تمهيد في العرب قبل الإسلام

نريد بهذا العصر المدة التي كانت فيها الدولة الإسلامية في أيدي العرب، وكانت سياستها عربية وقوادها عربًا وعمالها عربًا، وكانت السيادة فيها للعنصر العربي. والعصر المذكور يبتدئ بالإسلام وينقضي بانقضاء الدولة الأموية. وهو ينقسم إلى دولتين: دولة الراشدين، ودولة الأمويين، ولكل منهما أحكام خاصة بها في السياسة وشؤون الحكومة سيأتي بيانها. ولا بد لنا تمهيدًا لذلك أن نأتي بفذلكة في حال العرب قبل الإسلام، من حيث ما يهمنا بيانه في هذا الباب …

(١) البدو والحضر

البدو أهل البادية، والحضر أهل المدن. والبداوة أقدم من الحضارة؛ لأنها أقرب منها إلى الفطرة الطبيعية. فالإنسان كان في أول أدواره بدويًّا يحترف الزراعة والفلاحة، أو ينتحل القيام على تربية الحيوان من الغنم والبقر والماعز أو النحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها، مما لا تتسع له المدن من المزارع للغرس والمراعي للمرعى. فالتجأوا إلى السهول والبراري، وكان همهم بلوغ الضروري من القوت والسكن والدفء بالمقدار الذي يحفظ الحياة ويمكِّن من مواصلة العيش. فلما تقدمت أحوالهم وحصلوا على ما هو أكثر من ذلك من أسباب الغنى والرفاهية، عمدوا إلى السكون والدعة وتأنقوا وتمدَّنوا وأترفوا.

فالبداوة تقوم إما على الفلاحة والزرع، أو على تربية الحيوان. فالبدو أهل الفلاحة مضطرون للاستقرار في مواطنهم ينتظرون الغلة وهم سكان المداشر. والقرى والجبال، وكانوا قليلين في بادية العرب. وإنما يكثر هذا الصنف من البدو في بلاد البربر بشمالي أفريقيا، وفيما يجاور المدن العامرة بمصر وفارس والشام وغيرها. وأما البدو الذين يحترفون تربية الحيوان فدأبهم الظعن والارتحال، لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم. وهم صنفان: أهل سائمة، وأهل إبل. فأهل السائمة هم القائمون على الشاء والبقر، ولا يبعدون في القفر لقلة المراعي الطيبة، ويقال لهم: الشاوية نسبة إلى الشاء. وهؤلاء مثل البربر في شمالي أفريقيا، والترك وإخوانهم التركمان والصقالبة، وغيرهم ممن يقطنون بوادي تركستان وخراسان ونحوهما.

•••

وأما أهل الإبل فأشهرهم بدو العرب، وهم أكثر ظعنًا وأبعد في القفار مجالًا من أهل السائمة؛ لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا تستغني بها الإبل في قوام حياتهم عن مراعي الشجر بالقفار، وورود مياهه الملحة والتقلب في فصل الشتاء في نواحيه فرارًا من أذى البرد إلى دفء هوائه وطلبًا لما خض النتاج في رماله؛ لأن الإبل أصعب الحيوانات فصالًا ومخاضًا وأحوجها في ذلك إلى الدفء. فاضطروا إلى إبعاد النجعة والإيغال في القفار، فهم ينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه، والمفترس من الحيوان، لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وقيامهم بالدفاع عن أنفسهم. فهم دائمًا يحملون السلاح، ويتلفتون في الطرق، ويتجافون عن الهجوع، إلا غرارًا في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتفردون في القفار والبيداء واثقين ببأسهم، حتى صار البأس لهم خلقًا، ولذلك كان أكثر البدو توغلًا في القفار أشدهم بأسًا وأصبرهم على المشاق.

فسكان جزيرة العرب معظمهم من البدو الرُّحَّل؛ ولذلك كانت المدن قليلة في تلك الجزيرة، ولا سيما في أواسطها. وأشهر المدن العربية قبل الإسلام مكة والمدينة والطائف في الحجاز، ومأرب وصنعاء في اليمن. وسكانها أخلاط من العرب والفرس والأحباش واليهود وغيرهم، يرتزقون بالبيع والشراء على من يفد عليهم من أهل البادية.

(٢) العصبية العربية قبل الإسلام

قلنا: إن العرب جمهورهم من البدو، والعصبية ضرورية لأهل البادية؛ لأن الناس مفطورون على المطامع، ودأبهم التخاصم والتنازع، فأهل المدن يدفع عدوانهم الحكام وأهل الدولة من أن يظلم بعضهم بعضًا، وهي أيضًا تدفع غارات الأعداء بما تقيمه من الأسوار وتعده من الجند والسلاح. وأما البدو فيحكم بينهم مشايخهم وكبراؤهم، بما وقر في نفوس أهل القبيلة أو الحي من الوقار لهم … وإكرام السن من تقاليد البدو. وإذا سطا عليهم عدو في منازلهم قام بالدفاع عنها فتيانهم وشجعانهم، وهؤلاء لا يصدق دفاعهم إلا إذا كانوا عصبية تشتد بها شوكتهم ويُخشى جانبهم.

وأهل البلد الواحد، أو المصلحة الواحدة، لا بد لهم من جامعة تجمع بين أفرادهم. والجامعة تختلف في الأمم باختلاف أحوالهم، فبعض الأمم يجمعهم الوطن، وآخرون يجمعهم الدين، وغيرهم يجمعهم النسب أو اللغة. وقد رأيت أن البدو لا وطن لهم، وكانوا قبل الإسلام لا دين لهم، فلم يكن لهم ما يجمعهم غير العصبية واللغة، وهما متلازمتان خصوصًا في البداوة؛ لذلك عني العرب بحفظ أنسابهم وضبطها، وتفاخروا بها، وبالغوا في استقصائها، حتى ردوها إلى الآباء الأولين.

فأقرب أسباب العصبية عندهم الأخوة والأبوة والعمومة، ومنها تتألف العائلة أو الأسرة، ومن العائلات تتألف الفصيلة، كآل أبي طالب وآل العباس مثلًا، فإن كلًّا منهما فصيلة مؤلفة من عائلات، وكلاهما من بني هاشم. ومن الفصائل تتألف الأفخاذ، مثل بني هاشم وبني أمية، وكلاهما من بني عبد مناف. ومن الأفخاذ تتألف البطون، مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، وكلاهما من قريش. ومن البطون تتألف العمائر (جمع عمارة) مثل بني قريش وبني كنانة، وكلاهما من مضر. ومن العمائر تتألف القبائل، مثل ربيعة ومضر، وكلاهما من عدنان. ومن القبائل يتألف الشعب، وهو النسب الأبعد، مثل عدنان وقحطان.

(٣) أنساب العرب

والذي عليه النسابون أن سكان جزيرة العرب قبل الإسلام يرجعون في أصولهم إلى قسمين: العرب البائدة، والعرب الباقية. فالقبائل البائدة هي التي بادت وضاعت أخبارها قبل ظهور الإسلام، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وجرهم وجاسم. وقد بحثنا بحثًا تحليليًّا في نسب هذه القبائل وأماكنها في مقالة نشرت في الهلال العشرين من السنة الخامسة لا محل لها هنا. وأما العرب الباقية فهي القبائل التي ظهر الإسلام وهي موجودة، فقامت به ونشرته وأنشأت الدولة الإسلامية. والقبائل الباقية فرقتان، ترجع كل منهما إلى أب واحد يضمها وطن تنسب إليه: الفرقة الأولى القحطانية، وترجع في أنسابها إلى قحطان وهو يقطان الذي ينتهي نسبه إلى أرفكشاد (أبو أرفخشد) من آباء التوراة، ومقر القبائل القحطانية في اليمن؛ ولذلك عُرفت أيضًا بالقبائل اليمنية أو عرب اليمن. والفرقة الثانية العدنانية، نسبة إلى عدنان من بعض أعقاب إسماعيل بن إبراهيم الخليل وتعرف أيضًا بالإسماعيلية، ولما كان مقر أكثرها في الحجاز ونجد عُرفت بالقبائل الحجازية، أو بعرب الحجاز ونجد أو عرب الشمال.

