الفصل العاشر

بلغت عائشة مدينة «بَرْغَش» بقشتالة بعد جهد وعناء وأيْن، بلغتها يائسة محطَّمة، غليلة الجسم والنفس: ذهبت أموالها، وانتزعت من عزّها وجاهها كما يُنتزع الظفر من اللحم، وفتحت عينيها فرأت كلّ نعمة تنحل عنها كما تنحل ثلوج جبال نيفادا إذا لفحتها شمس الصيف، وشاهدت كلّ أمل ينفر من حولها كما تنفر الطير وقد ألقيت بينها بحجر.

كانت الطريق وعرة، والبرد شديدًا، والسير حَقْحقة،١ والجنود جفاة، فمن أين لعائشة أن تحتمل إحدى هذه الكوارث، وقد نشأت في مهد الترف، ودرجت في باحة النعيم، وعاشت في ظل ظليل من الغنى ورفاغة العيش؟ لقد كانت تستخشن الحرير، ويؤلمها الفراش الوثير، وتجرح خدّيها خطرات النسيم، فكيف هي الآن وفراشها الجندل،٢ وطعامها الحنظل، والعواصف الثلجية تتناوح فوق رأسها في الليل والنهار؟ كيف تستطيع هذه الفتاة المترفة الناعمة أن تثبت لهذه النوازل، أو تصبر على هذه المكارة؟ إنها كلما رأت السهول والسهوب والأكام والصخور، ورأت جسمها يهبط ويرتفع فوق سرج بغلتها كأنه شُكَيَّةُ لبن يمخضه ماخض، تذكرت ما حدثتها به أمها حينما خرجت مع جدها وجدّتها من شنت ياقب فرارًا من وجه المنصور أبي عامر وما لاقى الركب البائس يوم ذاك من كوارث وويلات.

كانت تفكر في ماضيها وحاضرها، أمّا الماضي فكان يبكيها، وأمَّا الحاضر فكان سوادًا بهيمًا ليس فيه بصيص من ضياء. كانت تفكر في ابن زيدون وكيف انتقمت لنفسها منه، وكانت تفكر في نائلة وكيف تستطيع أن تنتقم لنفسها منها على بعد الشقة، وتنائي الديار. إنها صديقة ابن زيدون التي سرقت رسائله من دارها، فلما حبس لم تجد إلا أن تصبّ الشبهة عليها، وأن تثأر منها، فاتخذت من هذا الأسباني المفلوك الأبله شِصًّا لاصطيادها. ثم ما هذا الصنم الأجوف الذي يسمونه بابن جهور؟ إنه لم يستجب لبكائي، ولم تهزه عاطفة لأنوثتي. ويل لي! وويل من بلاهتي! فلكم أوصتني أمي بأن أحذر، وأن أقدر لرجلي قبل كل خطوة موضعها، وهكذا فعلت، ولكني ألم أحسب حسابًا لمن يقرءون ما في الصدور. لقد عرف الأشقياء أنني حليفة الأسبان عدوة العرب! وماذا أفعل في ضِغْن ورثته من أهلي وبغض امتصصته من ثدي أمي؟ إنني أسبانية الدم والأرومة، وإن للوراثة سلطانًا يسخر من وسائل التهذيب، ويهرأ بالبيئة وما يزعمون لها من سيطرة في تنشئة الأخلاق. إن للوراثة ينبوعًا لا بد أن ينبثق وإن غطَّته طبقات السنين وحجبه تعاقب الأجيال. لقد كان جدي يبغض العرب وإن أخفى بغضه تحت ستار من المكر والدهاء، وقد يكون من سُلالة ذاقت ويلات الذل من حاكم عربي عنيف، ملأ صدورها حقدًا، فتسربت من هذا الحقد رواسب إلى أعقابها. ولكني لن أطيق الحياة بين أهل الشمال، إن هؤلاء العرب يعرفون كيف يعيشون وكيف ينعَمون بملاذ العيش ومتعه، أما أولئك فغلاظ جفاة أميُّون، لم تهذبهم حضارة ولم يصقلهم أدب ولا تأديب. كيف أعيش بين هؤلاء بعد زهو قرطبة، وتلألؤ ندواتها، ورنين ضحكاتها، وقهقهة كاساتها وتغريد عيدانها، وازدحامها برجال الشعر والأدب والفنون؟ لقد خلَّفت ورائي مدينة صبغ السرور ليلها صباحا، وجعل أيامها السعيدة أفراحًا، مدينة لا تنام إذا نامت الكواكب، ولا يكدر صفو شرابها ذكر العواقب. مدينة كأنها قطعة من الفردوس، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. ثم تنهدت وانهمرت الدموع من عينيها، ولكنها أماطتها عن خديها في كبر وغضب وهي تقول: إن ابنة جارسيا لا تبكي للخطوب!

