحواس والخيال وقفا يُعارضان العقل قائلين إن الكليات التي يدَّعي العقل معرفتها هي لا شيء على الإطلاق، بالنظر إلى أن ما تُمكن رؤيتُه وتخيله لا يمكن أن يكون كليًّا، ومن ثم فإما أن يكون حكم العقل صحيحًا ولا يكون ثمة شيءٌ محسٌّ، وإما، من حيث إن العقل قد عرفَ أن للحواس والخيال موضوعاتهما الكثيرة، تكون طريقة العقل في العرفان غير ذات قيمة … تلك الطريقة التي صوَّرت له ما هو مُحَسٌّ ومفرَدٌ على أنه ضربٌ من الكليات.
وإذا ردَّ العقل بأنه في نظره إلى الكلي كان محتفظًا برؤية ما تدركه الحواس وما تدركه المخيِّلة بينما الحس والمخيلة لا يَرقيان إلى تمييز الكلية لأن أسلوبهما في العرفان لا يسمح لهما بتجاوز الهيئة المادية للأشياء، إذا قال العقل إنه في مسألة الطريق التي تُعرف بها الأشياء لا بدَّ من أن تُمنَحَ المصداقية للإدراك الأكثر وثوقًا وكمالًا، إذا ردَّ العقل بهذه الحجة، فينبغي علينا بالتأكيد، بوصفنا أشخاصًا لدينا القدرة على التعقل بالإضافة إلى التخيل والإدراك الحسي، أن ننحاز إلى جانب العقل.
وبنفس الطريقة يأبى العقل البشري أن يعتقد بأن الفكر الإلهي يمكنه أن يرى المستقبل بأي أسلوبٍ يتجاوز أسلوبه هو في المعرفة، ولعله يُحاجُّ بما يلي: إذا لم يكن ثمة أيُّ شيءٍ يبدو وقوعه يقينيًّا ومقدرًا، فمن المحال أن يُعرف مسبقًا كحدثٍ مستقبلي، ومِن ثَمَّ فليس هناك معرفةٌ مسبقة؛ لأننا إذا اعتقدنا أن هناك أي معرفةٍ مسبقةٍ به فلن يمكن أن يوجد هناك أيُّ شيءٍ سوى ما تأتي به الضرورة، إذن، إذا أمكننا، نحن الذين نشارك في امتلاك العقل، أن نمضي قُدُمًا ونحظى بحُكم العقل الإلهي، لأدركنا كم هو حري بعقل الإنسان أن يستسلم للعقل الإلهي، تمامًا مثلما خَلَصنا إلى أنه حري بالحس والمخيلة أن يستسلما للعقل.
فَلنَعْل بأنفسنا إذن، قدر المستطاع، إلى أعالي ذلك الفكر الأسمى، هنالك سيكون بوسع العقل أن يرى كيف يمكن لما هو غير ضروري أن يُعرَف معرفةً يقينيةً راسخة، معرفةً ليست من الظن في شيء، بل هي الفورية اللامحدودة لأسمى صور العرفان.