سياسة الدولة في عهد الأمويين

من سنة ٤١–١٣٢ﻫ

قد رأيت مما تقدم أن سياسة الدولة في أيام الراشدين إنما كان قوامها الجامعة العربية، وعمادها العدل والرفق والأريحية، ففتحوا العالم وأسسوا الدولة الإسلامية، وأخضعوا معظم المعمور في بضع وعشرين سنة، ووجهتهم دينية وسلاحهم التقوى والحق، والعمل بالكتاب والسنة، وغايتهم نشر الدين والتماس الثواب في الآخرة، وحكومتهم بالانتخاب والشورى، وسترى في سياسة بني أمية ما يخالف ذلك من كل الوجوه.

(١) انتقال الخلافة إلى الأمويين

لما طمع بنو أمية في الخلافة، كانت قد أفضت إلى علي بن أبي طالب صهر النبي وابن عمه، والمسلمون يعتقدون أنه أحق الناس بها، لقرابته من النبي وتقواه وشجاعته وعلمه، وسابقته في الإسلام وفضله في تأييده. فتصدى له معاوية بن أبي سفيان، وكان أبوه وإخوته من أشد الناس مقاومة للإسلام عند ظهوره، ولم يسلموا إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، وإنما أقدموا على ذلك مضطرين، لما رأوا الإسلام قد تأيد في جزيرة العرب ولم يبق سبيل إلى مقاومته.

وكان أبو سفيان والد معاوية زعيم أهل مكة، وقد حارب النبي في عدة أمكان. وجاهر بعداوته وطعن فيه. فلما ظفر المسلمون في غزواتهم، واشتد آزرهم وهموا بفتح مكة ومشوا حتى أقبلوا عليها، كان أبو سفيان وبعض كبراء قريش قد خرجوا منها يتجسسون. فلقيهم العباس عم النبي، فقال له أبو سفيان وقد أسقط في يده: «لقد أصبح أمر ابن أخيك عظيمًا»، فأشار عليه العباس أن يستأمن، فلم ير له حيلة في غير ذلك فاستأمن، ثم فتحت مكة ولم يكن له بد من الإسلام فأسلم هو وأولاده وفيهم معاوية، وقد تألفهم النبي بالعطاء ليثبتوا في إسلامهم.١

المنافسة بين بني أمية وبني هاشم

والسبب في طلب معاوية للخلافة متصل بالجاهلية. وذلك أن بني عبد مناف هم أشرف بطون قريش وأكثرهم عددًا وقوةً، وهم فخذان: بنو أمية وبنو هاشم، وكان بنو أمية أكثر عددًا من بني هاشم وأوفر رجالًا، وكان لهم قبل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أمية والد أبي سفيان وجد معاوية. وكان حرب المذكور رئيسهم في واقعة الفجار قبل الإسلام، وله جاه وشوكة في الفخذين جميعًا، فلما جاء الإسلام، والنبي من بني هاشم شق ذلك على بني أمية وكانوا من أقوى الساعين في مقاومته، فلم يفلحوا ولكنهم حملوا النبي على الهجرة من مكة إلى المدينة، وقد نصره الأنصار هناك وهم من القحطانية حتى استتبَّ له الأمر، وقد مات عمه أبو طالب وهاجر بنوه مع النبي إلى المدينة. ثم لحقهم أخوه حمزة ثم العباس وغيره من بني عبد المطلب وسائر بني هاشم، فخلا الجو لبني أمية في مكة، واستغلظت رياستهم في قريش، وزادت سطوتهم بعد واقعة بدر؛ إذ هلك فيها عظماء قريش من سائر البطون. فاستقل أبو سفيان بشرف أمية بمكة والتقدم في قريش، وكان رئيسهم في واقعة أحد وقائدهم في واقعة الأحزاب وما بعدها. فلما استفحل أمر المسلمين وفتحوا مكة واستأمن أبو سفيان كما تقدم، رأى النبي من حسن السياسة أن يمن على قريش كافة بعد أن ملكهم بالفتح عنوة، فمَنَّ عليهم وأطلق سبيلهم وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وفيهم معاوية، فأسلموا جميعًا.

فلما مات النبي وتولى الخلافة أبو بكر، جاء القرشيون ومعظمهم من بني أمية، وشكوا إليه ما وجدوه في أنفسهم من التخلف عن رتب المهاجرين والأنصار، فقال لهم أبو بكر: «لقد جئتم الإسلام متأخرين، فأدركوا إخوانكم في الجهاد»، فجاهدوا في حروب الردة. ولما تولى عمر بن الخطاب أدرك ما في نفوسهم، فخاف بقاءهم في المدينة، فرمى بهم الروم ورغبهم في الشام، فاستعمل يزيد بن أبي سفيان عليها، فانتقل معه سائر قريش، واستطابوا فاكهة الشام فأقاموا فيها حتى توفي يزيد المذكور، فولى عمر مكانه أخاه معاوية. ولما تولى عثمان سنة ٢٣ﻫ أقر معاوية على الشام، فاتصلت رياسة بني أمية على قريش في الإسلام كما كانت في الجاهلية، وبنو هاشم مشتغلون بالنبوة وقد نبذوا الدنيا.

معاوية وعلي

وكان بنو أمية ينظرون إلى ما ناله بنو هاشم بالنبوة من السلطان والجاه، ويتوقعون فرصة للقبض على أزمة الملك. فلما قتل عمر بن الخطاب وأمر بالشورى، اختار الصحابة عثمان بن عفان وهو من بني أمية، ولا يخلو فوزهم بهذا الانتخاب من دسيسة أموية، وكان عثمان ضعيفًا يؤثر ذوي قرابته في مصالح الدولة، فاغتنم الأمويون ضعفه وتولوا الأعمال واستأثروا بالأموال، فشق ذلك على سائر الصحابة فنقموا عليه، ثم استشهد بعد ذلك على ما هو معروف.

فاتخذ الأمويون قتله ذريعة للقبض على الخلافة، ورئيسهم معاوية بن أبي سفيان عامل عثمان على الشام ومعه رجال قريش. وكان أهل المدينة قد بايعوا علي بن أبي طالب، وجمهورهم الأنصار. فأصبح المسلمون يومئذ حزبين رئيسيين:
  • (١)

    الأنصار ويريدون الخلافة لأهل بيت النبي جريًا على نصرتهم إياه يوم هجرته.

  • (٢)

    بنو أمية في الشام ويطلبونها لمعاوية ابن زعيمهم في الجاهلية.

وجمهور الصحابة يرون الحق لعلي، فلم ير معاوية سبيلًا إلى نيل بغيته إلا بالدهاء والتدبير. وكان أدهى أهل زمانه بلا منازع. فنظر في الأمر نظرة رجل يطلب الملك كما يطلبه أهل المطامع وطلاب السيادة في كل عصر بلا علاقة بالدين. وقد ساعده على ذلك أن خصمه عليًّا كان يعتبر الخلافة منصبًا دينيًّا، وهو زاهد في الدنيا لا مطمع له في غير الثواب والحسني. وإن رجال معاوية قد ذهبت منهم حرمة الدين، ونسوا دهشة النبوة وذاقوا لذة الثروة وتعودوا السيادة فاتسعت مطامعهم، فأثمرت مساعي معاوية في اصطناع الأحزاب بقاعدة ذكرها في حديث دار بينه وبين عمرو بن العاص: إذ قال معاوية: «لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت»، فقال عمرو: «وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟»، قال: «إن هم شدوا أرخيت، وإذا أرخوا شددت».

فأول شيء فعله معاوية أنه استعان بثلاثة من كبار الصحابة يعدهم المؤرخون أدهى رجال العرب — ومعاوية أدهاهم جميعًا — وهم: عمرو بن العاص، وزياد بن أبيه، والمغيرة بن شعبة. ولولاهم لم يستتب له الأمر؛ لأن ابن العاص احتال في نجاته من واقعة صفين، بعد أن كادت الدائرة تدور عليه، إذ ظهرت جيوش عليّ على جيوشه، فأشار عليه عمرو بن العاص أن يرفع المصاحف لإيقاف الحرب، ثم أشار بالتحكيم وخدع أبا موسى الأشعري نائب علي في ذلك التحكيم فخلع عليًّا وبايع معاوية. ونال عمرو في مقابل ذلك ولاية مصر طعمة له طول العمر.٢ وزياد بن أبيه رجل لا يُعرف له أب، فلما رأى معاوية دهاءه قربه منه وادَّعى أنه أخوه، واستلحقه بنسبه وسماه زياد بن أبي سفيان، في حديث طويل ذكرنا خلاصته فيما تقدم. واستلحاق زياد أول عمل ردت به أعلام الشريعة الإسلامية علانية٣ وكان زياد عونًا كبيرًا لمعاوية في حفظ العراق وفارس. أما المغيرة بن شعبة فهو أول من ضرب الزيوف في الإسلام وأول من رشى٤ وهو الذي حرض معاوية على مبايعة ابنه يزيد، وجعل الخلافة وراثية في نسله وساعده على ذلك.
فهؤلاء وغيرهم من كبار القواد اكتسب معاوية مساعدتهم بالدهاء والأطماع، فأطعم ابن العاص مصر، وأطعم المغيرة فارس، وجعل زيادًا أخاه، وكان يتساهل في محاسبة عماله ويغضي عن سيئاتهم٥ ويبالغ في إكرامهم. ولو رأوا من علي بعض ذلك لكانوا معه، ولكن عليًّا كان دقيقًا في محاسبتهم، متصلبًا في رأيه لا يحيد عما يقتضيه ضميره — كذلك كان يفعل أبو بكر وعمر، ولكن المسلمين كانوا في أيامهما لا يزالون في إبان الحمية الدينية والأريحية العربية، ينصاعون لأوامر خليفتهم بكلمة؛ ولذلك عدوا تصرف علي ضعفًا منه. فلما رأوا ضعفه انحازوا إلى معاوية بعد أن كانوا معه، وأولهم المغيرة بن شعبة، فهذا جاء عليًّا يوم بويع ومعاوية واقف له بالمرصاد، فأشار عليه أن يحاسن معاوية ولا يعزله عن عمله في الشام، ريثما يستتب له الأمر فيعزله إذا شاء، فلم يطعه علي، فعاد إليه في اليوم التالي وخادعه، وأشار عليه أن يعزل معاوية ويفعل كما يشاء، ثم انحاز المغيرة إلى معاوية وصار من أكبر أنصاره.

وقس على ذلك تصرف علي مع ابن عمه عبد الله بن عباس، وكيف كدره وأخرجه من حوزته بتدقيقه كما تقدم. ولما قتل علي خلفه ابنه الحسن، فرأى نفسه عاجزًا عن منازلة معاوية، فتنازل له عن الخلافة سنة ٤١ﻫ، فرسخت قدم معاوية فيها. وسار بنو أمية بعده على خطته، وسار العلويون على خطة علي، وكان الفوز دائمًا لأهل الدهاء، فقضى العلويون معظم أيامهم خائفين شاردين، ومات أكثرهم قتلًا مع أنهم أهل تقوى ودين وحق، وأولئك على الضد من ذلك — مما يدلك على أن السياسة والدين لا يلتحمان إلا نادرًا، وما التحامهما أيام الراشدين إلا فلتة قلما يتفق مثلها. على أننا لا نعد دولة الراشدين حكومة سياسية، وإنما هي خلافة دينية.

(٢) رغبة بني أمية في السيادة

إن المحور الذي كانت تدور عليه سياسة بني أمية، والغرض الذي كانوا يرمون إليه، إنما هو إحراز الخلافة والرجوع إلى السيادة التي كانت لهم في الجاهلية، بقطع النظر عن وعورة المسالك المؤدية إلى ذلك، أو وخامة الأسباب التي تمسكوا بها. وقد فازوا بغايتهم، فاتسعت المملكة الإسلامية في أيامهم واشتدت شوكتها، ما لم تبلغ إليه دولة العباسيين بعدها.٦ وكانوا يطلبون السلطة على أن لا يشاركهم فيها أحد، وكان أشدهم فتكًا عبد الملك بن مروان يقول: «لا يجتمع فحلان في أجمة».٧

فرغبة بني أمية في السلطة على هذه الصورة، مع وجود من هو أحق منهم بها، جرهم إلى ارتكاب أمور آلت إلى توجيه المطاعن إليهم. وقد ظهرت هذه الدولة وتغلبت على سائر طلاب الخلافة في أيامهم بشيئين: العصبية القرشية، واصطناع العصبيات أو الأحزاب الأخرى، وهما أساس كل ما ظهر من سياسة بني أمية كما سترى.

(٣) العصبية العربية في عصر الأمويين

(٣-١) العرب وقريش

كانت العصبية العربية في الجاهلية بين القبائل بحسب الأنساب، فلما جاء الإسلام تنوسيت تلك العصبية، واجتمع العرب كافةً باسم الإسلام أو الجامعة الإسلامية، وما زالت الجامعة الإسلامية تشمل العرب على اختلاف قبائلهم وبطونهم طول أيام الخلفاء الراشدين. حتى إذا طمع بنو أمية في الملك، وقبضوا على أزمة الخلافة، استبدوا وتعصبوا للعرب، وحافظوا على مقتضيات البداوة وتمسكوا بعاداتها، فظلت خشونة البادية غالبة على حكومتهم وظاهرة في سياستهم، مع ذهاب مناقب البدو التي ذكرناها. وإنما حفظوا من أحوال جاهليتهم تعصبهم لقبيلتهم «قريش»، وإيثار أهلهم على سواهم. فجاشت عوامل الحسد في نفوس القبائل التي كان لها شأن في الجاهلية وضاع فضلها في الإسلام، وخصوصًا أهل البصرة والكوفة والشام؛ لأن أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي ، ولا هذبتهم سيرته ولا ارتاضوا بخلقه، مع ما كان فيهم من جفاء الجاهلية وعصبيتها، فلما استفحلت الدولة إذا هم في قبضة المهاجرين والأنصار، من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب، فاستنكفوا من ذلك وغصوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم وكثرتهم، ومصادمة فارس والروم، مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس من ربيعة وكندة، والأزد من اليمن، وتميم وقيس من مضر، فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم، فعادت العصبية إلى نحو ما كانت عليه في الجاهلية.

بدأت هذه العصبية بتعصب العرب كافة على قريش، حسدًا لهم كما ذكرنا، ولاستبدادهم بالسلطة دون سائر الصحابة أو التابعين مع استئثارهم بالفيء — إلا الذين تألفهم معاوية من القبائل اليمنية أو العدنانية. وأول خلاف وقع بين المسلمين من هذا القبيل حدث في أيام عثمان، ذلك أن سعيد بن العاص لما ولاه عثمان الكوفة اختار وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل الكوفة لمجالسته، فكانوا يسمرون عنده وفيهم جماعات من كل القبائل. وكان بنو أمية وغيرهم من الصحابة قد أخذوا في امتلاك العقار وبناء المنازل، وبنو أمية أطول باعًا يومئذ في ذلك لقرابتهم من الخليفة. فاتفق في إحدى مسامراتهم عند سعيد بن العاص أن بعضهم ذكر جود طلحة بن عبيد الله أحد كبار الصحابة، فقال سعيد: «إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جوادًا، ولو كان لي مثله لأعاشكم الله به عيشًا رغدًا». والنشاستج ضيعة في الكوفة كانت لطلحة، وهي عظيمة كثيرة الدخل اشتراها من أهل الكوفة المقيمين بالحجاز بمال كان له بخيبر وعمَّرها فعظم دخلها.٨
فلما قال سعيد ذلك قام غلام من الحضور فقال له: «لوددت أن هذا الملطاط لك». والملطاط ما كان للأكاسرة على جانبي الفرات مما يلي الكوفة. فنهض بعض الحاضرين من غير قريش وانتهر الغلام فاعتذر أبوه عنه وقال: «غلام فلا تجاوزه». فقال: «كيف يتمنى له سوادنا؟» أي: سواد العراق فقال سعيد: «السواد بستان قريش». وكان الأشتر النخعي حاضرًا، وهو من اليمنية، وكان شديد التعصب لعلي بن أبي طالب، فغضب وقال لسعيد: «أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك؟» فقال عبد الرحمن الأسدي صاحب شرطة سعيد فقال للأشتر: «أتردون على الأمير مقالته؟» وأغلظ لهم، فأشار الأشتر إلى رفاقه فوثبوا على الرجال فوطئوه وطأً شديدًا حتى غُشي عليه، ثم جروا برجله ونضحوه بالماء فأفاق، فنظر إلى سعيد وقال: «إن الذين انتخبتهم لمسامرتك قتلوني». فقال سعيد: «والله لا يسمر عندي أحد أبدًا».٩

فوقعت الوحشة بين قريش وسائر القبائل من ذلك الحين، وخصوصًا بينهم وبين اليمنية، ومنهم الأنصار. وثبت الأنصار في نصرة أهل البيت ضد أهلهم من قريش مثلما فعلوا في أول الإسلام، إذ جاءهم النبي مهاجرًا فرارًا من أهله. ولما جرت واقعة صفين سنة ٣٧ﻫ بين علي ومعاوية عدوها بين اليمنية «الأنصار» وقريش. فلما احتدم القتال في تلك الواقعة قال رجل يمني من أنصار علي: «أيها الناس هل من رائح إلى الله تحت العوالي (أي: السيوف)؟ والذي نفسي بيده لنقاتلنكم على تأويله (القرآن) كما قاتلناكم على تنزيله»، وتقدم وهو يقول:

نحن ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
ضربًا يزيل المهاب عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله١٠

(٣-٢) القبائل اليمنية والمضرية

ثم صار أكثر اليمنية شيعة علي وأنصاره، إلا الذين تألفهم معاوية بالعطاء؛ لعلمه أن اكتفاءه بقريش ونحوهم لا يجديه نفعًا، فقَّرب منه قبيلة كلب وتزوج منها بجدل أم يزيد ابنه، واستنصرهم على قتلة عثمان؛ لأن امرأة عثمان كانت كلبية، واستغواهم بالمال فحاربوا معه، ولما فاز في حروبه ورسخت قدمه في الخلافة تقربت منه قبائل كثيرة من مضر واليمن، وظلت كلب على نصرة يزيد ابنه بعده؛ لأنهم أخواله.

فلما مات يزيد وابن الزبير في مكة يطالب بالخلافة، واختلف بنو أمية على اختيار خالد بن يزيد أو مروان بن الحكم (وكلاهما من أمية)، ووقع الخصام بين دعاة ابن الزبير ودعاة بني أمية، كان أنصار ابن الزبير من قيس (مضرية) يدعون لابن الزبير، وأنصار بني أمية بنو كلب (يمنية) يدعون لخالد بن يزيد؛ لأنه ابن أختهم. ونهض أناس من بني أمية فاعترضوا على صغر سن خالد، فأجمعوا على بيعة مروان لشيخوخته على أن تكون الخلافة بعده لخالد. ثم جرت واقعة مرج راهط بين أصحاب مروان وأصحاب ابن الزبير، أي: بين كلب وقيس، وفاز مروان وثبتت قدمه في الخلافة. ثم توفي مروان ولم يفِ لخالد، فخلفه ابنه عبد الملك بن مروان الشديد الوطأة، وظلت كلب معه وقيس مضطغنة عليه، وانقسم العرب في سائر أنحاء المملكة الإسلامية بين هذين الحزبين: قيسية وكلبية، أو مضرية ويمنية، أو نزارية وقحطانية. وقامت المنازعات بينهما في الشام والعراق ومصر وفارس وخراسان وإفريقية والأندلس. وفي كل بلد من هذه البلاد وغيرها حزبان: مضري ويمني، تختلف قوة أحدهما أو الآخر باختلاف الخلفاء أو الأمراء أو العمال. فالعامل المضري يقدم المضرية، والعامل اليمني يقدم اليمنية، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، وله تأثير في كل شيء من تصاريف أحوالهم، حتى في تولية الخلفاء والأمراء وعزلهم، وكثيرًا ما كانت الولاية والعزل موقوفين على الانحياز إلى أحد هذين الحزبين.