ولكل من القحطانية والعدنانية فروع من القبائل والعمائر والبطون والأفخاذ والفصائل لا يحصيها عدٌّ ولا محل لذكرها، ولكننا نأتي بما يهمنا منها في هذا المقام — فالعرب القحطانية أقدم من العدنانية، أو تمدنت قبلها على الأقل، ومنها بنو حمير الذين أنشأوا تمدنا في اليمن، ومنهم الملوك التبابعة وآثارهم في حضر موت وخرائب اليمن، لا يزال أكثرها مدفونًا في الرمال وعليه نقوش بالقلم المسند. وقد تفقد آثار ذلك التمدن غير واحد من المستشرقين، ولكنهم لم يتمكنوا من الاطلاع على شيء كثير لصعوبة السلوك في تلك القفار. على أن بعضهم ألف الكتب في هذا الموضوع، وذهب إلى أن التمدن اليمني أقدم من التمدن المصري، وأن الفراعنة أخذوا أصول تمدنهم عن أولئك العرب القحطانية. والمظنون أن ملكة سبأ التي زارت سليمان الحكيم نحو القرن العاشر قبل الميلاد إنما هي من ملوك هذه الدولة.

•••

وما زال اليمنية في بلاد اليمن وحضرموت، حتى كان سيل العرم أو انبثاق السد المعروف بسد مأرب. وهو عبارة عن حائط كان موصلًا بين جبلين، يحجز الماء الذي كان يسيل بينهما، فيرتفع ويروي السفحين إلى أعلاهما. بناه بعض ملوك تلك الدولة بناءً متينًا، فصبر على صدمات الماء وتأثير الهواء عدة قرون. فلما دنا القرن الثاني للميلاد (تقريبًا) وكانت الدولة قد شاخت، أحسوا بقرب سقوط السد، فخافوا الطوفان والقحط، فنزحوا من ذلك المكان وتفرقوا في البلاد، بحسب قبائلهم وبطونهم، ومنهم بنو غسان في الشام، وبنو لخم في العراق، وبنو الأوس والخزرج في المدينة، والأزد في منى، وخزاعة بجوار مكة. ثم انفجر السد فهاجر من بقي هناك من القبائل اليمنية. وفي نحو القرن الخامس للميلاد استولى الأحباش على بلاد اليمن، ثم جاء الفرس فأخرجوا الأحباش وضموا اليمن إلى مملكتهم. وجاء الإسلام واليمن من أعمال مملكة الفرس.

فلما ظهر الإسلام، كانت دولة العرب القحطانية قد دالت، وهم الحضر وسكان المدن. وأما البدو القحطانية فكانوا لا يزالون كثيرين، غير من بقي من القحطانية الحضر في يثرب وغيرها من مدن الحجاز واليمن. وإليك أشهر القبائل القحطانية عند ظهور الإسلام وهي: سبأ وحمير وكهلان والأزد ومازن وغسان والأوس والخزرج وخزاعة وبجيلة وخثعم وهمدان وطيء ولخم وكندة وقضاعة وكلب وتنوخ ومراد والأشعر وغيرها.

•••

وأما القبائل العدنانية، أو عرب الحجاز ونجد أو عرب الشمال، فلم يظهروا قبل الإسلام إلا قليلًا، ولم ينشؤوا دولة إلا بعد الإسلام. وهم قبائل عديدة، مواطنهم غالبًا في نجد والحجاز والعراق وتهامة، وكلها بادية رحالة إلا قريشًا فقد كانوا حضرًا يقيمون في مكة، وبعض أهل الطائف. وأعظم القبائل العدنانية قبيلة «معد»، ومنها تسلسلت قبائل عدنان كلها، ويقال: أنه كان معاصرًا لأرميا النبي.١وتفرع من معد إياد ونزار، وسكنت إياد العراق وتشعبت إلى بطون وأفخاذ. وأما نزار ففيها العظمة والقوة، ولها الفضل الأعظم على العرب؛ لأن منها جاءهم النبي . وانقسمت نزار إلى قبيلتي ربيعة ومضر، فسكنت ربيعة في جزيرة العراق، ومن بطونها ضبيعة وأسد وعنزة وجديلة والنمر وتغلب وبكر بن وائل وغيرهم. وأما مضر بن نزار فهم أهل الكثرة والغلب بالحجاز، أكثر من سائر بني عدنان، وكانت لهم الرياسة بمكة. ومن مضر تشعبت عدة عمائر من جملتها قريش، وتشعبت قريش إلى ٢٥ بطنًا من جملتها بنو عبد مناف، ومنهم بنو هاشم رهط النبي ، وبه شرفت مضر بعد الإسلام على سائر العرب قحطانيها وعدنانيها.
وأشهر القبائل العدنانية، غير ما تقدم، خزيمة وكنانة والنضر وشيبان وقيس وهوازن وسليم وغطفان وذبيان وثقيف وكلاب وعقيل وتميم وهلال وباهلة ومخزوم وأمية وعبد القيس وغيرها، وبعضها فروع للبعض الآخر. ولكل قبيلة أو عمارة شؤون خاصة وحكومة خاصة وشارة خاصة. ولكل منها سمة خاصة تمتاز بها عن سائر القبائل، تعرف بها رايتها وتسم بها أبلها، أي: تنقش عليها علامة خاصة بها كيًّا بالنار يقال لها: الميسم٢ وكانت القبيلة تمتاز بشيء تُعرف به ويذاع بين القبائل خبره، وتفاخر به سواها. فكانت مضر مثلًا تفتخر بفصاحتها، وربيعة تفتخر بفروسيتها ونجدتها٣ واشتهر بعض القبائل بالعز والمنعة دون سواها، كقبيلة بهدلة من العدنانية، فقد ذكروا أن العز والقوة تسلسلًا إليها من معد إلى نزار فمضر فخندف فتميم فسعد فكعب فعوف فبهدلة.

(٣-١) عصبية النسب

وبين القبائل، أو أفخاذها أو بطونها أو عمائرها، عصبية النسب تجمعها بعضها على بعض — الأقرب فالأقرب إلى الأبعد فالأبعد. فتجتمع الفصيلتان من الفخذ الواحد على فخذ آخر ولو كانوا جميعًا من بطن واحدة، وتجتمع البطنان من عمارة واحدة على عمارة أخرى ولو كانوا جميعًا من قبيلة واحدة، على حد قول المثل: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب»، فالقحطاني يتعصَّب على العدناني وهذه أوسع العصبيات، ثم إن القبائل يتعصب بعضها على بعض. والعمائر من قبيلة واحدة تتعصب بعضها على بعض، ويقال نحو ذلك في البطون من عمارة واحدة، أو الأفخاذ من بطن واحدة، حتى تصل إلى الفصائل والعائلات. فبنو العباس وبنو أبي طالب مثلًا تخاصما، وكلاهما من بني هاشم، وبنو هاشم وبنو أمية تخاصما، وكلاهما من بني عبد مناف، وقِسْ على ذلك.

وكل من القبائل أو البطون أو الأفخاذ يفاخر سواه بحسنات قومه ويذكر مثالب الآخرين. ولهم في ذلك مفاخرات يطول بنا شرحها. على أن أشهر حوادث المنافسة بين العرب إنما هو بين القبائل القحطانية (أو اليمنية) والقبائل العدنانية، وقد يرد ذكر ذلك في التاريخ ولا ينتبه له القارئ؛ لأنهم قلما يذكرون انتساب القبائل إلى إحدى هاتين العصبيتين فيقولون مثلًا: «انتشبت الحرب بين قيس وكلب»، ولا يذكرون أن قيسًا من العدنانية وكلبًا من القحطانية، لاعتقادهم أن القارئ يعرف ذلك. وقِسْ عليه قولهم: تفاخرت قحطان ونزار، أو معد واليمن، أو مضر وحمير، أو هوازن وكهلان، أو قيس وهمدان، أو نحو ذلك.

