رثاء المرحوم «محمد عبد الهادي علي»

أحد زملائه بكلية الحقوق في ٢٦ يناير سنة ١٩٣٠
ناشئ كالورد في أغصانه
مات مثل الورد في أسنانه
وكزغب الطير لمَّا تنتشر
ناشئات الريش في جثمانه
وكغضن من غصون البان في
جنة العمر وفي رضوانه
ساهم الوجه عليه صفرة
من هشيم النبت أو حوذانه
عصف الموت به في دوحه
كيف ينجو البان من أحيانه

•••

ليس بدعًا أن يواسيني قريـ
ـض كفيض الماء أو تشنانه
إنما أرثي زميلًا فاضلًا
كان مرجوًّا لدى إخوانه
وأثيرًا عند أهليه وبرًّا
بهم يسرف في تَحنانه
ونبيلًا وعطوفًا وحفيًّا
بمن يلقاه من خلصانه

•••

أمردُ الخد عليه مبسم
من عذارى الدير لا رهبانه
أعجف العود كشيخ ضامر
جاوز الخمسين من أشطانه
ملكته شهوة العلم فَجُنَّ
جنونًا بِجَنَى عرفانه
أوقف النفس عليها لاهيًا
عن شباب لجَّ في إيهانه
وأجاج العلم عذب ونقا
خ يطيب الرشف من غدرانه

•••

ساهِرَ الليل ترفق ساعةً
بشباب شاب في ريعانه
واقتصد من ضوء عينيك ليو
م تغيب الشمس في خيلانه
منهل العلم بعيد شأوه
أيها الصادي إلى معنانه
دونه ألف سراب خادع
يرتمي الأغرار في أحضانه
وفيافٍ وحزون وعرة
كصلاد الصخر أو حزانه
وخشام قُدَّ من فحم اللظى
يهرأ الضبُّ على حمانه
يبلغ الجاهل منه قمةً
ويتوه الندب في قيعانه
وكذاك البحر يعلو زَبده
ويظل الموج في طوفانه

•••

كلَّما ازداد سقامًا وضنى
زاد إدمانًا على إدمانه
كصريع الخمر يشكو داءه
ويجيل الطرف في أدفانه

•••

وسرى الداء إليه زاحفًا
زحفة الأيم على كثبانه
ونجا أو كاد لولا هيضة
ضمها الغيب إلى كتمانه
وأغبَّتْه سباطٌ صالب
كسوافي القيظ أو نيرانه
نفض الطب يديه عاجزًا
واستعضنا اللهَ في فقدانه

•••

إنما المجد لأنضاء السُّرى
لا للاهي الليل أو وسنانه
ما لهذا الغرس لم يثمر جنًى
أغفا الزارع عن بستانه؟
لا وشعري ما سقاه جدول
بل سقاه القلب من نعمانه
مثل الدنيا كنادي ميسر
ما احتيال المرء في سهمانه
غضرب يَهلك جوعًا ظبيُه
يحبس الخير على جعلانه
منبر قال عليه باقل
وهو نزَّاع إلى سحبانه
أو رشوف جئت تجني شهدها
فسقاك الجمَّ من ذيقانه
أيها القبر سلامًا عاطرًا
وسقاك الغيث من فرتانه

•••

لو رأيت الشيخ يبكي بعضه
قائلًا والدمع في تهتانه
هذه الضحَّاء غابت مغربًا
وأوى البدر إلى ديرانه
ثم عاد الصبح والليل وعا
د كلا البرجين في إبانه
ولأنتَ الشمسُ والبدر معًا
لبصير كُفَّ في أحزانه
أو سمعت الأم تبكي بخنيـ
ـن خفيِّ الصوت أو مرنانه
لتشهَّيت فداه راضيًا
لو يُعيدُ الميت من جبَّانه

•••

يا «أبي» صبرًا جميلًا خاشعًا
ما توانى القلب عن سلوانه
كفكفي يا «أم» دمعًا قانيًا
كعقيق الدر أو مرجانه
فمقام المرء في الدنيا اغترا
ب وإن طال مدى إيطانه
إن يكن قد مات في شرخ الصبا
فهو أحظى برضا رحمانه
إن يوم المرء مثقال له
أو عليه جدَّ في ميزانه

