الفصل السادس

ومرّت الأيام تتلو الأيام وابن زيدون في أطيب عيش وأهدأ بال. أقبلت عليه الدنيا بعد تدلل وشِماس،١ والدنيا إذا أقبلت أقبل معها كل شيء. وكأن الأمور فيها تجذب أمثالها، فالنحس يجتذب النحوس، والسعد يدعو إليه السعود. وقديمًا قالوا: المصائب لا تأتي فُرادَى، ولا ندري لِمَ لم يقولوا أيضًا: إن النعم لا تأتي فرادى!
عاش ابن زيدون في هناءة وبُلهنية، وصبح فتى قرطبة المدلَّل، وبطلها المرجَّى، وشاعرها الذي لا يُجارى، وكاتبها الذي لا يمارى٢ نال السعادة في الحب حينما رضيته ولادة خطيبًا، فغنى بهذا الحب، وأرسل فيه أشعارًا أرق من النسيم، وأنضر من صفحة الروض الوسيم. ولقد كان حبهما عُذريًا فِردوسيًّا أطهر من ماء الغمام، وأصفى من بسمات الصباح، ثم نال السعادة في منصبه، فأعلى ابن جهور مكانه، واصطنعه لنفسه، ونوه بفضله، وأشاد بذكره، وقدمه على نظرائه، وكثيرًا ما أنفذه إلى ملوك الطوائف ليسفِر بينه وبينهم، وكثيرًا ما استكتبه الرسائل التي تُضرب ببلاغتها الأمثال.

ولما عظم إقبال الدنيا عليه كثر حاسدوه والناقمون منه، فهو يقول لابن جهور في قصيدة:

فديتك كم ألقى الفواغر من عدًا
قراهم لنيران الفساد ثقابٌ
عفا عنهُم قدري الرفيعُ فأهجروا
وباينهم خُلقي الجميلُ فعابوا
إذا راق حسن الروض أو فاح طيبه
فما ضرّه أنْ طن فيه ذباب

وكان أبو عامر بن عبدوس أشد الناس له حسدًا، ذلك لأن ابن زيدون كان يزاحمه بجانبين: جانب حبه لولادة، وجانب قربه من ابن جهور حتى أصبح لا يكاد يُبرم أمرًا دون مشُورته.

كان ابن زيدون يقضي طليعة الليل في ندوة ولادة بين طرب وإيناس ولهو ومرَح، ولطالما هزّه الوجد وأثار الحب في نفسه كامن الشعر فقال:

إليك من الأنام غدا ارتياحي
وأنت على الزمان مدى اقتراحي
وما اعترضت هموم النفس إلا
ومن ذكراك ريْحاني وراحي
فديتُك إن صبري عنك صبري
لدى عطشي، على الماء القراح
ولي أمل لو الواشون كفُّوا
لأطلع غرسه ثمر النجاح

نعم كانت الحياة في أعينهما جنة وارفة الظلال، وفي سمعيهما أنشودة رائعة الألحان. كانا عصفورين غردين يتنقلان في خفّة ومرح من فنن إلى فنن، ومن دوحة إلى دوحة، تبتسم لهما كل روضة، ويصفِّق كل غدير، وقد أمِنا عواصف الرياح ومكايد الفخاخ. هكذا كان يعيش ابن زيدون في كنف ولادة، وهكذا كانت تعيش ولادة تحت جناح ابن زيدون، فهما في ليلة في قارب في النهر يتهادَى بين الضفتين، يعبث بشراعه النسيم، وتنبعث منه ألحان القِيان، وضحكات الندامى في الليل الساجي، فتملؤه حياة ومرحًا. وهما في ليلة في دار القاضي ابن ذكوان صديق ابن زيدون وحبيبه؛ بين ضحك ومزاح. وهما في ليلة في مرج الخزّ، أو القصر الفارسي أو عين شُهدة يناغيان البدر ويسامران النجوم.

عاش ابن زيدون بعد خطبته لولادة سعيدًا، فنسي أيام شدّته، وغفر للزمان زلته ولم يفكر في عائشة بنت غالب وكاد يغفر لها كل ذنوبها. غير أنه كان يحسُّ بأن شيئًا يلاحقه، ويعترض طريقه، ويكدّر عليه صفوه، ذلك هو حسد الحاسدين، وكيد الكائدين. ولكنه كان كلما مر به هذا الخاطر هزّ له كتفيه، ومطّ شفتيه، وأراد أن يعيش في الساعة التي هو فيها.