فقد رأيت أن قبيلة قيس كانت على عبد الملك بن مروان، ولكنها كانت أول نصير لابنه هشام، فنصرته فقربها وألحقها بالديوان أي: فرض لأهلها الرواتب والجرايات. وفي أيامه نقل كثير من بطونها وأفخاذها إلى بلاد الإسلام وخصوصًا مصر والشام. وفي أيام هشام ارتفع شأن القيسية، وصارت سائر المضرية أنصارًا لبني أمية، ولا سيما لما قتل الوليد بن يزيد وأمه قيسية١١ فقام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية يطالب بدمه رغبة في نصرتهم ليشتد أزره بهم، فأجمع المضرية على نصرة مروان، وما زالوا كذلك إلى آخر أيامه، فلما قامت شيعة بني العباس كانت اليمنية من أنصارها.
وكانت تحت هذين الحزبين الكبيرين أحزاب فرعية تتخاصم وتتحارب. على أن مقام قريش ما زال في كل حال محفوظًا ومفضلًا على مقام سائر القبائل شرفًا ونفوذًا، فكانوا إذا خافوا عصيان بعض الولايات على عاملها ولوا عليها عاملًا من قريش، فيذعنون له ويُجمعون على طاعته.١٢
على أن قريشًا كانوا منقسمين فيما بينهم، وأهم انقساماتهم بين بني أمية وبني هاشم، فكان الناس يتعصبون لأحدهما على الآخر تبعًا لغرضه أو وطنه، وكثيرًا ما كانوا يتشاجرون في هذا السبيل فيشغلون أوقاتهم بالمناظر والمفاخرة، حتى تحتدم نار الخصام وتتحول إلى حرب يطير شرارها وتسفك فيها الدماء. وكانت قوة بني هاشم في الحجاز والعراق، وقوة بني أمية في الشام، ويختلف هذا التحديد باختلاف العصور. وكثيرًا ما كان الخصام يبدأ بين الشعراء، واشتهر بعضهم على الخصوص في هذه المطاعنات، وأشهر مناظراتهم في هذا السبيل ما كان بين سديف الشاعر، الذي ينتسب بولائه إلى بني هاشم، فقد كان يتعصب لهم، وسياب الشاعر وكان يتعصب لبني أمية، فكان هذان الشاعران يخرجان إلى ظاهر مكة يذكران المثالب والمعائب، والناس ينقسمون في التعصب لهما، حتى تولد من ذلك عصبتان كبيرتان عرفتا بالسديفية والسيابية، وتواصل ذلك إلى أيام الدولة العباسية، وتغير اسمهما إلى الحناطين والجزارين١٣ وسديف هذا هو الذي قال شعرًا بين يدي السفاح قتل به سليمان بن هشام الأموي.

(٤) عصبية العرب على العجم

وكما كان القرشيون في أيام بني أمية مقدمين على سائر قبائل العرب، فإن العرب على الإجمال كانوا مقدمين على سائر الأمم الذين دانوا بالإسلام. ولم يكن هؤلاء يستنكفون من ذلك، بل كانوا يعتقدون فضل العرب في إقامة هذا الدِّين، وأنهم مادته وأصله، ولا كانوا يأنفون من أن يسموا العرب أسيادهم ويعدُّوا أنفسهم من مواليهم، بل كانوا يعدُّون طاعتهم وحبهم فرضًا واجبًا عليهم، عملًا بالحديث المأثور: «من أبغض العرب أبغضه الله»١٤ وكثيرًا ما كانوا يعترفون بفضلهم عليهم في العقل والحزم وسائر المناقب، فإن عبد الله بن المقفع المنشئ الشهير — وكان عريقًا في النسب الفارسي — ضمَّه مجلس في بيت بعض كبراء الفرس بالبصرة، وفيه جماعة من أشراف العرب، فتصدَّى هو للكلام فسأل بعض الحضور: «أيُّ الأمم أعقل؟» فظنوه يريد أمته فقالوا: «فارس» فقال: «كلا … لأنهم وإن ملكوا الأرض وضمَّت دولتهم الخلق، لكنهم لم يستنبطوا شيئًا بعقولهم»، فقالوا: «الروم» فقال: «لا» حتى سئموا فقالوا: «قل أنت»، قال: «العرب. وإذا فاتني حظي من النسبة إليهم فلا يفوتني حظي من معرفتهم. إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها ولا آثار أثرت عليها، أصحاب إبل وغنم وسكان شعره وأدم، يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده، ويشارك ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما شاء فيحسن ويقبح ما شاء فيحسن فيقبح، أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حباء الله فيهم وحباؤهم في أنفسهم، حتى رفع لهم الفخر وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر على الخير فيهم ولهم».

(٤-١) العرب والموالي

فكان العرب يزدادون بأمثال هذه الأقوال افتخارًا على سائر الأمم، وخصوصًا على المسلمين منهم، فكانوا يترفَّعون عنهم ويسمونهم الموالي كما تقدم. ومن أقوال أهل العصبية للعرب على العجم: «لو لم يكن منا على المولى عتاقة ولا إحسان إلا استنقاذنا له من الكفر، وإخراجنا له من دار الشرك إلى دار الإيمان، كما في الأثر — أن قومًا يقادون إلى حظوظهم بالسواحير. وكما قال: عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل. على أننا تعرضنا للقتل فيهم، فمن أعظم عليك نعمة ممن قتل نفسه لحياتك؟ فالله أمرنا بقتالكم وفرض علينا جهادكم ورغبنا في مكاتبتكم».

وكانوا يكرهون أن يصلوا خلف الموالي، وإذا صلوا خلفهم قالوا: إننا نفعل ذلك تواضعًا لله. وكان نافع بن جبير التابعي الشهير إذا مرت به جنازة قال: «من هذا؟»، فإذا قالوا: «قرشي» قال: «وا قوماه!»وإذا قالوا: «عربي» قال: «وا بلوتاه!» وإذا قالوا: «مولى» قال: «هو مال الله يأخذ ما شاء ويدع ما شاء».١٥ وكانوا يقولون: «لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمار، أو كلب، أو مولى». وكانوا لا يكنونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، ولا يدعونهم يتقدمونهم في المواكب، وإن حضروا طعامًا قاموا على رؤوسهم، وإن أطمعوا المولى لسنه وفضله وعلمه أجلسوه في طريق الخباز؛ لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب — وسيأتي الكلام على أحكام الموالي في هذا العصر.
وكان العرب في أيام هذه الدولة يترفعون عن سائر الأمم من الموالي وأهل الذمة، ويعدون أنفسهم فوقهم جبلة وخلقة وفضلًا، وكانوا يسمونهم «الحمراء» كما تقدم، وربما أرادوا بالحمراء الموالي على الخصوص. فكان العربي يعد نفسه سيدًا على غير العربي، ويرى أنه خلق للسيادة وذاك للخدمة؛ ولذلك لم يكن العرب يشتغلون في صدر الإسلام إلا بالسياسة والحكومة، وتركوا سائر الأعمال لسواهم وخصوصًا المهن والصناعات. ومن أمثالهم «أن الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين»؛ لأنها صناعات أهل الذمة١٦ وتخاصم عربي ومولى بين يدي عبد الله بن عامر صاحب العراق فقال المولى: «لأكثر الله فينا مثلك»، فقال العربي: «بل كثر الله فينا مثلك»، فقيل له: «أيدعو عليك وتدعو له؟»، قال: «نعم، يكسحون طرقنا ويخرزون خفافنا ويحوكون ثيابنا».١٧
ولم يكن العرب يعتنون بشيء من العلم غير الشعر والتاريخ؛ لأنه لازم للسيادة والفتح، وأما الحساب والكتابة فقد كانت من صناعات الموالي وأهل الذمة؛ ولذلك كان العمال في أيام بني أمية مع تعصبهم للعرب، قلما يولونهم الدواوين؛ لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يحسبون.١٨

وكان الأمويون في أيام معاوية يعدون الموالي أتباعًا وأرقاء. فلما تكاثر الموالي أدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب، فهم أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم. وقبل مباشرة ذلك استشار بعض كبار الأمراء من رجال بطانته، وفيهم الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب، فقال لهما: «إني رأيت هذه الحمراء (يعني: الموالي) وأراها قد قطعت على السلف، وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فرأيت أن أقتل شطرًا وأدع شطرًا لإقامة السوق وعمارة الطريق، فما ترون؟». فقال الأحنف: «أرى أن نفسي لا تطيب … أخي لأمي وخالي ومولاي وقد شاركناهم وشاركونا في النسب»، وأما سمرة فأشار بقتلهم وطلب أن يتولى ذلك هو بنفسه، فرأى معاوية أن الحزم في رأي الأحنف فكفَّ عنهم. فاعتبر مقدار استخفاف العرب بسواهم، وكيف يخطر للخليفة أن يقتل شطرًا منهم بغير ذنب اقترفوه كأنهم من الأغنام.

وكأنَّ العرب سكروا بخمرة السيادة والنصر، بارتقائهم من رعاية الإبل إلى سياسة الممالك في بضعة عشر عامًا، فتوهَّموا في فطرتهم ما ليس في سواهم من المناقب والسجايا كما توهم الرومان قبلهم، وكما يتوهم أهل هذا العصر في بعض الأمم السائدة، فيعتقدون امتيازها بأصل فطرتها عن سائر الأمم، فتوهم العرب في أنفسهم الفضل على سائر الأمم … حتى في أبدانهم وأمزجتهم فكانوا يعتقدون أنه لا تحمل في سن الستين إلا قرشية، ولا تحمل لخمسين إلا عربية كما تقدم، وأن الفالج لا يصيب أبدانهم، ولا يضرب أحدًا من أبنائهم، إلا أن يبذروا بذورهم في الروميات والصقلبيات وما أشبههن فيعرض الفالج لمن يلدنه؛١٩ ولذلك كانوا في أيام بني أمية شديدي العناية في حفظ أنسابهم من شوائب العجمة، ومنعوا غير العرب من المناصب الدينية المهمة كالقضاء، فقالوا: «لا يصلح للقضاء إلا عربي»٢٠ وحرموا منصب الخلافة على ابن الأمة ولو كان أبوه قرشيًّا، وكان ذلك من جملة ما احتج به هشام على يزيد بن علي بن الحسين، إذ قام يطلب الخلافة لنفسه فقال له هشام بن عبد الملك: «بلغني أنك تخطب الخلافة ولا تصلح لها؛ لأنك ابن أمة»٢١ مع أن أمه من بنات ملوك فارس. وأول من ولي الخلافة من أبناء الإماء يزيد بن الوليد الأموي سنة ١٠١ﻫ، وكانوا يسمون العربي من أم أعجمية «الهجين»، ولا يزوجون الأعجمي عربية ولو كان أميرًا، وإن كانت هي من أحقر القبائل. فإن بعض دهاقين الفرس أراد أن يتزوج امرأة من باهلة كانت في بعض قصور الترك فأبت، مع أن باهلة من أحقر قبائل العرب. ولم يكن أثقل على طباعهم من استرقاق العربي.٢٢
وكان فضل العرب على سواهم قضية مسلمة في صدر الإسلام لا تحتاج إلى دليل، فلما بالغ بنو أمية في الاستخفاف بغير العرب وقد ذهبت دهشة النبوة، أخذ هؤلاء في التذمُّر ونصروا آل علي والخوارج وغيرهم من أعداء الأمويين، وهان عليهم الرَّد على العرب في مفاخراتهم، فنشأ من ذلك طائفة يعرفون بالشعوبية، لا يعترفون بفضل العرب على سواهم، وتصدوا لدفع حجج القائلين: بفضل العرب على سائر الشعوب. ولم يكن الشعوبية يستطيعون الظهور في أيام بني أمية٢٣ فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس وانحطَّ شأن العرب بعد قتال الأمين والمأمون، ظهروا وألفوا الكتب في مثالب العرب، كما سيأتي.

(٤-٢) آثار بني أمية في الإسلام

فالدولة الأموية كانت شديدة الحرص على منزلة العرب، كثيرة العناية في حفظ الأنساب، فجعلت في كل ديوان من دواوينها سجلًّا يقيدون فيه من يولد من أبناء العرب المقيمين في البلاد المفتوحة٢٤ وهي التي جعلت الإسلام دولة، وقد كان في أيام الراشدين دينًا، فصار على عهد الأمويين عصبية وسيفًا، ثم صار دولة أيدوها بنشر اللغة العربية في المملكة الإسلامية، بنقل الدواوين من القبطية والرومية والفارسية إلى العربية. وبعد أن كانت مصر قبطية والشام رومية والعراق كلدانية أو نبطية، أصبحت هذه البلاد بتوالي الأجيال عربية النزعة وتنوسيت لغاتها الأصلية، وهي تُعد الآن من البلاد العربية، وإذا نزلها التركي أو الإفرنجي أو غيرهما من أي أمة كانت وتوالد فيها عُدَّ نسله عربيًّا.
وظلَّ العرب في أيام بني أمية على بداوتهم وجفائهم. وكان خلفاؤهم يرسلون أولادهم إلى البادية لإتقان اللغة واكتساب أساليب البدو وآدابهم،٢٥ وظل كثير من عادات الجاهلية شائعًا في أيامهم، كالمفاخرة والمباهلة ومناشدة الأشعار في الأندية العامة، فكان أشراف أهل الكوفة يخرجون إلى ظاهرها يتناشدون الأشعار ويتحادثون ويتذاكرون أيام الناس. وكان خارج البصرة بقعة يقال لها: المربد، يجتمع إليها الناس من البصرة وغيرها يتناشدون الأشعار ويتحادثون٢٦ كما كانوا يفعلون في عكاظ. وكان في المربد حلقات للعلماء أو الشعراء يجتمع عليهم الطلبة أو المريدون، في جملتها حلقة كانت لراعي الإبل. والفرزدق وجلساتهما بأعلى المربد٢٧ وقس على ذلك ما كان يقع هناك من المفاخرة والمناضلة، كأنهم بعصبيتهم إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام. ولم يبلغ العرب من العز والسؤدد ما بلغوا إليه في أيام هذه الدولة، وقد تكاثروا على عهدها وانتشروا في ممالك الأرض.

(٥) العصبية الوطنية في عصر الأمويين

لم يكن للعرب قبل الإسلام جامعة وطنية يجتمعون بها أو يدافعون عنها؛ لأنهم كانوا لا يستقرون في وطن؛ لتغلب البداوة على طباعهم وتنقلهم بالغزو والرحلة. فلما أسلموا وفتحوا البلاد ومصروا الأمصار وابتنوا المدن وأقاموا فيها، تحضروا ونشأت فيهم الغيرة على تلك المواطن والدفاع عنها والتعصب لها، وهي ما عبرنا عنه بالعصبية الوطنية.

(٥-١) تحضر العرب بعد الفتح

وقد تدرج العرب إلى الحضارة تدريجًا، ولم يكن ذلك مقصودًا في بادئ الرأي وإنما سيقوا إليه بطبيعة العمران؛ لأنهم كانوا في صدر الإسلام لا يزالون على بداوتهم، وإذا ساروا للفتح ساقوا معهم أولادهم ونساءهم وإبلهم وسائمتهم كما كانوا يتغازون في أيام جاهليتهم، وإذا فتحوا بلدًا نصبوا خيامهم في ضواحيه والتمسوا المراعي لإبلهم وخيلهم. وقد نهاهم عمر عن الزرع، فكأنه نهاهم عن التحضر رغبة منه في استبقائهم جندًا محاربًا، لا يمنعهم عن الجهاد عقار ولا بناء، ولا يقعدهم عن القتال ترف ولا قصف. فكانوا يقيمون في معسكراتهم بضواحي المدن كما تقيم جيوش الاحتلال في هذه الأيام، وكانوا يعبرون عن ذلك بالحامية أو الرابطة. فكان المسلمون في عصر الراشدين فرقًا تقيم كل فرقة في ضاحية مدينة من المدن الكبرى وتسمى جندًا. وكانت عساكر الشام أربعة أجناد، تقيم في ضواحي دمشق وحمص والأردن وفلسطين ومنها تسمية هذه الأقاليم بالأجناد. وعساكر العراق كانت تقيم على ضفاف الفرات مما يلي جزيرة العرب، في معسكرين صارا بعدئذ مدينتين هما: البصرة والكوفة. وكانت جنود مصر تقيم في معسكر على ضفاف النيل في سفح المقطم مما يلي بلاد العرب، حيث بنيت الفسطاط بعد ذلك.

وكان العرب (أو المسلمون) يقيمون في تلك المعسكرات بأولادهم ونسائهم، لا يختلطون بأهل القرى، حتى إذا جاء الربيع يسرحون خيولهم للمرعى في القرى، يسوقها الأتباع من الخدم أو العبيد ومعهم طوائف من السادات. فإذا فرغوا من رعاية الخيل عادوا إلى خيامهم، وهم إلى ذلك الحين أهل بداوة وغزو، ومركز دولتهم في المدينة وفيها مقر الخليفة وإليها مرجع المسلمين عند الحاجة.

فلما طال مقامهم في تلك المعسكرات، وأفضت الخلافة إلى بني أمية ورغبوا في الشام عن الحجاز، هان على المسلمين إغفال أمر المدينة وسائر الحجاز وطاب لهم المقام في الشام وسائر الأمصار، وأغفلوا وصية عمر فاقتنوا الأرض والضياع وغرسوا المغارس، فتحولت تلك المعسكرات بتوالي الأجيال إلى مدن عامرة، أشهرها البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان من المدن التي بناها المسلمون، غير المدن القديمة التي استوطنوها في الشام ومصر والعراق وفارس وغيرها. وما زالوا حتى اقتنوا المغارس والضياع، وابتنوا المنازل والقصور، واشتغلوا بالزرع وتعلموا أشغال أهل المدن من تجارة وصناعة.

تدرجوا إلى ذلك في أعوام متطاولة، لاستغنائهم عن الريع لمعاشهم؛ لأنهم كانوا في صدر الإسلام شركاء فيما يرد على بيت المال من الفيء أو الغنائم من العراق وغيره من البلاد المفتوحة، ولكل مسلم الحق في ذلك الفيء حيثما كان مقامه. فأهل المدينة مثلًا يتمتَّعون بفيء العراق، وكذلك أهل الشام.

فلما بدأوا بالاستيطان في أواخر عصر الراشدين، وأراد أهل كل مصر أن يستقلوا بمصرهم، كان ذلك مجحفًا بأهل المدينة؛ لأن معاشهم من فيء البلاد المفتوحة، فشكوا ذلك إلى الخليفة إذ ذاك عثمان بن عفان، وطالبوه بفيئهم من الأرض بالعراق، فاستبدله لهم من أهل العراق بأرض كانت لهؤلاء في الحجاز أو اليمن أو غيرهما من بلاد العرب.٢٨

(٥-٢) تعصب المدن الإسلامية بعضها على بعض

ومما زاد المسلمين إيغالًا في العصبية الوطنية انقسام الأحزاب السياسية يومئذ باعتبار المدن. وأول خلاف وقع بين بلدين إسلاميين الخلاف الذي وقع بين الشام والكوفة في أيام عثمان بن عفان،٢٩ ثم حدث الانقسام الوطني السياسي بعد مقتله، وكان أساسه الميل إلى أحد طلاب الخلافة يومئذ، وهم علي ومعاوية وطلحة والزبير، فكان أهل الشام مع معاوية؛ لأنه أميرهم ومعظمهم من قريش، وكان أهل المدينة مع علي وهم الأنصار وتبعتهم مصر، وكان أهل الكوفة مع الزبير، وأهل البصرة مع طلحة. فلما كانت واقعة الجمل سنة ٣٦ﻫ وقتل طلحة والزبير انحاز أهل العراق إلى علي فضلًا عن أهل المدينة ومصر، وظل أهل الشام مع معاوية. ولما كانت واقعة صفين ومسألة التحكيم سنة ٣٧ﻫ، وغلب عمرو بن العاص بمكره، بويع معاوية وتركت مصر لعمرو بن العاص عندما صارت مصر في حوزة معاوية. ولما قتل علي سنة ٤٠ﻫ ومات الحسن ثم قام الحسين يطالب بالخلافة بعد موت معاوية وخلافة يزيد، استعان الحسين بأهل العراق وانتقل إليهم، فبايع أهل الحجاز لابن الزبير. فأصبح الحجاز مع ابن الزبير والعراق مع الحسين والشام ومصر مع معاوية.

وقس على ذلك انحياز تلك البلاد إلى الخلفاء باختلاف الأحوال، فأصبح لكل بلد بتوالي الأعوام استقلال خاص وعوائد خاصة تميزه عن سواه، على أنها كانت تمتاز بعضها عن بعض في ذلك من أيام معاوية، فقد سأل معاوية ابن الكواء عن أهل الأمصار فقال: «أهل المدينة أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه، وأهل الكوفة يردون جميعًا ويصدرون شتى، وأهل مصر أوفى الناس بشر وأسرعهم إلى ندامة، وأهل الشام أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم».

