الفصل الأول

في يوم من أيام الربيع رقّت فيه أنفاس النسيم، وجمّلت أفقَه أضواءُ الأصيل، ظهرت قرطبة عروس المدائن وأم قرى الأندلس، وحولها البساتين والخمائل، تحيط بها أشعة الشمس الذهبية فتبدو كأنها صورة في إطار من ذهب، وقد انحدر تحت قدميها الوادي الكبير نقيًّا صافيًا كأنه خالص اللجين، وجرت به السفن ترفّ قلاعها البيض كما ترِفّ الحمائم رأت ماء وخضرة فحنّت إلى الورود. وانطلق الملاحون ينغّمون أهازيج لهم، فيها حب، وفيها أمل، وفيها مجد وبطولة، فسرت ألحانهم مع هبّات النسيم ناعمة مطربة، وتوثّبت كل موجة علها تقتنص منها لحنًا. وامتدّ فوق النهر الجسر العظيم الذي أمر ببنائه عمر بن عبد العزيز ضخمًا تياهًا يباهي بأقواسه السبع عشرة ما بناه الأولون، ويتحدّى أن يكون له مَثَل في الآخرين.

هذه قرطبة في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وفي حكم أبي الحزم ابن جَهْوَر، انطلقت قبابها في السماء شامخة معجبَة على الرغم مما لاقت من الويلات والفتن والحروب وضروب التخريب والتدمير.

هذه قرطبة التي كانت أيام الناصر لدين الله بهجة الدنيا وقبلة الأمم، وملتقى الشرق والغرب، وشعلة النور التي تعشو إلى ضيائها الأبصار، وتفد إليها طلاب العلم من أقاصي الأرض، لعلهم يأتون منها بقبَس أو يجدون على النار هدى، والتي لا تزال إلى اليوم تحتفظ بآثار مجدها القديم، وشرفها الصميم.

هذه قرطبة في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، تراها فترى صفحة عجزت الخطوب عن محو سطورها، ودوحة لم تعبَث الأعاصير إلا ببعض غصونها، وأملًا ضاحكًا لم تبكه غوابسُ الليالي، وصوتًا مجلجلًا لم تُخفته رعود الأحداث الجسام. إنها لا تزال تروعك بجمال باهر وقوة كامنة لم تزعزعها الدهارير! إنها الحسناء الفاتنة وخطها الشيب فأضاف إلى حسنها وقارًا، والحلية النادرة زادها قِدَم العهد ثمانة وغلاء. تزدان بالقصور السامقة، والمساجد الفسيحة، ومعاهد العلم الزاخرة بالطلاب، والأسواق العامرة والتجارات الرابحة، وحولها من الأرباض ما يجاوز العشرين عدًّا، بكل ربَض ما يقوم بأهله حتى لكأنه مدينة قائمة بذاتها. أما الحدائق والمروج التي تحيط بها فلن تجد لها فيما سجله التاريخ في ألواحه مثيلا. وكان القرطبيون يسمون هذه الحدائق بالمُنَى: فهناك مُنية الرصافة، ومنية الزُّبير، والمنية المصحفية، ومنية عَجَب. وكانت هذه المنى ملاعب لهو الأندلسيين ومسرح صباباتهم، فلقد كانت قرطبة مدينة العلم والزهد والتصوف، كما كانت مدينة اللهو والعبث والمجون. وكان لشبابها جولات أساموا فيها سرح اللهو. واستناموا إلى النعيم، وأطلقوا العنان للذات، حتى ليقول شاعرهم:

لا تنم واغتنم ملذَّةَ يومٍ
إنّ تحت التراب نومًا طويلا

ولقد لُدغوا مرات من جراء هذا العبث والتغالي في حبّ الحياة، فما أغنتهم النذُر، وما حاكت فيهم العبر والمثُلات، إلى أن جرّهم حبّ الحياة أو الموت الذي لا صحوة بعده!

كانت الشمس على وشْك الغروب، وكانت المدينة تتطلَّع لاستقبال الليل وما يحمله إليها من لهو ومرح وبهجة، حينما كان فتى يجلس في إحدى حُجُرات داره، وفي يده قلم يخطُّ به كلمات يُثبتها حينًا، ويشطب فوقها حينًا، ثم يقف مفكرًا حينًا، وعيناه ذاهلتان في السقف وفي أرجاء الحجرة، كأنه يتلقف الخيال الطائر، أو يستهوي الوحي الحائر، أو يخشى أن ينزلق قلمه بكلمة تأباها الحيْطة، ولا يرضاها الحذر. ذلك الفتى هو أحمد أبو الوليد بن زيدون أديب الأندلس وشاعرها، وهو شاب مؤتَلِقُ الشباب، ناضر العود، معتدل القامة، وسيم الوجه، عربي الملامح والشمائل. حاجبان إذا اقتربا عرفت فيهما التصميم والعناد وقوة الشكيمة، وعينان فيهما ذهول الشاعريَّة وبعد مدَى الخيال، وأنف أشمُّ يدلّ على الكبرياء والثقة بالنفس، وفم مُفوّه خُلق ليكون خطيبًا!