(٤) العرب والعجم قبل الإسلام

على أن العرب القحطانية والعدنانية يجتمعون على غير العرب من الفرس أو الترك ويسمونهم «العجم»، ويفاخرونهم بالأنساب واللغة ويحتقرونهم، وقد شقوا من اسمهم لفظ الأعجم للدلالة على الخرس، أو أن العجم مشتق من العجمة، فالعجمي عندهم غير العربي، والأعجم الأخرس٤ والأخزر عندهم الذي في عينه ضيق، وهذا وصف العجم وهو عند العرب من النقائص، فإذا قيل للعربي: يا أخزر عُدَّ ذلك القول إهانة؛ لأنه أخرجه من العرب. على أن العجمي في الأصل الفارسي، والعجم الفرس؛ لأن الفرس أقدم من خالط العرب من الأمم الغريبة عن لسانهم، ثم أطلقوا لفظ العجم على كل أجنبي غير عربي.

والمنافسة بين العرب والعجم قديمة، فإن الفرس في أيام دولتهم كثيرًا ما كانوا يُخرجون العرب من بلادهم بالسيف، والعرب كانوا يسطون على مدن الفرس حتى في أيام سابور قبل الإسلام ببضعة قرون، وكان هذا قد تعمد أذى العرب وإخراجهم من بلاده، وخصوصًا قبيلة إياد، وفيه يقول الشاعر:

على رغم سابور بن سابور أصبحت
قباب إياد حولها الخيل والنعم

ولكنه تمكن منهم بالقوة والجند، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، ومن أفلت لحق بأرض الروم. وفعل نحو ذلك ببني تميم في البحرين. وما زالت الضغائن بين العرب والفرس، حتى اضطر عرب اليمن إلى استنجاد كسرى على الأحباش في القرن الخامس للميلاد، فأرسل جندًا أخرجوا الأحباش واحتلوا مكانهم وحكموا العرب، إلى أن جاء الإسلام وتحول السلطان إلى العرب فتسلطوا على العجم، فكبر ذلك عليهم وخصوصًا في أيام بني أمية لتعصبهم على غير العرب. ونشأت فرقة الشعوبية للطعن في العرب وسيأتي بيان ذلك.

(٥) الأمومة والخؤولة

الأصل في العصبية عند العرب الأبوة أو الانتساب إلى الأب، مثل سائر الأمم الراقية، على أن الأمومة كان لها شأن كبير عندهم، وكثيرًا ما كانت المزاوجة أو المصاهرة سببًا كبيرًا للعصبية، ليس ذلك لعلو منزلة المرأة على الإجمال، وإنما الفضل فيه للأمومة، فإن المرأة كانت لا تزال محتقرة حتى تصير أمًّا … فتعلو منزلتها وتشتد عرى الاتحاد بها. فالرجل منهم يفضل أمه على امرأته؛ لأن الأم في اعتقاده أبقى له من امرأته. ومن أمثلة ذلك أن صخر بن عمرو بن الشريد — أخا الخنساء — لما حضر محاربة بني أسد، طعنه ربيعة بن ثور الأسدي فأدخل بعض حلقات الدرع في جنبه، وبقي صخر مدة في أشد ما يكون من المرض، وأمه وزوجته سليمى تمرضانه، فضجرت زوجته منه، فمرت بها امرأة فسألتها عنه فقالت: «لا هو حي فيرجى ولا ميت فينسى»، فسمعها صخر فأنشد قصيدة قال منها:

أرى أم صخر لا تمل عيادتي
وملت سليمى مضجعي ومكاني
وأي امرئ ساوى بأم حليلة
فلا عاش إلا في شقا وهوان٥
وكانت العرب من أجل ذلك لا يعزون في المرأة إلا أن تكون أمًّا٦ ولم يكن ذلك خاصًّا بحال المرأة عند العرب، فقد كان هذا شأنها أيضًا عند اليونان، لأنهم كانوا يعدون المرأة أمة يحجبونها قبل الزواج وبعده، وتشتغل بأشغال البيت من الحياكة والغزل وتمريض المرضى. وكذلك كان يفعل الفرس بنسائهم، فإذا صارت المرأة أمًّا علت منزلتها وصار إليها الأمر والنهي في بيتها، ولا يزال هذا دأب أهل البادية إلى اليوم. ونشأت من ذلك عصبية الخؤولة عند العرب، وهي نصرة عشيرة الأم لأولادها، وبعبارة أخرى لعشيرة زوجها، ولو كان الأب من قبيلة يمنية والأم من قبيلة عدنانية، أو بالعكس.

•••

وكان للخؤولة شأن عظيم عند العرب قبل الإسلام، وأقرب الشواهد عليها نصرة أهل المدينة للنبي في هجرته إليهم، فإن الخؤولة كانت من أهم أسباب نصرتهم؛ لأن أم النبي من بني النجار من الخزرج وهي قبيلة قحطانية، وأبوه من قريش وهي قبيلة مضرية. فلما توفي والده ذهبت به أمه إلى المدينة؛ لكي تلتجئ إلى أخواله بني النجار وهم كثيرون، وكانوا من أقرب أهلها إلى التدين، وقد ترهب أحدهم في الجاهلية، ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة، وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها، واتخذ بيته مسجدًا. فأقامت عندهم على الرحب والسعة، ثم ذهبت به إلى أعمامه في مكة وماتت على الطريق. فلما قام بدعوته وقاسى ما قاساه من اضطهاد أعمامه، هاجر إلى أخواله في المدينة، وأهلها يعرفون ذلك فيه؛ لأن خؤولة بني النجار جعلت الخزرج كلهم أخواله، فلما نزل المدينة رحب به أهلها، وكان أول من تابعه منهم أخواله أو من يمت إليهم بقرابة. وكانوا أشد أهل المدينة غيرة عليه ودفاعًا عنه٧ ثم تهافت أهل المدينة إلى مبايعته. وكان في أثناء غزواته إذا اشتد القتال جلس تحت راية الأنصار٨ وهم يستهلكون في سبيل نصرته؛ ولا سيما آل النجار. وكان أعداء الأنصار إذا هجوهم خصوا بني النجار منهم بالذكر، لتصدرهم في ذلك أكثر من سائر أهل المدينة. فمن قصيدة قالها عمرو بن العاص يوم أحد وهو لم يُسلم بعد:
خرجنا من الفيفا عليهم كأننا
مع الصبح في رضوى الحبيك المنطق
تمنت بنو النجار جهلًا لقاءنا
لدى جنب سلع والأماني تصدق
فما راعهم بالشر إلا فجاءة
كراديس خيل في الأزقة تمرق٩

وظلت الخؤولة مرعية عند العرب بعد الإسلام، وكان لها تأثير كبير في العصبية وسياسة الدولة. فلما طلب معاوية الخلافة، بحجة المطالبة بدم عثمان بن عفان، نصره بنو كلب وهم يمنية؛ لأن نائلة امرأة عثمان منهم وقد تلطخت أصابعها بالدم. وكان لنصرتهم دخل كبير في قيامه، وتزوج هو واحدة منهن ولدت له ابنه يزيد. ولما أفضت الخلافة إلى يزيد، كان الكلبية من حزبه؛ لأنهم أخواله، وأمثال هذه الشواهد كثيرة في تاريخ الإسلام، منها أن المأمون نصره الفرس؛ لأن أمه منهم، وكان أخوه الأمين ضده وحزبه عربي؛ لأن أمه عربية، فلجأ المأمون إلى خراسان وأقام بمرو عند أخواله، فأخرجوا الخلافة من يد الأمين وسلموها إليه. والمعتصم كانت أمه تركية وكان ميله إلى الأتراك كثيرًا، وقد جندهم فنصروه على الفرس. وقس على ذلك تأثير الأم في الدولة، مما سيأتي تفصيله. وكان رجال السياسة والتدبير من الملوك والقواد يقوون أحزابهم بالتزوج من القبائل المختلفة، فيكتسبون عصبية قبائل نسائهم.