وكان لأهل كل بلد غرض خاص في السياسة عبرنا عنه بالعصبية الوطنية، وهي غير عصبية النسب، إذ قد يجتمع أهل البلد الواحد على غرض واحد ويعرفون بجامعة واحدة، كأهل البصرة والكوفة والشام والفسطاط، وهم أخلاط من قبائل شتى. فكان لكل بلد في عصر بني أمية جامعة خاصة يجتمع بها ويحارب باسمها. وهو مؤلف من قبائل تختلف نسبًا وعصبيةً، وفيهم قبائل اليمن ومضر وربيعة وغيرها، يقيم كل منها في حي خاص بها يعرف باسمها، فكانت البصرة مثلًا مؤلفة من خمسة أقسام تعرف بالأخماس، كل خمس لقبيلة، وهي الأزد وتميم وبكر وعبد القيس وأهل العالية. والمراد بأهل العالية بطون قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة٣٠ وقس على ذلك سائر البلاد.
فإذا تحارب بلدان وقفت كل قبيلة من أهل البلد الواحد أمام ما يقابلها من قبيلتها في البلد الآخر. ففي واقعة الجمل كانت الحرب بين البصرة والكوفة، فلما انتشب القتال تصدت قبائل اليمن البصرية لقبائل اليمن الكوفية، ونزلت قبائل مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة. وكذلك في واقعة صفين، وهي بين أهل الشام وقائدهم معاوية، وأهل العراق وقائدهم علي. فلما التحم القتال سأل علي عن أهل الشام فعرف مواقفهم، فأخذ يستحث من معه من القبائل على إخوانهم في معسكر عدوه، فقال لأزد: «اكفونا الأزد»، وقال لخثعم: «اكفونا خثعم»، وأمر كل قبيلة معه أن تكفيه أختها في عسكر الشام. إلا أن تكون قبيلة ليس لها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى في الشام ليس بالعراق منها أحد٣١ — فتأمل كيف غلبت الجامعة الوطنية على جامعة النسب؛ وإنما غلبت لأن الأحوال اقتضتها فرأى الناس يها ما يسد مطامعهم.
على أن أهل البلد الواحد كانوا يختلفون عددًا ونسبًا باختلاف عصبية الأمير أو الخليفة، كما تقدم في كلامنا عن عصبية النسب. ويختلف غرض البلد الواحد باختلاف تلك الأحوال مما لا ضابط له، فتنشب الحروب بين البلدين كما تنشب بين القبيلتين. ومن أشهر حوادث الخلاف بين البلاد في صدر الإسلام خلاف أهل الكوفة والبصرة ومفاخرتهما. ففي أيام علي والخوارج كانت البصرة عثمانية، والكوفة علوية، والشام أموية، والجزيرة خارجية، والحجاز سنية٣٢ وتقلبت هذه الأحوال كثيرًا، واختلفت باختلاف الدول والعصور. فحدث بتوالي التقلبات السياسية تعدد الجامعات: أولها الجامعة العصبية أو جامعة النسب بين مضر واليمن، والثانية جامعة الوطن بين العراق ومصر والشام، والثالثة جامعة المذهب بين الفرق الإسلامية كالسنة والشيعة والمعتزلة، وربما اجتمعت كل هذه الفرق في رجلين.٣٣
ومما ساعد على نشوء الجامعة الوطنية أن أهل الحجاز كانوا يجتمعون بالحرمين ويفاخرون المسلمين بهما؛ لأن الإسلام لا يستغني عنهما وفيهما شيعة علي ولا سيما المدينة. فكان الأمويون — مع عداوتهم للعلويين — لا يرون بدًّا من زيارة الحرمين ورعاية أهلهما، فيقف ذلك حجر عثرة في سبيل سلطانهم، وخصوصًا بعد أن احتمى ابن الزبير بالكعبة وأخرج بني أمية وأحزابهم من الحجاز، فلم يستطع الأمويون التغلب عليه إلا بضرب الكعبة بالمنجنيق؛ ولهذا السبب خطر للأمويين أن ينقلوا منبر النبي من المدينة إلى الشام؛ ليجمعوا عندهم الدين والسياسة. ولعل الحجاج بنى القبة الخضراء في واسط لمثل هذه الغاية، كما بنى المنصور في بغداد بعد ذلك قبة خضراء على مسجد بغداد تصغيرًا للكعبة.٣٤ والغرض من ذلك كله تحويل القلوب عن الحجاز وتصغير أمر العلويين، فلم يُجْدِهِمْ ذلك نفعًا.

(٦) اصطناع الأحزاب في عصر الأمويين

(٦-١) سياسة معاوية

ومما احتاج إليه بنو أمية في سبيل التغلب لنيل الخلافة اصطناع الرجال واجتذاب الأحزاب، كما فعل معاوية بن أبي سفيان في اكتساب نصرة عمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة، اكتسبهم بالدهاء والعطاء، ثم صار بعد ذلك قاعدة سار عليها بنو أمية في تثبيت دعائم ملكهم، والعلويون أبناء بنت النبي وأحفادها ينازعونهم عليه. على أنه لم يقم في بني أمية رجل مثل معاوية في الدهاء والتعقُّل، مما يعبر عنه أهل هذا الزمان بالسياسة.

وإذا قسنا أعمال هذا الرجل بأعمال أعاظم رجال السياسة من أهل هذا العصر وغيره، لرأيناه يفوق أكثرهم تعقلًا وحكمةً ودهاءً، وخصوصًا إذا اعتبرنا موقفه بإزاء طلاب الخلافة من أهل بيت النبي وأبناء عمه وأبناء بنته، والمسلمون يعتقدون حقهم فيها وأن معاوية طليق لا تحل له الخلافة.٣٥ وأنه لم يعتنق الإسلام إلا مكرهًا، ومع هذا غلب عليهم جميعًا فقبض على أزمة الملك وجعله إرثًا في نسله، ولم يسفك في سبيل ذلك دمًا كثيرًا، وإنما كانت عمدته سعة الصدر والدهاء وبذل الأموال.
أما سعة الصدر فإنه كان يغضى عن مطاعن أهل البيت عليه، ولو فعلوا ذلك بين يديه، وبدلًا من أن ينتقم منهم كان يبذل لهم الأموال ويقربهم. فربما دخل عليه الرجل منهم وهو في مجلسه وبين أمرائه، فيطعن فيه ويعرض باختلاسه الملك ويفضل عليًّا عليه، فيلين له الجواب ويهبه الأموال فينقلب معه ولو كان من أقرباء علي. ذكروا أن عقيلًا أخا علي بن أبي طالب وفد على معاوية وعلي لا يزال حيًّا، فرحب به معاوية وسر بوروده لاختياره إياه على أخيه، وأوسعه حلمًا واحتمالًا، فقال له معاوية: «كيف تركت عليًّا؟» فقال: «تركته على ما يحب الله ورسوله، وألفيتك على ما يكره الله ورسوله»، فقال معاوية: «لولا أنك زائر منتجع جنابنا لرددت عليك جوابًا تألم منه». ثم أحب معاوية أن يقطع الحديث مخافة أن يأتي بشيء يسوءه، فوثب من مجلسه وأمر له أن ينزل وأوصل إليه مالًا عظيمًا. فلما كان من غد جلس معاوية وبعث إلى عقيل، وقال له: «كيف تركت عليًّا أخاك؟». قال: «تركته خيرًا لنفسه منك، وأنت خير لي منه».٣٦
وأخبار معاوية مع صعصعة بن صوحان العبدي، وغيرها من رجال علي ومريديه كثيرة، تدل على سعة صدر وحلم. فإن لم يكفه الحلم عمد إلى المخادعة أو البذل، فلا يلتقي به واحد ممن يخاف بطشهم إلا رجع راضيًا. وقد يأتيه الرجل مستجديًا وهو يتعمد خداعه، فينخدع له ويطاوعه ويجيزه. ذكروا أن ابن الزبير — قبل قيامه بالدعوة لنفسه — هرب من عبد الرحمن بن أم الحكم إلى معاوية، وقد أحرق عبد الرحمن داره بالكوفة، فجاء معاوية متظلمًا، وقال له: «إن عبد الرحمن أحرق داري»، فقال معاوية: «وكم تساوي دارك؟» قال: «١٠٠٠٠٠»، فطلب منه شاهدًا فأتاه بشاهد من أصدقائه، فأمر له معاوية بالمال. فلما انصرف الرجلان قال معاوية لجلسائه: «أي الشيخين عندكم أكذب؟ والله إني لأعرف داره، وما هي إلا خصائص قصب، لكنهم يقولون فنسمع ويخادعوننا فننخدع»،٣٧ وكان ذلك وأمثاله مما أسكت ابن الزبير وغيره عن القيام لطلب الخلافة في أيامه.
فأين هذا من تدقيق علي في محاسبة عماله، حتى أغضب أكثرهم وخسر نصرتهم، وفي جملتهم ابن عمه عبد الله بن عباس بعد أن كان أكبر نصير له، فأغضبه من أجل وشاية لا طائل تحتها كما تقدم؟ على حين أن معاوية كان يهب لعماله الولاية طعمة لهم، وإذا وفد أحدهم عليه بالغ في إكرامه والترحيب به، فكان معاوية بن حديج إذا قدم على معاوية في الشام زينت له الطرق بقباب الريحان تعظيمًا لشأنه.٣٨
وكان معاوية يحتمل الطعن والنقد على الخصوص من رؤساء القبائل وأهل البيوتات، وزعماء الأحزاب ولو أطلقوا ألسنتهم عليه. فالأحنف بن قيس التميمي، أحد السادة التابعين وأهل النفوذ، كان على رأي علي وقد نصره في واقعة صفين. فاتفق أنه وفد على معاوية بعد أن استقر له الأمر بالخلافة فلما دخل عليه قال له معاوية: «والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي إلى يوم القيامة»، فقال له الأحنف: «والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها، وإن تدن من الحرب فترًا ندن منها شبرًا، وإن تمشِ إليها نهرول لها» ثم قام وخرج ولم يكلمه معاوية. وكانت أخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه، فقالت: «يا أمير المؤمنين من هذا الذي يهدِّد ويتوعَّد؟». قال: «هذا الذي إذا غضب، غضب لغضبه مائة ألف من تميم لا يدرون فيم غضب».٣٩
على أن معاوية كان إذا خاف عدوًّا لا يقدر عليه بالسيف ولا يستطيع اصطناعه بالمال احتال على قتله غيلة بالسُّمِّ، كما فعل بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان قد عظم شأنه عند أهل الشَّام ومالوا إليه بما عندهم من آثار أبيه، ولغنائه في بلاد الروم وشدة بأسه، فخافه معاوية فأمر ابن الأثال الطبيب أن يحتال في قتله، وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش وأن يوليه خراج حمص. فدسَّ ابن الأثال إليه شربة عسل مسمومة مع بعض مماليكه فشربها ومات٤٠ ونجا معاوية منه. وفعل نحو ذلك بالأشتر النخعي مالك بن الحارث، وكان من أشدِّ رجال عليّ بطشًا أو هو أشدُّهم جميعًا، وقد أبلى معه في صفين بلاءً حسنًا. فلما اضطربت أحوال مصر بدسائس معاوية، وكانت لا تزال في حوزة علي، بعث الأشتر واليًا عليها، فعلم معاوية أنه إن وليها امتنعت عليه، فبعث إلى المقدم على أهل الخراج في القلزم — وهي في طريق الأشتر لا بد من مروره بها عند قدومه إلى مصر — وقال له: «إن الأشتر قد ولي مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجًا ما بقيت وبقيت». فخرج حتى أتى القلزم وأقام به، فلما جاء الأشتر استبقاه ذلك الرجل فعرض عليه النزول فنزل عنده، فأتاه بطعام فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سمًّا فسقاه إياها، فلما شربها مات. وأخذ معاوية يقول لأهل الشام: «إن عليًّا قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله عليه» فكانوا يدعون عليه كل يوم، وأقبل الذي سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر، فقام معاوية خطيبًا وقال: «أما بعد فإنه كان لعلي يمينان فقطعت إحداهما بصفين (يعني عمار بن ياسر) وقطعت الأخرى اليوم (يعني الأشتر)»٤١ فلما بلغ خبر الأشتر إلى عمرو بن العاص قال: «إن لله جنودًا من العسل».٤٢

(٦-٢) عمرو بن العاص

فكان معاوية وأصحابه لا يضيعون فرصة، ولا يبالون في إنفاذ أغراضهم ما يرتكبون من القتل أو نحوه. أما علي وأصحابه فكانوا لا يحيدون عن مناهج الدين ومقتضى الأريحية، وكانت أريحيتهم هذه مساعدًا كبيرًا لفوز معاوية عليهم. ففي واقعة صفين كانت كفة النصر راجحة لعلي، ولو تم له ذلك لقضي على معاوية وأغراضه، وذهبت مساعيه أدراج الرياح، ولذهب أمر بني أمية بذهابه واستتب الأمر لعلي وأهل بيته. وإنما منع من فوز علي دهاء عمرو بن العاص؛ لأن معاوية لما احتدمت المعركة، ورأى الضعف في عسكره وأيقن الخذلان، لجأ إلى عمرو بن العاص وكان محاربًا معه وقال له: «هلم مخبآتك يا ابن العاص فقد هلكنا، وتذكر ولاية مصر». فأشار عليه عمرو يومئذ برفع المصاحف، وأن ينادوا: «كتاب الله بيننا وبينكم! من لثغور الشام بعد أهل الشام؟ ومن لثغور العراق بعد أهل العراق؟ ومن لجهاد الروم والترك ومن للكفار؟» فخدع رجال علي بهذه الحيلة وأوقفوا القتال، ثم اتفقوا على التحكيم وبه أتم ابن العاص حيلته، فخلع عليًّا وبايع معاوية. فلولا عمرو بن العاص لفشل معاوية وذهب أمره، ولولا أريحية أبداها علي في تلك المعركة لقتل عمرو قبل تدبير تلك الحيلة، وذلك أن عمروا كان قد برز للنزال، فبرز له علي فلما التقيا عرفه علي، فشال السيف ليضربه ويتخلص منه، فلما أيقن عمرو بالموت كشف عن عورته وقال: «مكره أخوك لا بطل»، فثارت الأريحية في نفس علي فحول وجهه عنه وقال: «قبحت!» ونجا عمرو بتلك الحيلة٤٣ وذهب عمل عمرو هذا مثلًا وفيه يقول الشاعر:
ولا خير في صون الحياة بذلة
كما صانها يومًا بذلته عمرو
وكذلك كان أصحاب علي من حيث الأريحية والتقوى وصدق اللهجة، تلك كانت طبيعة الإسلام والمسلمين في ذلك العصر الذهبي، إلا من طمع في الدنيا وانحاز إلى معاوية. وكانت هذه المناقب في علي على أقوى أحوالها، ولو تساهل فيها أو أغضى عن شيء منها لنجا من شرور كثيرة؛ ولذلك قالت قريش: «إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكنه لا رأي له في الحرب».٤٤

فبالدهاء ونحوه تمكن معاوية من نيل الخلافة وتوريثها لابنه، ثم صارت في بني مروان من أمية، ولكنه لم يستطع قطع شأفة المقاومين من طلاب الخلافة، وهم كثيرون أهمهم أولاد علي. على أنه كان يسكتهم بالمسالمة والبذل، وكانوا يهابونه ويسكنون إلى سياسته ويتوقعون من الجهة الأخرى رجوع الخلافة إليهم بعد موته.

فلما رأوه نقلها إلى ابنه يزيد، ثار المطالبون بالخلافة في الحجاز والعراق وغيرهما، وكل منهم يزعم أنه صاحب الحق فيها. فاجتمع سنة ٦٨ﻫ أربعة ألوية في عرفات، كل منها لزعيم يطلب الخلافة لنفسه، أحدها لبني أمية، والآخر للعلويين باسم محمد بن الحنفية، والثالث لعبد الله بن الزبير، والرابع لنجدة الحروري من الخوارج. ثم قام غيرهم ولم يفز بالملك إلا بنو أمية، للعصبية العربية واصطناع الأحزاب. وإليك الأسباب التي ساعدتهم على اصطناع الأحزاب، غير ما تقدم ذكره من دهاء معاوية وضعف رأي علي في السياسة.

(٧) بذل المال في عصر الأمويين

(٧-١) العطاء من بيت المال

العطاء من أكبر العوامل التي ساعدت بني أمية في اصطناع الرجال وكسر شوكة أعدائهم؛ لأن العطاء رواتب الجند أو رواتب المسلمين، وكانوا في صدر الإسلام كلهم جندًا، ولكل منهم رواتب يختلف باختلاف نسبه من النبي، أو سابقته في الإسلام، أو غير ذلك مما تراه مفصلًا في كلامنا عن الديوان في أيام عمر٤٥ وترى الرواتب فيه للمسلمين على اختلاف طبقاتهم حتى النساء والأولاد. وأصل هذا العطاء من أموال الفيء، وهناك طبقة أخرى من المسلمين الذين لا يستطيعون الحرب، فهم من الفقراء ويأخذون أعطيتهم من أموال الصدقة وهي الزكاة، ولكل من الصدقة والفيء ديوان خاص وحساب خاص.

فمن قبض على بيت المال قبض على رقاب المسلمين، فيجدر بهم أن يتقربوا منه أو يتزلفوا إليه. فإذا قبض عليه رجل حكيم مثل معاوية يعرف كيف يعطي ولمن يعطي، أغناه ذلك عما سواه. فكان معاوية يزيد العطاء أو ينقصه أو يقطعه على حسب الاقتضاء، والغالب أن يبذل الأموال ويضاعف الأعطية حيث يتوسم نفعًا، وأخوف ما كان يخافه في خلافته قيام العلويين أو غيرهم من أهل بيت النبي ينازعونه الخلافة، فبذل لهم العطاء بسخاء.

فبعد أن كان عطاء الحسن والحسين بحسب ديوان عمر ٥٠٠٠ درهم في السنة جعلها معاوية مليون درهم، أي إنه ضاعفها ٢٠٠ مرة، وأعطى مثل هذا المبلغ أيضًا إلى عبد الله بن عباس؛ لأنه ابن عم النبي ويخشى منه. وكذلك عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وغيرهم من كبار أبناء الصحابة أهل النفوذ في الإسلام ممن يقيمون في المدينة. فكان من جهة يتألفهم بالأموال ويشغلهم بالرخاء عن النهوض للمطالبة، ومن جهة أخرى يتألف بهم أهل المدينة؛ لأنهم كانوا ينفقون تلك الأموال في أهلها للتمتع بملاذ الحياة، ومنهم من كان ينفق عطاءه على المغنين والشعراء. وأكثرهم سخاءً وبذلًا من هذا القبيل عبد الله بن جعفر، وهو ابن عم الحسن والحسين، فإنه كان يفد على معاوية في الشام فيدفع إليه عطاءه فيعود إلى المدينة فيفرقه في أهلها. وكان معاوية يعلم ذلك فيقربه ويحسن إليه ليستألف أهل المدينة به.

ويقال: إنه قدم على يزيد بن معاوية بعد توليه الخلافة، فقال له يزيد: «كم كان عطاؤك؟» فقال: «ألف ألف درهم»، قال: «قد أضعفناها لك»، قال: «فداك أبي وأمي، ما قلتها لأحد قبلك»، قال: «قد أضعفناها لك ثانية» فقيل ليزيد: «أتعطي رجلًا واحدًا ٤٠٠٠٠٠٠ درهم؟» فقال: «ويحكم إني أعطيتها أهل المدينة أجمعين، فما يده فيها إلا عارية».٤٦

وقس على ذلك بذل معاوية في تألف القبائل، فقد كان يفرض للقبائل التي تحارب معه، ولو بعدت عن نسبه كاليمن مثلًا، فإنه كان يتألفها بالأموال خوفًا من بطشها، وكان يفرض لها ولا يفرض لقيس وهي أقرب إليه؛ لأنه لم يكن يخاف بأسها، حتى إن أحد رجالها كان يأتي معاوية يطلب منه أن يفرض له فيأبى، كما فعل بمسكين الدارمي، فإنه طلب من معاوية أن يفرض له فأبى، فقال شعرًا يعاتبه فيه ويذكره بما بينهما من النسب، ومن ذلك قوله:

أخاك أخاك إن من لا أخًا له
كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
وإن ابن عم المرء — فاعلم — جناحه
وهل يقنص البازي بغير جناح؟
وما طالب الحاجات إلا مغرر
وما نال شيئًا طالب كجناح
فلم يعبأ به لأنه إنما كان ينظر إلى مصلحة نفسه. فاعتزت اليمن واشتد بأسها واستطالت على الدولة، وتضعضعت قيس وسائر عدنان. فبلغ معاوية أن رجلًا من اليمن قال يومًا: «لهممت أن لا أدع بالشام أحدًا من مضر، بل هممت أن لا أحل حبوتي حتى أخرج كل نزاري بالشام» فخاف معاوية بأس اليمنية، ورأى أن يضربهم بالمضرية، ففرض من وقته لأربعة آلاف من قيس وغيرها من عدنان، وبعث إلى مسكين يقول له: «لقد فرضنا لك وأنت في بلدك، فإذا شئت أن تقيم بها أو عندنا فافعل، فإن عطاءك سيأتيك». وصار معاوية يغزي اليمن في البحر وقيسًا في البر٤٧ ولولا دهاؤه وحسن أسلوبه لما استطاع التوفيق بينهما.
ويقال نحو ذلك في زيادة العطاء للذين شهدوا الوقائع الهامة ونصروا الأمويين، كواقعة صفين فإن معاوية زاد عطاء أصحابها٤٨ كما فعل عمر فيمن شهد القادسية. وسار خلفاء بني أمية على خطوات معاوية، فأعطوا أحزابهم حتى فرضوا الأعطية للشعراء، التماسًا لقطع ألسنتهم أو ليتقربوا إلى قلوب الناس. وكان أهل التقوى يرون ذلك مجحفًا بحقوق بيت المال، ويعترضون على إعطاء الناس من مال الفيء فإنه مال الله أو مال المسلمين. وكان ذلك من جملة ما غير أصحاب علي على معاوية يوم صفين٤٩ فلما تولى عمر بن عبد العزيز، وسار على نهج الخلفاء الراشدين منع العطاء عن الشعراء، فلما مات عادوا إلى ما كانوا عليه.

