مقدمة

أخذنا في تأليف هذا الكتاب ونحن نعلم أهمية موضوعه ونشعر بافتقار اللغة العربية إلى مثله. ولكننا لم نكن نتوقع ما لاقاه من حفاوة أهل اللغات الأخرى في العالم الإسلامي بأسره، ولا أن يصل إعجاب كبار المستشرقين في أوروبا بموضوعه إلى مثل ما رأيناه منهم على أثر صدور الأجزاء الثلاثة الماضية، لأنهم فضلًا عما كتبوه إلينا من عبارات الاستحسان والتنشيط، وما نشروه من التقاريظ في المجلات والجرائد التي تصدر في بلادهم، قد أخذوا يشتغلون بنقله إلى ألسنتهم ونشره بين مواطنيهم ونحن لم نفرغ بعدُ من تأليفه. وبعض هذه الترجمات قد طبع ونشر ولا يزال البعض الآخر تحت الطبع، والآخر تحت الترجمة. فقد صدر الجزء الأول من الترجمة الأوردية (الهندستانية) مطبوعًا على الحجر في أمرتسار (الهند) بقلم الشيخ محمد غلام منشئ «جريدة وكيل» الهندية الشهيرة. وسيصدر الجزء الأول من الترجمة الفارسية قريبًا بقلم ميرزا ذكاء الملك صاحب «جريدة تربيت» الفارسية. وكتب إلينا المستشرق الكبير الأستاذ مرجليوث المشتغل بنقله إلى الإنجليزية في جامعة أكسفورد، أنه سيفرغ من ترجمته ويبدأ في نشره في أواخر هذا الصيف. وبعث إلينا الأستاذ دانيلوف المستشرق الروسي في موسكو أنه أتم نقل الجزء الأول إلى اللغة الروسية ويليه الجزء الثاني. وقد خابرنا بعض المستشرقين بشأن نقله إلى اللغة الفرنسية وغيرها.

فنشطنا ذلك في المثابرة على التنقيب والبحث لاستطلاع دخائل التمدن الإسلامي، وكشف أسراره بما يبلغ إليه الإمكان على أسلوب لم يطرقه كتاب العرب، نتوخى فيه إرجاع الحوادث إلى أسبابها وبيان ارتباطها بعضها ببعض مع تطبيق أحكام العقل ونواميس العمران عليها. فنطالع كتب التاريخ والأدب وغيرها، على سذاجة أسلوبها في سرد الحوادث وإيراد الوقائع، ونتدبر ما نقرؤه ثم نستخرج منه فلسفة ذلك التمدن العجيب، كما يستخرج السكر من الخروب؛ لأن مؤرخي الإسلام، مع ما بذلوه من الجهد في تحقيق الحوادث وتمحيص أسانيدها ومصادرها، قلما نظروا في علاقاتها أو عللوا أسبابها، وإنما نقلوها على علَّاتها، وخصوصًا ما يتعلق منها بسياسة الدولة، وكيفية انتقال الملك من عائلة إلى عائلة، أو أمة إلى أمة، أو طائفة إلى طائفة؛ لأن تعليل تلك الحوادث يبعث أحيانًا على الطعن في أقوال بعض الخلفاء، أو تخطئة بعض المذاهب، وهم يتحاشون ذلك احترامًا للدين ورجاله، ولذلك كان موضوع هذا الجزء أوعر مسلكًا من موضوعات سائر الأجزاء الماضية، وأدعى إلى إعمال الفكرة، واستنباط الأقيسة، وتطبيق النتائج على المقدمات؛ لأنه عبارة عن فلسفة تاريخ الإسلام في ذلك التمدن.

موضوع هذا الجزء

بسطنا الكلام في الجزء الأول من هذا الكتاب عن نشوء الدولة الإسلامية وسعة مملكتها، وتاريخ نظمها الإدارية والسياسية والمالية والعسكرية والقضائية وغيرها. وخصصنا الجزء الثاني لبيان ثروة الدولة الإسلامية ورجالها، وأسباب تكون تلك الثروة وأسباب تدهورها. وجعلنا الجزء الثالث خاصًّا بالعلم والأدب، فبحثنا فيما كان منهما عند العرب في الجاهلية، وما أحدثه الإسلام من التغيير في القرائح والعقول، وما نُقل عن اللغات الأجنبية من العلوم، وما كان من تأثير التمدن الإسلامي في كل ذلك.

