البنفسجة

أَهْوَى البَنَفْسَجَ آيَةَ الزَّهْرِ
فِي الشَّكْلِ وَالتَّصْوِيرِ وَالعِطْرِ
وَأُحِبُّهُ فِي الأَرْضِ مُخْتَبِئًا
وَأُحِبُّهُ فِي بَارِزِ الصَّدْرِ
وَلِكُلِّ عَذْرَاءَ أُقَدِّمُهُ
مَا دَامَ فِيهِ حَيَاؤُهُ العُذْرِي
لَكِنْ شَجَانِي مِنْهُ حَادِثَةٌ
أَجْرَتْ دُمُوعَ عَرَائِسِ الشِّعْرِ
هِيَ زَهْرَةٌ بِجِوَارِ سَاقِيَةٍ
نَبَتَتْ وَعَاشَتْ عِيشَةَ الطُّهْرِ
لَمْ تَدْرِ غَيْرَ العُشْبِ مَتَّكَأً
وَسِوَى عِنَاقِ المَاءِ لَمْ تَدْرِ
فَاسْتَيْقَظَتْ يَوْمًا كَأَنَّ بِهَا
سُكْرًا وَقَدْ شَرِبَتْ نَدَى الفَجْرِ
تَبْكِي جَوًى وَتَقُولُ: مَا أَمَلِي
لَوْ عِشْتُ خَالِدَةً بِذَا القَفَرِ
حَسْنَاءُ لَكِنْ لَا عُيُونَ تَرَى
حُسْنِي وَلَا مِنْ عَارِفٍ قَدْرِي
هَلَّا صَعِدْتُ إِلَى ذُرَى جَبَلٍ
وَنَعِمْتُ بَعْدَ الكُوخِ بِالقَصْرِ
فَأَرَى الجَدِيدَ مِنَ الوُجُودِ وَمَا
تَحْوِي مَعَانِي الكَوْنِ مِنْ سِحْرِ
وَأُشَارِفُ الدُّنْيَا وَأَجْعَلُهَا
تَطْوِي مَنَاظِرَهَا عَلَى نَشْرِي١
قَالَتْ وَقَامَ بِهَا الهَوَى فَمَشَتْ
فِي القَفْرِ مِثْلَ ظِبَائِهِ العُفْرِ
وَالرِّيحُ تَحْمِلُهَا وَتُقْعِدُهَا
وَتَمُوجُ بَيْنَ الشَّعْرِ وَالخَصْرِ
حَتَّى إِذَا اهْتَزَّ الكَثِيبُ لَهَا
وَقَفَتْ تَقُلِّبُ نَظْرَةَ الكِبْرِ٢
فَرَأَتْ بِسَاطَ العُشْبِ مُنْتَشِرًا
تَلْوِي عَلَيْهِ مَعَاطِفُ النَّهْرِ
جَارَاتُهَا فِي الحَيِّ نَائِمَةٌ
حُمْرًا عَلَى أَعْلَامِهَا الخُضْرِ
فَاسْتَبْشَرَتْ بِالفَوْزِ وَانْطَلَقَتْ
تَعْدُو وَلَا تَلْوِي عَلَى أَمْرِ
وَحَلَا لَهَا السَّفَرُ البَعِيدُ وَمَا
حَسِبَتْ حِسَابَ الحُلْوِ وَالمُرِّ
الأَرْضُ مُحْرِقَةٌ وَوَاعِرَةٌ
فَكَأَنَّهَا تَمْشِي عَلَى جَمْرِ
وَرَفِيقُهَا هَوَجُ الرِّيَاحِ وَقَدْ
ثَارَتْ عَلَيْهَا ثَوْرَةَ الغَدْرِ
تَرْمِي بِهَا كُلَّ الجِهَاتِ فَلَا
تَرْتَاحُ مِنْ كَرٍّ إِلَى فَرِّ
حَتَّى أَصَابَتْ هَضْبَةً عَرَفَتْ
فِيهَا نَعِيمَ العَيْنِ وَالفِكْرِ
مِنْ تَحْتِهَا الجَنَّاتُ مُشْرِقَةٌ
بِالزَّهْرِ كَالأَفْلَاكِ بِالزُّهْرِ
وَالنَّاسُ وَالأَشْيَاءُ مَائِجَةٌ
كَالبَحْرِ فِي مَدٍّ وَفِي جَزْرِ
قَالَتْ: بَدَأْتُ أَرَى فَوَا طَرَبِي
لَوْ كُنْتُ أَبْلُغُ مَوْطِئَ النَّسْرِ
أَسْمُو إِلَى قِمَمٍ تُحَجِّبُهَا
تِلْكَ الغُيُومُ بَحَالِكِ السِّتْرِ
فَأَرَى بَدِيعَ الكَوْنِ تَحْتَ يَدِي
وَأَفُضُّ مِنْهُ غَامِضَ السِّرِّ