وابن زيدون من بيت علم وأدب وثراء ونعمة، كان أبوه من كبار قضاة قرطبة، رفيع المنزلة عزيز الجانب، فنشأ الفتى كما ينشأ أبناء المترفين ناعم العيش مدلَّلا، يتقلب في جنبات النعيم، ولكن ميوله الفطرية، ومواهبه الموروثة، كانت تختطف من فراغه ساعات لدراسة الأدب وفنون اللغة، فاطَّلع على مكنونها، وظفَر بذخائرها، وخرج منها وافر النصيب ضليعًا متمكنًا. والعبقرية تكفيها النظرة، وتُجزئها الإلمامة لتحصل في قليل على ما تنفق فيه الأعمار، وتشيب دون نيله النواصي.

كان ابن زيدون ينظم أبياتًا يجيب بها عائشة بنت غالب التي دعته إلى ندوتها مع ثُلَّة من الشعراء والأدباء، وكان كثير التحزّر، يُثبت ويمحو، ويختار كلّ لفظ قبل أن يُجري به قلمه، فكتب بعد تردد:

أجلْ عينيكَ في أسطار كُتْبي
تجد دمعي مِزاجًا للمداد
وبينما كان يهم بكتابة البيت الثاني، إذ دخل خادمه عليّ الباجي يؤذنه بقدوم أبي مروان بن حيان مع شاب في زِيّ المشارقة. وكان ابن حيان مؤرخ الأندلس شيخًا باقعة١ عنيف النقد سليط اللسان، لا يكاد يترك أديمًا صحيحًا، فلم يسلم أحد ترجم له في تاريخه من غمزة تقضي على محاسنه، وتذهب بمآثره، لا يستثني من ذلك ملكًا جبارًا، ولا ثريًّا عريض الجاه، ولا عالمًا بعيد الشهرة، فهابه العظماء، وخافه الأمراء، وتقرّب إليه بالوُد الشعراء والأدباء. وكان يحمل في كمِّه كراسة لا تفارقه في ليله ونهاره، وكلما شاهد حادثة، أو نما إليه خبر، أو وقعت واقعة أسرع فدوّن فيها ما رأى أو سمع مصحوبًا برأيه وما توحي به إليه نفسه.

كان صديقًا لابن زيدون حميما، ولكنه كان شديد النقد له، قاسيًا في نصحه، حريصًا على أن يجنبه مزالق الشباب.

دخل ابن حيان على ابن زيدون فلما رأى حوله الأوراق والدواة صاح في دُعابة قاسية: وهكذا يا أبا الوليد لا تفتأ بين أوراق وأقلام! وأشهد أنك لا تخط فيها إلا ما يُمليه الفراغ والشباب. ويلي من أدباء قرطبة ويلي! كأن الشيطان اشترى أقلامهم فما تكتب إلا عبثًا ومجونًا! فاتجه ابن زيدون إلى الشاب المشرقي وقال في مزح يشبه الجدّ: ألا تعجب لهذا الشيخ الذي يقتحم داري، ويتجافى عن تحيتي، ثم يبدأني بالسخرية والتقريع؟

والتفت إلى ابن حيان فقال: اجلس يا أخي واهدأ فقد كاد يذهب بأنفاسك طول الطريق، ثم عرّفني بهذا السيد حتى أقوم له بحق الكرامة. فقهقه ابن حيان وقال: على أن نعرف ما كنت تكتب!

– قبلت شريطتك.

– هذا يا أخي أبو الفضل محمد الدارميّ، قدم إلينا من بغداد تحفِزه رغبة بعيدة المنال، ويحدوه أمل في جمع كلمة العرب بعد أن فرّقتهم النوازل والأضغان. فتهلّل وجه ابن زيدون وصاح: هذه أمنيتي يا سيدي! فإني أعتقد أن العرب لن تعود إليهم قوّتهم إلا إذا اتحدت رايتهم، واتفقت كلمتهم، وكانوا بنيانًا مرصوصًا لا مطمع فيه لعدو. فزفر ابن حيان ثم قال: وأين الثريا من يد المتناول؟

فأسرع ابن زيدون يقول: لا تيأس يا شيخ من رَوْح الله!