•••

مرحبًا بالموت أنى جئتنا
في خريف العمر أو نيسانه
أنا لا أبكي على روض جنيـ
ـت قتاد الشوك من أغصانه
وبلوت النبت طبانًا فذقـ
ـت وزين الحَب من شريانه
ما سئمت العيش من لأوائه
وأنا الداخل في ليانه
بل شجاني ما شجا شيخَ المَعرَّ
ةِ فارتاح إلى سرحانه
ضلَّ في وادي ظنوني مرشدي
فرجوت الود من خوَّانه
لم أعد أدري أهذا ناصحي
أو عدوٌّ جاء في أردانه!
فكأيِّنْ من عزوف إمَّع
ختم القلب على أضغانه
مغرم بالعتب إن بِنتُ وكم
كنت أشتاق إلى لقيانه
آكلٌ لحمي إذا «غبت» فإن
«كنتُ» كنتُ مصطفى خلَّانه
وكأيٍّ من كنودٍ عقَّني
وجرعت المُهل من عدوانه
ما زرعت الخير إلا وحصد
تُ قتاد الشوك من قينانه
وحبيب راح يسقيني الهوى
كحميا الراح من ريانه
آثر الغدر فولَّى بعد ما
سمهج المقصود من أيمانه

•••

إنما يبكي على الدنيا فتًى
خيَّم الموت على وجدانه
أو غرير في مجانات الصبا
شَوِلٌ بَزَّ على أقرانه
نفخ الشيطان فيه فَعَلَتْ
كفة الآثام في ميزانه
مشفق من هول وعد صادق
يوم يدعوه إلى ديَّانه …
… نافخ الصور فينقاد وفي
لَهَفٍ يبحث عن شيطانه
يوم لا ينفع مال أو بنو
ن وفي القلب صفا أدرانه
يوم يندكُّ عسيب ويطيـ
ـر كطير العهن من صوانه …
… كل صلد أيِّد ما إن تزعـ
ـزع هوج الهيف من بنيانه
إن يكن قد طف كيلي وعلت
كفة الخسران من نقصانه
فعذيري وشفيعي نية
تغلب الثلج على ألوانه
وفؤاد لم يساوره هوًى
ثابت كالطود في إيمانه

•••

يا سمير الدود في وادي البِلى
وطليق الروح في رضوانه
كدت لولا حُرقةُ الموت أهنِّيـ
ـك بالموت على أشجانه
قم ترَ الحق هضيمًا مثلما
كان في الغابر من أزمانه
وَتَرَ البغي هِضَبًّا جامحًا
أرسل المشدود من أرسانه
وكسيلٍ مجلعبٍّ راعب
أهلك الوديان في طغيانه
قم فحدثنا عن الموت وعن
عالم الروح وعن سكانه
قم فعمِّرْ هذه النفس الخرا
ب وأَحْيِ القلبَ من غفلانه
واذكر الصِّيد الصناديد الأُلَى
نصروا الإسلام في حدثانه
شمرت عن ساقها الحرب فكا
نوا لظى الله على خصمانه
دوَّخوا الدنيا فكسرى شارد
ينعق البوم على إيوانه
وهرقل الروم ينعي ملكه
بين صرعى الحرب من أعوانه
قم فحدثنا حديثًا مستطا
بًا عن الخلد وعن ولدانه
وانثر السحر على أسماعنا
من جمان الثر أو عقيانه
إن وصفتَ الحورَ والعِينَ اللوا
تي وُعِدْناهنَّ من نسوانه
قم فأنشدنا نشيدًا عبقريًّا
يحار الفن في ألحانه
يُسمع الصم ويُزري سحره
بكران الكون أو عيدانه
يعجم الطير فلا يشدو هَزا
ر ولا عين على أفنانه
قم فحدثنا عن الطهر فعطـِّ
ـر نفوسًا من شذا ظيانه

•••

يا صبوح الوجه يا بدرًا صفا
بل طواه الغيم في أدجانه
يا نضير العود يا غصنًا ذوى
قبل أن نقطف من سوسانه
إنما الذكر حياة فلتعش
لَهَف الموت على أكفانه
صدق الودَّ وفيٌّ ذاكر
غلب الموتُ على سلطانه
ولئن جفَّت ينابيع الثرى
ثم غاض الماء في خلجانه
فذكيُّ الحزن يبقى بعده
يملأ الأرض شذا ريحانه

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