(٦) توابع العصبية العربية

(٦-١) الحلف

فعمدة العرب في العصبية جامعة النسب من الأب، ثم الأم. على أنهم كانوا يجتمعون بأسباب أخرى، كالحلف بين القبائل وهو يشبه المحالفات أو المعاهدات الدولية في هذه الأيام. وأشهر أحلاف الجاهلية حلف المطيبين، وحلف الفضول. فالحلف يجمع بين القبائل ولو تباعدت أنسابها من القحطانية والعدنانية. وقد يكون التحالف بين العرب وغير العرب ممن ينزلون بينهم، وهو من قبيل الولاء، كاليهود الذين نزلوا المدينة من بني النضير وبني قينقاع وغيرهم، ومنهم حلفاء الأوس والخزرج، وكان أهل وادي القرى حلفاء بني هاشم، وسيأتي ذكرهم في الموالي.

وللتحالف أو الحلف عندهم شروط وأسباب، منها أن يكون الحليف أسيرًا لا يستطيع فداء نفسه، فيسمونه بسمة تلك القبيلة فيعد حليفًا لها١٠ والحليف يرث من القبيلة كما يرث الصريح من أبنائها،١١ أما إذا قتل فديته نصف دية الصريح.١٢

(٦-٢) الاستلحاق

ومن توابع العصبية العربية قبل الإسلام الاستلحاق، وهو أن يدعي الرجل رجلًا يلحقه بنسبه، وقد يكون عبدًا أو أسيرًا أو مولى، فيسميه مولاه وينسبه إليه. ومن أشهر حوادث الاستلحاق في الجاهلية، أن أمية جد بني أمية كان له عبد اسمه ذكوان، استلحقه بنسبه وكناه أبا عمرو، فصار اسمه عندهم أبا عمرو بن أمية، ومن نسله جاء الوليد بن عقبه أخو عثمان بن عفان لأمه، وكان من جلة الصحابة.

وأشهر حوادث الاستلحاق في الإسلام استلحاق زياد بن أبيه بأبي سفيان والد معاوية داهية العرب، وقصة استلحاقه مشهورة في كتب التاريخ. وكان زياد هذا ابن امرأة اسمها سمية، وكانت جارية، فولدت زيادًا من غلام رومي من موالي ثقيف اسمه عبيد، ولم يكن ذلك مشهورًا عند العرب، فكانوا يعتبرون زيادًا مجهول الأب فسموه «زياد بن أبيه»، فلما طلب معاوية الخلافة واحتاج إلى من ينصره، قرب إليه جماعة من دهاة العرب ومنهم زياد المذكور، واختص زيادًا بالاستلحاق، فاستشهد خمارًا من أهل الطائف اسمه أبو مريم السلولي، فشهد أن أبا سفيان جاءه والتمس منه بغيًا فأتاه بسمية فحملت منه بزياد، وثقات المؤرخين ينكرون ذلك ويعتقدون أن معاوية اختلق هذه القصة ليكتسب نصرة زياد، وقد تم له ما أراد. فسمى زياد من حينئذ «زياد بن أبي سفيان» بعد أن كان يعرف بزياد بن أبيه أو ابن سمية١٣ وما زال آل زياد معدودين من قريش، حتى ردهم المهدي سنة ١٦٠ﻫ إلى نسب عبيد المذكور، وصاروا من موالي ثقيف١٤ ومثل هؤلاء آل أبي بكرة، فقد كانوا من موالى النبي وألحقوا بثقيف، فردهم المهدي إلى أصلهم.
وكانوا يسمون المستلحق «دعيًّا»، وقد يكون الرجل دعيَّ أدعياء فيكون هو دعيًّا في رهطه ورهطه دعي في قبيلة مثل ابن هرمة، فقد كان دعيًّا في الخلج والخلج أدعياء في قريش، وكثيرًا ما كانوا يستلحقون الرهط أو العشيرة دفعة واحدة، لنزولهم فيهم أو لنصرتهم إياهم، كما أصاب بني العم من أهل البصرة، فإنهم نزلوا ببني تميم في أيام عمر بن الخطاب، فأسلموا وغزوا مع المسلمين فقالوا لهم: «أنتم وإن لم تكونوا من العرب إخواننا وأهلنا، وأنتم الأنصار وبنو العم»، فلُقِّبوا بذلك وصاروا من جملة العرب.١٥

•••

وكانوا يعدون الدعي من أنفسهم، ويورثونه كما يورثون الابن الصريح١٦ ويرثونه، وكثيرًا ما كان العرب يرغبون في استلحاق مواليهم، رغبة منهم في أن يرثوهم، وقد يأبى المولى أن يلحقوه إذا عرف غرضهم، كما أصاب نصيبًا المغني المشهور، إذ أراد مواليه أن يلحقوه بنسبهم فأبى وقال لهم: «والله لأن أكون مولى لائقًا أحب إليَّ من أن أكون دعيًّا لاحقًا، وقد علمت أنكم تريدون مالي».١٧

ومن أسباب العصبية عندهم مما يشبه الحلف «المؤاخاة»، وقد تكون بين القبائل أو بين الأفراد، ولا تزال هذه العادة شائعة بين البدو إلى الآن، فإذا آخيت العربي أخذ بناصرك وحماك ودافع عنك كأنك أخوه.

(٦-٣) الخلع

وضد الاستلحاق عندهم «الخلع»، فكان الرجل إذا ساءه أمر من ابنه، سواء كان صريحًا أو دعيًّا خلعه، أي: نفاه عن نفسه فيتخلص من تبعة ما قد يرتكبه الولد من المكروه، وقد تفعل ذلك القبيلة أو العشيرة، فيذهب جماعة منها إلى سوق عكاظ ومعهم المراد خلعه، ويشهدون على أنفسهم أنهم خلعوه، ويبعثون مناديًا بذلك فلا تحتمل القبيلة جريرة له، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه. كما فعلت خزاعة بقيس بن الحدادية الشاعر الجاهلي١٨ وقد يكتبون بالخلع كتابًا.
ومن أشهر حوادث الخلع قبل الإسلام خلع عمرو بن العاص من عشيرته، وكان قد ذهب إلى الحبشة بتجارة في الجاهلية مع عمارة بن الوليد المخزومي واختصما في الطريق، فأساء عمارة إلى عمرو فأضمر له الشر، وعمرو من بني سهم فكتب إلى أبيه أن يخلعه ويتبرأ من جريرته إذا أذى عمارة ففعل، فخلعت كل من العشيرتين صاحبها وأرسلوا بذلك مناديًا إلى مكة.١٩

وكان الخلعاء في البادية كثيرين، يجتمعون ويؤلفون عصابات من الصعاليك يقطعون السبل ويتمردون على القبيلة. فلما جاء الإسلام أصبح تمردهم على الحكومة. فقد كان يعلي الأحول من شعراء الدولة الأموية خليعًا، يجمع صعاليك الأزد وخلعاءها فيُغير بهم على أحياء العرب ويقطع الطريق على السابلة. وكان بين تجار الرقيق من يبتاع الخلعاء ويذهب بهم إلى بلاد الروم.

(٧) العبيد في الجاهلية

(٧-١) الاسترقاق

الاسترقاق قديم مثل قدم الإنسان؛ لأن الإنسان مفطور على الاستبداد، والقوي يستعبد الضعيف. وكان الإنسان في أول عهد العمران إذا غلب عدوه وقبض عليه لا يستعبده بل يقتله، إلا النساء فقد كانوا يستبقونهن للاستمتاع بهن. ثم صاروا يستعبدون الأسرى ويستخدمونهم في حرث الأرض ورعاية الماشية، أو نحو ذلك من الصناعات، أو يبيعونهم بيع المتاع. ذلك كان شأنهم في عهد التمدن القديم في مصر وأشور وبابل. وكان للاسترقاق سوق رائجة في الدولة الرومانية، فكانوا يأتون بالأسرى بالمئات والألوف، ويبيعونهم بيع الأغنام ويعاملونهم معاملة الحيوانات. ولما انتظم حال تلك الدولة، صاروا يتزوجون بالجواري، وبعد أن كان الروماني يتصرف بعبيده كما يشاء من قتل أو جلد، أصبح قصاصه منوطًا برأي القضاة، وإذا بالغ السيد في ظلم عبده حكم القضاة عليه.