وهنا قال الدارمي: لقد تنقّلت في إفريقية، وحادثت أمراءها، ثم بلغت الأندلس منذ عام، وقابلت ابن عباد صاحب إشبيلية، وابن ذو النون أمير طُلَيْطلة، وابن صمادح زعيم بَطَلْيَوْس ورأيت منهم ميلا إلى لمّ الشمل وجمع الكلمة.

فهز ابن حيان رأسه في تهكم وسخرية وقال: بشرط أن يكون كل أمير منهم هو الرئيس الأكبر!

فعجل ابن زيدون وقال: اتق الله يا حُطَيْئة التاريخ!

– لو وجدت خيرًا ما كتمته.

– إن لك عينًا لا ترى إلا الشر.

– لا والله! ولكني لا أكتم الحق ولو طاح فيه رأسي.

– ما رأيك في ابن جهور عميد الجماعة؟ قل وكن شجاعًا.

فتردد أبو مروان قليلا ثم قال: إني أقولها في وجهه يا فتى، ولو كنت أهاب السيف ما حملتْ كفي قلمًا. إن ابن جهور خير من ساس هذه الدولة بعد أن تمزّقت أوصالها، ورثّت حبالها، وهو من أشد الناس تواضعًا وعفة، وأشبههم ظاهرًا بباطن، وأولًا بآخر، لولا أنه يحوط ماله بالبخل الشديد، ويُغلق باب خزائنه في وجوه السائلين.

فقهقه ابن زيدون وقال: لم يسلم الرجل من لدغة الثعبان!

وعجِل أبو مروان يقول: أيُّ ثعبان يا فتى؟ لقد أطريتُ الرجل، وكفى المرء نبلًا أن تَعدّ معايبه.

فزفر الدارمي في أسف قائلًا: لقد زرته فرأيته على سجاحة٢ خلقه وحرصه على سلامة رعيته، شديد العداء لمن جاوره من الأمراء، كثير الزراية بهم. وهذا هو الداء العُقام الذي أصاب هذه الأمة فهدّ أركانها، وزعزع بنيانها، ولن يعود للعرب مجدهم إلاّ إذا عادت لهم أخلاقهم الأولى، وكانوا — كما جاء في الأثر الشريف — في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. فهزّ ابن حيان رأسه وقال:

– ما رأيت دستورًا للمسلمين أجمع ولا أوجز من قول النبي الكريم: المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.

إن التحاسد والتنافس والاعتصام بالأجنبي والتكالب على الحكم والغلَب، كل أولئك كان شرّه مستطيرًا.

فقال الدارمي: عندنا في المشرق استعان المعتصم بالأتراك، ومكَّنهم من رقاب العرب، فكانوا حربًا عليه وعلى خلفائه من بعده، وأصبحت الخلافة في أيديهم لُعبة لاعب، يولّون من يشاءون، ويعزلون من يشاءون، فقاطعه ابن حيان قائلًا: أمَّا في الأندلس فالمصيبة أشدُّ وأنكى، فإن الدولة منذ سنة أربعمائة — وهي سنة الفتنة الكبرى — تتقاسمها ذئاب ضارية: من مضرية ويمنية وصقالبة وبربر وإفرنجة، فما كادت تنتهي الدولة العامرية حتى نعبت غِربان الشرّ من كل جانب، وعاثت شياطين الدمار، واندلعت نيران الفتنة فلم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. ويبدأ عهد الخذلان — والعياذ بالله — من ولاية سليمان بن الحكم الذي لقَّبوه بالمستعين بالله، وكانت أيامه شدادًا نكِدات، صعابًا مشئومات، كريهات المبدأ والفاتحة، قبيحة المنتهى والخاتمة. دولة كفاها ذمًّا أن أنشأها «شانجة» ومزقتها الإفرنجة!

وكان من نحس رأيه، واختبال عقله، أن اختار عليّ بن حمَّود ليكون أكبر قواده، وأقوى مناصريه. اختار بازيًا فاصطاده، وسيفًا فحزّ أوداجه. وإذا أراد الله شيئًا أمضاه!

ثم اتجه إلى ابن زيدون وقال في تهكم: لقد كان شاعرًا مثلك يا أبا الوليد، فاحذر فإن الشعر كثيرًا ما يكون شؤمًا على قائليه، وإني أستطيع أن أعُدّ لك مئات ممن قتلتهم أشعارهم.

