أشعار الخداع والحب

الخداع والحب رواية تمثيلية لشلر الألماني، نقلتها إلى العربية أيام الشباب مع صديقي المأسوف عليه نجيب نسيم طراد سنة ١٩٠٠، وقد مُثِّلت في دار قونصلاتو روسيا ثلاث ليالٍ متواصلة، ووقف ريعها للجمعية الخيرية.

موضوعها: إن فرناند فتى من النبلاء كان يتردَّد على مُعَلِّم موسيقى؛ فعلق بحب ابنته لويز، وكان والد فرناند أمين سر الدولة مشهورًا بالطمع والإجرام، فلم يَرُقْ لعينيه هذا الحب وحاول بشتى الوسائل إقناع فرناند بالعدول عنه فلم يفلح، فعمد إلى الحيلة والدس، وأرغم الفتاة المسكينة على كتابة رسالة غرام إلى حبيب مزعوم، بعد أن انتزع منها اليمين المغلظة لكتمان السر أو تُعاقَب بسجن أبيها وتعذيبه. ونجحت حيلة الأب فوقعت الرسالة الملفَّقة بين يدي فرناند وأثارت فيه الشكوك، واعترفت لويز بها لأنها كانت مقيَّدَةً باليمين، فنزل جوابها كالصاعقة على فرناند، فتناول كأس ماء وغافلها وصبَّ فيه السمَّ، وشرب وسقاها.

من مشاهد الفصل الأول، بعد عتاب والد لويز ونصحه لها بترك حب الأمير تقول لويز:

لويز :
تَرَكْتُ الصَّلَاةَ وَعِفْتُ التُّقَى
وَأَصْبَحْتُ بَيْنَ الهَوَى وَالقَدَرْ
تُنَازِعُ نَفْسِي صُرُوفُ الغَرَامِ
وَتَنْزَعُ صَفْوِي صُنُوفُ الكَدَرْ
وَفِي الصَّدْرِ مِنِّي عَوَاطِفُ وَجْدٍ
إِذَا سَكَّنَتْ قَلْبَ غَيْرِي انْفَطَرْ
كَفَرْتُ لِأَنِّي هَوِيتُ وَلَكِنْ
أَيُؤْمِنُ مَنْ بِالهَوَى قَدْ كَفَرْ؟
إِلَهِي سَأَلْتُكَ عَفْوًا وَحِلْمًا
فَأَنْتَ المُصَوِّرُ تِلْكَ الصُّوَرْ
إِذَا مَا شُغِلْتُ بِرَسْمِكَ عَنْكَ
وَذَلِكَ ذَنْبِي ألَا يُغْتَفَرْ

(ثم تقول):

لَمْ أَنْسَ أَوَّلَ مَرَّةٍ شَاهَدْتُهُ
فِيهَا وَقَدْ صَبَغَ الحَيَاءُ جَبِينَي
وَشَعَرْتُ أَنَّ القَلْبَ زَادَ خُفُوقُهُ
لِتَأَثُّرِي فَسَنَدْتُهُ بِيَمِينِي
وَسَمِعْتُ صَوْتًا فِي ضَمِيرِي صَارِخًا
«هَا هُوْ» فَمَا كَذَّبْتُ فِيهِ ظُنُونِي
فَشَعَرْتُ حِينَئِذٍ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ
بِالحُبِّ أَشْرَقَ نُورُهُ يَهْدِينِي
وَتَنَازَعَتْ نَفْسِي عَوَاطِفُ لَمْ أَكُنْ
أَدْرِي حَقِيقَةَ سِرِّهَا المَكْنُونِ
وَعَوَاذِلِي كَثُرُوا عَلَيَّ وَلَوْ دَرَوْا
ضَعْفِي وَقُوَّةَ حُسْنِهِ عَذَرُونِي