وقد حدث أن بعثه ابن جهور في شأن من شئون الدولة إلى المظفَّر صاحبَ بَطَلْيوس، فأكرم استقباله، وألح عليه في أن يقيم عنده، وأغراه بالجاه والمال إن قبِل منصب الوزارة في دولته. وكان ابن عبدوس قد أرسَل وراءه أحد جواسيسه ليسجّل عليه كل كلمة، ويدّون كل لفتة. وكانت مواهب أبي الوليد من أكبر مصائبه، ومناقبه من أسباب كوارثه، ولقد يكون في الذكاء وسلامة الطبع ومرح النفس وذرابة٣ اللسان هلاك محقق، وبلاء ماحق. وفي الأذكياء العباقرة فضلة من نشاط تضطرب دائمًا في نفوسهم، وكثيرًا ما تسوقهم إلى المكروه. إن الغبيّ يفكر في كل كلمة، ويقدّر لرجله موضعها قبل كل خطوة، لأنه قليل الثقة بنفسه، حذر من أن يكون رميَّة جهله، أما الذكي المتوقد، فمتوثب جوّال، يجري وراء البديهة، ويقتنص فرص الارتجال، ويرمي بالكلمة لا يبالي أين رماها، ويصدَع بالري في جُرأة واعتزاز. وابن زيدون شاعر أديب عالم بالأخبار، سريع حركة الفكر، ذرِب اللسان، عظيم الزهو بنفسه، لا يرى له في الأندلس نديدًا، ثم هو إلى ذلك مرح ضحوك مستهتر، سريع النكتة، جمُّ الفكاهة. فكان يجلس في حضرة المظفَّر ويطلق لنفسه العنان، ويخوض في كل حديث من غير أن يستصحب الحذر، وإذا جاء ذكر مملكة قرطبة، أو جاء ذكر ابن جهور، كان يدفعه الطيش إلى أن ينبز ويهمز، وإلى أن يمزح ويسخر، وقد تجاوز الحد وأبعد في الاستهانة بالخطر، حينما مدح صاحب بطليوس فبالغ، وغفل عن أن ابن جهور قد يغضبه أن يمدح وزيره أميرًا سواه، دع عنك ما خلع على الرجل من الصفات التي تُحصر فيه العظمة، وتعرّض بغيره من الأمراء، وكان من قصيدته:
مليكٌ إذا سابقته الملوك
حوى الخصل أو ساهمته سهَمْ
فأطولُهم بالأيادي يدًا
وأثبتهم في المعالي قدم
وأورع، لا معتفي رفده
يخيبُ، ولا جاره يُهتضم
ذلولُ الدماثة صعبُ الإباء
ثقيف العزيم إذا ما اعتزم

ظفِر جاسوس ابن عبدوس بكل هذا، ودوّن كلماته التي كان ينثرها جزافًا في مجالس المظفر، ولوّنها بما شاء له فنه واقتضته صناعته، وذهب به إلى صاحبه فزاد فيه ابن عبدوس ما أراد — وما آفة الأخبار إلا رُواتها — وملأ به صدر ابن جهور، وكان رجلا أذُنًا يُلقي السمع لكل واش، ويُنصت إلى كل نمَّام. وعاد ابن زيدون بعد شهرين فلحظ في ابن جهور انصرافًا عنه، وفتورًا عند لقائه، ورأى أن الابتسام أصبح جُهومة، والثقة أضحت شكًّا، والميل صار مللا. فبعث إليه بقصيدة فيها استعطاف، وفيها تهديد، وفيها شمم وإباء. منها:

مالي وللدنيا؟ غُرِرتُ من المنى
فيها ببارقة السراب الخادعِ
ما إن أزال أروم شهدة عاسلٍ
حُميت مجاجتها بإبرة لاسع
مَن مبلغ عني البلاد إذا نبت
أن لستُ للنفس الألوف بباخع
أما الهوان فصنت عنه صفحة
أغشى بها حدّ الزمانِ الشارع
فليُرْغم الحظ المولى أنه
ولى فلم أتبعه خطوة تابع
إن الغني لهو القناعةُ لا الذي
يشتفُّ قطرة ماء وجه القانع

ولكن ابن جهور استمرّ في تيهه وانحرافه عنه، غير أن ابن زيدون كان قويّ الصلة بابنه أبي الوليد محمد بن جهور، وكان يظن ألا يناله من الوالد مكروه، مادام يحظى بمحبة الولد.