نزلت عائشة «برغش» وقد أرخى الليل سدوله، وشمل المدينة برد قارس عضوض، كادت تجمُد له أنات البائسين. وكانت برغش فوق شرف عال بعثرت فوقه الأكواخ في أزقَّة ملتوية، تكدست بها الأقذار والأوحال، وأرسل كل كوخ من خَصاصه٣ ضوءًا خافتًا مضطربًا، كأنه فُواق المحتضَر. ولم يرتفع بين أبنية المدينة إلا بناءان: أحدهما في الوسط، وهو قصر ملك قشتالة، وحوله منازل الجند ورجال الدولة، والثاني دير سنت بدو للراهبات.

وقفت عائشة حزينة باكية في هذا الظلام الدامس، حيرى لا تدري أين تقضي ليلتها. إنها لا تستطيع أن تزور الملك في قصره بعد أن مضى الهزيع الأول من الليل، ولا تستطيع أن تنزل في خان، لأن بؤسها ورثاثة أثمالها يغلقان في وجهها كل باب. وبعد تفكير مضطرب رأت أن تقصد إلى الدير، وكان منها على كثب، فطرقت بابه وجلة مترددة، وفتحت لها راهبة عجوز عابسة الوجه ساخطة على الحياة، متمردة على التبتل، فلقد ظنت في ضحا شبابها أن في البعد عن الناس سلامة وطهرًا، ولكنها رأت في أصيل العمر أن الحياة لا تكون إلا بين الناس، وأن الطهر وعلاج النفوس لا يكونان إلا حيث تكون الفتن ونَزَغات الشياطين تجهمت الراهبة «شيمانة» لعائشة وقالت في صوت خشن أجش: ضحية جديدة للشيطان؟

فأجابت عائشة بصوت متردد حزين: لا يا أختي، إنها فتاة بائسة لا تجد في هذه الليلة القاسية مأوى ولا طعامًا. وهي لا تريد إلا كِنًّا وحسوة من حَساء، وستغادر الدير في أول شعاع للصباح، فهل تجد فيه ما يمسك به رمقها؟

– أما المأوى فهيّن ميسور، وأما الطعام فلن تجدي منه الليلة إلا لقيمات. ادخلي.

ودخلت عائشة، وقضت ليلتها نهبًا للأحزان والبرد والجوع، حتى إذا صاحت الديكة التفَّت بإزارها وودّعت صاحبة الدير وخرجت قاصدة قصر الملك. فلما اقتربت منه أسرع خدم القصر يذودونها عنه، لولا أن همست في أذن كبيرهم بأنها تحمل إلى الملك رسالة من قرطبة، وما كان إلا ذهاب وجيئة، وانتظار وترقب حتى كانت في حضرة ملك الإفرنجة، فرأت فيه رجلا كهلا أسمر اللون ضخم الجثة، أميل إلى الطول، جالسًا على وسادة عالية، مكشوف الرأس أصلع، لم يغلب عليه الشيب بعد، وكان عليه ثياب من ثياب المسلمين. تقدّمت منه عائشة فقبَّلت يده، ثم غلبها البكاء أو اصطنعته وصاحت: انتقم لي يا سيدي من ابن جهور ومن جماعة المسلمين، فابتسم الملك وكان داهية في الرجال، وقال وهو لا يحوّل عنها نظراته النافذة المخيفة: خففي عن نفسك يا فتاة، وانفضي إليّ جليَّة الخبر. ثم من أنت أولًا فإني لا أحب أن أخاطب مجهولا؟

– أنا يا سيدي عائشة بنت غالب، فشُدِه الملك واتسعت حدقتاه وصاح: صديقتنا عائشة العاملة المخلصة لنصرة الأسبان؟! فكشفت عائشة عن كتفها اليسرى لتظهر أثر الوسم بالنار وقالت: وهذا يا سيدي عاقبة إخلاصي في خدمتك، وبلائي في نصرتك.