•••

وَدَّعْتُ يَا أُمَّاهُ آمَالِي بِهِ
عَبْرَ الحَيَاةِ وَمَا الوَدَاعُ يَقِينِي
لَكِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ يَوْمٍ بِهِ
ذَاكَ الَّذِي سَيُمِيتُنِي يُحْيِينِي
إِذْ ذَاكَ لَا نَسَبٌ يُفِيدُ وَلَا غِنًى
لَكِنَّ فَقْرِي وَحْدَهُ يُغْنِينِي
إِذْ ذَاكَ لَا تُجْدِي المَلَابِسُ وَالحُلَى
لَكِنَّ ثَوْبَ طَهَارَتِي يُجْدِينِي
إِذْ ذَاكَ لَا تُعْلِي المَرَاتِبُ أَهْلَهَا
أَمَّا أَنَا فَوَدَاعَتِي تُعْلِينِي
وَمَتَى عَلَوْتُ أُعُودُ غَيْرَ حَقِيرَةٍ
فِي عَيْنِ مَنْ أَهْوَى وَذَا يَكْفِينِي

(وهنا مشهد اجتماع فرناند بها بعد ما قاسته من لوم أبيها الذي لا يعتقد بإخلاص فرناند؛ نظرًا لما بينهما من تفاوت النسب.)