على أن العبيد ما زالوا كثيرين في المملكة الرومانية، لا يخلو منهم بيت، وأكثرهم من الأسرى أو أبنائهم، يستخدمونهم في المنازل ويعلمونهم الصناعات على اختلاف ضروبها، ويبيعونهم في أسواق خاصة بالرقيق. ويختلف ثمن العبد عندهم من عشرين ريالًا رومانيًّا إلى أربعة آلاف ريال، ويقال نحو ذلك في سائر الممالك القديمة. فالفرس مثلًا كانوا يستعبدون الأتراك في الحرب ويتهادونهم، وقد يتهادون أبناء الأمراء منهم. ومما ذكره التاريخ من ذلك أن أبرويز ملك الفرس أهدى إلى موريقس Mouricius ملك الروم مائة غلام من أبناء أراكنة الترك في غاية الحسن والجمال، في آذانهم أقراط من الذهب فيها الدر واللؤلؤ، في جملة هدايا أخرى. فأهداه ملك الروم هدية فاخرة، في جملتها عشرون جارية من بنات ملوك برجان Burgundians والجلالقة Gallicians والصقالبة Sclavs والوشكنس Gascons من الأجناس المجاورة لبلاده على رؤوسهن أكاليل الجوهر.٢٠

(٧-٢) العبيد عند العرب

والعرب أيضًا كانوا يستخدمون العبيد من أسرى الحرب، أو ممن يبتاعونهم من الأمم المجاورة لجزيرتهم، كالحبشة وما حولها من الأمم المتوحشة. فكان النخاسون يحملون العبيد والإماء من تلك البلاد وغيرها إلى جزيرة العرب، يبيعونهم في أسواقها في المواسم، وكانت قريش تتجر بالرقيق مثل اتِّجارها بسائر السلع. ومن أشهر النخاسين في الجاهلية عبد الله بن جدعان التيمي رئيس قريش في حرب الفجار،٢١ فإذا اشترى أحدهم عبدًا وضع في عنقه حبلًا وقاده إلى منزله٢٢ كما تقاد الدابة. وإذا كان العبد أسير حرب جزوا ناصيته وجعلوها في كنانتهم حتى يفتدي نفسه. وكانوا يبتاعون الأرقاء ويتهادونهم ويتوارثونهم مثل سائر الأمتعة، إلا إذا دبر المولى عبده أي: قال له: «أنت حر بعد موتي» فإنه يكون حرًّا. وقد يخرجون العبيد في جملة صداق العرائس، وممن أخرج في الصداق بشار بن برد الشاعر الإسلامي الشهير، فإنه كان هو وأمه لرجل من الأزد تزوج امرأة من بني عقيل فساق إليها بشارًا وأمه في صداقها.٢٣
وذلك يدل على كثرتهم، ولا سيما عند الأمراء والملوك حتى ليزيدون على المئات والألوف. فقد وفد ذو الكلاع ملك حمير على أبي بكر ومعه ألف عبد غير من كان معه من عشيرته.٢٤ ولم يكن شريف من أشراف العرب يخلو منزله من عبيد يستخدمهم في قضاء حاجات منزله، فعبد الله بن أبي ربيعة كان له عبيد من الحبشة يقومون بجميع المهن، وكان عددهم كثيرًا وفيهم من يخرج للحرب. وقلما كانوا يثقون بأمانتهم٢٥ على أنهم كانوا يستعينون بهم في القتال، وكان لذلك شأن بعد الإسلام. وكانوا يجعلون الحد على العبد نصف ما على الحر٢٦ وإذا شهد حربًا لا يضرب لهم بسهم٢٧ بل يكون سهمه لسيده.
وكان من أصناف العبيد عندهم «القن»، وهو العبد الذي يعمل في الأرض ويباع معها ويشبه ما يعرف باسم Cerf في المملكة الرومانية. ومن العبيد من يدخل الرق بالمقامرة، كما اتفق لأبي لهب مع العاصي بن هشام، فإنهما تقامرا على أن من قمر كان عبدًا لصاحبه، فقمره أبو لهب فاسترقه واسترعاه إبله٢٨ وكانوا يسترقون المدينين أيضًا.
وكانت العرب تتزوج الإماء، فإذا ولد لهم منهن أولاد استعبدوهم، فإذا أنجب أحدهم ألحقوه بأنسابهم واعترفوا به وإلا بقي عبدًا. وأشهر حوادث الاستلحاق على هذه الصورة إلحاق عنترة العبسي بأبيه شداد، وهو ابن جاريته زبيبة. وكان شداد نفاه فلما أنجب ألحقه بنسبه٢٩ وقصته مشهورة. وكان العرب قبل الإسلام لا يعتقون عبيدهم إلا لسبب هام. وإذا أحب العبد العتق، استباع أي: طلب البيع، فإذا رضي صاحبه باعه لسواه. أما بعد الإسلام فقد كثر الإعتاق لحكمة سياسية دينية سيأتي ذكرها.

(٨) الموالي في الجاهلية

المولى عند العرب وسط بين العبد والحر، والغالب فيه أن يكون عبدًا معتقًا، فكل عبد أعتق صار مولى، وهو يشبه ما كان في الدولة الرومانية من العبيد المحررين ويسمونهم Libertines وكل عبد أو أسير أعتقه صاحبه فهو مولى له، وينسب إليه أو إلى قبيلته أو رهطه. فمولى العباس مثلًا هو مولى بني هاشم، وهو أيضًا مولى قريش ومولى مضر. وقد ينسب المولى إلى بلد معتقه، فيقال: فلان مولى أهل المدينة، أو مولى أهل مكة. والمولى عندهم كالقريب، ولكنهم يسمون قرابة الأهل صريحة وقرابة المولى غير صريحة. ويطلق المولى على الصاحب والقريب وابن العم والجار والحليف والابن والعم والنزيل والمحب والتابع والصهر وغير ذلك، وأكثرها يطلق على المولى بسبيل المجاز. وأما عند التحقيق فالموالي ثلاثة أنواع: مولى عتاقة، ومولى عقد، ومولى رحم.

(٨-١) مولى العتاقة

فمولى العتاقة هو الذي كان أسيرًا أو عبدًا وأعتق، وكانوا يعتقون الأسير مكافأة على إحسان، فيشترط الرجل على عبده مثلًا إذا فعل كذا وكذا فهو حر، ويكون مولى لمعتقه، وكان لذلك تأثير كبير في صدر الإسلام؛ لأن المسلمين كثيرًا ما كانوا يستعينون بالعبيد على أسيادهم بطريق الإعتاق. ومن أمثلة ذلك أن المسلمين لما حاصروا الطائف في السنة الثامنة للهجرة وكادت تمتنع عليهم، أمر النبي مناديًا فنادى: «أيما عبد نزل فهو حر وولاؤه لله ورسوله»، فنزل جماعة كبيرة٣٠ وقد يكون الإعتاق لسبب آخر.