وكانوا يفرضون لأي من جاءهم، ولو كان أعرابيًّا، حتى كان أهل البادية كثيرًا ما يبيعون إبلهم ويأوون إلى المدن يطلبون الفرض لهم. ومع ذلك فأهل الأنفة منهم كانوا يدركون ما وراء ذلك من استعباد النفوس، لغرض يعتقدون أنه ضد الحق، وأنه تأييد لدعوة القائمين على أهل البيت فتعافه نفوسهم. يحكى أن امرأة جيها الأشجعي من أهل البادية حرضت زوجها على الذهاب إلى المدينة ليبيع إبله ويفترض في العطاء، فأطاعها وساق إبله حتى إذا دنا من المدينة شرعها بحوض ليسقيها، فحنت ناقة منها ثم نزعت، وتبعها الإبل، وطلبها ففاتته، فقال لزوجته: «هذه الإبل لا تعقل وتحن إلى أوطانها». ثم قال شعرًا:

قالت أنيسة: دع بلادك والتمس
دارًا بطيبة ربة الآطام
تكتب عيالك في العطاء وتفترض
وكذاك يفعل حازم الأقوام
فهممت ثم ذكرت ليل لقاحنا
بذوي عنيزة أو بقف بشام
إذ هن عن حسبي مداود كلما
نزل الظلام بعصبة أغنام
إن المدينة لا مدينة فالزمي
حقف السناد وقبة الأرحام
يجلب لك اللبن القريض وينتزع
بالعيس عن يمن إليك وشام
وتجاوري النفر الذين بنبلهم
أرمي العدو وإذا نهضت مرام
الباذلين إذا طلبت بلادهم
والمانعي ظهري من الغرام٥٠
ومن أقوال عبد الملك بن مروان: «أنعم الناس عيشًا من له ما يكفيه، وزوجة ترضيه، ولا يعرف أبوابنا الخبيثة فنؤذيه».٥١
وكان هم بنو أمية أهل المدينة؛ لأنهم شيعة عليّ وفيهم الأنصار ونخبة القرشيين، فكان عامل بني أمية فيها إذا اجتمع إليه مال الصدقة من الأطراف أقرض من أراد من قريش منه، وكتب بذلك صكًّا عليه فيستعبدهم به ويختلفون إليه ويدارونه. فإذا غضب على أحد منهم استخرج المال منه، وما زال هذا شأنهم إلى أيام الرشيد، فكلمه عبد الله بن مصعب في صكوك بقيت من ذلك فحرقت.٥٢
وكانوا إذا عصاهم أحد من المسلمين قطعوا عطاءه، ولو كان العاصون بلدًا برمتها، كما فعل الوليد لما ثار عليه زيد بن علي، فقطع عطاء أهل الحرمين جميعًا٥٣ وحرم الوليد آل حزم من العطاء؛ لأن قتلة عثمان دخلوا إليه من دارهم في المدينة، وقبض أموالهم وضياعهم، وظلوا كذلك إلى أيام المنصور فأفرج عنهم٥٤ وكثيرًا ما كان الأنصار يمكثون بلا عطاء٥٥ ولا ذنب لهم إلا أنهم ينصرون أهل البيت. وقطع عبد الملك بن مروان أعطية آل سفيان، مع أنهم أمويون مثله، وإنما فعل ذلك لموجدة وجدها على خالد بن يزيد بن معاوية.٥٦
فلا غرو إذا اضطر الناس إلى مسايرتهم والإذعان لهم، وهم يعلمون أنهم يُخالفون الحق بإذعانهم، وقد يصرحون بذلك فيما بينهم. كما حدث لما نصَّب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد، فأقعده في قبة حمراء وأقبل الناس يسلمون على معاوية بالخلافة، ثم على ابنه يزيد بولاية العهد، حتى جاء رجل منهم فسلم على الاثنين، ثم رجع إلى معاوية فقال: «يا أمير المؤمنين، أعلم أنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها». وكان الأحنف بن قيس التميمي حاضرًا، فقال له معاوية: «ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟» فقال: «أخاف الله إذا كذبت، وأخافكم إذا صدقت»، فقال معاوية: «جزاك الله على الطاعة خيرًا»، وأمر له بمال. فلما خرج لقيه ذلك الرجل فقال له: «يا أبا بحر، إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا وابنه، ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت».٥٧

(٧-٢) تدقيق علي وبخل ابن الزبير

ومما ساعد الأمويين على اصطناع الرجال بالأموال، أن مناظريهم أهل البيت وعبد الله بن الزبير كانوا قليلي العطاء، إما عن إمساك أو عن ورع، حتى قالوا: «وما رُؤي في الناس أبخل من أهل البيت، ولا من عبد الله بن الزبير»٥٨ وكثيرًا ما كان إمساكهم سببًا في فشلهم وانحياز الناس إلى بني أمية، فمن أمثلة ذلك أن مصقلة بن هبيرة الشيباني كان عاملًا لعلي على أزدشيرخره، فرأى أسرى كان بعض رجال لعلي قد أسرهم، فاشتراهم منه شفقة عليهم، وهم ٥٠٠ إنسان بخمسمائة ألف، وأطلق سراحهم.
فطالبه علي بالمال، فأدى نحو النصف وطمع في الباقي، فألح عليه أصحاب علي فقال مصقلة: «أما والله لو كان ابن هند (يعني معاوية) ما طالبني بها، ولو كان ابن عفان لوهبها لي»، فقالوا: «إن عليًّا لا يترك شيئًا»، فهرب مصقلة من ليلته ولحق بمعاوية.٥٩
ومن أمثلة بخل ابن الزبير الذي أفسد عليه الأمر، أن أخاه مصعبًا لما قتل المختار بن أبي عبيد في العراق، وأخضع العراق لأخيه، وقد ساعده على ذلك وجوه أهل العراق، فجاء بهم حتى أتى أخاه في مكة وكان لائذًا بالكعبة وقال له: «يا أمير المؤمنين، جئتك بوجوه أهل العراق لم أدع لهم بها نظيرًا لتعطيهم من هذا المال»، فقال عبد الله: «جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم مال الله؟ والله لا فعلت». فلما علموا ذلك وسمعوا منه جفاءً انصرفوا من عنده، وكاتبوا عبد الملك بن مروان وغدروا بمصعب٦٠ وكان ذلك سببًا في ذهاب دولة ابن الزبير.
وقس على ذلك بخل العلويين في فرض العطاء، إلا لأهل التقوى أو من في معناهم. على حين أن بني أمية كانوا يفرضون للرجل ولأهله وأولاده، فقد فرض عبد الملك لعامر الشعبي (وما هو من رجال الحرب) ألفين في العطاء، وجعل عشرين من ولده، وأهل بيته في ألفين ألفين من أجل حديث حدثه إياه٦١ وكانوا يفرضون للشعراء أعطية معينة يقبضونها في أوقاتها غير الجوائز، فمنهم من عطاؤه ألفان أو أكثر أو أقل. وإذا مدحوهم زادوا أعطيتهم ترغيبًا لهم في مدحهم، وكذلك كان يفعل عمالهم في سائر أنحاء المملكة الأموية. وأهل التقى من الخلفاء لا يرون للشعراء حقًّا في بيت المال٦٢ فعمر بن عبد العزيز كان إذا أحرجه شاعر، ولم ير مناصًّا منه أعطاه من ماله الخاص.٦٣
على أن غير الأتقياء منهم كانوا يقطعون عطاء الشاعر إذا حاد عما يريدونه، كما فعل عبد الملك بن مروان بابن قيس الرقيات لما مدحه، فقال له عبد الملك: «والله لا تأخذ مع المسلمين عطاءً»٦٤ وكان عمر بن الخطاب يحرض القراء على التماس الرزق من عند أنفسهم، وألا يكونوا عالة على الناس٦٥ فكيف بالشعراء!

(٨) الاستكثار من الأموال في عصر الأمويين

وبذل الأموال لاصطناع الأحزاب جر بني أمية إلى خرق كثير من القواعد التي وضعها الخلفاء الراشدون لاقتضاء الأموال وإنفاقها. فقد كانت الأموال التي ترد على بيت المال تعد ملكًا للمسلمين، وليس الخليفة أو عامله إلا حافظًا لها؛ لينفقها في مصالحهم وتدبير شؤونهم، وله منها راتب معين يتناوله مثل سائر المسلمين، وقد رأيت أن أبا بكر توفي وليس في بيت ماله غير دينار، وأن عمر كان إذا احتاج إلى المال فوق راتبه استقرضه من بيت المال حتى يؤديه من عطائه. وكان عمر يرى أنه لا ينبغي أن يبقى في بيت المال شيء، ونهى عن اختزان المال، وقد أشرنا إلى غرابة هذا الرأي في الجزء الثاني من هذا الكتاب. ونهى عمر أيضًا عن الزرع، وحرم على المسلمين اقتناء الضياع؛ لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم تدفع من بيت المال. أراد بذلك أن يبقوا جندًا على أهبة الرحيل، وأن تبقى البلاد التي فتحوها فيئًا يؤخذ من خراجها وجزية أهلها للإنفاق على المسلمين. ووضعوا لكل من الخراج والجزية والصدقة أحكامًا لجمعها وتفريقها على مقتضى الشرع.٦٦

(٨-١) عمال بني أمية

فلم اضطر بنو أمية إلى اصطناع الرجال وجمع الأحزاب واسترضاء القبائل وبناء المدن، أغضوا عن كثير من تلك الأحكام، وتوفقوا إلى عمال أشداء لا يبالون بالدين ولا أحكامه في سبيل أغراضهم، مثل زياد بن أبيه عامل معاوية، وعبيد الله بن زياد عامل ابنه يزيد، والحجاج بن يوسف عامل عبد الملك بن مروان، وخالد القسري عامل هشام بن عبد الملك وغيرهم. فكان الخلفاء يكتبون إلى عمالهم بجمع الأموال وحشدها، والعمال لا يبالون كيف يجمعونها. فقد كتب معاوية إلى زياد يقول: «اصطفَّ لي الصفراء والبيضاء»، فكتب زياد إلى عماله بذلك وأوصاهم أن يوافوه بالمال ولا يقسموا بين المسلمين ذهبًا ولا فضة٦٧ وكان العمال من الجهة الأخرى يختصون أنفسهم بجانب من تلك الأموال وليس ثمة من يحاسبهم، وقد أطلق الخلفاء أيديهم في الأعمال ترغيبًا لهم في البقاء على ولائهم، فكان العمال يختزنون لأنفسهم الأموال الطائلة، حتى بلغت غلة أحدهم عشرة ملايين درهم في السنة وزادت ثروته على مائة مليون درهم٦٨ وزادت نفقاتهم زيادة فاحشة، ولم يعد عندهم لراتب العمالة قيمة، حتى كتب أمية بن عبد الله إلى عبد الملك بن مروان يقول: «إن خراج خراسان لا يفي بمطبخي»،٦٩ فلما رأى الخلفاء استئثار العمال بالأموال عمدوا إلى مصادرتهم، فكانوا إذا علموا بمال عند أحدهم أنفذوا إليه من يقبض أمواله ويتولى العمل مكانه، والكل طامعون في الكسب لأنفسهم.
وكان العمال لا يرون حرجًا في ابتزاز الأموال من أهل البلاد التي فتحوها عنوة، لاعتقادهم أنها فيء لهم كما تقدم. وكقول عامل بني أمية في العراق: «السواد بستان قريش، ما شئنا أخذنا منه، وما شئنا تركناه». وقد سأل صاحب إخنا بمصر عمرو بن العاص أن يخبره بما عليه من الجزية فأجابه: «لو أعطيتني من الأرض إلى السقف ما أخبرتك بما عليك، إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم».٧٠ ومن قال ذلك يعد مصر فتحت عنوة، وقال غيره: «الصغد بستان أمير المؤمنين».

(٨-٢) الإسلام والجزية

فكان العمال يبذلون الجهد في جمع الأموال بأية وسيلة كانت، ومصادرها الجزية والخراج والزكاة والصدقة والعشور. وأهمها في أول الإسلام الجزية لكثرة أهل الذمة، فكان عمال بني أمية يشددون في تحصيلها، فأخذ أهل الذمة يدخلون في الإسلام، فلم يكن ذلك لينجيهم منها؛ لأن العمال عدوا إسلامهم حيلة للفرار من الجزية وليس رغبة في الإسلام، فطالبوهم بالجزية بعد إسلامهم. وأول من فعل ذلك الحجاج بن يوسف٧١ واقتدى به غيره من عمال بني أمية في أفريقية وخراسان وما وراء النهر، فارتد الناس عن الإسلام وهم يودون البقاء فيه، وخصوصًا أهل خراسان وما وراء النهر، فإنهم ظلوا إلى أواخر أيام بني أمية لا يمنعهم عن الإسلام إلا ظلم العمال بطلب الجزية منهم بعد إسلامهم، فبعث إليهم رجلًا اسمه أبو الصيداء فقال الرجل: «أخرج إليهم على شريطة أن من أسلم لا تؤخذ منه الجزية»، فقال أشرس: «نعم» فشخص إلى سمرقند ودعا أهلها إلى الإسلام على أن توضع الجزية عنهم. فسارع الناس إلى الإسلام وقل الخراج، فكتب عاملها إلى أشرس: «إن الخراج قد انكسر»، فأجابه: «إن في الخراج قوة للمسلمين، وقد بلغني أن أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة في الإسلام، وإنما أسلموا تعوذًا من الجزية، فانظر من اختتن وأقام الفرائض وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه»، ففعل الناس ذلك وبنوا المساجد، وكتب العمال بذلك إلى أشرس فأجابهم: «خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه» فأعادوا الجزية على من أسلم، فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على عدة فراسخ من سمرقند، وكانت بسبب ذلك فتنة ارتد عن الإسلام بسببها أهل الصغد وبخارا واستجاش الترك. وما زالوا كذلك حتى تولى خراسان نصر بن سيار وقد عرف موضع الخطأ، فأعلن سنة ١٢١ﻫ أنه وضع الجزية عمن أسلم، وجعلها على من كان يخفف عنه من المشركين، فلم يمض أسبوع حتى أتاه ٣٠٠٠٠ مسلم كانوا يؤدون الجزية.٧٢
ناهيك بما كان يرتكبه بنو أمية من زيادة الخراج وضرب الضرائب٧٣ والاستئثار بالفيء. ولم يقم من خلفائهم من نهي عن ذلك إلا عمر بن عبد العزيز، فإنه لم ينفق من بيت المال درهمًا على نفسه ولا أخذ منه شيئًا٧٤ وأمر أهله بذلك فلم يلق سامعًا. وهو الذي كتب إلى عماله لما ولي الخلافة: «ضعوا الجزية عمن أسلم، إن الله بعث محمدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا»، ولم تطل مدة حكمه٧٥ وأراد يزيد بن الوليد أن يتشبه به فتبعه. وكان في جملة ضرائبهم أن يأخذ الخليفة لنفسه نصف دية المعاهد، فأبطلها عمر بن عبد العزيز.٧٦

(٨-٣) الصدقة والرشوة

واضطر الأمويون للاستكثار من الأموال أن يمدوا أيديهم إلى أموال الصدقة، وهي الزكاة تؤخذ من أغنياء المسلمين وتنفق في فقرائهم، خلافًا لسائر أموال الدولة كالفيء والغنيمة والجزية فإنها تفرق في المقاتلة والجند. فكان بنو أمية كثيرًا ما يعطون جوائز الشعراء ونحوهم من أموال الصدقة٧٧ وحقها أن تعطى من مال الخليفة الخاص، أو من مال الفيء ونحوه باعتبار أن تلك الجائزة مما ينفع المسلمين في تأييد دولتهم. أو لعل الخليفة اعتبر الشعراء من فقراء المسلمين فأعطاهم من الصدقة، وهو خلاف المألوف؛ لأنه إنما أجازهم؛ لأنهم مدحوه فعليه أن يجيزهم من ماله الخاص. وكانوا أيضًا كثيرًا ما يعطون أرزاق المسلمين من مال الصدقة، والمحاربون يستنكفون من ذلك ويعدونه حطة في مقامهم، كما اتفق لأهل المدينة وقد جاءهم الخليفة عبد الملك حاجًّا وأمر للناس بالعطاء، فخرجت البدر مكتوب عليها «الصدقة» فأبى أهل المدينة قبولها، وعدوا ذلك إهانة لهم تعمدها عبد الملك؛ لأن أهل المدينة من أنصار أهل البيت وقالوا: «إنما عطاؤنا من الفيء» فضرب عبد الملك مثلًا كشف لهم به عما بينه وبينهم من التضاغن من عهد مقتل عثمان ويوم الحرة.
وكانوا كثيرًا ما يعمدون إذا أعوزهم المال إلى بيع الولايات بالرشوة، وخصوصًا في أيام ضعفهم وفساد دولتهم. فإن الوليد بن يزيد لما تولى الخلافة زاد أعطيات الناس ترغيبًا لهم في طاعته، فلم يجد مالًا يكفيه، ولم يكن عنده من العمال الأشداء من يوافيه بالأموال حالًا، فكان من جملة ما استعان به على جمع الأموال أنه باع ولاية خراسان وأعمالها ليوسف بن عمر، وصارت الولايات في أيامه بالرشى للخليفة وأصحابه٧٨ وكانت الولايات تعطى في أيام أسلافه جزاء على خدمة، كما أعطى معاوية عمرو بن العاص مصر مكافأة لنصرته على علي، فاقتدى به خلفاؤه. فكانوا إذا التمس أحدهم الأحزاب أطمع رؤساءها بالولايات، وصار ذلك مشهورًا حتى أصبح الأمير إذا دعي لنصرة أحد الخلفاء اشترط مالًا أو ولاية معينة. ومما يحكى أن عبد الملك بن مروان، في أثناء محاربته مصعب بن الزبير في العراق، بعث إلى أهل الكوفة والبصرة يدعوهم إلى نفسه ويمنيهم، فأجابوه وشرطوا عليه شروطًا وسألوه الولايات. ومن غريب الاتفاق أن أربعين رجلًا منهم سألوه ولاية أصبهان، فقال عبد الملك لمن حضره: «ويحكم! ما أصبهان هذه؟» تعجبًا ممن يطلبها.٧٩

(٩) الاستخفاف بالدين وأهله

لما طلب الأمويون الخلافة لأنفسهم، وهم يعلمون أن أهل البيت أحق بها منهم، وأن حجة أهل البيت في طلبها مبنية على أساس صحيح، كان أكثير الفقهاء والعلماء وسائر رجال الدين يرون رأيهم ويؤيدون دعوتهم، ولكن العصبية كانت مع الأمويين، والقوة غالبة. أما الفقهاء وسائر أهل التقوى فكانوا لا ينفكُّون عند سنوح الفرصة عن تفضيل أهل البيت، وتذكير الأمويين بما يرتكبونه في سبيل التغلب من الظلم والقسوة والتعدِّي، ويعظونهم ويذكرونهم بتقوى الله. وكان معاوية لحلمه ودهائه يغضي عن أقوالهم، ويقطع ألسنتهم بالعطاء والمحاسنة والحلم. فتعودوا ذلك وبالغوا فيه، حتى إذا أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان عمد إلى الشدة والعنف، فحج سنة ٧٥ﻫ بعد مقتل ابن الزبير، ولما جاء المدينة وفيها أنصار أهل البيت خطب فيها خطابًا قال فيه:

أما بعد فإني لست بالخليفة المستضعف (يعني عثمان) ولا بالخليفة المداهن (يعني معاوية) ولا بالخليفة المأفون (يعني يزيد). ألا وأني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم. وإنكم تحفظون أعمال المهاجرين الأولين ولا تعملون مثل أعمالهم. وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه.

فهو أول من نهى عن المعروف٨٠ فعظم ذلك على أعداء بني أمية حتى تحسروا على أيام معاوية، وقالوا قول ابن الزبير فيه لما جاءه نعيه: «رحم الله معاوية، إنا كنا لنخدعه فيتخادع لنا».