فرناند :
أَذْكَى السَّلَامِ عَلَيْكِ يَا غُصْنَ النَّقَا
مِنْ مُدْنَفٍ بِهَوَاكِ بَاتَ مُعَلَّقَا
حَمَلَتْهُ أَجْنِحَةُ الصَّبَابَةِ وَالهَوَى
فَعَسَاهُ أَنْ يَلْقَى جَنَانَكِ مُورِقَا
لويز :
وَعَلَيْكَ … … …
… … … …
فرناند :
… لَكِنْ مَا لِوَجْهِكِ أَصْفَرُ
وَعَلَامَ جَفْنُكِ بِالدُّمُوعِ اغْرَوْرَقَا؟
لويز :
لاَ شَيْءَ … … …
… … … …
فرناند :
… بَلْ فِي الأَمْرِ سِرٌّ مُغْلَقٌ
لَا تَجْعَلِي لِلْحُبِّ سِرًّا مُغْلَقَا
فَمَتَى صَفَتْ مِرْآةُ قَلْبِكِ لِي فَقَدْ
صَفَتِ الحَيَاةُ وَنَجْمُ سَعْدِي أَشْرَقَا
لويز :
هَذَا كَلَامٌ لَا يُفِيدُ صَبِيَّةً
مِسْكِينَةً إِلَّا جَوًى وَتَحَرُّقًا
مَا أَقْبَحَ النَّسَبَ المُفَرِّقَ بَيْنَنَا
مَا أَحْسَنَ الحُبَّ الَّذِي مَا فَرَّقَا!
فرناند :
عَجَبًا فَمَا مَعْنَى كَلَامِكِ ذَا وَمَنْ
أَوْحَى إِلَيْكِ اليَوْمَ هَذَا المَنْطِقَا
أَوَلَسْتِ أَنْتِ نَصِيبَ مُهْجَتِيَ الَّتِي
قَنَعَتْ مِنَ الدُّنْيَا بِحُبِّكِ مَوْثِقَا
أَنْتِ الَّتِي أَسَرَتْ فُؤَادِي بِالهَوَى
إِنْ أَطْلَقَتْهُ فَلَيْسَ يَحْيَا مُطْلَقَا
لويز :
فِرْنَانْدُ، لَا تُسْدِلْ عَلَى عَيْنَيَّ مِنْ
حُجُبِ الهَوَى سِتْرًا أَرَاهُ مُمَزَّقَا
عَبَثًا تُحَوِّلُ نَاظِرِي عَنْ لُجَّةٍ
لَا بُدَّ فِي أَعْمَاقِهَا أَنْ أَغْرَقَا
ضِعَتِي وَمَجْدُكَ مَانِعَانِ لَدَى أَبٍ
بِمُصِيبَتِي هَيْهَاتَ أَنْ يَتَرَفَّقَا
فِرْنَانْدُ هُمْ يَسْعَوْنَ فِي تَفْرِيقِنَا
فَاحْرَمْ حَيَاتِي قَبْلَ حِرْمَانِي اللُّقَا
فرناند :
تَفْرِيقُنَا؟ وَمَنِ الَّذِي يَقْوَى عَلَى
قَلْبَيْنِ ضَمَّهُمَا الهَوَى لِيُفَرِّقَا؟
إِنْ كُنْتُ أَعْرَقَ مِنْكِ فِي نَسَبٍ لَدَى
قَوْمِي، فَلَسْتُ لَدَى إِلَهِي أَعْرَقَا
وَاللَّهِ فِي عَيْنَيْكِ خَطُّ نَصِيبِنَا
وَأَرَاهُ مِنْ تَارِيخِ مَجْدِي أَصْدَقَا
لويز :
وَأَبُوكَ؟ … … …
… … … …
فرناند :
… مَاذَا يَسْتَطِيعُ؟ … …
… … … … …
لويز :
… … … … أَخَافُهُ
إِذْ لَا أَرَاهُ عَلَى شَبَابِكَ مُشْفِقَا
فرناند :
أَنَا لَا أَخَافُ سِوَى فُتُورِكِ فِي الهَوَى
فَسِوَى فُتُورِكِ فِي الهَوَى لَا يُتَّقَى
لَا شَيْءَ يَمْنَعُ رَسْمَكِ المَعْبُودَ عَنْ
عَيْنِي، وَلَوْ حَمَلُوا الطَّلَاسِمَ وَالرُّقَى
كَلَّا، وَلَوْ جَعَلُوا الجِبَالَ مَوَانِعًا
لَجَعَلْتُهَا لَكِ يَا لُوِيزُ مُرْتَقَى
وَالدَّهْرُ إِنْ يَقْصِدْ مُعَانَدَتِي فَلَا
أَزْدَادُ إِلَّا قُوَّةً وَتَعَشُّقَا
وَإِذَا تَمَثَّلَ لِي القَضَاءُ مُعَارِضًا
عَارَضْتُهُ … وَسَأَلْتُ أَنْ يَتَرَفَّقَا
وَمُنَايَ أَنَّ لُوِيزَتِي تَحْيَا مَعِي
لِتَذُوقَ مِنْ كَأْسِ الحَيَاةِ الأَرْوَقَا
لِتَكُونَ تُرْبَةُ أَرْضِهَا زَهْرًا وَجَوْ
وُ سَمَائِهَا عِطْرًا، وَنُورًا مُشْرِقًا
لِأَظَلَّ أَسْقِيهَا السَّعَادَةَ مِنْ يَدِي
فَبِغَيْرِ كَأْسِ الحُبِّ لَيْسَتْ تُسْتَقَى
لِتَعُودَ لِلَّهِ العَلِيِّ كَمَا أَتَتْ
بَلْ كَيْ تَعُودَ إِلَيْهِ أَبْهَى رَوْنَقَا
فَيَرَى بِأَنَّ الحُبَّ يَقْدِرُ وَحْدَهُ
يُعْطِي خَلِيقَتَهُ الكَمَالَ المُطْلَقَا
لويز :
إِنَّ المُحِبَّ سَعِيدَةٌ أَحْلَامُهُ
لَكِنْ تَخَبَّأَ خَلْفَ يَقَظَتِهِ الشَّقَا
فِرْنَانْدُ، سَامَحَكَ الإِلَهُ فَطَالَمَا
صَوَّرْتَ لِي عَيْشَ الغَرَامِ مُزَوَّقَا
هِيَ شُعْلَةٌ أَضْرَمْتَ أَفْكَارِي بِهَا
فَسَرَى إِلَى قَلْبِي اللَّهِيبُ فَأَحْرَقَا
هَيْهَاتَ تُطْفَأُ نَارُهَا إِلَّا إِذَا انـْ
ـطَفَأَ الضِّيَاءُ بِنَاظِرِي، وَلَكَ البَقَا

(ثم يأتي أبوه معاتبًا ومذكِّرًا بفضله عليه ورغبته في ترقيته، وما فعل وارتكب من أجله.)