إذا كان العبد من أسرى الحرب وأرادوا إعتاقه جزوا ناصيته وخلوا سبيله، فيصير مولى لمالك تلك الناصية. ومن قول حسان بن ثابت شاعر النبي بعد واقعة أحد جوابًا على قول هبيرة بن أبي وهب:

ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت
أهل القليب ومن ألفينة فيها
كم من أسير فككناه بلا ثمن
وجز ناصية كنا مواليها٣١

(٨-٢) المكاتبة

وقد يقع العتاق باتفاق بين العبد وصاحبه بالبيع، وهو ما يعبرون عنه بالمكاتبة، وذلك أن يكتب العبد على نفسه صكًّا بثمن إذا سعى وأداه عُتق، وقد يجعل الدفع أنجما «تقسيطًا»، فأبو سعيد المقري أحد كبار التابعين كان عبدًا لرجل من جندع، وكاتبه على أربعين ألفًا وشاة لكل أضحى فأداها.٣٢
قلنا: أن من أعتق عبدًا كان ولاؤه له، ومعنى ذلك أنه يكون هو صاحب ولائه، فينسب إليه، وإذا مات كان هو وارثه. على أنهم كانوا يشترطون أحيانًا ألا يكون ولاؤه لمعتقه، بل يكون لمن يؤدي ثمن المكاتبة. وقد تكون العتاقة «سائبة»، وهي أن يعتق العبد ولا ولاء له. فكان الرجل إذا قال لعبده: «أنت سائبة» يعتق ولا يكون ولاؤه لمعتقه، ويضع ماله حيث شاء. ومن أشهر المعتقين سائبة سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة، وأصله من اصطخر وكان مملوكًا لبثينة امرأة أبي حذيفة، فأعتقته سائبة٣٣ على أن الإسلام نهى عن أن يكون الولاء لغير المعتق، فبريرة بنت سعود الثقفية دخلت على عائشة أم المؤمنين تستعينها في كتابتها وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين، فقالت لها عائشة: «أرأيت إن عددت لهم عدة واحدة أيبيعك أهلك فأعتقك فيكون ولاؤك لي؟» فذهبت بريرة إلى أهلها فعرضت ذلك عليهم، فقالوا: «لا، إلا أن يكون لنا الولاء». قالت عائشة: «فدخلت على رسول الله فذكرت ذلك له فقال: اشتريها فاعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق»٣٤ إلا أن يشتري أحد ذلك الولاء من صاحبه فيصير الولاء إلى المشتري، كما أصاب أبا معشر أحد أصحاب الحديث، فقد كان مكاتبًا لامرأة من بني مخزوم، فأدى وعتق ثم اشترت أم موسى بنت منصور الحميرية ولاءه.٣٥

ومن أسباب العتاقة عندهم التدبير، وذلك أن يقول الرجل لعبده: أنت حر بعد موتي فلا يرثه أهله.

(٨-٣) مولى العقد

ويقال له أيضًا: مولى حلف أو اصطناع، وذلك أن ينتمي الرجل إلى رجل بالخدمة على اختلاف ضروبها، أو بالمحالفة أو المخالطة أو الملازمة على أن يتعاقب ذلك أجيالًا. ومن أمثلة الموالي بالمحالفة أو المخالطة اليهود في يثرب (المدينة) فقد جاء الإسلام وهم يعدون من موالي الأوس والخزرج، فولاؤهم من قبيل الحلف، ولولاء اليهود في يثرب تاريخ يطول شرحه، خلاصته أن اليهود نزلوا قبل الميلاد ببضعة قرون وتوطنوها قبل أن ينتقل إليها الأوس والخزرج من عرب اليمن، فلما جاءوا إليها رأوا اليهود مستأثرين بالأرض والماشية فأقاموا في ضيق، حتى اتفق أن أميرًا منهم اسمه مالك بن عجلان استشار ملك غسان بالشام في شأنهم، وكأنه استعانه عليهم فاتفقا على الكيد لهم. فجاء المدينة وفعل ذلك فذل اليهود وخافوا، وأصبحوا إذا داهمهم أحد من الأوس أو الخزرج بشيء يكرهونه، لا يمشون بعضهم إلى بعض كما كانوا يفعلون من قبل، بل يذهب كل منهم إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم فيستجير بهم، فلجأ كل قوم من اليهود إلى بطن من الأوس أو الخرزج يتعززون بهم٣٦ ويحالفونهم على أنهم مواليهم، وفيهم من ينسب ولاءه إلى رهط خاص كموالي بني النجار أخوال النبي أو موالي غيرهم من عرب المدينة.

ومن هذا القبيل أكثر موالي العرب بعد الإسلام، فقد كان العرب أهل السيادة والشوكة، وأهل البلاد يلازمونهم بالخدمة أو المخالطة أو المعاشرة، فينسبون إليهم، ويسمون ذلك ولاء الموالاة، وهي أن يقول شخص لآخر: «أنت مولاي ترثني إذا مت، وتعقل عني إذا حييت»، فيقول الآخر: «قبلت». ولكل طبقة من العرب طبقة من الموالي، فقد كان البرامكة مثلًا من موالي الرشيد، ومن هم دونهم من العجم موالي الأمراء، وهكذا.

وكان المولى في الجاهلية ربما كان نصرانيًّا أو يهوديًّا أو مجوسيًّا، لا فرق في ذلك عندهم، فموالي النبي كان أحدهم حبشي الأصل والآخر يوناني الأصل والآخر قبطي الأصل والآخر فارسي الأصل٣٧ وعدس مولى عتبة بن أبي ربيعة كان من أهالي نينوى وقتل يوم بدر على النصرانية٣٨ أما بعد ظهور الإسلام فأصبح الولاء خاصًّا بالمسلمين؛ لأن القرآن نهى عن تولي اليهود والنصارى بالآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ إلخ، وصاروا يعدون بعد الإسلام من أهل الذمة.

(٨-٤) مولى الرحم

وأما مولى الرحم فيكتسب الولاء بالزواج من موالي بعض القبائل، فينسب إلى القبيلة التي تزوج من مواليها. ومن أمثلة ذلك سديف الشاعر، فقد كان مولى خزاعة، ثم ادعى ولاء بني هاشم؛ لأنه تزوج مولاة لآل أبي لهب (من بني هاشم).٣٩
وللموالي عند العرب أحكام عامة وأحكام خاصة، فأحاكمهم العامة أن المولى أحط منزلة من الحر وأرفع من العبد، فهو حر لا يباع كالعبد لكنه لا يعامل معاملة الحر في الزواج والميراث. فالمولى لا يتزوج حرة، ودية المولى نصف دية الحر٤٠ كأنه عبد. ويعامل نحو ذلك فيما يقع عليه من القصاص، فيجلد نصف حد الحر.
وأما أحكامهم الخاصة فتختلف باختلاف نوع الولاء، وأهمها الإرث، فمولى العتاقة يورث ولا يرث، ومولى العقد لا يرث ولا يورث، ومولى الرحم يرث ويورث٤١ فمن أعتق عبدًا كان الولاء له وهو يرثه؛ ولذلك يسمونه مولى النعمة. وكان الرومانيون يرثون ثلث ما يملكه مواليهم، أو يكتسبونه بالعمل أو غيره، وإذا لم يكن لهم من يرثهم من نسلهم ورثوا كل أموالهم.٤٢

وكان للموالي شأن في عصبية العرب قبل الإسلام، وقد عظم شأنهم في الإسلام، حتى كانوا سببًا في قلب الممالك ونقل السلطة من دولة إلى دولة.

(٩) النزالة الأجانب في الجاهلية

كان معظم سكان جزيرة العرب من القبائل العدنانية والقحطانية ومن يتبعهم من العبيد والموالي والخلفاء ونحوهم، وفيها أيضًا جماعة من النزالة نزحوا إليها من الحبشة والشام والعراق ومصر وفارس والهند، وفيهم الأحباش واليهود والروم والكلدان والعجم والهنود وغيرهم. وكان بعضهم يتوالدون فيها ويتزوجون بأهلها، فيختلطون بهم وتضيع أنسابهم فيهم، كالكلدان والسريان وغيرهم. وفيهم من يحالفونهم وينتمون إليهم كاليهود والنصارى، ومنهم من يدخلون في جملة عبيدهم ومواليهم كالأحباش والفرس والهنود، فتضيع أصولهم؛ ولذلك كان سكان جزيرة العرب عند ظهور الإسلام عربًا صرفًا، إلا بعض اليهود كبني قينقاع والنضير وغيرهم، وشرذمات من نصارى الروم، وطائفة من الفرس الأحرار يعرفون بالأبناء.