(٩-١) استهانة بعض الأمويين بالمقدسات

أما عبد الملك فكان يرى الشدة ويجاهر بطلب التغلب بالقوة والعنف، ولو خالف أحكام الدين. وقد يتبادر إلى الذهن أنه فعل ذلك اقتداءً بعامله ونصيره ومؤيد دولته الحجاج بن يوسف، ولا نظنه مقتديًا بذلك؛ لأنه صرح باستهانة الدين منذ ولي الخلافة، وكان قبلها يتظاهر بالتدين فلما تولاها استهوته الدنيا. ذكروا أنه لما جاءوه بخبر الخلافة كان قاعدًا والمصحف في حجره فأطبقه وقال: «هذا آخر العهد بك» أو «هذا فراق بيني وبينك»٨١ فلا غرو بعد ذلك إذا أباح لعامله الحجاج أن يضرب الكعبة بالمنجنيق، وأن يقتل ابن الزبير ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة،٨٢ والكعبة حرم لا يجوز القتال فيها ولا في جوارها، فأحلوه وظلوا يقتلون الناس فيها ثلاثًا، وهدموا الكعبة، وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها٨٣ مما لم يحدث مثله في الإسلام، ودخلوا المدينة وهي أحد الحرمين وقاتلوا أهلها وسفكوا دماءهم، لم يغلق لها باب إلا أحرق ما فيه، حتى إن الأقباط والأنباط كانوا يدخلون على نساء قريش فينزعون خمرهن من رؤوسهن وخلاخلهن من أرجلهن، بسيوفهم على عواتقهم والقرآن تحت أرجلهن.٨٤
ناهيك بمن قتلوه من الصحابة والتابعين وأهل التقوى صبرًا، وإنما أرادوا بذلك تحقير أمر علي وشيعته تأييدًا لسلطانهم؛ ولهذا السبب أيضًا لعنوه على المنابر، وأمروا الناس بلعنه وقتلوا من لم يلعنه. وأول من قتل صبرًا في هذا السبيل حجر بن عدي الكندي في أيام معاوية٨٥ وظلوا يلعنون عليًّا على المنابر إلى أيام عمر بن عبد العزيز فأبطل ذلك.

(٩-٢) الخلافة والنبوة في رأي بعض العمال

وفق بنو أمية إلى عمال أشداء زادوهم استبدادًا وشدة، بما توخوه من تمليقهم بالتعظيم والتغرير مما يخالف أحكام الدين. وأول من تجرأ على ذلك الحجاج بن يوسف عامل عبد الملك، فإنه سمى الخليفة «خليفة الله»، وعظم أمر الخلافة حتى فضلها على النبوة فكان يقول: «ما قامت السموات والأرض إلا بالخلافة، وإن الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين؛ لأن الله خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة وأسكنه جنته ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفة، وجعل الملائكة رسلًا». وإذا حاجه أحد في ذلك قال: «أخليفة أحدكم في أهله أكرم عليه أم رسوله في حاجته؟». وكان عبد الملك إذا سمع ذلك أعجب به٨٦ واقتدى بالحجاج من جاء بعده من العمال الأشداء كخالد القسري عامل هشام بن عبد الملك فقد كان يقول قول الحجاج، وخطب الناس في مكة مرة فقال: «أيها الناس، أيهما أعظم، أخليفة الرجل على أهله أم رسوله إليهم؟» يعرض أن هشامًا خير من النبي٨٧ واقتدى بالعمال سائر المملقين من وجوه الدولة، وفيهم جماعة كبيرة إنما أسلموا رغبة في الدنيا فزادوا الأمور فسادًا. وكانوا يملقون العمال من هذا القبيل ويجرئونهم على خرق حرمة الدين: ذكروا أن خالد القسري كان قليل العناية في حفظ القرآن، فإذا تلا آيةً أخطأ فيها وألحن في نطقها، فوقف مرة للخطابة فقال وأخطأ، ثم ارتج عليه وفشل، فنهض صديق له من تغلب فقال: «خفض عليك أيها الأمير ولا يهولنك، فما رأيت قط عاقلًا حفظ القرآن، وإنما يحفظه الحمقى من الرجال» فقال خالد: «صدقت، يرحمك الله!».٨٨

فلا غرو بعد ذلك إذا قيل لنا: أن الوليد بن يزيد، سكير بني مروان، رمى القرآن بالنشاب وهو في مجونه وسكره. فقد ذكروا أنه عاد ذات ليلة بمصحف فلما فتحه وافق ورقة فيها وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ فأمر بالمصحف فعلقوه وأخذ القوس والنبل وجعل يرميه حتى مزقه ثم قال:

أتوعد كل جبار عنيد؟
فها أنا ذاك جبار عنيد!
إذا لاقيت ربك يوم حشر
فقل لله: مزقني الوليد!٨٩
فلم يكن يهم بني أمية نشر الإسلام، وإنما كان همهم الفتح والتغلب وحشد الأموال، فتوقف نشر الإسلام على عهدهم في الأطراف البعيدة كالسند وتركستان مع رغبة أهلهما فيه، وإنما نفرهم منه شدة بني أمية وجشعهم، فكانوا يسلمون ثم يرتدون تبعًا لما يرونه من المعاملة الحسنة أو السيئة. فلما تولى عمر بن عبد العزيز التقى الورع، وسار على خطوات سميه ابن الخطاب، كتب إلى ملوك السند وغيرهم يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكانت سيرته قد بلغتهم فأسلموا أو تسموا بأسماء العرب. فلما قتل عمر المذكور سنة ١٠١ﻫ، وعاد بنو أمية إلى سابق سيرتهم ارتد أولئك عن الإسلام.٩٠

وقس على ذلك ما ارتكبه الأمويون من قتل أبناء علي وصلبهم والمثلة بهم، غير من قتلوه من التابعين وأهل الصلاح صبرًا، وأكثرهم إقدامًا على ذلك عاملهم الحجاج بن يوسف.

(١٠) الفتك والبطش في عصر الأمويين

كان المسلمون في أيام الراشدين يرون الطاعة للإمام واجبة، لا يحتاجون في سياسة شؤونهم إلى حيلة أو عنف، ولا يحيدون عن الحق في أعمالهم أو أقوالهم. إذا أذنب أحدهم اعترف بذنبه وأذعن لما يفرضه الخليفة عليه من القصاص ونحوه، فلم تكن الأحكام تحتاج إلى بحث أو نقض أو حيلة، ولا تنفيذها يفتقر إلى شدة أو عنف. وربما اقتصر القصاص على التوبيخ أو اللوم، وإذا أخطأ الخليفة حكم على نفسه كما يحكم على رعيته. ولم يكن عندهم سجن يحبس فيه الناس، وأول من وضع السجن معاوية، وهو أيضًا وضع الحرس٩١ لقلة الحاجة إلى ذلك في عصر الراشدين، فكان عمر بن الخطاب يأمر القائد من كبار الصحابة أن يأتيه فيأتي صاغرًا، مع علمه أنه لو امتنع عن المجيء لعجز الخليفة عن استقدامه. وقد يأمر بجلد الرجل منهم فيذعن مطيعًا. وكان عمر لا يتغاضى عن الذنب الصغير خوفًا من الذنب الكبير؛ ولذلك اشتهر بالحزم والصرامة.
فلما تولى الخلافة معاوية، وسلم الأعمال إلى دهاته في العراق، وفارس ومصر وغيرها، والمسلمون لا يزالون في أريحيتهم وأنفتهم، وقد أطلق معاوية ألسنتهم بحلمه وسعة صدره، خاف العمال أن يجر ذلك إلى استفحال الأمر فعمدوا إلى الشدة. وأول من توخى الشدة والعنف زياد بن أبيه عامل معاوية على العراق، زعم أنه يفعل ذلك اقتداءً بعمر بن الخطاب في إقامة السياسات بالصرامة والحزم، ولكنه أسرف وتجاوز الحد. وهو أول من شدد أمر السلطة وأكد الملك لمعاوية، فجرد سيفه وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة٩٢ وتولى العراق بعده ابنه عبيد الله بن زياد في خلافة يزيد بن معاوية، وفي أيامه قام الحسين بن علي يطالب بالخلافة، وقد نقض بيعة يزيد وحمل على العراق، فكتب يزيد إلى ابن زياد: «احبس على التهمة، وخذ بالظنة، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك».٩٣
ولما أفضت ولاية العراق إلى الحجاج بن يوسف في خلافة عبد الملك بن مروان (٦٥–٨٦ﻫ)، وقد كثر المطالبون بالخلافة، أراد الحجاج أن يتشبه بزياد وابنه في الشدة والعنف، فبالغ في ذلك حتى أهلك ودمر٩٤ ولم يكن الحجاج أشد وطأة من زياد أو ابنه، ولكن زيادًا كان يزجره حلم معاوية، وابن زياد يزجره أمر يزيد أن لا يقاتل إلا من قاتله. وأما الحجاج فقد أعانته شدة عبد الملك على المبالغة في الشدة، فأكبر المسلمون ذلك ونقموا على تلك الدولة، وكثر الخارجون عليها واتهموا خلفاءها بالمروق من الدين. ومن أقوال الخوارج فيهم: «أن بني أمية فرقة بطشهم بطش جبارين: يأخذون بالظنة، ويقضون بالهوى، ويقتلون على الغضب».٩٥

(١٠-١) بسر بن أرطاة وقتل الأطفال

على أن سياسة بني أمية كانت من أول أمرها مبنية على الشدة والحزم، على ما تقتضيه سياسة الممالك في ذلك العصر، ثم تجاوزوا الحدود ولم يبالوا بالفتك والقتل في سبيل تأييد دعوتهم والتغلب على أعدائهم. فكانوا يطلقون أيدي عمالهم في الأحكام، يقتلون ويصلبون على ما يتراءى لهم بدون مشورة الخليفة، مع أن ذلك لم يكن جائزًا في أيام الراشدين؛ لأن الخليفة منهم كان وهو مقيم في المدينة يدير شؤون الرعايا في أطراف المملكة، وهذا الذي أراد عمر بن عبد العزيز أن يرجع إليه في أيام خلافته فلم يفسح له الأجل.٩٦ فلما مات كتب خليفته يزيد بن عبد الملك إلى عماله أن يعودوا إلى ما كانوا عليه قبلًا من الشدة والبطش.٩٧
فكان الخلفاء من بني أمية يرون في إطلاق أيدي عمالهم أو قوادهم تشجيعًا لهم وتنفيذًا لأغراضهم. وربما حرضهم الخليفة على الفتك عند الحاجة، حتى في أيام معاوية، فإنه أرسل بسر بن أرطاة بعد تحكيم الحكمين وعلى بن أبي طالب يومئذ حي، وأرسل معه جيشًا. ويقال: إنه أوصاهم أن يسيروا في الأرض ويقتلوا كل من وجدوه من شيعة علي، ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان. فسار بسر على وجهه حتى انتهى إلى المدينة، فقتل فيها أناسًا من أصحاب علي وهدم دورهم، ومضى إلى مكة وغيرها يقتل ويهدم، حتى أتى اليمن وعليها عبيد الله بن عباس عامل علي وابن عمه، وكان غائبًا فرارًا من القتل، فوجد بسر ابنين له صبيين أسماهما عبد الرحمن وقثم، فأخذهما وذبحهما بيده بمدية كانت معه.٩٨ وذكروا أن الغلامين كانا عند رجل من كنانة بالبادية، فلما أراد بسر قتلهما قال الكناني: «تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما» فقتله وقتلهما معه، فصاحت امرأة من كنانة: «يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية ولا الإسلام، والله يا ابن أرطاة إن سلطانًا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء». وقالت أم الصبيين شعرًا في رثائهما كانت تنشده في المواسم مطلعه:
يا من أحس بابني اللذين هما
كالدرتين تشظى عنهما الصدف
على أننا لا نظن معاوية كان راضيًا عن ذلك العمل الفظيع؛ لأنه يخالف دهاءه وحلمه، ونظنه أطلق يد بسر ولم يعين له حدودًا، وكان بسر سفاكًا للدماء فلم يستثن طفلًا ولا شيخًا. ويؤيد ذلك ما أراد فعله بأولاد زياد بن أبيه بعد موت علي، إذ خاف معاوية زيادًا وكان عامله على فارس فأمر بسر أن يستقدمه إليه، فأمسك بسر أولاد زياد وكتب إليه: «أما تأتي حالًا أو أقتل أولادك»، فلما بلغ معاوية ذلك منع بسرًا من قتلهم.٩٩
فإذا كان هذا حال العمال في أيام معاوية مع حلمه وطول أناته، فكيف في أيام عبد الملك مع شدته وفتكه. فهل يستغرب ما يقال عن فتك الحجاج وكثرة من قتلهم صبرًا ولو كانوا ١٢٠٠٠٠، وهل يستبعد أن يكون في حبسه عند موته ٥٠٠٠٠ رجل و٣٠٠٠٠ امرأة؟١٠٠ وكان عبد الملك أشد وطأة منه وأجرأ على الغدر والفتك، بل هو أول من غدر في الإسلام بعد أن أعطى الأمان — وذلك أن عمرو بن سعيد الأشدق أحد أمراء عبد الملك طمع في الملك لنفسه، فاغتنم خروج عبد الملك من دمشق سنة ٦٩ﻫ لحرب مصعب بن الزبير في العراق، وجاء إلى الشام ووضع يده عليها. فبلغ عبد الملك ذلك وهو في الطريق، فرجع حالًا إلى دمشق وقاتل عمرًا أيامًا فلم يقدر عليه، فخاف على سلطانه فاحتال في عقد الصلح فرضي عمرو وكتبا بينهما كتابًا فيه أمان عبد الملك له. فاطمأن خاطر عمرو المذكور، وخرج إلى الخليفة حتى أوطأ فرسه أطناب عبد الملك، ثم دخل عليه فاجتمعا ودخل عبد الملك دمشق.
وبعد دخوله بأربعة أيام أرسل إلى عمرو فأجابه أنه آت العشية، وأتاه في مئة من مواليه، ودخل على عبد الملك وعنده جماعة من بني مروان، وقد بقي مواليه خارجًا. فاستقبله عبد الملك حتى أجلسه معه على السرير وجعل يحادثه، ثم أمر أحد الغلمان أن يأخذ سيفه وقال له: «أتطمع أن تجلس معي متقلدًا سيفك؟» فأعطاه السيف. ثم قال عبد الملك: «يا أبا أمية (عمرو) إنك حينما خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجعلك في جامعة»، فقال له الحضور من بني مروان: «ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟»، قال: «نعم، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية؟». فقال بنو مروان لعمرو: «أبر قسم أمير المؤمنين»، فقال: «قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين». فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة وقال: «يا غلام قم فاجمعه فيها»، فقام الغلام فجمعه فيها فقال عمرو: «أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس»، فقال: «أمكر يا أبا أمية عند الموت؟ لا والله ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس». ثم جذبه جذبة فوقع وأصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو: «اذكر الله يا أمير المؤمنين، كسر عظم مني فلا تركب ما هو أعظم من ذلك»، فقال عبد الملك: «والله لو أعلم أنك تبقي علي لو أبقيت عليك وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلدة قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه». فلما رأى أنه يريد قتله قال: «أغدر يا ابن الزرقاء؟» ثم قتله عبد الملك.١٠١

وترى مما دار بينهما أن الذي جر عبد الملك إلى هذا الغدر كثرة الطامعين في السلطة، ولا رادع لهم من عند أنفسهم كما كانوا في عصر الدين والتقوى، فأصبح القوي يأكل الضعيف ومن سبق إلى قتل صاحبة ملك، وهي سياسة الفتك. وقد نفعتهم هذه السياسة في تأييد سلطانهم، ثم صارت سنة فيمن ملك بعدهم من بني العباس وغيرهم. وآخر حادثة جرت من هذا القبيل فتك محمد علي باشا بالمماليك، وقد عمد بنو أمية إلى ذلك استعجالًا للنصر وتخلصًا من أسباب النزاع، فإذا خرج عليهم خارج جعلوا همهم قتله، لعلمهم أنه إذا قتل تفرق أصحابه، وإذا لم يتفرقوا استرضوهم بالأموال أو نحوها.

(١٠-٢) خزانة الرؤوس

وكانوا يقتلون الخارجين عليهم ويمثلون بقتلاهم إرهابًا لأحزابهم، فيقطعون رأس الرجل ويطوفون به من بلد إلى بلد أو يصلبون الجثة حيث تزدحم الأقدام — كانوا يفعلون ذلك على الخصوص برؤساء الأحزاب ولا سيما العلويين، فكان العامل الأموي يقتل الخارج على الدولة ويبعث برأسه إلى الخليفة في الشام ليطاف به في الأسواق. وأول رأس حمل من بلد إلى بلد رأس عمر بن الحمق الخزاعي١٠٢ أحد قتلة عثمان، وأول رأس طيف به في الأسواق رأس محمد بن أبي بكر١٠٣ وأول رأس حمل إلى الخلفاء رأسا هانئ وابن عقيل من أشياع الحسين في الكوفة، ثم رأس الحسين بن علي، أرسله ابن زياد من الكوفة إلى يزيد بن معاوية في الشام، وكذلك فعل المختار برؤوس قتلة الحسين، فإنه أرسلها إلى محمد بن الحنفية.١٠٤ وهكذا فعل الحجاج برأس عبد الله بن الزبير ورؤوس أصحابه، فإنه أرسلها من مكة إلى عبد الملك بن مروان في الشام، وكذلك فعل عبد الملك برأس مصعب بن الزبير، فإنه سيره من الكوفة إلى الشام فنصب فيها.١٠٥
ومن غريب ما يحكى أنهم لما جاءوا إلى عبد الملك برأس مصعب بن الزبير، وهو جالس في طاق بالكوفة، كان ابن عمير اللخمي حاضرًا عنده، فلما رأى الرأس بين يدي عبد الملك ارتعد. فقال له عبد الملك: «ما لك؟»، قال: «أعيذ بالله أمير المؤمنين! كنت في هذا الطاق بهذا الموضع مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين بن علي بين يديه في هذا المكان، ثم كنت مع المختار بن أبي عبيد الثقفي، فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم كنت فيه مع مصعب بن الزبير هذا فرأيت فيه رأس المختار بين يديه، ثم هذا رأس مصعب بن الزبير بين يديك!» فتشاءم عبد الملك من ذلك، وقام فأمر بهدم ذلك الطاق.١٠٦
وصار قطع الرؤوس على هذه الصورة سنة في عصر بني أمية ومن جاء بعدهم من بني العباس، وصار للرؤوس في دار الخلافة خزانة يحفظونها فيها: كل رأس في سقط خاص١٠٧ وجرت العادة أيضًا بصلب الجثث أو الرؤوس. لكنهم لم يكونوا ينصبون إلا رؤوس الخوارج١٠٨ ويطوفون بها على رمح، وكان بنو أمية يعدون العلويين خوارج، فكانوا إذا قتلوا أحدهم صلبوه.
ومن هذا القبيل تشديدهم في العذاب قبل القتل، ولعل ذلك من مخترعات الحجاج لإرهاب أعدائه وإخضاعهم بالعنف. فمن ضروب التعذيب أنه كان يأتي بالقصب الفارسي، فيشقه ويشده على الرجل وهو عار، ثم يسله قصبة قصبة حتى يقطع جسده، ثم يصب عليه الخل والملح حتى يموت١٠٩ فعل ذلك ببعض الذين حاربوه مع ابن الأشعث إرهابًا لسواهم. وكان الخوارج أيضًا يفعلون نحو ذلك بمن ظفروا به من أعدائهم، حتى لقد يضعون الأطفال في القدور وهي تفور١١٠ إما اشتفاءً أو انتقامًا أو إرهابًا.