فقال الدارمي: لست أحفظ له إلا قوله:

عجبًا يهاب الليث حدَّ سناني
وأهابُ لحظَ فواتر الأجفان!
وتملَّكت نفسي ثلاث كالدُّمى
زُهْرُ الوجوه نواعم الأبدان
هذي الهلال، وتلك بنت المشترى
حسنًا، وهذي أختُ غصن البان

فقال ابن حيان: يزعمون أنه يعارض بهذه الأبيات أبياتًا للرشيد يقول فيها:

ملك الثلاث الآنسات عناني
وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها
وأطيعهن وهنّ في عصياني
ما ذاك إلاّ أن سلطان الهوى
وبه قَوِين، أعز من سلطاني

فقال ابن زيدون: هذا من وضع الرواة فإن الرشيد لم يكن شاعرًا.

فوافق أبو مروان بإشارة برأسه، واتجه إليه الدارمي سائلًا: وماذا جرى على قرطبة بعد قتل المستعين؟

– تولى الحكم أبناءُ حمَّود سبع سنين فكانت كسني يوسف. ثم تولى المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام، ولم يبق في الملك إلا سبعة وأربعين يومًا لم تنتشر له فيها طاعة، ولا التأمت جماعة.

وهنا أسرع ابن زيدون وقال: هذا كان شاعرًا بحق يا أبا مروان.

– ما لنا وللشعر يا فتى، إننا أحوج إلى العقل والسياسة منا إلى خيال رائع أو تشبيه نادر، لقد كان ابن المعتز في المشرق أبدع شاعر منذ أن تنفس الشعر بقافية. فهل أغنى عنه شعره شيئًا؟

فانبرى الدارمي يقول: ولقد وصلتْ إلينا ببغداد قصيدة للمستظهر بالله من أرقّ الشعر وأروعه، قالها بعد أن خطب ابنة عمه فلوته أمَّها وحجبتها عنه، يقول فيها:

وجالبة عذرًا لتصرف رغبتي
وتأبى المعالي أن تُجيزَ لها عذرا
يُكلفها الأهلون ردى جهاله
وهل حَسنٌ بالشمس أن تمنع البدرا؟
وماذا على أم الحبيبة إذا رأت
جلالة قدري، أن أكون لها صهرا؟
جعلت لها شرطًا عليَّ تعبُّدي
وسقت إليها في الهوى مهجتي مهرا
تعلَّقتُها من عبد شمس غريرة
مُحدرة من صيد آبائها عرّا
حمامةُ عش العبَشميين رفرفت
فطرتُ إليها من سَراتهم صقرا
وأني لأوْلى الناس من قومها بها
وأنْبهُم ذكرًا وأرفعُهم قدرا
جمالٌ وآداب وخلق موطأ
ولفظ إذا ما شئتَ أسمعك السحرا

فقال ابن زيدون: هذا هو الشعر! وددت الله لو كان لي بعضه بنصف شعري!

فقال أبو مروان: النصف الرديء أم النصف الجيد؟

– ليس في شعري رديء يا علقمة بن مرة، وخير لك أن تأخذ في تاريخك الأسود الذي لا تتقن سواه.

فقهقه ابن حيان وقال: هؤلاء هم غلمان بني أمية الأغرار الذين كنت تخطب الناس في ميدان الجامع الكبير داعيًا إليهم، معدِّدًا مناقبهم، وكثيرًا ما ضحكت منك في كمّي، وأنت تبكي أو تتباكى على مجدهم التليد، وشرفهم العريق. وإني أشهد، والله يشهد أنك لا تبتغي من وراء ذلك إلا منصبًا وجاهًا.

فقال ابن زيدون غاضبًا: كنت أدعو لابن المرتَضَى الأموي.

– أعرف، وأعرف أنه فرّ من قرطبة قبل أن تتم له دعوة، وأنك لم تنل شيئًا إلا أن ملأت الصدور عليك حقدًا.

ثم طفق يقول: لا تغضب يا أخي، فإني أكنّ لك من الحب وصادق الوُد ما أنت به عليم، ولكن ماذا أصنع وقد خلقني الله جافًّا شائكًا لا أضع فوق الحق ستارًا من الباطل.