(٩-١) الأبناء

هم طائفة من الفرس كانوا يقيمون في بلاد اليمن، ويعرفون بأبناء الفرس الأحرار أو «الأبناء» تمييزًا لهم عن الفرس الموالي. وأبناء الفرس الأحرار هم أبناء الجند الفارسي الذي جاء بلاد اليمن لنصرة سيف بن ذي يزن الحميري على الأحباش، وكان الأحباش قد فتحوا اليمن واستولوا عليها، ففزع سيف المذكور إلى كسرى ملك الفرس واستنجده في حديث طويل، فسير كسرى معه بضعة آلاف من جند الفرس ومعهم قائد اسمه وهرز. فلما وصل الجيش إلى اليمن جرت الواقعة بينهم وبين الأحباش، فاستظهر الفرس عليهم وأخرجوهم من البلاد، وملك سيف بن ذي يزن ووهرز أربع سنين. وكان سيف قد اتخذ من الأحباش خدمًا، فخلوا به يومًا وهو في الصيد وقتلوه وهربوا في رؤوس الجبال، وطلبهم أصحابه فقتلوهم جميعًا، وتضعضع أمر اليمن ولم يولوا عليهم أحدًا من العرب، فظلت سيادة الفرس عليها حتى ظهر الإسلام، وفيها عاملان من قواد الفرس أحدهما اسمه فيروز الديلمي والآخر راذويه فأسلما.

فالجيش الفارسي لما استوطن اليمن تزوج رجاله فيها وتناسلوا، ورزقوا الأولاد والأحفاد وعرفوا بالأبناء. واشتهر منهم في صدر الإسلام طاوس بن كيسان أحد أعلام التابعين، ووهب بن منبه صاحب الأخبار والقصص، ووضاح اليمن الشاعر وغيرهم.

وكان مثل هؤلاء الفرس أيضًا في الشام والعراق والجزيرة، واختلفت أسماؤهم باختلاف أماكنهم بعد الإسلام، فهم يسمون في اليمن الأبناء كما رأيت، وفي صنعاء خاصة يسمون بني الأحرار، وفي الكوفة الأحامرة، وبالبصرة الأساورة، وبالجزيرة الحضارمة، وبالشام الجراجمة.٤٣ وكان للأبناء شأن عند ظهور الإسلام، فتجندوا للمسلمين ونصروهم، وظلوا مميزين عن سائر المسلمين غير العرب بأنهم غير الموالي.

(١٠) سياسة الدولة في الجاهلية

لم يكن للعرب دولة في جاهليتهم، إلا ما كان في اليمن من دول التبابعة مما لا يدخل في بحثنا. وإنما نريد بسياسة الدولة عندهم القواعد التي كانت تدور عليها أحكامهم ومعاملاتهم لحفظ علاقاتهم السياسية وآدابهم الاجتماعية، مما يقوم مقام القوانين الإدارية والسياسية الدولية في الأمم المتمدنة.

فالرياسة عندهم أو الإمارة إنما ينالها أهل العصبية والجاه، وإذا تساوت العصبية في جماعة قدموا أكبرهم سنًّا؛ ولذلك كان لفظ «الشيخ» عندهم يدل على الشيخوخة والرياسة معًا، وإذا أشكل عليهم الانتخاب لأي سبب عمدوا إلى الاقتراع. وكذلك إذا اجتمعت عدة قبائل في محالفة على حرب، واحتاجوا إلى من يرأسهم جميعًا فإنهم يقترعون بين أهل الرياسة، فمن وقعت عليه القرعة أسندوا إليه الرياسة … ذلك هو شأن بدو العرب وهم معظمهم. وأما حضرهم في مكة فالرياسة فيهم لسادن الكعبة، وقد تقدم ذكر مصالح الحكومة عندهم في الجزء الأول من هذا الكتاب.

وكان في كل قبيلة بالجاهلية بيوتات تشتهر بالرياسة والشرف، فتمتاز عن سائر القبيلة وتكون الرياسة فيها، كبيت هاشم بن عبد مناف من قبيلة قريش، وبيت آل حذيفة بن بدر الفزاري من قيس، وبيت آل زرارة بن عدي من تميم، وبيت آل ذي الجدين بن عبد الله بن همام من شيبان، وبيت بني الريان من بني الحرث بن كعب من اليمن. وقد امتازت هذه البيوتات على قبائلها بالشرف؛ لتوالي ثلاثة آباء منها في الرياسة على الأقل. ولأهل البيوتات نفوذ على سائر القبيلة: وكان أهل السياسة من رجال المسلمين يلاحظون ذلك في تولية الحكام. ومن هذا القبيل وصية ابن عباس للحسن بن علي: «ول أهل البيوتات تستصلح بهم عشائرهم».

والأمير البدوي مع سلطته المطلقة قلما يستبد في أحكامه، ويغلب أن يستشير أهل بطانته وخاصته، على أنه لم يكن يحتجب عن أحد ولا يمتهن أحدًا. يجالس جميع الناس ويخالطهم، رفيعهم ووضيعهم. وهم لا يعرفون ألقاب التفخيم ولا نعوت التملق، فإذا خاطب البدوي أميره ناداه باسمه وطالبه بحقه، بعبارات تشف عن عزة النفس وإباء الضيم، أو هي أنفة البداوة، على أنهم كانوا يتكلمون على الأسنان، والأمير يخاطب رعاياه بألقاب الوقار، كالأب والعم والخال والابن أو ابن الأخ، على ما تقتضيه الأسنان والأنساب. وظل ذلك شأنهم في صدر الإسلام، ينادون الخليفة باسمه ويحاجونه في شؤونه، حتى إذا تحضروا احتجبوا وتكبروا، فاتسع الفاصل بين المحكوم والحاكم.

(١١) مناقب العرب في الجاهلية

(١١-١) الوفاء

على أن العرب قلما كانوا يحتاجون إلى حاكم يفصل في الخصومة بينهم، لما فطروا عليه من المناقب الجميلة التي تقوم فيهم مقام الحاكم الصارم، وتنزههم عن ارتكاب الدنايا مما يغنيهم عن القضاء. وسيد هذه المناقب «الوفاء»؛ لأنه إذا تأصل في أمة أغناها عن القضاء — والحكومة إنما تقضي بين الذين لا يعرفون الوفاء. وكان الوفاء متمكنًا في خلق العربي، ويزيد تمكنا فيه كلما بعُد عن المدن وأوغل في الصحراء؛ لأن الغدر والنكث لا يعيشان إلا في القصور الشماء في ظل الحدائق الغناء.

وترى الوفاء مطبوعًا في أقوال أهل البادية وأشعارهم وأمثالهم، ويتجلى في عاداتهم وأخلاقهم وفي سائر أعمالهم، وهو فيهم سجية وفي سواهم صناعة وتكلف. وحكاية حنظلة الطائلي والنعمان بن المنذر تمثل هذه الخلة أحسن تمثيل، فإن حنظلة وعد النعمان بالرجوع بعد عام لاستقبال الموت، فطلب النعمان من يضمنه فضمنه شريك بن عدي، ولم يقدم شريك على ذلك إلا وهو يعتقد صدق البدو لاشتهارهم به. وقد وفى حنظلة فجاء في الوقت المعين، لا جند يقوده ولا حراس تخفره، مما حمل النعمان على العفو عنه وقصته مشهورة.٤٤

وأغرب من ذلك وفاء السموأل (صموئيل) بن عادياء، وكان امرؤ القيس الكندي قد استودعه سلاحًا وأمتعة تساوي مالًا كثيرًا، وسافر إلى بلاد الروم ومات قبل رجوعه، فبعث ملك كندة يطلب الأسلحة والأمتعة المودعة عند السموأل، فلم يسلمها. ولما ألح عليه أجابه: «لا أغدر بذمتي ولا أخون أمانتي ولا أترك الوفاء الواجب علي». فجرد الملك عليه جيشًا وحاصره في حصنه، فوقع ابن السموأل أسيرًا عند الملك، فهدد السموأل بقتل ابنه أن لم يسلم الوديعة، فأبى التسليم وقال: «ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي فافعل ما شئت». فذبح ولده و السموأل ينظر. فلما امتنع الحصن على ملك كندة عاد خائبًا، وأما السموأل فصبر على ما تحمله من الثكل محافظة على الوفاء، ولم يسلم الوديعة إلا إلى ورثة امرئ القيس.

