الإمارات العربية والعنصر العربي

نريد بالعصر العربي الثاني العصر الذي جدد فيه العرب سطوتهم، وأعادوا سلطانهم ونفوذهم في الدولة، بعد أن غلب الفرس على أمورهم واستبدوا بهم. فقد رأيت أن شوكة العرب ضعفت بذهاب الدولة الأموية، وتغلب الفرس في الدولة العباسية، حتى غلب الأمين فانكسرت تلك الشوكة وتضعضع شأن العرب، ثم جاء المعتصم فقطع أعطيتهم ومنعهم من مصالح الدولة، فذلوا ونقموا على العباسيين ولبثوا يترقبون الفرص لاسترجاع سلطانهم، وأصبحوا ينصرون كل من يخرج على تلك الدولة في العراق أو الشام أو مصر، حتى الأكراد والأعراب والقرامطة، فلم ينفعهم ذلك إلا قليلًا لتغلب الأتراك في مصالح الحكومة.

على أن بعض القبائل العربية تمكنت بأسباب مختلفة من إنشاء إمارات صغيرة فيما بين النهرين والشام تحت رعاية العباسيين، وقد ساعدهم على ذلك ما قام من الفتن والحروب بين الخلفاء العباسيين ووزرائهم الفرس وأجنادهم الأتراك في القرن الرابع للهجرة، ورأوا الفرس والترك يستقلون بولاياتهم فقلدوهم، فاستقل آل حمدان من بني تغلب بالموصل وحلب وغيرهما من سنة ٣١٧–٣٩٤ﻫ، وكانت دولتهم عربية أحيوا بها معالم العرب وآدابهم وعرفت بالدولة الحمدانية، أشهر أمرائها سيف الدولة، وقد اشتهر بما نظمه فيه أبو الطيب المتنبي.

ونشأ في حلب في ذلك القرن أيضًا دولة عربية أخرى اسمها المرداسية، نسبة إلى أسد الدولة صالح بن مرداس من قبيلة بني كلاب من المضرية، فحكم في حلب هو وأولاده من سنة ٤١٤–٤٧٢ﻫ، وخلف الحمدانية بالموصل دولة بني عقيل من كعب من المضرية، فتولوها من سنة ٣٨٦–٤٨٩ﻫ، وظهرتعلى أن هذه الدول قلما في أثناء ذلك دولة عربية رابعة عرفت بالمزيدية نسبة إلى مزيد الشيباني من قبيلة أسد، وقد أنشأوا مدينة الحلة في العراق وحكموا من سنة ٤٠٣–٥٤٥ﻫ.

وهناك دولتان أنشأهما رجال من العرب في العصر العباسي الأول وفي بلاد غير عربية، فالأولى أن تعدا من الدول الأعجمية، وهما الدولة الدلفية التي أنشأها أبو دلف العجلي في كردستان، والعلوية التي أنشأها الحسن بن زيد في طبرستان، وإذا أضفنا إلى ما تقدم دولة الأغالبة التي استقلت بالمغرب قبل سائر فروع الدولة العباسية، ودولة الأدراسة الآتي ذكرها، بلغ عدد الدول العربية الصغرى في النهضة العربية الثانية ثماني دول، هذا بيانها مع أسماء مؤسسيها ومدة حكم كل منها، ننشرها بحسب تاريخ تأسيسها:

الدولة مقرها مدة حكمها مؤسسها
(١) الإدريسية مراكش ١٧٢–٣٧٥ﻫ إدريس بن عبد الله
(٢) الأغلبية تونس وغيرها ١٨٤–٢٨٩ إبراهيم بن الأغلب
(٣) الدلفية كردستان ٢١٠–٢٨٥ أبو دلف العجلي
(٤) العلوية طبرستان ٢٥٠–٣١٦ الحسن بن زيد
(٥) الحمدانية حلب والموصل ٣١٧–٣٩٤ بنو حمدان
(٦) المزيدية الحلة ٤٠٣–٥٤٥ مزيد الشيباني
(٧) العقيلية الموصل ٣٨٦–٤٨٩ بنو عقيل
(٨) المرداسية حلب ٤١٤–٤٧٢ صالح بن مرداس

غير الإمارات العربية الصغرى التي ظهرت في بلاد اليمن، كالزيادية في زبيد، واليعفورية في صنعاء، وغيرهما.