الأب :
أَفِرْنَانْدُ قُلْ لِي لِمَنْ قَدْ رَكِبْتُ الـْ
ـمَخَاطِرَ بُغْيَةَ أَمْرٍ خَطِيرْ
فَوَجَّهْتُ نَحْوَ الإِمَارَةِ طَرْفِي
وَصَوَّبْتُ سَهْمِي لِقَلْبِ الأَمِيرْ
وَأَضْرَمْتُ نَارَ العَدَاوَةِ بَيْنِي
وَبَيْنَ السَّمَاءِ، وَبَيْنَ الضَّمِيرْ
وَقُلْ لِي لِمَنْ قَدْ قَبِلْتُ الرِّئَاسَـ
ـةَ مِنْ بَعْدِ قَتْلِي الرَّئِيسَ الكَبِيرْ
وَمَنْ قَادَنِي لِارْتِكَابِ المَعَاصِي
وَطَوَّحَ نَفْسِي بِهَذَا الغُرُورْ
فرناند :
أَعُوذُ بِرَبِّيَ مِنْ أَنْ تَكُونَ
فَعَلْتَ لِأَجْلِي هَذِي الأُمُورْ
وَأَخْلَقُ بِالمَرْءِ أَنْ لَيْسَ يُخْلـَ
ـقَ مِنْ أَنْ يُسَبِّبَ هَذِي الشُّرُورْ
الأب :
رُوَيْدَكَ فِرْنَانْدُ لَا تَغْضَبَنَّ
أَهَذَا جَزَاءُ أَبِيكَ الغَيُورْ
جَعَلْتُ لِأَجْلِكَ لَيْلِي نَهَارًا
وَصَفْوِي اعْتِكَارًا وَعِفْتُ السُّرُورْ
وَذَاقَ ضَمِيرِيَ لَسْعَ العَقَارِ
بِ مِنْكَ وَأَنْتَ عَدِيمُ الشُّعُورْ
نَعَمْ أَنَا أَقْبَلُ صَاعِقَةَ الْإِنـْ
ـتِقَامِ وَلَعْنَةَ أَهْلِ القُبُورْ
وَرِثْ أَنْتَ مَجْدِي وَخَلِّ ذُنُوبِي
أُعَذَّبَ فِيهَا بِنَارِ السَّعِيرْ
فرناند :
أَنَا لَسْتُ أَرْضَى بِإِرْثٍ ذُنُوبُ
أَبِي فِيهِ تَبْقَى لِيَوْمِي الأَخِيرْ
الأب :
وَلَكِنْ أَتَنْسَى بِأَنَّكَ لَوْلَا
مَكَايِدُ سَعْيِي لَعِشْتَ فَقِيرْ
فرناند :
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ المَالِ فَقْرٌ
فَفِي شَرَفِ الفَقْرِ مَالٌ كَثِيرْ
وَأَفْضَلُ لِي الزَّحْفُ فَوْقَ التُّرَابِ
مِنَ السَّيْرِ زَحْفًا لِأَوْجِ السَّرِيرْ

(وفي الفصل الثالث مشهد بين فرناند ولويز، بعد أن يكون الأب العاتي قد اجتمع إليها على حدة وتوعَّدَها إذا هي لم تترك حب فرناند، فيعرض هو عليها الفرار معه.)