(١١) الموالي وأحكامهم في عصر الأمويين

(١١-١) تكاثر الموالي

أفضت الخلافة إلى الأمويين في أواسط القرن الأول للهجرة، وعدد الموالي آخذ في الزيادة بموالاة الفتح وتكاثر الرقيق بالأسر أو الإهداء؛ لأن العمال كثيرًا ما كانوا يبعثون بمئات أو ألوف من الرقيق الأبيض والأسود إلى بلاط الخليفة هدية أو بدلًا من الخراج أو نحوه١١١ والخليفة يفرق ذلك في أهل بطانته أو قواده، وهؤلاء يفرقونه فيمن حولهم أو يبيعونه فينتقل إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، فمن أنجب من أولئك الأرقاء أو أعتق لسبب من الأسباب صار مولى، وذلك كثير وعادى يومئذ — غير الذين كانوا يدخلون في الولاء بالعقد وغيره. فتزايد عدد الموالي في عصر الأمويين زيادة عظيمة، وصاروا يتقربون من مواليهم بما يحتاجون إليه من شؤونهم، فاستخدمهم العرب في مصالحهم الصناعية أو الزراعية أو الدينية أو العلمية، واشتغلوا هم بالرياسة والسياسة؛ ولذلك كان أكثر القراء والشعراء والمغنين والكتاب والحجاب من الموالي.
وقد يثري المولى فيبتاع العبيد ويعتقهم فيصيرون من مواليه، وهؤلاء إذا استطاع أحدهم أو بعض أولاده اقتناء العبيد وإعتاقهم صاروا مواليه، وهكذا حتى يتفق أحيانًا أن يكون الرجل مولى مولى، أو مولى مولى مولى أو أكثر — فعبد الله بن وهب الفقيه المالكي الشهير كان مولى يزيد بن زمانة، وهذا مولى يزيد بن أنس الفهري. وكذلك حماد بن سامة، والليث بن سعد، وأبو أسامة وغيرهم. وكان ابن مناذر الشاعر مولى سليمان القهرمان، وسليمان مولى عبيد الله بن أبي بكرة، وعبيد الله من موالي النبي .١١٢ وأغرب من ذلك أن عبيد الله هذا ادَّعى أنه عربي من ثقيف، وادَّعى سليمان القهرمان أنه عربي من تميم، وادَّعى ابن مناذر أنه عربي من بني جبير بن يربوع، فيكون ابن مناذر مولى مولى مولى، ودعيًّا لمولى لمولى دعيّ مولى دعيّ. وقد بلغت نسبة الولاء عندهم إلى خمس درجات، فداود بن خالد بن دينار وإخوته من أهل الحديث، وكلهم من موالي آل حنين، وآل حنين موالي مثقب، ومثقب مولى مسحل، ومسحل مولى شماس، وشماس مولى العباس بن عبد المطلب١١٣ فهو مولى مولى مولى مولى مولى. وقس على ذلك، مما يدل على تكاثر الموالي في ذلك العصر، وفيهم الفارسي والفرغاني والتركي والديلمي والخراساني والرومي والبربري والسندي وغيرهم، يشتغلون بما يحتاج إليه العرب من المهن والصناعات والآداب.
ناهيك بالموالي المحاربين، فقد كان في كل قبيلة من العرب عدد كبير منهم، ربما زاد على عددها، فإذا خرجت للحرب خرجوا معها، وحاربوا في سبيل نصرتها. واختلف عدد الموالي بالنسبة إلى مواليهم باختلاف الأعصر، ففي أيام على كانت نسبة الموالي الأحرار ممن يخرجون إلى الحرب كنسبة واحد إلى خمسة،١١٤ ثم تكاثر الموالي في عصر الأمويين حتى زاد عددهم على عدد الأحرار. وبنو أمية مع ذلك يحتقرونهم ويضطهدونهم، وهم يصبرون على ذلك أو يفرون من سلطانهم إلى أطراف المملكة. وممن فر من جور بني أمية ميمون جد إبراهيم الموصلي المغني المشهور.١١٥

(١١-٢) نقمة الموالي على العرب

فلما تكاثر الموالي ورأوا ما كان فيه الأمويون من التعصب للعرب على سواهم — ولا سيما الموالي، حتى كانوا يستخدمونهم في الحروب مشاة ولا يعطونهم عطاءً ولا شيئًا من الغنائم أو الفيء — عظم ذلك عليهم، ورأوا في نفوسهم قوة فنفرت قلوبهم من بني أمية، وأصبحوا عونًا لكل من خلع الطاعة أو طلب الخلافة من العلويين أو الخوارج. فكل من قام لمحاربة الأمويين استعان عليهم بالموالي والعبيد، وهم الفئة المظلومة، وأشهر من حاربهم بالموالي والعبيد المختار بن أبي عبيد الذي قام في العراق للمطالبة بدم الحسين سنة ٦٦ﻫ، ثم طلب الخلافة لمحمد بن الحنفية — فالمختار المذكور أطمع موالي العراق في الغنيمة وأركبهم على الدواب، وكانوا ناقمين على أسيادهم ومواليهم لسوء معاملتهم، فجاءوه متطوعين وجاءه عدد كبير من أباق العبيد، وفيهم من ترك الإسلام غيظًا من بني أمية. فكان عدد الموالي في جند المختار أضعاف عدد الأحرار١١٦ وقد أبلوا في الحرب معه أكثر من بلاء الأحرار، لنقمتهم على أسيادهم؛ ولذلك كان أكثر القتلى في تلك الحرب من الموالي، فقد بلغ عدد قتلاهم في معركة سنة ٦٧ﻫ ٦٠٠٠، ليس فيهم من العرب الأحرار إلا ٧٠٠، وسائرهم من الموالي١١٧ وفاز المختار بالانتقام للحسين فوزًا حسنًا وقتل قتلته. ولما رأي وجهاء الكوفة انتصار المختار بمواليهم وعبيدهم بعثوا إليه يقولون: «إنك آذيتنا بموالينا. فحملتهم على الدواب وأعطيتهم فيئنا» فأجابهم: «إن أنا تركت مواليكم، وجعلت فيئكم لكم، تقاتلون معي بني أمية وابن الزبير، وتعطونني على الوفاء عهد الله وميثاقه، وما أطمئن إليه من الإيمان؟» فلم يرضوا. والمختار أول من جند الموالي وفاز بهم، فجرأهم ذلك على الدولة واستخفوا بها ونصروا أعداءها، وأصبح الخلفاء العقلاء يسترضونهم بالعطاء ونحوه وأول من فرض لهم العطاء من بني أمية معاوية، فإنه جعل لكل واحد ١٥ درهمًا، فعبد الملك جعلها ٢٠، ثم أبلغها سليمان إلى ٢٥، وجعلها هشام ٣٠١١٨ على أن ذلك الفرض قلما كان يعطى لهم؛ لأن العمال كانوا يستخدمونهم غالبًا بلا عطاء ولا رزق.١١٩

والمولى إذا آنس من مولاه رضاء ومحاسنة استهلك في نصرته، وكان لسيده ثقة فيه، حتى خلفاء بني أمية فقد كانوا يقربون جماعة من مواليهم، يعهدون إليهم بمهامهم ويرفعون منزلتهم ويستشيرونهم في أمورهم، والموالي يخلصون لهم ويستميتون في الدفاع عنهم، كما كان موالي بني هاشم يستميتون في نصرة مواليهم، وكانت تقوم المفاخرات بين الحزبين، وأشهرها مفاخرات سديف وسياب وقد تقدم ذكرها.

وقد يكون المولى من أصل رفيع، أو يرتقي إلى أعلى المراتب، حتى في أيام بني أمية رغم اضطهادهم وتعصبهم عليهم، وأعظم موالي العراق وأشهرهم فيروز مولى أهل الخشخاش، فإنه ولي الولايات وخرج مع ابن الأشعث على الحجاج، فقال الحجاج: «من جاءني برأس فيروز فله عشرة آلاف درهم»، فقال فيروز: «من جاءني برأس بالحجاج فله ١٠٠٠٠٠ درهم». فلما غلب ابن الأشعث هرب فيروز إلى خراسان، فقبض عليه ابن المهلب هناك وبعث به إلى الحجاج، فقتله بعد أن عذبه بسل القصب المشقوق على جسمه.١٢٠

(١١-٣) زواج الموالي بالعربيات

على أن الموالي في أيام بني أمية كانوا على الإجمال أعداء الدولة، يقومون عليها مع القائمين انتقامًا لما كانوا يقاسونه من الاحتقار والجور من عصبية العرب على العجم، فازداد الأمويون تحقيرًا لهم. فبعد أن قال النبي: «مولى القوم منهم» منعوا زواجهم بالعربيات، كما كان الفرس يمنعون زواج العرب ببناتهم قبل الإسلام١٢١ فإذا تجرأ مولى على الزواج بعربية وبلغ أمره إلى الوالي طلقها منه، كما حدث لأعراب بني سليم في الروحاء، فإنهم جاءوا الروحاء فخطب إليهم بعض مواليها إحدى بناتهم فزوجوه، فوشى بعضهم إلى والي المدينة بذلك، ففرق الوالي بين الزوجين وضرب المولى مائتي سوط وحلق رأسه ولحيته وحاجبيه، فقال محمد بن بشير الخارجي في ذلك بعد مدح عمل الوالي واسمه أبو الوليد:
حمى حدبا لحوم بنات قوم
وهم تحت التراب أبو الوليد
وفي المئتين للمولى نكال
وفي سلب الحواجب والخدود
إذا كافأتهم ببنات كسرى
فهل يجد الموالي من مزيد؟
فأي الحق أنصف للموالي
من أصهار العبيد إلى العبيد١٢٢
وكثيرًا ما كانوا يفعلون مثل ذلك بالموالي، ولو كانوا من أهل المنزلة الرفيعة أو أهل العلم والتقوى، فإن عبد الله بن عون من كرام التابعين ولكنه كان مولى، فتزوج عربية فضربه بلال بن أبي بردة بالسياط.١٢٣
على أن ذلك المنع كان شائعًا قبل الإسلام، وظل العرب يستنكفون منه رغم ما كان من نص الحديث المذكور وغيره. فسلمان الفارسي نصر المسلمين في حروبهم من أيام النبي، وله فضل كبير في الإسلام، فخطب إلى عمر بن الخطاب ابنته فوعده بها؛ لأنه لم ير في زواجه بها بأسًا، أما ابنه عبد الله فلما بلغه ذلك غضب وشكاه إلى عمرو بن العاص فقال له: «هنيئًا لك يا أبا عبد الله، أن أمير المؤمنين يتواضع لله — عز وجل — في تزويجك بابنته»، فغضب سلمان وقال: «لا والله لا تزوجت إليه أبدًا».١٢٤

فتزويج المولى بالعربية بالغ الأمويون في تقبيحه تعصبًا للعرب على سواهم، وهو عندهم أقبح من زواج العربي بغير العربية. ولكن ذلك لم يكن محرمًا في الدين ولا اعتبره أهل التقوى، فعلي بن الحسين بن علي المعروف بزين العابدين — وهو أحد الأئمة الاثني عشر ومن سادات التابعين — كانت أمه سلامة بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس، فلما توفي أبوه زوجها بثريد مولى أبيه وأعتق جارية له وتزوجها، فكتب إليه عبد الملك بن مروان يعيره بذلك. فكتب إليه زين العابدين: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وقد أعتق رسول الله صفية بنت حيي بن أخطب وتزوجها، وأعتق زيد بن حارثة وزوَّجه بنت عمته زينب بنت جحش».

فالإسلام يرفع منزلة المولى، وأما الأمويون فرأوا تحقيره باعتبار أنه غير عربي، وشاع ذلك في أيامهم وأصبح الناس يعيرون بمصاهرة الموالي. ومن أشعارهم في رجل من بني عبد القيس بالبحرين زوج ابنته من أحد الموالي قول أبي بجير يؤنب آل عبد القيس لتزويجهم الموالي ومنهم الزارع والتاجر قال:

أمن قلة صرتم إلى أن قبلتم
دعارة زراع وآخر تاجر؟
وأصهب رومي وأسود فاحم
وأبيض جعد من سراة الأحامر؟
شكولهم شتى وكل نسيبكم
لقد جئتم في الناس إحدى المناكر
متى قال: إني منكم فمصدق
وإن كان زنجيًّا غليظ المشافر
أكلهم وافى النساء جدوده
وكلهم أوفى بصدق المعاذر
وكلهم قد كان في أولية
له نسبة معروفة في العشائر
على علمكم أن سوف ينكح فيكم
فجدعًا ورغمًا للأنوف الصواغر
فهلَّا أتيتم عفةً وتكرمًا
وهلا وجلتم من مقالة شاعر؟
تعيبون أمرًا ظاهرًا في بناتكم
وفخركم قد جاز كل مفاخر
متى شاء منكم مغرم كان جده
عمارة عبس خير تلك العمائر
وحصن بن بدر أو زرارة دارم
وزبان زبان الرئيس بن جابر
فقد صرت لا أدري وإن كنت ناسيًا
لعل تجارًا من هلال بن عامر
وعل رجال الترك من آل مذحج
وعل تميمًا عصبة من يحامر
وعل رجال العجم من آل عالج
وعل البوادي بُدلت بالحواضر
زعمتم بأن الهند أولاد خندف
وبينكم قربى وبين البرابر
وديلم من نسل ابن ضبة باسل
وبرجان من أولاد عمرو بن عامر
بنو الأصفر الأملاك أكرم منكم
وأولى بقربان ملوك الأكاسر
أأطمع في صهري دعيًّا مجاهرًا
ولم تر شرًّا من دعيٍّ مجاهر؟
ويشتم لؤمًا عرضه وعشيره
ويمدح جهلًا طاهرًا وابن طاهر١٢٥
وغرس هذا الاعتقاد في أذهان الناس حتى إن الموالي أنفسهم كانوا يستنكفون من تزويج المولى بالعربية. ذكروا أن ابنًا لنصيب المغني الشهير — وهو مولى — أحب بنت مولاه وكان مولاه قد مات، فخطبها من أخيه فأجابه إلى طلبه، فعرف نصيب بذلك فجمع وجوه الحي فلما حضروا أقبل نصيب إلى أخي مولاه وقال له: «أزوجت ابني هذا من ابنة أخيك؟» قال: «نعم»، فقال نصيب لعبيد له سود: «خذوا برجل ابني هذا فجروه فاضربوه ضربًا مبرحًا» ففعلوا، ثم قال لأخي مولاه: «لولا أني أكره أذاك لألحقتك به». ثم نظر إلى شاب من أشراف الحي فزوجه الفتاة، وأنفق على العقد من جيبه.١٢٦
ومع ذلك فالمولى لم يكن يخطب امرأة لنفسه ولا يزوج ابنته لرجل ما لم يستشر مولاه، فإذا أحب رجل أن يخطب فتاةً من بنات الموالي لا يذهب إلى أبيها ولا إلى أخيها، وإنما يخطبها من مواليها، فإن رضي مولاها زوجت وإلا فلا. وإن زوجها الأب أو الأخ بغير رأي مواليه فسخ النكاح، وإن كان قد دخل بها عُدَّ ذلك سفاحًا.١٢٧

وجملة القول: أن تعصب بني أمية للعرب جرهم إلى تحقير غير العرب وخصوصًا الموالي، فنقم هؤلاء عليهم وكانوا أكبر المساعدين في إخراج الدولة من أيديهم.

(١٢) أهل الذمة وأحكامهم في عصر الأمويين

(١٢-١) عهود أهل الذمة في أول الإسلام

الذمة في اللغة العهد والأمان والضمان، وأهل الذمة هم المستوطنون في بلاد الإسلام من غير المسلمين. قيل لهم ذلك؛ لأنهم دفعوا الجزية فأمنوا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وأكثرهم من النصارى واليهود، وقد دعاهم القرآن «أهل الكتاب» نسبة إلى الكتاب المقدس التوراة والإنجيل، وقد أثنى عليهم وأوصى بهم خيرًا. وفي الحديث النبوي أقوال كثيرة بمحاسنة أهل الذمة، وخصوصًا قبط مصر، فقد رووا عن النبي أنه قال: «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمةً ورحمًا» إشارة إلى أن أم إسماعيل أبي العرب منهم، وقال: «الله الله في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء، السحم الجعاد، فإن لهم نسبًا وصهرًا».

وكان الخفاء الراشدون إذا أنفذوا جيشًا للفتح أوصوا قوادهم بأهل الذمة خيرًا، ولا سيما النصارى ورهبانهم. وإذا جاءهم أهل المدن بالصلح صالحوهم وعاهدوهم على الحماية، في مقابل ما يؤدونه من الجزية عن رؤوسهم. ويختلف مقدار الجزية ونوعها باختلاف الأحوال، وعلى مقتضى التراضي بين المسلمين وأهل الكتاب، ولكل صلح شروط تختلف باختلاف البلاد، ولكنها في كل حال تقضي على المسلمين بحماية أهل الذمة والدفاع عنهم. فإذا امتنعوا عن أداء الجزية امتنع المسلمون عن حمايتهم، وإذا عرض للمسلمين ما يمنع حمايتهم جاز لأهل الذمة الإمساك عن الدفع.١٢٨

وفي تاريخ الفتوح عهود كثيرة كتبت لأهل الذمة، عاهدهم المسلمون فيها بحمايتهم وتسهيل أعمالهم، في مقابل ما يؤدونه من الجزية، ككتاب النبي إلى صاحب أيلة (في العقبة)، وإلى أهل أذرح في أثناء غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة. وهاك كتاب النبي إلى صاحب أيلة:

بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله ومحمد رسول الله ليحيى بن رؤبة وأهل أيلة: سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ما يردونه، ولا طريقًا يردونه من بر أو بحر.١٢٩

وهاك كتابه إلى أهل أذرح وأهل مقنا:

بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى بني حبيبة وأهل مقنا: سلم أنتم، فإنه أنزل على أنكم راجعون إلى قربتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون، ولكم ذمة الله وذمة رسوله، وأن رسول الله قد غفر لكم ذنوبكم وكل دم اتبعتم به. لا شريك لكم في قريتكم إلا رسول الله أو رسول رسول الله، وأنه لا ظلم عليكم ولا عدوان، وأن رسول الله يجيركم مما يجير منه نفسه، فإن لرسول الله بزتكم ورقيقكم والكراع والحلقة، إلا ما عفا عنه رسول الله أو رسول رسول الله، وأن عليكم بعد ذلك ربع ما أخرجت نخيلكم وربع ما صادت عرككم وربع ما اغتزلت نساؤكم، وإنكم قد ثريتم بعد ذلك ورفعكم رسول الله عن كل جزية وسخرة، فإن سمعتم وأطعتم فعلى رسول الله أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم، ومن ائتمر في بني حبيبة وأهل مقنا من المسلمين خيرًا فهو خير له، ومن أطلعهم بشر فهو شر له، وليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو أهل بيت رسول الله . وكتب علي بن أبي طالب في السنة التاسعة.١٣٠

واقتدى بالنبي قواده في أثناء الفتح بالشام ومصر والعراق وفارس، وكتبوا العهود لأهل الذمة على نحو ما تقدم في مقابل الجزية — منها عهد خالد بن الوليد الذي كتبه لأهل الشام، وهذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق: إذا دخلها أعطاهم أمانًا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم. لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم إلا بخير إلا إذا أعطوا الجزية.١٣١

وإليك صورة عهد أبي عبيدة إلى أهل بعلبك:

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك، رومها وفرسها وعربها، على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم، وأهل المدينة وخارجها وعلى أرحائهم، وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلًا، ولا ينزلوا قرية عامرة، فإن مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث شاءوا، ومن أسلم منهم فله ما لنا وعليه ما علينا، ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى من أقام منهم الجزية، والخراج، شهد الله وكفى بالله شهيدًا.١٣٢

وقس عليه عهود سائر الفاتحين، مثل عمرو بن العاص وسعد بن أبي وقاص وغيرهما، في مصر والعراق وفلسطين وفارس وأفريقية والأندلس وغيرها، على أنهم كانوا يشترطون في الجزية أن يؤديها أهل الذمة عن يدٍ وهم صاغرون.

أما شروط الصلح فكانت تختلف شدةً ورفقًا باختلاف البلاد والأحوال التي فتحت بها، فصلح مصر يختلف عن صلح الشام، وصلح الشام غير صلح العراق.

(١٣) العهدة النبوية

وبين أيدي الناس نسخ من عهد يقولون: أن النبي كتبه إلى النصارى ورهبانهم يسمونه «العهدة النبوية»، والنسخ المذكورة تختلف نصًّا وتتفق مغزًى. ويقولون: أن العهد المذكور كتب بخط علي بن أبي طالب، ووضع في مسجد النبي في السنة الثانية للهجرة، وحملت منه نسخ إلى الأديار، ومن ذلك نسخة كانت محفوظة في دير طور سينا، فنقلها السلطان سليم الفاتح العثماني إلى الأستانة في أوائل القرن السادس عشر للميلاد، بعد أن عرضها على مجلس شرعي، فنقلوها إلى اللغة التركية، وأبقوا النسخة التركية في الدير وصورة الأصل العربي مع عهود برعاية حقوقهم الواردة في نص في ذلك العهد، وحملوا النسخة العربية الأصلية إلى الآستانة١٣٣ — وإليك نص العهدة النبوية نقلًا عن كتاب «منشآت سلاطين» لأفريدون بك بعد البسملة:١٣٤

هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين، رسوله مبشرًا ونذيرًا ومؤتمنًا على وديعة الله في خلقه؛ لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل وكان الله عزيزًا حكيمًا، كتبه لأهل ملة النصارى ولمن تنحل دين النصرانية، من مشارق الأرض ومغاربها قريبها وبعيدها فصيحها وعجمها معروفها ومجهولها، جعل لهم عهدًا فمن نكث العهد الذي فيه وخالفه إلى غيره وتعدى ما أمره، كان لعهد الله ناكثًا ولميثاقه ناقضًا وبدينه مستهزئًا وللعنته مستوجبًا، سلطانًا كان أم غيره من المسلمين — وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو بيعة، فأنا أكون من ورائهم أذبُّ عنهم من كل غيرة لهم بنفسي وأعواني وأهلي وملتي وأتباعي؛ لأنهم رعيتي وأهل ذمتي وأنا أعزل عنهم الأذى في المؤن التي يحمل أهل العهد من القيام بالخراج، إلا ما طابت له نفوسهم، وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك، ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سائح من سياحته، ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم، ولا يدخل شيء من مال كنائسهم في بناء مساجد المسلمين ولا في بناء منازلهم، فمن فعل شيئًا من ذلك فقد نكث عهد الله وعهد رسوله. ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزية ولا غرامة، وأنا أحفظ ذمتهم أينما كانوا من بر أو بحر في المشرق أو المغرب والجنوب والشمال، وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه، وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المباركة لا يلزمهم مما يزرعونه لا خراج ولا عشر، ولا يشاطرون لكونه برسم أفواههم، ولا يعاونون عند إدراك الغلة، ولا يلزمون بخروج في حرب وقيام بجبربة، ولا من أصحاب الخراج وذوي الأموال والعقارات والتجارات مما هو أكثر من اثني عشر درهما بالجملة في كل عام، ولا يكلف أحد منهم شططًا ولا يجادلون إلا بالتي هي أحسن، ويحفظونهم تحت جناح الرحمة، يكف عنهم أذية المكروه حيثما كانوا وحيثما حلوا — وإن صارت النصرانية عند المسلمين فعليها برضاها ويمكنها من الصلاة في بيعها، ولا يحال بينها وبين هوى دينها، ومن خان عهد الله واعتمد بالضد من ذلك فقد عصى ميثاقه ورسوله، ويعاونون على مرمة بيعهم ومواضعهم، وتكون تلك مقبولة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد، ولا يلزم أحد منهم بنقل سلاح بل المسلمون يذبون عنهم، ولا يخالف هذا العهد أبدًا إلى حين تقوم الساعة وتنقضي الدنيا. ا.ﻫ.