فمن كانت هذه مناقبهم قلت حاجتهم إلى القوانين، واستغنوا عن الجند والحرس وخصوصًا إذا أضفنا إليها علو الهمة وطيب النفس، وقلة احتمال الذل والسماحة والكرم والنزاهة عن الدنايا … فهذه كلها مناقب العرب أهل البادية.

(١١-٢) الجوار

ومن قبيل الوفاء بالعهد وحفظ الذمام أيضًا «الجوار»، فإن البدوي يحافظ على جاره محافظته على نفسه. والمقصود بالجوار في الأصل أن يحافظ الرجل على جاره القريب، وهو من قبيل التعاون الطبيعي حتى قيل: «جارك القريب ولا أخوك البعيد». ولكن العرب توسعوا في ذلك حتى شقوا منه الإجارة والاستجارة والجوار، وكلها بمعنى الحماية والحفاظ، مع أن أصل المادة «جار» يفيد عكس ذلك. واستعاروا الجوار للحماية على الإطلاق، فإذا خاف أحدهم سوءًا جاء إلى رجل يحميه، ويكفي أن يقول له: «أجرني» فيجيره بقدر طاقته، وقد يفرط في أهله ولا يفرط في جاره.

ومن أمثلة ذلك أن الأعشى امتدح الأسود العنسي فأعطاه جائزة من الحلل والعنبر، فرجع وطريقه على بني عامر فخافهم على ما معه من المال، فأتى علقمة بن علاثة فقال له: «أجرني …»، فقال: «قد أجرتك …»، قال: «من الجن والإنس …»، قال: «نعم …»، قال: «ومن الموت …» قال: «لا …»، فتركه وأتى عامر بن الطفيل فقال له: «أجرني …»، قال: «قد أجرتك …»، قال: «من الإنس والجن …»، قال: «نعم …»، قال: «ومن الموت …»، قال: «نعم …»، قال: «وكيف تجيرني من الموت؟» قال: «إذا مت وأنت جاري بعثت إلى أهلك الدية»، فقال: «الآن علمت أنك تجيرني».٤٥
وقد يجئ بعضهم ليستجير برجل فلا يجده في بيته، فيكفي أن يعقد طرف ثوبه إلى جانب طنب البيت، فإذا فعل ذلك صار جارًا ووجب على المعقود بطنب بيته للمستجير به أن يجيره وأن يطلب له بظلامته.٤٦
ومن قبيل تعظيم الجوار والمحافظة عليه أن عامر بن الطفيل لما مات نصبت بنو عامر أنصابًا ميلًا في ميل على قبره، لا ينشر فيه ماشية ولا يرعى ولا يسلكه راكب ولا ماشٍ، إشارة إلى ما كان عليه من المحافظة على الجوار في حياته.٤٧
وما زال الجوار مرعيًّا عند العرب بعد الإسلام، إلا من خالط الأمم الأخرى في البلاد المفتوحة. على أن تأييد الدولة اقتضى ضعف الجوار؛ لأن أهل الوجاهة أصبحوا من أهل الدولة، والرجل يومئذ إنما يستجير من حاكم يطلبه، فإذا استجار به مظلوم قالوا: «إنما يجير الرجل على عشيرته، وأما على سلطانه فلا» خوفًا على مناصبهم، كما أصاب ابن مفرغ لما هجا بني زياد واستجار بالأحنف بن قيس على عبيد الله بن زياد، وهو يومئذ أمير البصرة فأبى الأحنف خوف العزل، وقال له: «إذا شئت أن أجيرك من بني سعد فعلت»، فذهب إلى غيره من وجهاء العرب فأبوا إجارته لنفس هذا السبب.٤٨

(١١-٣) الأريحية

ومن المناقب التي تغني العرب عن الوازع القهري أو القوة الحاكم «الأريحية»، وهي من مقتضيات العصور الجاهلية البدوية، أو ما يجري مجراها من أحوال الفروسية التي يعبر عنها الإفرنج بقولهم: Chevalerie، ومرجع ذلك إلى التفاخر بالشجاعة والكرم وحسن الأحدوثة. وكان للأريحية شأن عظيم عند العرب، لدقة شعورهم وسرعة تأثرهم؛ لأنهم أهل خيال وذوو نفوس حساسة، يقيمهم البيت من الشعر ويقعدهم، وقد يسمعون الكلمة فتطير لها نفوسهم، وربما بذل العربي حياته في سبيل كلمة يقولها، أو فرارًا من كلمة يسمعها؛ ولذلك كثرت عندهم ضروب المفاخرة، والمباهاة في المواسم والأندية، مما يرغب في الفضائل ويغني عن زجر الحكام.

ومناقب العرب كثيرة، كالكرم والضيافة وعلو الهمة، مما لا دخل له في موضوعنا.

١  ابن خلدون ٣٠٠ ج١.
٢  الأغاني ٤ ج١٩.
٣  المسعودي ٢١١ ج١.
٤  العقد الفريد ٢٢٩ ج٣.
٥  ابن خلكان ١٣٢ ج١.
٦  العقد الفريد ٢٦٤ ج٢.
٧  ابن هشام ١٨٩ ج١.
٨  ابن هشام ٨١ ج٢.
٩  ابن هشام ١١٠ ج٢.
١٠  الأغاني ١١٠ ج٧.
١١  تاريخ الوزراء ٢٥١.
١٢  الأغاني ١٦٧ ج٢.
١٣  ابن الأثير ٢٢٥ ج٣.
١٤  ابن الأثير ٢٠ ج٦.
١٥  الأغاني ٧٦ ج٣.
١٦  الأغاني ٩٤ ج١٧.
١٧  الأغاني ١٣٤ ج١.
١٨  الأغاني ٢ ج١٣.
١٩  الأغاني ٥٢ ج٨.
٢٠  المسعودي ١١٩ ج١.
٢١  المسعودي ٢٨٢ ج١.
٢٢  المعارف لابن قتيبة ١١٢.
٢٣  الأغاني ٢٠ ج٣.
٢٤  المسعودي ٢٨٧ ج١.
٢٥  الأغاني ٣٢ ج١.
٢٦  الأغاني ١٢٤ ج١٤.
٢٧  المعارف لابن قتيبة ١١٠.
٢٨  الأغاني ١٠٠ ج٣.
٢٩  الأغاني ١٤٨ ج٧.
٣٠  العقد الفريد ٢ ج٣.
٣١  ابن هشام ١٠٥ ج٢.
٣٢  المعارف لابن قتيبة ١٥٤.
٣٣  المعارف ٩٢.
٣٤  البخاري ٦٠ ج٢.
٣٥  المعارف ١٧٢.
٣٦  الأغاني ٩٧ ج١٩.
٣٧  ابن الأثير ١٥١ ج٢.
٣٨  المسعودي ٣١ ج١.
٣٩  الأغاني ١٦٢ ج١٤.
٤٠  الأغاني ١٧٦ ج٢.
٤١  العقد الفريد ٢٦٢ ج٢.
٤٢  Gibbon’s Romcin Empire, II.
٤٣  الأغاني ٧٦ ج١٦.
٤٤  المستطرف ١٦١ ج١.
٤٥  الأغاني ٨٣ ج٨.
٤٦  الأغاني ١٨٤ ج٢.
٤٧  الأغاني ١٣٩ ج١٥.
٤٨  الأغاني ٥٦ ج١٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