لويز :
قَدْ كَانَ آمِرُنَا فِي الحُبِّ مَا كَانَا
وَالآنَ عَهْدُ انْفِصَالِي عَنْكَ قَدْ آنَا
قَطَعْتُ كُلَّ رَجَاءٍ فِي هَوَاكَ، وَقَدْ
أَصْبَحْتُ أَرْجُو مِنَ الأَيَّامِ سِلْوَانَا
فرناند :
أَتَيْأَسُ لوِيزُ مِنْ حُبِّي وَقَدْ عَلِمَتْ
أَنِّي اتَّخَذْتُ الهَوَى دِينًا وَإِيمَانَا
وَأَنَّنِي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَكُونَ عَلَى
مَذَابِحِ الحُبِّ وَالإِخْلَاصِ قُرْبَانَا؟
لِتَجْمَعِ الأَرْضُ قُوَّاتِ الجَحِيمِ فَلَا
تُزَعْزِعُ اليَوْمَ مِنْ حَبِيكِ بُنْيَانَا
وَإِنْ تَكُنْ رَضِيَتْ عَنِّي لُوِيزُ فَمَا
يَهُمُّنِي وَالِدِي إِنْ بَاتَ غَضْبَانَا
قَدْ رَامَ إِطْفَاءَ قَلْبٍ فِيكِ مُشْتَعِلٌ
فَسَوْفَ أَجْعَلُ مِنْهُ القَلْبَ شَعْلَانَا
وَأُظْهِرُ اليَوْمَ أَسْرَارًا مُخَبَّأَةً
يَلْقَى الفَضِيحَةَ فِيهَا كُلُّ مَنْ خَانَا
سَالَمْتُهُ فَأَبَى إِلَّا مُحَارَبَتِي
فَسَوْفَ يَرْجِعُ مِنْ ذِي الحَرْبِ خَذْلَانَا
وَالحُبُّ عُذْرِي بِكُفْرَانِي بِحَقِّ أَبِي
فَقَدْ بَغَى بِحُقُوقِ الحُبِّ كُفْرَانَا
شرَائِعُ الحُبِّ فِي عَيْنِي مُقَدَّسَةٌ
لِذَاكَ كُلُّ عَزِيزٍ دُونَهَا هَانَا
لُوِيزُ! قَدْ عَنَّ لِي فِكْرٌ، وَيَا طَرَبِي
إِنْ تَمَّ لِي وَعَنِ الأَوْطَانِ أَقْصَانَا
وَهَلْ لَنَا بَعْدُ مَا نَسْعَى إِلَيْهِ، وَهَلْ
يُجْدِي البَقَاءُ لَنَا فِي أَرْضِ أَعْدَانَا
كَأَنَّ غَيْرَ مِيَاهِ «الرِّينِ» لَيْسَ لَنَا
مَا يَعْكِسُ اليَوْمَ نُورًا مِنْكِ فَتَّانَا
أَشِعَّةُ الحُبِّ مِنْ عَيْنَيْكِ مُرْسَلَةٌ
تُضِيءُ ظُلْمَةَ قَلْبِي أَيْنَمَا كَانَا
وَمَا بِلَادِي سِوَى أَرْضٍ حَلَلْتِ بِهَا
أَيَّانَ سِرْتِ أَرَى أَهْلًا وَأَوْطَانَا
هُنَاكَ يَا مُنْيَتِي إِنْ كَانَ يَنْقُصُنَا
عِزُّ القُصُورِ فَعَنْهُ اللَّهُ أَغْنَانَا
إِنْ لَمْ نَجِدْ هَيْكَلًا لِلَّهِ، نَعْبُدُهُ
فِيهِ وَنَسْأَلُهُ عَفْوًا وَرِضْوَانَا
يُرْخِي سَتَائِرَهُ اللَّيْلُ الرَّهِيبُ عَلَى
رُءُوسِنَا وَسُكُونُ الكَوْنِ يَغْشَانَا
وَيَطْلَعُ البَدْرُ فَوْقَ الأُفْقِ يَأْمُرُنَا
بِتَوْبَةٍ وَنُجُومُ اللَّيْلِ تَرْعَانَا
هُنَاكَ تَحْلُو مُنَاجَاةُ الغَرَامِ لَنَا
وَلَا نَخَافُ مِنَ الحُسَّادِ عُدْوَانَا
وَنَظْرَةٌ مِنْكِ تُنْسِينِي الحَيَاةَ، فَلَا
أَعُودُ مِنْ حُلْمِ حُبِّي فِيكِ يَقْظَانَا

(ولكن لويز ترفض السفر معه، ثم تعمل الدسائس عملها، وهنا يستكتبها أبو فرناند — مهدِّدًا إياها بالحبس وقتل والدَيْها — كتابَ غرام إلى شخص ثالث معروف في القصر، ويقع الكتاب بين يدي فرناند، فيصدِّق ما فيه ويستولي عليه اليأس فيقول):

فرناند :
لَا، لَا أُصَدِّقُ أَنَّ تَحْتَ ظَوَاهِرٍ
مَلَكِيَّةٍ تُخْفِي الحَقِيقَةُ أَرْقَمَا
لَكِنَّمَا ذَا الخَطُّ خَطُّ بَنَانِهَا
لَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ الكَلَامُ تَكَلَّمَا
خَطٌّ، فَلَوْ هَبَطَتْ مَلَائِكَةُ العُلَا
لَمْ تَقْوَ مَعَهُ أَنْ تُبَرِّأَ مِنْهُمَا
ذَا خَطُّهَا مُدَّتْ إِلَى تِسْطِيرِهِ
يَدُهَا الَّتِي مُدَّتْ إِلَيِّ لِتُلْثَمَا
يَا وَيْحَهَا، سَفَكَتْ مِدَادَ دَوَاتِهَا
بِحُرُوفِهِ، لَكِنَّهَا سَفَكَتْ دَمَا
الآنَ قَدْ أَدْرَكْتُ كَيْفَ تَمَنَّعَتْ
مِنْ أَنْ تُوَافِقَنِي عَلَى تَرْكِ الحِمَى
قَبِلَتْ بِإِبْعَادِي، وَتِلْكَ ضَحِيَّةٌ
مَا كُنْتُ أَحْسَبُهَا خِدَاعًا قَبْلَمَا …