على أن هذه الدول قلما أثرت في إحياء سطوة العنصر العربي أو إرجاع شوكة العرب؛ لأنها كانت تعترف بخلافة العباسيين وتبايع لهم، إلا العلوية والأدارسة. ولا حرج عليهم، فإن الفرس والترك والديلم كانوا قد استبدوا بأكثر إمارات المملكة العباسية، ورسخ في أذهان الناس أن الدولة العباسية باقية إلى رجوع المسيح، فبات الشرق كله تحت سيطرة العباسيين، يخطب لهم ويضرب النقود باسمهم، فاتجهت آمال العرب نحو الغرب.

وكان الأمويون أصحاب العصبية العربية، وأكبر أعداء الفرس ومن جاورهم من الأعاجم، قد أنشأوا دولة عربية في الأندلس من سنة ١٣٨ﻫ سيأتي الكلام عليها. فالعرب الذين كانوا يطمعون في إحياء العنصر العربي، ويكبرون ذهاب دولة العرب في ظل العباسيين، كانوا ينزحون إلى الغرب فينزلون في الأندلس أو يقيمون في إفريقيا في ظل السيادة العربية بعيدين عن سلطة الدولة العباسية.

وأكثر العرب نفورًا من تلك الدولة وأشدهم بغضًا لها شيعة العلويين، لا سيما بعد أن قضى على آمالهم في الشرق بما توخاه العباسيون من التفرد بالخلافة هناك. وكان بعض أصحاب هذه الدعوة قد فروا من وجه العباسيين نحو الغرب في أوائل دولتهم، فأنشأوا هناك دولة علوية عرفت بالدولة الإدريسية، نسبة إلى إدريس بن عبد الله حكمت من سنة ١٧٢–٣٧٥ﻫ، ولم يطمع أمراؤها في لقب الخلافة.

وبقي في الشرق جماعة من العلويين كانوا لا يزالون يؤملون الفوز بشيعتهم الموالي الفرس، فلما رأوا العباسيين غلبوهم على ما في أيديهم بعد فتنة الأمين والمأمون واستبداد رجال الأتراك في الدولة ومقاومتهم العنصرين الفارسي والعربي جميعًا، يئسوا من نصرة الموالي فنزح بعضهم إلى المغرب تدريجًا، وظل البعض الآخر في المشرق يترصدون ضعفًا يبدو لهم من الدولة العباسية، فيغتنمون الفرصة للوثوب بها لا يبالون بمن يستنصرون أو على من يعولون. فكانوا يقومون تارة بالفرس اوالخراسانيين، وطورًا بالأكراد أو الديلم أو غيرهم من الأمم الناقمة على الأتراك، أو الفئات المظلومة من فساد الأحكام واستبداد الخدم، ولم يفز أحد منهم بإنشاء دولة غير الحسن بن علي في طبرستان صاحب الدولة العلوية التي ذكرناها، ولم يطل عمرها. وكثيرًا ما كانت تلك الفئات المظلومة تنتحل الدعوة العلوية للوثوب على الدولة، كما فعل صاحب الزنج في العراق، فإن أقلق راحة الدولة العباسية وأجنادها وعمالها بضعة عشر عامًا، بما جمعه من أباق العبيد والزنوج الذين كانوا يكسحون السباخ في ضواحي البصرة والكوفة، واستنهض سائر السودان فتركوا أسيادهم وقاموا معه فحارب الدولة في وقائع كثيرة قتل فيها نحو ٢٥٠٠٠٠٠،١ وكانوا يفعلون ذلك باسم الدعوة العلوية وزعيمهم دعى اسمه علي بن محمد زعم أنه من نسل الحسين، وانتهت تلك الثورة بقتل الدعي وتشتت رجاله.