والغالب في اعتقادنا أن النبي إذا كان قد أعطى عهدًا للنصارى والرهبان عمومًا فهو غير هذا العهد، أو لعله كان مختصرًا وطولوه، أو تنوسي وضاع أصله فكتبوه من عندهم، أو أن النصارى وضعوا هذا العهد من عند أنفسهم لغرض سياسي، إذ لم يذكر خبر هذا العهد أحد من مؤرخي الفتوح أو غيرهم من كُتَّاب المسلمين في الأزمنة الأولى، فضلًا عما في عبارته وألفاظه مما لم يكن معروفًا في صدر الإسلام، وخصوصًا في السنة الثانية للهجرة.

(١٤) عهد عمر

ويذكرون أيضًا عهدًا يعرف بعهد عمر بن الخطاب لأهل الشام، أشار إليه غير واحد من مؤرخي المسلمين، وقد أورده بعضهم بنصه منهم أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي المالكي المتوفى سنة ٥٢٠ﻫ، أورده في كتاب «سراج الملوك» نقلًا عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري المتوفى سنة ٧٨، وإليك صورة العهد المذكور برواية ابن غنم قال:

كتبنا لعمر بن الخطاب — رضي الله عنه — حين صالح نصارى أهل الشام: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة (كذا) إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة ولا قلية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها ولا ما كان مختطًّا منها في خطط المسلمين في ليل ولا نهار. وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم. ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسًا، ولا نكتم غشًّا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شرعنا، ولا ندعو إليه أحدًا، وألا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أراد، وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب بالسروج، ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئًا من السلاح ولا نحمله معنا، ولا ننقش على خواتمنا بالعربية ولا نبيع الخمور. وأن نجز مقادم رؤوسنا ونلزم زينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ولا نظهر صلباننا وكتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيفًا، ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانيننا ولا باعوثنا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ولا نتطلع إلى منازلهم)، فلما أتيت عمر — رضي الله عنه — بالكتاب زاد فيه (ولا نضرب أحدًا من المسلمين، شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وضمنا على أنفسنا فلا ذمة لنا، وقد حل منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق)، فكتب إليه عمر (أمضِ ما سألوه وألحق فيه حرفين اشترطهما عليهم مع ما شرطوه على أنفسهم: أن لا يشتروا شيئًا من سبايا المسلمين، ومن ضرب مسلمًا عمدًا فقد خلع عهده. ا.ﻫ.١٣٥
ويلحق بالعهد المذكور أحكام تتعلق بالكنائس وضعها عمر أيضًا، وذلك أنه أمر فهدم كل كنيسة لم تكن قبل الإسلام، ومنع من أن تحدث كنيسة بعد الإسلام، وأمر أن لا تظهر عليه خارجة من كنيسة ولا يظهر صليب خارج من كنيسة إلا كسر على رأس صاحبه.١٣٦
وترى في نص هذا العهد ضغطًا على النصارى وتصغيرًا لهم، خلافًا لما جاء في سائر عهود الأمان أو كتب الصلح في صدر الإسلام، وخلافًا لما هو معروف من عدل عمر بن الخطاب ورفقه بأهل الذمة، كما يستدل من سيرة حياته فإنها تدل على صدق لهجته في الفكر والقول والعمل، فكان إذا أساء مسلم إلى مسيحي اقتص له منه ولو كان المسلم من كبار الصحابة، كما اقتص لذلك القبطي من عمرو بن العاص وابنه وقال لعمر: «يا عمرو مُذْ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟».١٣٧

فنرى لأول وهلة تناقضًا بين هذه المناقب ونص هذا العهد، فيتبادر إلى الذهن أنه موضوع بعد عصر عمر بأزمان، كما قلنا عن نص العهدة النبوية، ولكن حاله يختلف عن حالها بما يرجح صحته. فلننظر أولًا في صحة نسبته إلى عمر، ثم في سبب التناقض الظاهر بينه وبين مناقبه.

(١٥) نسبة هذا العهد إلى عمر

الأرجح في اعتقادنا أن عمر كتب عهدًا لنصارى الشام، إن لم يكن هذا هو بنصه فهو بمعناه على الأقل، وسبب هذا الترجيح:
  • (١)

    أن العهد المذكور وارد في كتب المسلمين بنصه الأصلي بطريق الإسناد، فالطرطوشي وإن كان من أهل القرن السادس للهجرة، فإنه أورد نص العهد بطريق الإسناد إلى الراوي الأصلي، على عادة المؤرخين المحققين في أوائل الإسلام، مما يدل على أنه نقله من كتاب قديم.

  • (٢)

    أن «سراج الملوك» الذي أورد نص هذا العهد هو من كتب الأدب والسياسة المهمة، وليس من كتب الفكاهة، ومؤلفة من أكبر علماء الأندلس، صحب أبا الوليد الباجي وأخذ عنه مسائل الخلاف وأجاز له، وقرأ الفرائض والحساب والأدب، وجاء بغداد ومصر وتفقه على أبي بكر الشاشي وعلي أبي أحمد الجرجاني، وأتى الشام وسكنها ودرس بها وكان إمامًا فقيهًا عالمًا زاهدًا ورعًا. وكان مع ذلك متعصبًا على النصارى يرى تحقيرهم، واتفق أنه دخل على الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بمصر وبجانب الأفضل رجل نصراني فوعظ الأفضل حتى بكى ثم أنشد:

    يا ذا الذي طاعته قربة
    وحقه مفترض واجب
    إن الذي شرفت من أجله
    يزعم هذا أنه كاذب
    وأشار إلى النصراني فأقامه الفضل من موضعه١٣٨ ولعل تعصبه هذا حمله على إثبات هذا العهد في كتابه، مع رغبة أكثر الذين سبقوه في إغفاله لما توهموا فيه من المغايرة لمناقب الخلفاء الراشدين. ولا يقال: أن الطرطوشي وضع هذا العهد من عند نفسه؛ لأن من كان في منزلته من الزهد والتقوى ينزه نفسه عن الكذب.
  • (٣)
    إن أكثر مواد هذا العهد واردة في كتب الفقه من أحكام أهل الذمة، كما وردت في هذا العهد بمعناها الحرفي تقريبًا١٣٩ وأكثر هذه الأحكام كتب قبل زمن الطرطوشي. ناهيك بما جاء من ذلك في كتب السياسة والإدارة، وبعضها أشار إلى هذا العهد إشارة صريحة وأورد بعض نصه. فقد جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي المتوفى سنة ٤٥٠ﻫ (أي: قبل الطرطوشي بخمس وسبعين سنة) بباب الجزية والخراج قوله: «وإذا صولحوا — النصارى — على ضيافة من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام مما يأكلون، ولا يكلفهم ذبح شاة ولا دجاجة، وتبيت دوابهم من غير شعير، وجعل ذلك على أهل السواد دون المدن — إلى أن قال — ويشترط عليهم في عقد الجزية شرطان: مستحق ومستحب، أما المستحق فستة شروط:
    • (١)

      أن لا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له.

    • (٢)

      أن لا يذكروا رسول الله بتكذيب له ولا ازدراء.

    • (٣)

      أن لا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه.

    • (٤)

      أن لا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح.

    • (٥)

      أن لا يفتنوا مسلمًا عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا دمه.

    • (٦)

      أن لا يعينوا أهل الحرب ولا يؤووا أغنياءهم.

    فهذه الستة الحقوق ملتزمة فتلزم بغير شرط، وإنما تشترط إشعارًا لهم وتأكيدًا لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابها بعد الشرط نقضًا لعهدهم. وأما المستحب فستة أشياء:
    • (١)

      تغيير هيئاتهم بلبس الغيار وشد الزنار.

    • (٢)

      أن لا يعلوا على المسلمين في الأبنية.

    • (٣)

      أن لا يسمعوهم أصوات نواقيسهم.

    • (٤)

      أن لا يجاهروهم بشرب الخمر ولا بإظهار صلبانهم.

    • (٥)

      أن يخفوا دفن موتاهم.

    • (٦)
      أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقًا وهجانًا إلخ.١٤٠

      فقول الماوردي هذا يكاد يكون نص عهد عمر حرفيًّا بعد الترتيب والتبويب.

      فالعهد المذكور كان معروفًا قبل كتاب سراج الملوك. ويؤيد ذلك أن ابن الأثير أشار إليه إشارة تدل على اعترافه بفحواه وبنسبه إلى عمر، كقوله في حوادث سنة ٤٨٤ﻫ: «وأخرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بالغيار، ولبس ما شرطه عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب».١٤١
  • (٤)

    أن الخلفاء الأولين في القرون الأولى للإسلام كانوا إذا أرادوا تجديد عهود أهل الذمة، ولا سيما النصارى، فرضوا عليهم مثل فحوى هذا العهد من تغيير الزي ونحوه. مما يدل على اتصال هذا العهد بالقرن الأول، وأقدمهم عمر بن عبد العزيز الخليفة التقي المشهور باقتفائه آثار سميه وجده لامه عمر بن الخطاب، وهو أول خليفة أموي أراد رد النصارى إلى ما شرطه عليهم عمر، وكانوا قد أغفلوا أكثر شروطه وخصوصًا من حيث اللباس، وتشبهوا بالمسلمين بلبس العمامة، فأمرهم أن يضعوا العمائم ويلبسوا الأكسية ولا يتشبهوا بشيء من الإسلام. وقس على ذلك سائر الخلفاء الذين اضطهدوا النصارى، فإنهم كانوا يرجعون إلى فحوى عهد عمر كما سترى.

(١٦) عهد عمر ومناقبه

أما ما يظهر من التناقض بين هذا العهد ومناقب عمر ففيه نظر، ولا بد في بيانه من المقابلة بين مناقب عمر وفحوى ذلك العهد:

(١٦-١) مناقب عمر بن الخطاب

أظهر مناقب عمر العدل مع الصراحة وحرية الضمير والشدة، والتقوى مع الغيرة الشديدة على الإسلام والرغبة في تأييده ونشره، فقد كان عادلًا حتى لا يبالي أن يحكم على ابنه أو على نفسه، فهو مثال للعدل مجسم لا يزال المسلمون إلى اليوم يتمثلون بأحكامه ويحاولون الاقتداء به، ولم يستطع أحد منهم أن يدرك شأوه. وكانت غيرته على الإسلام لا مثيل لها، فلا يعمل عملًا أو يقول قولًا إلا وهو ينظر من ورائه إلى نشر الإسلام ورفع مناره وجمع كلمة العرب في نصرته. فالعدل يقضي عليه أن ينصف أهل الذمة ويحاسنهم، ولكن رغبته في نشر الإسلام كانت تظهر من خلال ذلك الإنصاف. فقد أطلق حرية الدين في مملكته، وأبقى أهل الذمة على ما كانوا عليه من أمر دينهم وطقوسهم وقسسهم وكنائسهم، ولكنه منعهم من إحداث كنائس جديدة لكي تنحصر النصرانية فيتغلب الإسلام عليها ثم يمحوها. والعدل قضى عليه أن يحسن إلى نصارى العرب مكافأة لنصرتهم المسلمين في العراق، ففرض عليهم الصدقة بدلًا من الجزية، ولكن رغبته في جمع كلمة العرب تحت لواء الإسلام قضت بالاشتراط عليهم أن لا ينصروا أولادهم.١٤٢

(١٦-٢) فحوى عهد عمر

وفحوى العهد المذكور يرجع إلى أربعة شروط أولية وهي:

  • (١)

    ألا يحدث النصارى معبدًا.

  • (٢)

    أن ينزلوا من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام.

  • (٣)

    ألا يؤووا في كنائسهم جاسوسًا ولا يكتموا غشًّا للمسلمين.

  • (٤)

    ألا يقلدوا المسلمين بشيء من اللباس أو الركوب أو تعلم القرآن، أو نقش اسمهم بالعربية على أختامهم.

وأنه بغير هذه الشروط لا يكون لهم أمان على أنفسهم وذراريهم وأموالهم، فالشرط الأول ينطبق على رغبة عمر في تأييد الإسلام ونشره كما تقدم.

والشرط الثاني تستلزمه حال المسلمين في بلاد الفتح، فقد كانوا غرباء بين أهل الذمة، والعرب أهل ضيافة ولم يكن أهل تلك البلاد يألفون تلك العادة، فجعلها عمر شرطًا واجبًا عليهم رحمة بالمسلمين في أسفارهم للحرب وغيرها.

أما الشرطان الثالث والرابع فلا بد في تطبيقهما على أخلاق عمر من مقدمة صغيرة …

(١٧) نصارى الشام وقيصر الروم

أول ما يلاحظ في هذا العهد أن عمر أخذه على نصارى الشام دون سائر أهل الذمة في الشام ودون نصارى سائر الأمصار. فهو لا يسري على قبط مصر أو نبط العراق، ولا على صابئة حران ولا مجوس فارس، ولا على اليهود في بلد من البلاد. فلا بد لذلك من سبب متصل بما حواه ذلك العهد من الشدة، وإلا فلماذا لم يجعله عامًا على سائر بلاد الإسلام؟ ولماذا لم يدخل فيه اليهود والصابئة وغيرهم من أهل الذمة؟ وزد على ذلك أنهم ينسبون إلى عمر عهدًا١٤٣ آخر لأهل الذمة كافة، وليس فيه ضغط ولا تضييق وإنما مرجعه إلى التسامح والرعاية والحماية، ويشبه العهدة النبوية في أكثر نصوصه، ورأينا فيه مثل رأينا في تلك العهدة؛ لأن عبارته تخالف عبارة صدر الإسلام، ولم يذكره أحد من كتاب المسلمين القدماء، ولكنه يوافق روح ذلك العصر بفحواه لمشابهته أكثر عهود الصلح التي كتبت يومئذ وذكرنا بعضها فيما تقدم. فمن المعقول أن يعطي عمر لأهل الذمة عهدًا بهذا المعنى؛ لأنه ينطبق على عدله ورفقه في معاملتهم، وهو عام لهم يشمل كل طوائفهم.

أما العهد الذي نحن بصدده فقد أعطى لنصارى الشام على الخصوص، وكأنه اختصهم بالتضييق. فهو لم يفعل ذلك إلا لسبب دعاه إليه. والغالب في اعتقادنا أنه اشترط هذه الشروط صيانة لبلاد الشام من رجوع الروم إليها بمساعي أهلها النصارى، إذ يكونون عيونًا للروم على المسلمين، لما بينهم وبين الروم من الرابطة الدينية، وهي أقوى الجامعات في الشرق من أقدم أزمانه إلى هذا اليوم. فكل طائفة من الطوائف الشرقية تفضل أن يحكمها حاكم من مذهبها ولو كان ظالمًا، على أن تخضع لحاكم من غير دينها ولو كان عادلًا. وفي التواريخ شواهد كثيرة تؤيد هذا القول حتى في عصرنا الحاضر، مع ما دخل نفوس المشارقة من التسامح الديني. فإن كل طائفة من أهله تفضل أن يحكمها ابن دينها، لا تبالي بعدله أو ظلمه. النصراني يفضل حاكمًا مسيحيًّا، والمسلم يفضل حاكمًا مسلمًا، فكيف بتلك العصور والدين مرتبط بالسياسة؟

ونصارى الشام أذعنوا للجزية، ودخلوا في سلطان المسلمين، وظلوا على ما كانوا فيه من حيث الدين وطقوسه، يقيمون الصلاة في كنائسهم كما كانوا يقيمونها قبل الإسلام، يأتيهم القسس والأساقفة من القسطنطينية أو أنطاكية، ولسانهم لسان دولة الروم، ومعتقدهم مثل معتقدها. وقد بينا في غير هذا المكان أن الفتح الإسلامي كان في صدر الإسلام احتلالًا عسكريًّا، ولم يكن المسلمون يتعرضون للمسيحيين في شيء من طقوسهم الدينية ولا أحوالهم الشخصية ولا أحكامهم القضائية، وكانوا يعترفون لصاحب القسطنطينية بسيادته في ذلك على نصارى الشام. فإذا حدث ما يمس هذه السيادة احتج ملك الروم على الخليفة، وخصوصًا من حيث الكنائس. وكان الخلفاء يراعون عهودهم في هذا الشأن، حتى إذا استفحل أمر بني أمية خرقوا حرمة تلك العهود كما خرقوا سواها مما أقره الراشدون.

ذكروا أن الوليد بن عبد الملك سمع صوت ناقوس، فقال: «ما هذا؟» قيل: «بيعة» فأمر بهدمها وتولى بعض ذلك بيده فتسابق الناس يهدمون فرفع النصارى أمرهم إلى قيصر القسطنطينية فكتب إلى الوليد: «أن هذه البيعة قد أقرها من كان قبلك، فإن يكونوا أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد أخطأوا».١٤٤ ولم يجد اعتراضه نفعًا. ولكن ذلك يدل على أن نصارى الشام كانوا في صدر الإسلام تحت حماية الروم، أو هم يعدون قيصر الروم حاميًا لكنائسهم، كما يعتقدون الآن في بعض دول أوروبا. فضلًا عما غرس في قلوبهم من حب دولة الروم بواسطة كهنتهم وتعاليمهم. وهب أنهم كانوا ناقمين على تلك الدولة من بعض الوجوه الدينية، فأصبحوا بعد دخولهم في سلطة العرب يفضلون بقاء القديم على قدمه، وذلك عادي في الأمم التي تعودت الرضوخ لسواها، فإنها لا تستقر على حال ولا يهون إخضاعها إلا بطريق الدين. ناهيك بما كان يجدده الكهنة والأساقفة من أسباب الميل إلى قيصر القسطنطينية، والفتح يومئذ حديث والقيصر يرجو استرجاع تلك البلاد إلى سلطانه، على أن يستعين على ذلك بأهل مذهبه المقيمين بجوار المسلمين فيتخذهم عيونًا له عليهم.

وكان بعض نصارى الشام لا يدخرون وسعًا في هذا السبيل، فينقلون أخبار المسلمين إلى الروم، وإذا جاء جواسيس الروم آووهم في منازلهم وأعانوهم في استطلاع الأخبار. فربما دخل النصراني بين المسلمين وهو في مثل لباسهم، وقد نقش اسمه بالعربية على خاتمه مثلهم، وحفظ شيئًا من القرآن ليوهم المسلمين أنه منهم. والشام لم يتم فتحها بعد، وعمر لا يزال يخاف انتقاضها لبعدها عن مركز الخلافة. فخوفًا من مثل ذلك اشترط على أهلها أن لا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من اللباس أو الركوب وغيره، وأن لا يؤووا أحدًا من جواسيس الروم، ولا يكتموا غشًّا للمسلمين.

ولنحو هذا السبب أيضًا أوصى عمر أن لا يستعملوا أهل الكتاب؛ لأنهم أهل رشى ولأن بعضهم أولياء بعض. ويقال: أن أصل هذا المنع منقول عن النبي في حديث جرى له يوم خروجه إلى بدر١٤٥ على أن هذه الوصية لم يمكن العمل بها لاضطرار المسلمين إلى من يعرف الحساب والكتابة، وخصوصًا في أول الإسلام إذ كانت الدواوين لا تزال بلغاتها الأصلية.

فالأرجح عندنا أن عمر كتب عهدًا لنصارى الشام (أو استكتبهم عهدًا) إن لم يكن هذا نصه فهو فحواه، ولا يستبعد وقوع بعض التغيير في نصه بعد ذلك. أن السبب فيما حواه من الشدة خوفه من نصارى الشام؛ لأنهم أقرب نصارى الشرق إلى كنيسة القسطنطينية. أما القبط فقد كانوا أعداء تلك الكنيسة، وهم الذين واطأوا المسلمين على الروم وسهلوا لهم الفتح. وأنه لم يفعل ذلك للتضييق على النصارى تعصبًا للدين أو كرهًا للنصرانية. ثم أطلق المسلمون هذا العهد على سائر أهل الذمة.