فوقف الملك بعد أن كان جالسًا وقال في غضب مضطرم: من فعل هذا؟

– ابن جهور بعد أن صادرأموالي، وطردني من قرطبة بلد آبائي. فأطرق برأسه كالمفكر وقال: هل أصابك كل هذا لأجلي؟

– لأجلك يا مولاي، ولأجل الغاية التي نسعى إليها معًا.

– ومن الذي وشى بك؟

– امرأة تنازعني في رجل.

– آه. كان عليك يا فتاتي أن تعرفي أن الجاسوس لا قلب له، وأنه إذا أحبّ فسد عليه كل أمره، ولكنا نتعلم من هفواتنا. والآن لا عتب عليك ولا تثريب، فالأيام كفيلة بأن ننتقم لك، والضعيف الذي يدرُج إلى القوة أقوى من القوى الذي يتدلى إلى الضعف. لقد تغلَّب علينا العرب بقوة كانت فوق قوتنا، وإيمان كان أعظم من إيماننا، ومدنية لم يكن لنا منها قليل أو كثير، ولكن جذوة خامدة بقيت في صدورنا، فطفقنا ننفخ فيها حتى تقطَّعت أنفاسنا، غير أنها تأججت في النهاية وأصبحت نارًا صاخبة اللهب فوّارة السعير، يخافها العرب، ويُصم آذانهم حسيسها. ولن ننام عن ثأرنا يا بنية، ولكن الأمور تعالج بالصبر والدهاء، حتى يُسكت قرع النواقيس أصوات الأذان. أتدرين ما كان من أول أمرنا يا فتاة؟ كان بجليقة قَس قوي الشكيمة شديد المراس، يسمى «بلاي» رأى قومه وهم يفرون أمام الفاتحين، فامتلأ قلبه غيظًا، وصاح بينهم يذكي عزائمهم، ويثير هممهم لطلب الثأر، والاستماتة في الذود عن بلادهم، ولكن سيل العرب كان جارفًا، فتحصن مع نفر من قومه في قُنَّة صخرة، فمات أكثرهم جوعًا، ولم يبق منهم إلا ثلاثون رجلا وعشر نسوة، ولم يكن لهم من طعام إلا ما يشتارونه من عسل النحل. وبقي هؤلاء الأبطال ممتنعين بالصخرة، وقد أعيا العرب أمرهم حتى يئسوا في النهاية من الوصول إليهم، وقالوا: ثلاثون رجلا ما عسى أن يجيء منهم؟ ولكن هؤلاء الثلاثين ما زالوا يتكاثرون ويقوون ويغيرون على أطراف ممالك العرب، حتى أصبحوا الآن كما ترين، وأصبحت دولتهم عزيزة الجانب، يهابها الملوك ويتقرّب إليها الأمراء. صبرًا يا بنيتي، فإن الخمر والنساء والتبذل في الشهوات وتفرّق الكلمة، كفيلة بأن تذهب بشوكتهم. ربما لا ندرك هذا في أيامنا، ولكن من تحقق من وقوع الشيء فقد رآه.

وهنا قالت عائشة: والآن يا سيدي ألا تريد أن تثأر لي منهم؟

– لا يا عائشة.

– يجمل بسيدي أن يدعوني «روزالي» فقد ألقيت باسم عائشة من ورائي منذ غادرت قرطبة.

– روزالي؟ أصبح اسمك الآن روزالي؟

– نعم يا سيدي.

– حسن، اطمئني يا روزالي، أقيمي بيننا الآن حتى تسكت العاطفة، وسآمر لك بدار تنزلين بها، وأجري عليك من المال ما يكفل لك حياة رغدة.