فقال الدارمي: وهذا خير ما فيك يا أبا مروان. وكيف استقر الأمر بقرطبة بعد قتل المستظهر؟

– لم يستقر لها أمر، جاء المستكفي بالله ولم يكن من الحكم في وِرْد ولا صَدر، وإنما أرسله الله على قرطبة محنة وبليَّة، وفي أيامه هدم البربر بقية قصور جدّه الناصر، فطُوِي بخرابها بساط الدنيا، وذهبت بهجة الأيام، والله يسلط جنوده على من يشاء، له العزة والجبروت! ولما اشتد الكرب بالقرطبيين فرّ المستكفي، وانتهت الرياسة بعد حين إلى أبي الحزم ابن جهور عميد الجماعة.

فقال الدارمي: المستكفي هذا أبو ولادة الأديبة الشاعرة؟

– نعم. وهي والحمد لله لم تُرزَأ بصفة من صفات أبيها. ثم التفت إلى ابن زيدون سائلا: أتحضُر ندوتها يا أبا الوليد؟

فمدّ ابن زيدون شفته السفلى في أسفٍ وقال: أنَّى لمثلي أن ينال هذا الشرف؟ إن ندوتها يا سيدي لا تُفتح أبوابها لمثلي. أتعرف يا أبا مروان أنني لا أزال كاتبًا في الديوان صغير المنزلة أنظر في شئون أهل الذمة؟!

– كيف يا ابن أخي؟ لقد كنت عند ابن جهور منذ أيام، وجاء ذكرك في المجلس، فأثنى عليك وأشاد بذكائك وعبقريتك.

– ولكنه أمامي يا سيدي باب مبهم، ولغز مغلق، أنظر في وجهه فأرى صفحة خلت من لمحات العواطف، فأنت لا تعرف أراض هو أم ساخط؟ أمستحسن هو أم مستقبح؟ قدّمت إليه بالأمس رسالة أراد أن يبعث بها إلى أمير بطليوس، وبذلت في كتابتها جهدًا، وبلغت قمَّة لم يصل إليها كاتب، فلما عرضتها عليه وقرأها، لم يزد على أن قال: لقد أطنبت يا فتى! ثم انصرف عني يخاطب الوزير محمد بن عباس، كأن إنسانًا من بني آدم لم يكن له وجود بحجرته!

– إن الرجل يخافك يا أبا الوليد.

– يخافني؟!

– نعم فلقد لمحت ذلك من حديثي معه حين شبهك بأبي الطيب المتنبي، والرجل داهية بعيد الغور، فإنه لم يشبهك بهذا الشاعر بعينه إلا لما وصل إلى علمه من طموحك وبعد غايتك، فاحذر يا أبا الوليد وتجنب مواطن الشبهات، واحبس لسانك ما استطعت.

فصاح ابن زيدون فيما يشبه الغضب: يجب أن يكون لمثلي آمال ومطامح، وإلا فلمن خُلقت خطيرات الأمور؟

– مرحَى مرحَى؛ إني لأجد ريح الشرّ والفتنة.

– لا شرّ ولا فتنة يا أبا مروان، ولكن لا بد للمصدور أن ينفُث،٣ وللأسير أن يتمرد على القيد.

– لا تعجل أبا الوليد فالأمور مرهونة بأوقاتها، ولا بد بعد الليلة الليلاء من فجر باسمٍ. كيف حالك مع الوزير ابن عبدوس!

– إنه صديق مُداج وعدوّ محاذر.

– حقًّا لقد جمعته في كلمة. وهنا تهيأ الدارمي للقيام فصاح به ابن حيَّان: يجب أن نعرف قبل أن نقوم من مقامنا ماذا كان يكتب هذا الفتى العربيد.

فقال ابن زيدون: كنت أكتب أبياتًا لعائشة بنت غالب وقد جئتما قبل أن أتمَّها، وربما مزقتها وعدلت عن إرسالها.

فأمال ابن حيَّان رأسه إلى الخلف، ورفع حاجبيه في سهوم وقال: عائشة بنت غالب؟! إنها فتاة مهذبة، يحضُر ندوتها كبراء المدينة وأدباؤها، ولكنها شؤم على الرجال، فاحذر من براثنها يا أخي، فإنها إذا نَشِبَتْ قتلت. ثم إن بعض قالة السوء يهمسون بأنها جاسوسة لابن الأذفونش، ولكني لا أثق بكل ما يقال، لأن الكلام صدًى لما في النفوس من حب وبغض. ثم مدّ يده إلى ابن زيدون وهو يقول: عم مساء يا صريع الغواني، وابتعد ما استطعت عن شباكهن، وكن كما تقول:

وإني لتنهاني نُهاي عن التي
أشاد بها الواشي، ويعقلني عقلي
١  ذكيًا.
٢  سهولة وليونة.
٣  يرمي بنفاثه وهي ما يلقيه المصدور من فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