(١٨) الأمويون وأهل الذمة

كذلك كانت أحكام أهل الذمة لما أفضت الخلافة إلى بني أمية، وكانوا لا يخافون الروم على الشام؛ لأن مقر خلافتهم فيها وقد احتلوا الشواطئ وتغلبوا على أهلها، وصاروا يغزون الروم في البحر. أي أنهم ضيقوا على أهل الذمة من جهة الجزية في جملة مساعيهم في حشد الأموال لاصطناع الأحزاب والتمتع بأسباب الدنيا، فزادوا الجزية والخراج وشددوا في تحصيلهما، وضيقوا على الناس حتى أخذوا الجزية ممن أسلم. وأما من بقي على دينه من أهل الكتاب فكانوا يسومونهم سوء العذاب؛ ويحتقرونهم لأنهم ليسوا عربًا ولا مسلمين. ولا غرابة في ذلك بعدما علمت من احتقار بني أمية لغير العرب من المسلمين. وكانوا يعدون الناس ثلاث درجات أولها العرب، ثم الموالي، ثم أهل الذمة. ويؤيد ذلك رأي معاوية في أهل مصر، قال: «وجدت أهل مصر ثلاثة أصناف: فثلث ناس، وثلث يشبه الناس، وثلث لا ناس. فأما الثلث الذين هم ناس فالعرب، والثلث الذين يشبهون الناس فالموالي، والثلث الذين هم لا ناس فالمسالمة» يعني القبط.١٤٦
ولما رأى القبط أن الإسلام لا ينجيهم من الجزية أو العنف في تحصيلها، عمد بعضهم إلى التلبس بثوب الرهبنة، والرهبان لا جزية عليهم، فأدرك عمال بني أمية غرضهم فوضعوا الجزية على الرهبان، وازدادوا غيظًا منهم حتى أراد بعضهم اقتضاءها من الأموات فضلًا عن الأحياء، بأن يجعلوا جزية الموتى على أحيائهم١٤٧ وأمثال هذه الحوادث كثيرة في عهد بني أمية، ذكرنا كثيرًا منها في الجزء الثاني من هذا الكتاب، مع الطرق التي كان يتخذها عمال بني أمية لابتزاز الأموال من أهل الذمة.
فعل الأمويون ذلك وأغضوا عن شروط عمر، حتى إذا أفضت الخلافة إلى حفيده ومريده عمر بن عبد العزيز كان من جملة ما قلده فيه أنه كتب إلى عماله بإحياء ذلك العهد كقوله: «وأمروا من كان على غير الإسلام أن يضعوا العمائم ويلبسوا الأكسية، ولا يتشبهوا بشيء من الإسلام، ولا تتركوا أحدًا من الكفار يستخدم أحدًا من المسلمين، ولا تستخدموا أحدًا من أهل الذمة»١٤٨ ونهى النصارى عن ضرب النواقيس وقت الأذان.
ونظرًا لاهتمام بني أمية بجمع الأموال للأسباب التي قدمناها، وأهل الذمة أقدر على مساعدتهم في جمعها من سواهم، لاقتدارهم في الحساب والكتابة وأعمال الخراج، استخدموهم في هذا السبيل رغم إرادتهم، ولم يكن يهمهم ذلك من وجه ديني لنشر الإسلام أو حصر النصرانية، ولولا ذلك ما ولَّوا خالدًا القسري العراقيين، وأمه نصرانية رومية كان يراعي جانبها ويكرم النصارى من أجلها، فاعتز النصارى في أيامه. وأراد خالد أمه على الإسلام فلم تسلم، فابتنى لها بيعةً في ظهر القبلة بالمسجد الجامع في الكوفة، فكان المؤذن إذا أراد أن يؤذن ضرب لها بالناقوس١٤٩ وكان خالد يولي النصارى والمجوس على المسلمين عكس وصية عمر بن عبد العزيز، ويطلق أيديهم في الحكومة فيستبدون بالمسلمين. وعمر بن أبي ربيعة الشاعر المشهور كانت أمه نصرانية ماتت والصليب في عنقها،١٥٠ وكان النصارى في أيام بني أمية يدخلون المساجد ويمرون فيها فلا يعترضهم أحد. وكان الأخطل الشاعر النصراني يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن، وهو سكران وفي صدره صليب ولا يعترضه أحد، ولا يستنكفون من ذلك؛ لأنهم كانوا يستعينون به في هجو الأنصار.١٥١

على أن الخلفاء من بني أمية كانوا إذا قربوا نصرانيًّا أو يهوديًّا طلبوا إليه أن يدخل في الإسلام، فلا يمنعه من الرفض مانع، إلا من يغضب الخليفة عليه ولم يكن يحتاج إليه فينتقم منه، كما أصاب شمعلة وكان من رهط الفرس نصرانيًّا، فدخل على بعض خلفاء بني أمية فقال له: «أسلم يا شمعلة» قال: «لا والله لا أسلم أبدًا، ولا أسلم إلا طائعًا إذا شئت» فغضب وأمر فقطعت بضعة من فخذه وشويت بالنار وأطعمها. أما الأخطل فإن عبد الملك قال له مرة: «ألا تسلم فنفرض لك في الفيء ونعطيك عشرة آلاف؟» قال: «كيف بالخمر؟» قال: «وما نصنع بها؟ وإن أولها لمر وآخرها لسكر» فقال: «أما إذا قلت ذلك فإن بين هاتين لمنزلة ما ملكك فيها إلا كلعقة من الفرات بالإصبع» فضحك.

أما عمال بني أمية فكانوا يضايقون النصارى في استخراج الأموال، فمن سهل لهم استخراجها أكرموه، وفي خطط المقريزي فصول في انتقاض القبط فلتراجع هناك.١٥٢

(١٩) الخلاصة

وجملة القول: أن الدولة الأموية دولة عربية أساس سياستها طلب السلطة والتغلب، فاستعان أصحابها على ذلك بالعصبية القرشية واصطناع الأحزاب. فجرتهم تلك العصبية إلى انقسام العرب إلى قبائلها كما كانت في الجاهلية وانقسمت أيضًا إلى عصبيات وطنية. وبالغوا في التعصب للعرب وامتهان غير العرب من الموالي وأهل الذمة. وأعوزهم اصطناع الأحزاب إلى الاستكثار من الأموال لإنفاقها في اجتذاب قلوب الرجال. والاستكثار منها بعثهم على الظلم في تحصيلها والخروج بذلك عما يقتضيه العدل، ومدوا أيديهم إلى أموال الصدقة وغيرها، واستأثروا بالفيء، ورأوا أعداءهم العلويين يطلبون الخلافة بالحق، وسلاحهم الدين والتقوى وإذا جادلوهم غلبوهم، فاستخفوا بالدين تحقيرًا لأهله وعمدوا إلى الدهاء والحيلة والإغضاء عن الأريحية، وبالغوا في الشدة والعنف واشتهر ذلك عنهم ولم ينكره أحد من المؤرخين حتى أهلهم من أعقابهم. فأبو الفرج صاحب الأغاني أموي١٥٣ وأكثر ما يعرف من مساوئ بني أمية مقتبس من كتابه.
والفضل في ثبات دولتهم لثلاثة من خلفائهم اشتهروا بالدهاء والسياسة والتدبير، حكم كل منهم نحو عشرين سنة وهم: معاوية بن أبي سفيان (حكم من سنة ٤١–٦٠ﻫ) وعبد الملك بن مروان (من ٦٥–٨٦ﻫ) وهشام بن عبد الملك (من سنة ١٠٥–١٢٥ﻫ) وكان المنصور العباسي لما أفضت الخلافة إليه يتتبع هشام في سياسته١٥٤ وأما عمر بن عبد العزيز فقد كان أحسنهم تدينًا، ولكنه جاء في غير أوانه فلم يطل مقامه. ولولا هؤلاء السواس لذهبت الدولة من أيديهم عاجلًا، لما تداول الخلافة بينهم من الخلفاء الضعفاء أهل الترف واللهو والقصف. وأولهم يزيد بن معاوية المتوفى سنة ٦٤ﻫ، فقد كان مغرمًا بالصيد كثير العناية باقتناء الجوارح والكلاب والقرود والفهود، وكان يحب الطرب والمنادمة على الشراب، فجرى عماله على مثاله وأظهروا الشراب، وفي أيامه ظهر الغناء في مكة والمدينة واستعملت الملاهي، ولم يكن المسلمون يعرفونها من قبل ذلك.١٥٥

ومنهم يزيد ابن عبد الملك المتوفى سنة ١٠٥ﻫ ويسمونه خليع بني أمية، فقد تولى الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز وسار في طريق غير طريقه، فشغف بجاريتين اسم إحداهما سلامة والأخرى حبابة فقطع معهما زمانه وغنت يومًا حبابة:

بين التراقي واللهاة حرارة
ما تطمئن ولا تسوغ فتبرد

فطرب يزيد ثم قال: «أريد أن أطير» وأهوى ليطير فقالت: «يا أمير المؤمنين لنا فيك حاجة» فقال: «والله ل أطيرن» فقالت: «على من تدع الأمة؟» قال: «عليك» وقبل يدها، فخرج بعض خدمه وهو يقول: «سخنت عينك فما أسخفك!». وخرج يومًا ليتنزه في ناحية الأردن ومعه حبابة، وبينما هما في الشراب رماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت. فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها، حتى أنتنت وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي، فكلموه في أمرها حتى أذن بدفنها، وعاد إلى قصره كئيبًا حزينًا وسمع جارية له تتمثل بعدها:

كفى حزنًا بالهائم الصب أن يرى
منازل من يهوى معطلة قفرا
فبكى، وبقي بعد موتها سبعة أيام لا يظهر للناس، أشار عليه أخوه مسلمة بذلك مخافة أن يظهر منه ما يسفهه عند الناس١٥٦ ولم يحكم إلا أربع سنوات.
ومنهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك المتوفى سنة ١٢٦ﻫ كان خليعًا سكيرًا همه الصيد وشرب الخمر، حتى جعل الخمر في برك يغوص فيها ويشرب١٥٧ وأول شيء فعله لما ولي الخلافة أنه بعث إلى المغنين في المدينة ومكة وأشخصهم إليه، واستقدم أهل المجون والخلاعة ونادمهم، وبالغ في التهتك والمكر ولكنه لم يحكم إلا سنة واحدة.

على أن العرب أعظموا تهتك بني أمية من أيام يزيد بن معاوية، واستغربوا البيعة له، فكيف بعد الذي شاهدوه من يزيد والوليد وغيرهما، حتى قال بعض الشعراء يخاطبهم:

إن البرية قد ملت سياستكم
فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم
إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا
لا تبقرن بأيديكم بطونكم
فثم لا حسرة تغني ولا جزع
فأين هؤلاء من دهاة بني أمية الذين ذكرناهم، ولم يكن فيهم من يمس الخمر أو يتماجن أو يتخالع؟ حتى هشام بن عبد الملك، مع أنه جاء في أواخر الدولة، فكان لا يشرب الخمر ولا يسقي أحدًا في حضرته مسكرًا، وكان ينكر ذلك ويعيبه ويعاقب عليه.١٥٨
فلما انغمس بنو أمية في الترف والقصف، مع ما كان من تعصبهم على غير العرب واحتقارهم الموالي وإساءتهم إلى أهل الذمة وسائر أهل القرى، بما كانوا يسومونهم إياه من نهب غلتهم في أثناء السفر — إذ كان جند المسلمين في أواخر أيام بني أمية إذا مروا بقرية غصبوا من يمرون بهم أموالهم١٥٩ — فأصبح الناس يتحدثون بقرب زوال دولتهم، ولم يمض إلا سنوات قليلة حتى ذهبت وقامت الدولة العباسية مقامها.
١  الجزء الأول من هذا الكتاب.
٢  المقريزي ٣٠٠ ج١.
٣  ابن الأثير ٢٢٥ ج٣.
٤  المعارف ١٨٩.
٥  ابن الأثير ٢٦٠ ج٣.
٦  الفخري ٢٥.
٧  ابن الأثير ٩١ ج٦.
٨  ياقوت ٧٨٣ ج٤.
٩  ابن الأثير ٧٢ و٩٧ ج٣.
١٠  المسعودي ١٦ ج٢.
١١  ابن الأثير ١٥٩ ج٥.
١٢  ابن الأثير ١٧٨ ج٥.
١٣  الأغاني ١٦٢ ج١٤.
١٤  العقد الفريد ٤٢ ج٢.
١٥  العقد الفريد ٧٣ ج٢.
١٦  البيان والتبيين ١٠٠ ج١.
١٧  العقد الفريد ٧٣ ج٢.
١٨  المسعودي ١١٤ ج٢.
١٩  طبقات الأطباء ١٥٠ ج١ والأغاني ٨٨ ج١٥.
٢٠  ابن خلكان ٢٠٥ ج١.
٢١  سراج الملوك على هامش مقدمة ابن خلدون ٢٨٨.
٢٢  ابن الأثير ٤٤ و١٣١ ج٥.
٢٣  الأغاني ١٢٥ ج٤.
٢٤  المقريزي ٩٤ ج١.
٢٥  العقد الفريد ٢٥٨ ج٢.
٢٦  الأغاني ١٥٣ ج١٩.
٢٧  الأغاني ١٦٩ ج٢٠.
٢٨  ابن الأثير ٥٢ ج٣ وياقوت ٧٨٣ ج٤.
٢٩  ابن الأثير ٦٥ ج٣.
٣٠  ابن الأثير ٣٤ ج٥.
٣١  ابن الأثير ١٢١ و١٤٩ و ١٧١ ج٣.
٣٢  العقد الفريد ٢٧٧ ج٣.
٣٣  ابن خلكان ١٠٠ ج٢.
٣٤  المسعودي ١٦٦ ج٢.
٣٥  المسعودي ١٢ ج٢.
٣٦  المسعودي ٥٤ ج٢.
٣٧  الأغاني ٤٨ ج١٣.
٣٨  ابن الأثير ٢٥٧ ج٣.
٣٩  ابن خلكان ٢٣٠ ج١.
٤٠  ابن الأثير ٢٢٩ ج٣.
٤١  ابن الأثير ١٧٩ ج٢.
٤٢  المقريزي ٣٠٠ ج١.
٤٣  المسعودي ١٩ ج٢.
٤٤  الأغاني ١٥ ج١٥.
٤٥  الجزء الأول من هذا الكتاب.
٤٦  العقد الفريد ١١٠ ج١.
٤٧  الأغاني ٦٩ ج١٨.
٤٨  المسعودي ١٥٧ ج٢.
٤٩  ابن الأثير ١٥٠ ج٣.
٥٠  الأغاني ١٤١ ج١٦.
٥١  ابن الأثير ١٨٣ ج١٠.
٥٢  الأغاني ١٠٥ ج١٣.
٥٣  الأغاني ١١١ ج٦.
٥٤  العقد الفريد ٤١ ج٣.
٥٥  الأغاني ٦٢ ج١٠.
٥٦  العقد الفريد ١٣٢ ج١.
٥٧  ابن خلكان ٢٣٠ ج١.
٥٨  الأغاني ١٠٥ ج١٣.
٥٩  ابن الأثير ١٨٨ ج٣.
٦٠  العقد الفريد ١١٩ ج١.
٦١  الأغاني ١٧١ ج٩.
٦٢  الأغاني ٩٩ ج١٠.
٦٣  الأغاني ١١٨ ج١٧.
٦٤  الفرج بعد الشدة ١٢٣ ج٢ والأغاني ١٥٩ ج٤.
٦٥  العقد الفريد ٢٣٦ ج١.
٦٦  الجزء الأول من هذا الكتاب.
٦٧  العقد الفريد ١٨ ج١ وابن الأثير ٢٣٧ ج٣.
٦٨  الأغاني ٦٢ ج١٩ وابن خلكان ٣٦١ ج٢.
٦٩  الأغاني ٥٦ ج١٣.
٧٠  المقريزي ٧٧ ج١.
٧١  راجع الجزء الأول من هذا الكتاب.
٧٢  ابن الأثير ٢٦١ ج٤ و٦٨ و١١١ ج٥.
٧٣  الجزء الثاني من هذا الكتاب.
٧٤  العقد الفريد ٢٦٢ ج٢.
٧٥  المقريزي ٧٨ ج١.
٧٦  الأغاني ١٣ ج١٥.
٧٧  الأغاني ١٥٦ ج١١.
٧٨  ابن الأثير ١٢٥ و١٢٦ و١٣٢ ج٥.
٧٩  الأغاني ١٦٢ج ١٧.
٨٠  ابن الأثير ١٩٠ و٢٥١ ج٤.
٨١  أبو الفداء ٢٠٥ ج١ وسراج الملوك ٩٦.
٨٢  العقد الفريد ٢٥٦ ج٢.
٨٣  ابن الأثير ٣٦ ج٥.
٨٤  ابن خلكان ٢٧٤ ج٢.
٨٥  المسعودي ٣٩ ج٢.
٨٦  العقد الفريد ١٨ ج٣ والمسعودي ١٠٤ ج٢.
٨٧  ابن الأثير ٢٥٧ ج٤ و١٣٠ ج٥ والأغاني ٦٠ ج١٩.
٨٨  الأغاني ٦٣ ج١٩.
٨٩  الأغاني ١٢٥ ج٦ والمسعودي ١٣٤ ج٢.
٩٠  ابن الأثير ٢٧٣ ج٤ و٥٦ ج٥.
٩١  المقريزي ١٨٧ ج٢.
٩٢  ابن الأثير ٢٢٨ ج٣.
٩٣  ابن الأثير ١٨ ج٤.
٩٤  ابن خلكان ١٢٤ ج١ والبيان للجاحظ ١٧٥ ج١ والعقد الفريد ٣ ج٣.
٩٥  البيان والتبيين ١٩٥ ج١.
٩٦  ابن الأثير ٢٩ ج٥.
٩٧  العقد الفريد ٢٦٥ ج٢.
٩٨  الأغاني ٤٤ ج١٥.
٩٩  ابن الأثير ١٩٥ و٢١١ ج٣.
١٠٠  المسعودي ١١٣ ج٢ والكشكول ٣٢.
١٠١  ابن الأثير ١٤٦ ج٤.
١٠٢  المعارف ١٨٧ وطبعة القاهرة ١٩٣٥ ص ٢٤١.
١٠٣  العقد الفريد ٣٩ ج١.
١٠٤  ابن الأثير ١١٩ ج٤.
١٠٥  ابن الأثير ١٦٢ ج٤.
١٠٦  ابن خلكان ٢٨٦ ج١.
١٠٧  الفخري ٢٤٨ ج٢.
١٠٨  العقد الفريد ٢٧٣ ج٢.
١٠٩  المعارف ١١٥.
١١٠  المسعودي ١٢٣ ج٢.
١١١  المسعودي ٣٥٤ ج٢.
١١٢  الأغاني ٩ ج١٧.
١١٣  المعارف ١٩٧.
١١٤  ابن الأثير ١٧٣ ج٣.
١١٥  الأغاني ٢ ج٥.
١١٦  ابن الأثير ١٢١ ج٤.
١١٧  ابن الأثير ١٣٦ ج٤.
١١٨  العقد الفريد ٢٤٩ ج٢.
١١٩  ابن الأثير ٢٤ ج٥.
١٢٠  المعارف ١١٥.
١٢١  المسعودي ١٩٦ ج١.
١٢٢  الأغاني ١٥٠ ج١٤.
١٢٣  المعارف ١٦٧.
١٢٤  العقد الفريد ١٣٢ ج٣.
١٢٥  العقد الفريد ٢٣٢ ج٣.
١٢٦  الأغاني ١٣٦ ج١.
١٢٧  العقد الفريد ٧٣ ج٢.
١٢٨  الجزء الأول من هذا الكتاب.
١٢٩  ابن هشام ٤٠ ج٣.
١٣٠  فتوح البلدان للبلاذري ٦٠.
١٣١  البلاذري ١٢١.
١٣٢  البلاذري ١٣٠.
١٣٣  الهلالان ١٥ و١٧ من السنة السابعة.
١٣٤  قاموس الإدارة والقضاء (مادة بطركخانة).
١٣٥  سراج الملوك ٢٨٣.
١٣٦  سراج الملوك ٢٨٦.
١٣٧  الجزء الأول من هذا الكتاب.
١٣٨  ابن خلكان ٤٧٩ ج١.
١٣٩  الهداية ٥٧٤.
١٤٠  الماوردي ١٣٨.
١٤١  ابن الأثير ٧٦ ج١٠.
١٤٢  المعارف ١٩٣ والبلاذري ١٨٣ وابن الأثير ٢٥٩ ج٢.
١٤٣  قاموس الإدارة والقضاء «مادة بطركخانة» نقلًا من منشآت سلاطين.
١٤٤  المسعودي ١١٣ ج٢.
١٤٥  سراج الملوك ٢٨٤.
١٤٦  المقريزي ٥٠ ج١.
١٤٧  المقريزي ٢٩٥ ج١.
١٤٨  العقد الفريد ٢٦٢ ج٢ وابن الأثير ٣١ ج٥.
١٤٩  الأغاني ٥٩ ج١٩.
١٥٠  الأغاني ٣٢ ج١.
١٥١  الأغاني ٧٤ و١٧٨ ج٧.
١٥٢  المقريزي ٧٩ و٣٠٢ و٤٩٣ ج١.
١٥٣  ابن الأثير ٢٢٩ ج٨.
١٥٤  المسعودي ١٣٢ ج٢.
١٥٥  المسعودي ٦٨ ج٢.
١٥٦  ابن الأثير ٥٧ ج٥.
١٥٧  الأغاني ٩٨ ج٣.
١٥٨  الأغاني ١٦٧ ج٥.
١٥٩  ابن الأثير ١٤٦ ج٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