وأقامت عائشة أو روزالي ببرغش شهورًا في سعة من العيش والجاه، وتوثقت صلتها بالملك، وظفرت منه بالرعاية والثقة. وفي صبيحة يوم دخلت عليه فصاح بها قبل أن تجاوز باب البهو: كنت سأبعث في طلبك يا روزالي. أقبلي بعد أن تغلقي الباب، فإن حديثنا يجب ألا يطرق أذن ثالث.

فسعت إليه بخطوات خافتة كأنها تخشى أن يكون في صوت أقدامها إذاعة لهذا السر الخطير وقالت في همس: أجدّ جديد يا سيدي؟

– لا يا روزالي ولكن رسولا طرق القصر عند منتصف الليل قادمًا من قرطبة.

– أثار القرطبيون على ابن جهور؟

– لا، فإن ابن جهور أدهى من أن يدع الزمام يُفلت من يديه، وهو يعرف متى يرخيه، ومتى يجذبه، ولكن الرجل تدب إليه الآن شيخوخة تسرع به إلى القبر، وما أظن أن الأمر يستقيم لأولاده من بعده. ثم زفر وقال: ولكننا نسبق الأيام، ولن يتم أمرنا بهذه العجلة، ومن يسبق إلى الطعام في قدرة تحترق يداه. جاء الرسول بالأمس من قبل راميرز بن بترو.

– صاحب أكبر حانة بقرطبة.

– نعم، وهو زعيم جواسيسنا هناك بعد أن مات أبوه.

– إنه يعيش مع العرب كأنه واحد منهم، ويلتهب غيرة على الإسلام وتعصبًا للمسلمين.

– وهذا سرّ نجاحه يا بُنيَّة.

– ما يحمل الرسول يا سيدي من أخبار؟

يقول إن ابن عباد بإشبيلية، يفكر في الإغارة على قرطبة واستخلاصها من يد ابن جهور، وأنه بعث إلى راميرز رسولا يرجو ويلح عليه في أن يحملني على محالفته ومعاونته بجنودي، لقاء إتاوة دائمة يبعث إليّ بها في كل عام.

– وماذا يرى سيدي؟

– أرى أن ابن عباد أسد رابض، وأن ابن جهور ثعلب ماكر، وأننا لو أعنَّا ابن عباد لم يكتف بقرطبة، وسمت نفسه الطموح إلى جمع الولايات العربية تحت رايته، وبذلك يضطرب الميزان، وينهار كل ما بنيناه. أمَّا ابن جهور فرجل حذر شديد المراس حوّل قلب، يأخذ ولا يعطي، ويتقبل العون على ألاّ يدفع له ثمنًا.

– حقًّا إن الأمر لمعضل.

– لا يا روزالي إن كل معضل يهون بالتفكير والصبر وحسن التأني.

– وهل فكرت في الأمر يا مولاي؟

– فكرت فيه طويلا، ذلك أن ابن المرتضى الأموي الذي نفاه ابن جهور إلى شرقي الأندلس منذ شهور، عاد ثانية إلى قرطبة مختفيًا، وأنصاره يبثّون له الدعوة في الخفاء، والقرطبيون يتلهفون شوقًا إلى عهود الخلافة الأموية. فوثبت عائشة قائلة: أتريد يا سيدي أن تجلسه على عرش قرطبة؟

– ولم لا؟ إنه رجل هادئ النفس لين القيادة، فإذا ناصرناه كان حليفًا لنا، ويدًا على أعدائنا.

– وماذا تريد مني أن أفعل؟

– الحق أني لم أرد أن أزعجك، ولكني رأيت أن راميرز لا يستطيع أن يقوم بما أريد.

– أتريدني على أن أعود إلى قرطبة؟ إنني لو عدت يا مولاي لقطعوني إرْبًا إرْبًا.

