تحية الوداع

ذهبت بعثة علمية إلى العراق من الجامعة المصرية، وليلة عودة البعثة أقيمت حفلة تكريمية للأستاذ عزيز فهمي الطالب بكلية الآداب وزميل له، فألقى هذه القصيدة.

نشرت في السياسة اليومية العراقية في ٢٩ رمضان سنة ١٣٤٩ﻫ الموافق ١٤ / ٢ / ٣١م، كما نشرت بصحيفة الجامعة المصرية في يونيو ٣١ بالعدد السادس من السنة الثانية.

***

دار السلام على رباك تحية
ما غرد العصفور فوق البان
إني ركبت إليك أخشن مركب
والصَّبُّ يشقى في الهوى ويعاني
حتى رأيت مع الأصيل سبائكًا
تجري فقلت: سبائك العقيان
لعب النسيم بها فرقَّصها كما
لعب المُدامُ بأغْيَدٍ سكران
لعب النعاس به فقام مثقَّلًا
لما تجاوب هاتف العيدان

•••

يا كعبة الماضي الجميل تحية
من حاضر متلهف ثكلان
إني رأيتك وادَّكرتُ عشيرتي
فنسيتها وذكرتها في آن
إني رأيتك فاستفاضت عبرتي
وشغلت عن يومي بأمس الداني
أين البهاليل الجحاجح من بني
عباس والملك اليتيم الشان؟
أم أين قصر الخلد هل باقٍ به
حَجَر فأسأله عن الإيوان؟
عبث الفناء به فصيره هشيـ
ـمًا تبتنيه كواسر العقبان
والملك أيام تجيء وتنقضي
كالحلم طاف بغافل وسنان
لو كان لي جَلَد على نظم القريـ
ـض لقلت فيك يتيمة الأزمان!

•••

بغداد قد عَنَتِ الوجوه كما عَنَا
وجه الزمان لمجدك الفينان
في دولة ما رامها أحد ولا
خطرت على كسرى أنوشروان
واليوم أنت كما ترين هضيمة
الذئب عاث وأنت في غَفَلان
هذي طلولك قد عَفَتْ آثارها
ماذا أقول وفي الفؤاد معاني؟
أبكي على طلل قديم دارس
يا بؤس مَن يبكي على أوثان!
قل للذي يبكي على رسم عفا
هلَّا ارعويت فقمت للعمران!
المجد يا هذا لأنضاء الثرى
لم يستبقْ مجدٌ إلى نومان
فيم النواح على محل دارس
والغرب مستبق إلى البنيان

•••

أأنوح مثل النائحين جهالة
لا بل أصيح بصوتيَ الرنان
هذي تباشير الصباح تعيد لي
أملًا طوته نوازل الحدثان
هذي تباشير النهوض جلية
كالشمس لا تحتاج للبرهان
بغداد إن يك بدد الدهر المنى
فلسوف يجمعها الزمان الجاني
إن الأمور رهينة بمعادها
ولسوف تنقع غلة الظمآن
جِدِّي إذا هزل الزمان وجددي
المجد للشعب المجدِّ الباني
المجد لن يسعى إليك مجرِّرًا
أذياله في حلبة ورهان

•••

إني أتيت وفي لساني عقدة
من سحر بابل فازدريت بياني
ماذا أقول وقد تغنى بلبل
هزج وأشجى ساجع الكروان؟
أيقول بعدك يا زهاوي شاعر؟!
هيهات إني قد عقلت لساني!
أَيْكٌ، جميلٌ والرُّصافي شاعرا
ه يضيق عن هَزَجي وعن ألحاني

•••

عبثًا أحاول أن أُبين خواطري
جهدي وفاء الْعُرف بالشكران
هذا مجال للقوافي واسع
مالي عييت وخانني شيطاني
إني إذا عُدَّ الكرام لذاكر
ولرب ذكرى قربت أشجاني
جئنا وقد خبَّ المطي بركبنا
ليلًا أميمًا موحش الأدجان
أهلًا لقيناكم فما حنَّت ركا
ئبنا على ضَجَرٍ إلى أوطان
إخواننا في سَكْرَة الماضي وها
أنتم ونحن على الأسى عونان
إنا لتجمعنا بكم أقوى العُرَى
والأمسُ أبقاها على الأزمان
ويزيدكم حبًّا إلينا أننا
في الجرح والآلام مشتركان

•••

إنا لنرحل والهوى تنتابه
في الذكريات لواذع التَّحنان
ويكاد من شوق إليكم يلتقي
لولا التخومُ النيلُ والنهران
بغداد إني قد رضيتك موطنًا
مصرٌ وأنت اليوم لي وطنان

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