فبعد أن نظرنا في التمدن المذكور، من حيث نظام الدولة وثروتها وعلومها، عمدنا إلى البحث في سياستها، فخصصنا لها هذا الجزء برمته، ولعله أهم أجزاء الكتاب وأوعرها مسلكًا، لما يحول بيننا وبين أسباب الوقائع السياسية من العقبات والشكوك، ولا سيما انتقال الخلافة من دولة إلى دولة، وما يعترض ذلك من تنازع أهل الدولة على الاستئثار بالسلطة، وتأثير الاختلاف الجنسي أو المذهبي في ذلك، مما لا يتيسر العثور عليه في كتب القوم لما قدمناه من تحاشي المؤرخين الخوض في مثله. على أننا لم نعدم بصيصًا من خلال تلك الظلمة، تلمسنا به سبيلنا في البحث عن الأسباب والعلل، فوفقنا إلى كشف أسباب أكثر الحوادث، فبسطناها بما يقتضيه ذلك من النظر الفلسفي والحكم العقلي والقياس التمثيلي، وتحرينا الحقيقة جهد طاقتنا.

ولما عمدنا إلى تقسيم الموضوع وتبويبه اعترضتنا عقبة أخرى لا تقل وعورة عن تلك؛ لاختلاط الحوادث وتعارض أسباب واشتراك نتائجها وتلوُّن مظاهرها، وتعدد أوجهها من حيث الدين أو الجنس أو المكان أو الزمان، فرأينا بعد إمعان النظر أن نقسم الموضوع باعتبار العناصر التي سادت في الإسلام، وما كان من تنازعها على تلك السيادة، مع ملاحظة أطوار التمدن الإسلامي باختلاف تلك العناصر. فقسمنا تاريخ الإسلام إلى دورين كبيرين:
  • الدور الأول: دور التمدن الذي نحن بصدده، يبتدئ بظهور الإسلام وينتهي بذهاب الدولة العباسية من العراق، وتدهور المملكة الإسلامية وتسلط المغول عليها.
  • الدور الثاني: هو النهضة السياسية التي حدثت بعد ذلك التدهور، بتغلب الدولة العثمانية وإحياء الخلافة الإسلامية، بجمع شتات المسلمين السُّنِّيِّين في ظلها، وظهور الدولة الصفوية الفارسية، وجمع شتات الشيعة تحت رايتها.
وقسمنا الدور الأول إلى خمسة عصور، باعتبار تغلب أحد العناصر الإسلامية على سائرها. ولا يتيسر وضع حد فاصل بين هذه العصور لأسباب لا تخفى على المطلع، فيغلب أن تختلط أواخر كل عصر بأوائل العصر الذي يليه. وإليك هذه العصور:
  • (١)

    العصر العربي الأول: من ظهور الإسلام إلى انقضاء الدولة الأموية سنة ١٣٢ﻫ.

  • (٢)

    العصر الفارسي الأول: من قيام الدولة العباسية سنة ١٣٢ إلى خلافة المتوكل سنة ٢٣٣ﻫ.

  • (٣)

    العصر التركي الأول: من خلافة المتوكل إلى تسلط الديلم سنة ٣٣٤ﻫ.

  • (٤)

    العصر العربي الثاني: من قيام الدولة الفاطمية إلى انقضائها.

  • (٥)

    العصر المغولي: من ظهور جنكيزخان إلى وفاة تيمور لنك.

أما العصر التركي الثاني فهو عصر الدولة العثمانية، والعصر الفارسي الثاني عصر الدولة الصفوية ومن خلفها على بلاد فارس، ويتألف منهما الدور الإسلامي الثاني، وهو خارج عن دائرة بحثنا في هذا الكتاب.

وقسمنا كلًّا من العصور الخمسة التي درسناها في هذا الجزء إلى فصول وأبواب على ما يقتضيه المقام. فقدمنا الكلام بتمهيد في العرب قبل الإسلام من حيث نظام الاجتماع، فوصفنا البدو والحضر وأنساب العرب وقبائلهم وبطونهم، واستفحال عصبية النسب عندهم ومنها الأمومة والخؤولة، ثم ذكرنا توابع تلك العصبية كالحلف والاستلحاق والخلع، ثم العبيد والموالي في الجاهلية وأنواعهم وأحكامهم، والنازلين من الأجانب في جزيرة العرب قبل الإسلام وخصوصًا الأبناء الفرس، وختمنا التمهيد بفصل في سياسة دول العرب قبل الإسلام ومناقب العرب.