•••

مَنْ ذَا يُصَدِّقُ … بَعْدَمَا اتَّحَدَتْ عَوَا
طِفُنَا، وَأَصْبَحَ قَلْبُهَا بِي مُغْرَمَا؟
كَانَتْ رَفِيقِي فِي الهَوَى، قَطَعَتْ مَعِي
غَابَاتِهِ، وَرَمَتْ لِأَبْعَدَ مُرْتَمَى
وَتَسَلَّقَتْ قِمَمَ الغَرَامِ، وَمُذْ رَأَتْ
وَادِي الشَّقَا لَمْ تَخْشَ أَنْ تَتَقَدَّمَا
فَتَحَمَّلَتْ أَلَمَ الصَّبَابَةِ وَالهَوَى
لِتُطِيعَ مَنْ تَهْوَى وَتَعْصِي اللُّوَّمَا
وَتَأَلَّمَتْ وَبَكَتْ … وَلَمْ يَكُ كُلُّ ذَا
إِلَّا خِدَاعًا ضِعْتُ فِيهِ تَوَهُّمَا
إِنْ كَانَ أَيَّتُهَا الأَبَالِسُ قُوَّةً
لِلْمَكْرِ أَنْ تُخْفِي الحَقَائِقَ مِثْلَمَا …
فَعَلَامَ حَتَّى الآنَ لَمْ تَتَمَكَّنِي
بِدَهَاكِ مِنْ أَنْ تَخْرُقِي بَابَ السَّمَا

•••

لَمَّا كَشَفْتُ لَهَا مَخَاطِرَ حُبِّنَا
وَأَرَيْتُهَا وَجْهَ الخَلَاصِ لِيَسْلَمَا
مَا كَانَ أَسْرَعَ مَا تَبَدَّلَ لَوْنُهَا
تُبْدِي التَأَثُّرَ وَهْيَ تُضْمِرُ عَكْسَ مَا …
وَبِأَيِّ مَظْهَرِ عِزَّةٍ وَشَهَامَةٍ
غَلَبَتْ أَبِي إِذْ جَاءَهَا مُتَهَكِّمَا
وَبِأَيِّ مُعْتَرَكٍ شَدِيدٍ هَوْلُهُ
أُغْمِي عَلَيْهَا دُونَ أَنْ تَتَأَلَّمَا
تَاللَّهِ يَا لُغَةَ الخِدَاعِ فَمَا الَّذِي
أَبْقَيْتِهِ لِلصِّدْقِ كَيْ يَتَكَلَّمَا
يَا أَيُّهَا الإِخْلَاصُ مَاذَا تَرْتَدِي
إِنْ كَانَ ثَوْبُكَ لِلْخِيَانَةِ سُلِّمَا

•••

لِلَّهِ أَوَّلُ قُبْلَةٍ قَبَّلْتُهَا
قَدْ كَانَ مِثْلَ فَمِي فُؤَادِي مُغْرَمَا
وَعَوَاصِفُ الأَهْوَاءِ فِيَّ عَظِيمَةٌ
لَكِنْ عَفَافِي كَانَ مِنْهَا أَعْظَمَا
أَفَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ بَيْنَ ضُلُوعِهَا
إِلَّا البُرُودَةُ وَالجَفَاءُ كَمَا هُمَا؟
كَمْ كُنْتُ أَشْعُرُ عِنْدَ تَطْوِيقِي لَهَا
أَنَّ النَّعِيمَ بِرَاحَتَيَّ تَجَسَّمَا
وَفُؤَادُهَا إِذْ ذَاكَ لَمْ يَكُ شَاعِرًا
بِسَوَى جَرِيمَتِهَا … وَلَمْ أَكُ مُجْرِمًا

(ثم يعزم على قتلها والانتحار من بعدها، فيقول — وهو حتى الساعة لم يجتمع إليها ليتحقَّق صحة الرسالة):