– لا، أنت تحسنين التنكر، وستقيمين بدار راميرز ثم مدّ يده إلى خزانة بجانبه، وأخرج منها رسالة، وأخذ يتابع حديثه ويقول: الذي أريده أن تذهبي بهذه الرسالة إلى ابن المرتضى، وهو مختف في دار بأحد أرباض قرطبة يدعى «بربض البرج» وراميرز يعرف مكان الدار، وأترك لك يا روزالي اجتذابه، فإن لحديثك سحرًا لا تنفع فيه الرقى.

فكتمت عائشة ابتسامة وقالت: وماذا كتبت له في الرسالة يا سيدي، إذا ساغ لي أن أسأل؟

– ذكَّرته بمجد آبائه، وأوغرت صدره على ابن جهور، وعرضت عليه معونتي، وأني لا أطلب من ورائها إلا نُصرة الحق على الظلم الصراح، ولكني اشترطت قبل أن أبعث جيوشي لنصرته، أن يرسل إلي رسالة يطلب مني فيها المعونة.

– إنها صك الاستعباد يكتبه بيده!

– لقد فهمت يا روزالي، لو كان لبعض رجالي بعض ذكائك لنمت هادئ البال. ثم وقف مادًّا يده بالرسالة إليها وقال: اذهبي الآن فقد أمرت بأن يعد كل شيء لسفرك، ولن أوصيك بشدة الحذر، فقبَّلت يديه وانصرفت.

كانت عائشة قد ألفت حياة الترف والنعيم ببرغش، واستمرأت ما غمرها به ملك الإفرنجة من صنوف البّر، وما أحاطها به من العطف، حتى أصبحت بالمكان المرموق والخطر المرموق، وحتى بلغت في الدولة من الجاه والكلمة المطاعة والدالَّة على الرؤساء ما تتوق إليه نفس كل متوثب طموح. نسيت عائشة في ظل هذا النعيم ما لاقت في ماضيها القريب من ذل ومهانة ونفي وتشريد. نسيت خروجها من قرطبة وحيدة منبوذة تعصف بها الرياح، وتتقاذف بها الطرق في قسوة وجفاء كأنها لعنة من السماء. نسيت ليلة الدير الذي بني للرحمة وأقيم للإحسان فلم تجد فيه رحمة ولا إحسانًا. نسيت عائشة كل هذا، ولكنها لم تنس أمرين حفرا في دماغها وأثرين لا يعفي عليهما النسيان هما: ابن زيدون وابن جهور أو ابن جهور وابن زيدون، فإنها لا تستطيع أن تعقد بينهما ترتيبًا، فهما عندها سواء فيما تثور به نفسها من كراهية وحقد ورغبة في الانتقام. ابن زيدون يجب أن يخضع لها خضوع العبد، وأن يتزوجها وأنفه راغم، وأن يهجر ولادة تلك المرأة اللعوب التي تخدع الناس برشاقة مصنوعة، وغرام بالأدب زائف، ونسب إلى الخلفاء حينما هزلت أنساب الخلفاء. وابن جهور الرجل المرائي الماكر، الذي وثب إلى الحكم، برغم أنه لا يحب الحكم، وأنه يتعفف عن الرياسة. ذلك الرجل الذي جلدها ووصمها بميسم العار ونفاها من الأرض، كأن دولته الزائلة لم يكن بها من أسباب الاختلال إلا أن تكاتب ملك الإفرنجة امرأة مثلها لا حول لها ولا قوة!

لم تنس عائشة هذين. وحينما رأت أن الفرصة مواتية للانتقام، حركت الحية رأسها، ولمعت عيناها بشر ولم يكن إلا أثرًا لما يضطرم به فؤادها، وهمست تحدّث نفسها: غدًا يعلم ابن جهور أن النار التي أوقدت لوصمي بالعار ستجتاح دولته. وغدًا يعلم ابن زيدون أن اليد التي امتدت إليه ضارعة مستعطفة ستنقلب عاصفة تهوي به إلى الجحيم، إلاَّ إذا آثر السلامة وألقى الخطام٤ خاضعًا ذليلا.
١  الحقحقة معناها شدة السير.
٢  الصخر العظيم.
٣  فرجه وفتحاته.
٤  حبل يجعل في عنق البعير — الزمام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