ثم تقدمنا إلى العصر العربي الأول، فقسمناه إلى أيام الراشدين وأيام بني أمية، فبينا أولًا أن الإسلام قام بالجامعة الإسلامية التي جمعت كلمة العرب على اختلاف قبائلهم وبطونهم تحت راية الإسلام. فتساووا في الفضل من حيث أنسابهم، وتفاضلوا من حيث سبقهم إلى الدين أو جهادهم في سبيله، فتولدت طبقات إسلامية جديدة، كالمهاجرين والأنصار وأهل بدر وأهل القادسية، مما لم يكن من قبل.

ثم وصفنا سياسة الخلفاء الراشدين وأنها مبنية على التقوى والحق والعدل، وذكرنا مزايا كل خليفة منهم، وأن سياسة عمر بن الخطاب كانت في أول خلافته تدعو إلى حصر المسلمين في جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق، وأنه اضطر بطبيعة العمران إلى أن يأذن لقواده وأمرائه في الانسياح في الأرض، فانتشر العرب بالفتح أو المهاجرة، وتكاثروا بالتناسل الكثير.

وختمنا العصر الأول بفصل في العبيد والموالي وأحكامهم في الإسلام.

ثم انتقلنا إلى القسم الثاني من العصر الأول، وهو أيام الأمويين، فذكرنا أولًا الأسباب التي ساعدت على انتقال الخلافة إليهم، وما كان بين بني هاشم وبني أمية من المنافسة قبل الإسلام، وكيف شقَّ على الأمويين أن يعظم أمر بني هاشم بالنبوة وهم أقل منهم عددًا وقوةً. فما زالوا حتى غلبوهم على الدولة، فأخذها معاوية بن أبي سفيان من علي بن أبي طالب بالدهاء والأطماع. وفصلنا سياسة الأمويين في تأييد سلطتهم، وبينا أن محور هذه السياسة طلب التغلب بأية وسيلة كانت. والأمويون يعلمون أن الهاشميين أحق منهم بالخلافة، فعمدوا إلى التغلب بالعصبية كما كانت في الجاهلية، وكان العرب المسلمون قد زالت عنهم دهشة النبوة، فعادوا إلى عصبية النسب أولًا بين قريش وسائر العرب، ثم بين اليمنية والمضرية. وبالغ الأمويون في التعصب على غير العرب، فاحتقروا الموالي الفرس وغيرهم وضيقوا عليهم. وتحضر العرب في عصر الأمويين وألفوا السكنى في المدن، فحدثت العصبية الوطنية، أي: تعصب البلاد بعضها على بعض كالبصرة والكوفة والشام وغيرها. واضطر الأمويون في سبيل التغلب على بني هاشم إلى اصطناع القبائل والرجال ببذل المال، فحملهم ذلك على الاستكثار من الأموال. وجرهم الاستكثار منها إلى ابتزازها بحق أو بغير حق، فضيقوا على الرعية من المسلمين وأهل الذمة، حتى ملَّ الناس أيامهم وخصوصًا بعدما ظهر من استخفافهم بأحكام الشريعة، وتهتكهم وفتكهم واحتقارهم الموالي وتضييقهم على أهل الذمة. ويلي ذلك فصل طويل في أحكام أهل الذمة من زمن عمر بن الخطاب إلى آخر أيام الأمويين.

ثم تقدمنا إلى العصر الفارسي الأول، فصدَّرناه بفصل في انتقال الخلافة إلى العباسيين بنصرة الموالي الناقمين على بني أمية. وكيف نصروا بني العباس — وهم في الأصل من شيعة علي — وكانوا يظنون بيعتهم مشتركة بين العلويين والعباسيين؛ لأن العباسيين كانوا قد بايعوا العلويين على ذلك فسكتوا، فنقل أبو مسلم الخراساني المملكة الإسلامية من الأمويين وسلمها إلى العباسيين. فلما قبض العباسيون على زمام الدولة نكثوا البيعة، وغدروا بمن كانوا يخشون سلطانهم من العلويين وغيرهم، حتى فتكوا بجماعة من أكبر دعاتهم وأنصارهم، وفيهم أبو مسلم نفسه.