قَرُبَتْ سَاعَةُ الهَلَاكِ فَأَهْلًا
إِنَّمَا يَا لُوِيزُ قُرْبُكِ أَحْلَى
فَلْتَمُوتِي مَعِي فَمَوْتُكِ وَاجِبْ
لَا وَحَقِّ السَّمَاءِ لَا بُدَّ مِنْهَا
فَهِيَ مُلْكِي وَلَسْتُ أَصْبِرُ عَنْهَا
لَسْتُ أَرْضَى بِأَنْ أَمُوتَ وَتَبْقَى
بَعْدَمَا عِشْتُ فِي الصَّبَابَةِ مَعْهَا
وَأَرَتْنِي الشَّقَا وَلَمْ تَكُ تَشْقَى
كَانَ لِي فِي الشَّبَابِ حُلْمٌ تَجَلَّى
بِمَجَالِي الغَرَامُ، وَاليَوْمَ وَلَّى
وَمَعَ الحُلْمِ كُلُّ عُمْرِيَ ذَاهِبْ
فَاسْتَعِدِّي، فَمَا رَسُولُ الهَلَاكِ
غَيْرَ صَبٍّ بِالأَمْسِ كَانَ فِدَاكِ
وَاحْجُبِي وَجْهَكِ المُخَادِعَ عَنِّي
أَنَا مَا عُدْتُ قَادِرًا أَنْ أَرَاكِ

•••

يَا إِلَهَ الوُجُودِ دَعْهَا وَدَعْنِي
أَتَوَلَّى تَعْذِيبَهَا بِيَدَيَّا
قَدْ تَخَلَّيْتُ عَنْ جَمِيعِ الخَلَائِقْ
لَكَ يَا رَبَّهَا فَعَنْهَا تَخَلَّ
وَبِهَا اليَوْمَ لَا تُطَالِبْ شَقِيًّا
غَيْرَهَا فِي الوُجُودِ لَمْ يَكُ طَالِبْ

(وأخيرًا هذا المشهد من الفصل الخامس عندما جاء فرناندُ لويزَ، لا يعرف كيف يبادِئُها الحديث. يهم فيرى من عذوبتها ما يلجم لسانه، وتُقبِل هي عليه فترى في وجهه ما لا تعهد فترجع خائفةً حائرةً. تعرِض عليه الغناءَ فيرفض، واللعبَ فيأبى، والقراءةَ فلا يجيب. تقول ويصمت، وتبسم ويعبس، وتجدُّ حينًا وتهزل، ولا تدرك من سبب لهذا الغضب، وهو يتململ ويتعذَّب ويعض على شفتيه، إلى أن يطفح الكيل فيصيح بها):

كُفِّي خِدَاعَكِ يَا شَقِيَّةُ وَارْجِعِي
فَلَقَدْ شُفِيتُ مِنَ الغَرَامِ المُوجِعِ
وَاسْتَرْجِعِي تِلْكَ اللِّحَاظَ، فَلَمْ أَدَعْ
لِسِهَامِهَا فِي مُهْجَتِي مِنْ مَوْضِعِ
وَتَقَدَّمِي يَا حَيَّةً لَمْ تَنْخَدِعْ
عَيْنِي بِهَا إِلَّا لِتَجْلِبَ مَصْرَعِي
قُومِي، اهْجُمِي، انْتَفِضِي أَمَامِي، وَاظْهَرِي
فِي هَوْلِ مَنْظَرِكِ القَبِيحِ المُفْزِعِ
وَتَجَرَّدِي مِنْ صُورَةٍ مَلَكِيَّةٍ
مَا كَانَ لَوْلَاهَا إِلَيْكِ تَطَلُّعِي
وَلْيَحْتَجِبْ ذَاكَ المَلَاكُ فَلَمْ يَعُدْ
لِي فِي المَلَاكِ وَقُرْبِهِ مِنْ مَطْمَعِ