•••

يَا لَلْبَنَفْسَجَةِ الجَمِيلَةِ مِنْ
أَهْوَالِ مَا لَاقَتْهُ، لَوْ تَدْرِي
لَمْ يَبْقَ مِنْ طُرُقٍ تَسِيرُ بِهَا
فِي مَصْعَدِ الأَشْوَاكِ وَالوَعْرِ
وَأَصَابَ أَرْجُلَهَا الضَّعِيفَةَ مَا
يَرْمِي الحَدِيدَ الصُّلْبَ بِالكَسْرِ
فَانْتَابَهَا نَدَمٌ وَلَوْ قَدَرَتْ
عَادَتْ عَلَى أَعْقَابِهَا تَجْرِي
لَكِنَّهَا خَارَتْ وَصَيَّرَهَا
خَوْفُ السُّقُوطِ كَرَاكِبِ البَحْرِ
فَتَشَبَّثَتْ بِالأَرْضِ مُفْرِغَةً
جَهْدَ القُوَى وَبَقِيَّةَ الصَّبْرِ
حَتَّى تَسَنَّمَتِ الذُّرَى وَغَدَتْ
فِي الأَوْجِ تَتْلُو آيَةَ الشُّكْرِ

•••

لَكِنَّهَا لَمْ تَلْقَ وَا أَسَفِي
فِي الأَوْجِ غَيْرَ جَلَامِدِ الصَّخْرِ
لَا عُشْبَ يَنْبُتُ فِي جَوَانِبِهِ
أَبَدًا وَلَا أَثَرٌ لِمُخْضَرِّ
وَالعَاصِفَاتُ كَأَنَّهَا أُسُدٌ
فِي الجَوِّ تَزْأَرُ أَيَّمَا زَأْرِ
وَالغَيْمُ سَاوَى فِي تَلَبُّدِهِ
مَا بَيْنَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَالظُّهْرِ
فَجَثَتْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ وَبَكَتْ
كَالطِّفْلِ مِنْ أَلَمٍ وَمِنْ ذُعْرِ
وَالبَرْدُ أَفْسَدَ لَوْنَهَا كَمَدًا
مِنْ كُلِّ مُزْرَقٍّ وَمُحْمَرِّ
فَاصْفَرَّ ذَيَّاكَ الجَبِينُ كَمَا
ذَهَبَتْ نَضَارَةُ ذَلِكَ الثَّغْرِ
وَلِقَهْرِهَا أَنَّتْ وَقَدْ سُمِعَتْ
وَسْطَ الزَّوَابِعِ أَنَّةُ القَهْرِ
«يَا لَيْتَنِي لَمْ أَصْبُ نَحْوَ عُلًا
وَبَقِيتُ بَيْنَ مَوَاكِبِ الزَّهْرِ»
ثُمَّ ارْتَمَتْ وَهْنًا وَأَسْكَتَهَا
شَبَحٌ بَدَا مِنْ جَانِبِ القَبْرِ
وَتَصَلَّبَتْ أَعْضَاؤُهَا وَمَضَتْ
بِالمَوْتِ هَاوِيَةً إِلَى القَعْرِ

•••

مِسْكِينَةٌ قَدْ غَرَّهَا طَمَعٌ
هُوَ كَالسَّرَابِ لِكُلِّ مُغْتَرِّ
ظَنَّتْ بِأَنَّ لَهَا العَلَاءَ غِنًى
فَإِذَا بِهِ فَقْرٌ عَلَى فَقْرِ
مَا كَانَ أَغْنَاهَا وَأَسْعَدَهَا
لَوْ لَمْ تُفَارِقْ ضِفَّةَ النَّهْرِ
١٩١١
١  النشر: الرائحة.
٢  الكثيب: التل من الرمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