وقسمنا سياسة العباسيين إلى سياستين:
  • الأولى: سياستهم في تأييد سلطتهم، وكانت مبنية على الغدر والفتك، فخافهم الفرس الذين ساعدوهم على قيام دولتهم، وكظموا غيظهم لئلا يصيبهم ما أصاب أبا مسلم وأصحابه، فاستخدمهم العباسيون في مصالح دولتهم، وسلموا إليهم مقاليد الحكومة، وجعلوهم وزراءهم وأشهرهم البرامكة. فلما اشتد ساعد البرامكة، ونالوا ما نالوه من القوة والسطوة والثروة، أخذوا يبذلون الأموال لاكتساب قلوب الناس، وقد أضمروا إرجاع البيعة إلى العلويين أو تسليم الدولة للفرس، فشعر الرشيد بذلك فنكبهم. وفصلنا مقدمات هذه النكبة وأسبابها، وبينا كيف تضاعفت نقمة الفرس على العباسيين. ولما مات الرشيد اختلف ابناه الأمين والمأمون، وكان الفرس أخوال المأمون، فنصروه وحاربوا معه وقتلوا أخاه وأعادوا الخلافة إليه، على أن يبايع بعده لعلي الرضا، أي: ينقل الدولة من العباسيين إلى العلويين، فأطاعهم حتى ملك مراده منهم ثم غدر بهم.
  • والثانية: سياستهم في معاملة الرعية، وكانت مؤسسة على العدل والحق والمحاسنة، ويتخلل ذلك فصول في أهل الذمة وأحكامهم وأسباب ما لحقهم من الاضطهاد إلى عهد غير بعيد. وفصل في حرية الدين وإطلاق الأفكار، وما كان من تنازع العناصر، وكيف ذهبت العصبية العربية بذهاب دولة الأمين، وما رافق ذلك من اختلاط الأنساب، حتى ندر الدم العربي الخالص بعد ذهاب القرن الثاني للهجرة إلا في البادية.

ثم تقدمنا إلى العصر التركي الأول، وذكرنا الأسباب التي دعت إلى تدخل الأتراك في الدولة من أيام المعتصم، وكيف جمع الأتراك وجندهم وبنى لهم سامرا، وكيف تدرجوا في مصالح الدولة حتى تغلبوا على الخلفاء، وما ترتب على ذلك من احتجاب الخلفاء في دور النساء، ومعاشرتهم الخدم ووثوقهم بهم، حتى رفعوا الخدم والخصيان إلى رتب القيادة وإمارة الأمراء وغيرهما، وأطلقوا أيدي النساء في مصالح الدولة، فآل ذلك كله إلى فساد الحكم واختلال الأعمال، وذهبت هيبة الخلفاء، فعمد أصحاب الأطراف إلى الاستقلال بولاياتهم، فتشعبت الدولة العباسية إلى فروع: فارسية، وتركية، وعربية، وكردية، وكلها تبايع الخليفة العباسي. فاستطرقنا بذلك إلى البحث في معنى الخلافة ونسبتها إلى السلطة من أول الإسلام إلى الآن.

ثم انتقلنا إلى العصر العربي الثاني، فذكرنا نقمة العرب على العباسيين منذ أهملوهم وأسقطوهم من الديوان، وأضفنا إليها نقمة العلويين والأمويين، وكيف ظهرت الدولة الأموية في الأندلس، والفاطمية في مصر، لمقاومة الدولة العباسية، وأوشك الفاطميون — وهم علويون — أن يتغلبوا على العباسيين، لو لم يقف السلاجقة في سبيلهم. على أن الفاطميين ما لبثوا أن تضعضعوا وغلبهم الأكراد على دولتهم، وأولهم صلاح الدين، فأعاد البيعة إلى العباسيين، وانقضى هذا العصر وقد تضعضعت المملكة الإسلامية وانقسمت على نفسها، وطمع فيها أعداؤها المحيطون بها، فجاءها المغول وهي في تلك الحال، فاكتسحوها وزادوها ضعفًا واختلالًا، وهو العصر المغولي، وبه ينتهي هذا الجزء.

وقد بذلنا الجهد في تمحيص الحقائق وتحقيق الحوادث، بالاعتماد على أوثق المصادر وأصح الروايات، وتدبرنا ذلك واستخرنا من علل الحوادث وأسبابها ما نظنه الأقرب إلى الصواب، ملتزمين الصدق والإخلاص والإنصاف، والله حسبنا ونعم الوكيل.١

وسيكون موضوع الجزء الخامس حضارة المملكة وأبهة الدولة وآداب الاجتماع، وبه ينتهي الكتاب.

١  طبع هذا الجزء خمس طبعات قبل هذه، منها الرابعة سنة ١٩٢٧، والخامسة سنة ١٩٤٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