•••

أَنَا لَا أُدِينُكَ يَا إِلَهِي، إِنَّمَا
لِمَ تَنْقُضُ الدُّنْيَا شَرَائِعَهَا مَعِي
لِمَ هَذِه الكَأْسُ الجَمِيلَةُ، إِنْ يَكُنْ
لَا شَيْءَ فِيهَا غَيْرَ سُمٍّ مُفْجِعِ
صَوَّرْتَ أَجْمَلَ صُورَةٍ، وَجَعَلْتَهَا
سِتْرًا لِأَقْبَحِ مَا خَلَقْتَ وَأَشْنَعِ

•••

وَعَلَامَ ذَا الصَّوْتُ الشَجِيُّ كَأَنَّمَا
نَغَمَاتُهُ سِحْرٌ يَمُرُّ بِمَسْمَعِي
هَلْ يُحْسِنُ الوَتَرُ المُقَطَّعُ يَا تُرَى
لَحْنًا كَهَذَا اللَّحْنِ غَيْرَ مُقَطَّعِ

(وينظر إليها بعين سكرى بالحب.)

لَا عَيْبَ فِيهَا، لَا تَنَافُرَ … كُلُّهَا
حُسْنٌ يَدُلُّ عَلَى اعْتِنَاءِ المُبْدِعِ
إِلَّا الفُؤَادَ … كَأَنَّ رَبَّكِ لَمْ يُطِقْ
إِبْقَاءَ صَنْعَتِهِ بَغَيْرِ تَصَنُّعِ
أَلُوِيزُ بِاللَّهِ اذْكُرِي زَمَنَ الهَوَى
أَيَّامَ قَلْبِي عَنْكِ غَيْرَ مُمَنَّعِ
أَيَّامَ كَاشَفْنَا الصِّبَا أَسْرَارَهُ
وَأَنَا وَأَنْتِ مِنَ الصَّبَابَةِ لَا نَعِي
أَيَّامَ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ سَعَادَتِي
فِي قُبْلَةٍ تُطْفِي وَتُلْهِبُ أَضْلُعِي
أَلُوِيزُ هَلْ أَذْنَبْتُ نَحْوَكِ يَا تُرَى
حَتَّى صَنَعْتِ مَعِي الَّذِي لَمْ أَصْنَعِ
أَنَا مَا قَطَعْتُ صِلَاتِ حُبِّكِ مَرَّةً
فِيمَا أَسَأْتُ إِلَيْكِ حَتَّى تَقْطَعِي؟
لويز :
إبْكِ إبْكِ يَا فِرْنَانْدُ
فَبُكَاؤُكَ أَعْدَلُ مِنْ غَضَبِكَ
فرناند :
أَخْطَأْتِ، مَا هَذِي الدُّمُوعُ مِنَ الأَسَى
حَتَّى تُبَرِّدَ لَوْعَةَ المُتَوَجِّعِ
هَذَا وَدَاعِي الهَائِلُ الأَبَدِيُّ لِلـْ
ـحُبِّ الَّذِي بِجَنَاهُ لَمْ أَتَمَتَّعِ
أَنَا لَسْتُ أَبْكِي يَا لُوِيزُ عَلَيَّ، بَلْ
أَبْكِي عَلَيْكِ فَلَا تَغُرَّكِ أَدْمُعِي
قَمَرٌ بِأُفْقِ الحُبِّ مَا حَيَّيْتُهُ
حَتَّى هَوَى، فَكَـأَّنَهُ لَمْ يَطْلَعِ
أَبْكِي عَلَى أَمَلِ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ
قَدْ ضَاعَ فِيكِ وَكَانَ غَيْرَ مُضَيَّعِ
إِنَّ الحِدَادَ عَلَى الطَّبِيعَةِ وَاجِبٌ
فَأَعَزُّ مَنْ فِيهَا إِلَيْهَا قَدْ نُعِي

وأحسَّتْ لويز بفعل السمِّ وعرفت بدنو الأجل، فلم يَبْقَ من سببٍ لإخفاء الحقيقة؛ لأن الموت يُحِلُّ كل قَسَم، ولكن سبق السيف العذل.

لَا تَخَافِي هَوْلَ الفُرَاقِ فَنَفْسِي
لَمْ تَزَلْ يَا لُوِيزُ تَصْبُو إِلَيْكِ
لَسْتُ أَرْضَى الحَيَاةَ عَنْكِ بَعِيدًا
وَلِهَذَا … أَمُوتُ … بَيْنَ يَدَيْكِ
١٩٠٢
تمَّتْ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