على أن الشيعة العلوية لم يكن لها شأن يذكر، إلا بعد ظهور الدولة البويهية الشيعية في الشرق، واستيلائها على بغداد واستبدادها بالخلافة، وكان الشيعة قد أنشأوا خلافة علوية في بلاد المغرب، فاشتد أزرهم بذلك وحملوا على المشرق يلتمسون افتتاح المملكة العباسية، فجاءوا مصر وفتحوها في أواسط القرن الرابع للهجرة وأقاموا فيها، وكانت دولتهم ضخمة عرفت بالدولة الفاطمية وهي أكبر دول الشيعة، وسيأتي ذكرها.

وجاءت الدولة الفاطمية مزاحمة للدولة العباسية، وقد قام بنصرتها العرب والبربر، وهؤلاء ينتحلون لأنفسهم نسبًا في العرب. وكانت الآمال متعلقة بإحياء العنصر العربي على يدها كما كان في صدر الإسلام، فبايعها معظم العالم العربي يومئذ حتى في العراق وما بين النهرين، فإن أهل الكوفة والموصل بايعوها مدة مع قربهم من بغداد عاصمة العلويين٢ على أنهم لم يستطيعوا إحياء ذلك العنصر، لذهاب دولة آل بويه من المشرق، وظهور الدولة السلجوقية التركية هناك، وانتصارها للعباسيين وانتحالها مذهبها ودفاعها عنها، فظلت الموازنة محفوظة بين الشرق والغرب: الأول سني والثاني شيعي.

فلما تغلب الأكراد على الدولة الفاطمية، وأخرجوا مصر من حوزتها على يد صلاح الدين الأيوبي، أعادوا البيعة العباسية إليها سنة ٥٦٧ﻫ، وكان العنصر العربي قد ضعف بمصر قبل انقضاء تلك الدولة بمن استبد بالأحكام من الأتراك والأرمن وغيرهم كما سيجيء، فعاد العنصر العربي إلى الضياع، إلا إمارات صغيرة ظهرت في جزيرة العرب ولا يزال بعضها باقيًا إلى الآن (حوالي سنة ١٩١٠).

فالعصر العربي الثاني عبارة عن إحياء العنصر العربي في المغرب بعد انحلاله في المشرق، وأكبر العوامل في إحيائه الدولتان الأموية بالأندلس والفاطمية بمصر، وكان قيامهما نهضة عربية لم يطل مكثها ولا كان لها تأثير يذكر، ولم يقم للعرب قائمة في الدولة الإسلامية من ذلك الحين — إلا ما أبدته بعض القبائل من النهوض في بلاد العرب أو غيرها بدعوة سياسية أو دينية، كقيام الوهابية في نجد والدراويش في السودان. ولما عزم محمد علي مؤسس العائلة الخديوية على إنشاء دولة إسلامية كبرى في أوائل القرن التاسع عشر، أراد أن يستعين على إنشائها بعصبية إسلامية، وأقوى العصبيات بمصر يومئذ الترك والعرب، والعصبية التركية للدولة العثمانية، فاختار عصبية العرب، فحامت الآمال حوله، وخصوصًا بعد حربه الوهابية واجتماعه بشريف مكة وغيره من رؤساء القبائل، فأحيا العنصر العربي، ونشط العصبية العربية بما أنشأه من المدارس والمطابع ونشره من الكتب. فكان للعرب نهضة قلما أفادته في غرضه السياسي، لما حال دون مطامعه من أغراض دول الإفرنج في المملكة الإسلامية، ولكنها أفادت أهل الشرق من العرب فائدة أدبية علمية، بتمهيد السبيل للنهضة التي نحن فيها الآن، أما ما تتناقله الجرائد من أخبار اليمن ونجد وتمرد بعض رؤساء القبائل، فلا نتوقع له نتيجة تذكر، لأسباب عمرانية سياسية لا محل لها هنا.

فالنهضة العربية في العصر العربي الثاني الذي نحن في صدده قلما أثرت في إحياء العنصر العربي. وقد تقلبت على كل من الدولتين الأموية في الأندلس والفاطمية بمصر أحوال مختلفة في سياستها وشؤون حكومتها لا بأس من الإتيان على خلاصتها، وإن كانتا في الحقيقة مقلدتين للدولة العباسية في أكثر أحوالهما.

١  الفخري ٢٢٧.
٢  ابن الأثير ٩٢ ج٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