ذهب بعد عودته من بطليوس إلى دار ولادة، فقابلته بوجه بشّ، وأشواق كادت تملأ جوانب الدار، ثم قالت في غضب مصطنع: لا يا أحمد! لقد أطلت عليّ الغيبة، وأنساك جاهك وعظيم مكانك بين أمراء الأندلس فتاتك المزهوّة بك. ثم رفعت رأسها في اعتداد وقالت: لست أنت وحدك الشاعر الذي هزّ أعطاف قرطبة، فإن نفسي تحدثني أن أنظم في تيهك وجفوتك قصيدة يتناقلها الرواة، وتخلُد على الزمان.

– لا لا يا سيدتي. شعر وجمال لا يجتمعان! فأجابت في دُعابة: يجتمعان يا مولانا الوزير، فليس الشعر إلا جمالا، وليس الجمال إلا شعرًا.

ثم جذبته من ذراعه إلى البهو، حتى إذا جلس أخذت تقول: ألا من سبيل إلى إنقاذي من ابن عبدوس؟! إنه يا أبا الوليد يلاحقني كما يطارد الصائد فريسته، إنه يفرض عليّ حبَّه فرضًا كما يفرض ابن جهور الجزية على كل ذِميّ، إنه من الصِّنف الذي لا يرده الإعراض، ولا يكفكف من غربة الملال. إنه وقح مغرور يظن أن قلوب الحسان ملك يمينه، وأن له وحدَه أن يختار منها ما يشاء. والأدهى والأمرّ أنه يرى أنه أجمل شاب بقرطبة، وأن الأندلس لم تحو جنباتها من يساويه في جاهه وأدبه وثروته. كان ينكبُني بزيارته كل يوم وأنت غائب، ويصارحني بحبه في سماجة وإلحاح، فلما سددت الطريق في وجهه، وأخبرته أنني أصبحت لك خطيبة، بعث إلي بالأمس امرأة من صويحباته، تُشيد بمحاسنه، وتجتذب مودتي له، فرددتها أقبح ردّ، ورجعتها إليه حُنينًا بلا خفين؛ وهناك رجل آخر أشد منه بلاهة وأكثر جهلا، ذلك هو أبو عبد الله بن القلاَّس البطليوسي. ظن هذا المغرور أن المال الذي جمعه أيام الفتن والكوارث يُنيله كل شيء، فراح يتابعني بنظراته، ويضايقني بزياراته. لقد ضقت بهما ذرعًا يا أبا الوليد، والذي أرجوه أن تكتب إلى ابن عبدوس رسالة عني تردّه إلى صوابه، وتذوده عن بابي.

فتأوّه ابن زيدون واضطرب في مجلسه وقال: إن ابن عبدوس كان فيما يزعم لي صديقًا، ولكني أقرأ في عينيه الآن الحقد والبغضاء، وأكبر ظني أنه يدُسّ لي عند ابن جهور.

– كيف يا أبا الوليد؟

– لا أدري. ولكني منذ عودتي من بطليوس لم أجد ابن جهور كعهدي به.

– هذه دسائس الأندلس! فانظر هل عصف بمجدنا، وقطَّع مملكتنا أجزاء، وأغرى بنا ملوك الإفرنجية إلا التحاسد والتباغض والأثرة؟ لا تبال يا سيدي، إنهم ذباب لا يملك إلا الطنين. ثم أسرعت إلى ورقة كانت فوق خوان وقالت في إصرار: بحقي عليك يا أبا الوليد إلاّ ما كتبت إلى ابن عبدوس حتى تستريح داري من شؤم طلعته.

فأخذ ابن زيدون القلم، واختلى بنفسه ساعة، ثم عاد يقول: استمعي للرسالة يا سيدتي:

أما بعد. أيها المصاب بعقله، المورَّط بجهله، البيِّن سقطَه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى في شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب.

فصاحت ولادة قائلة: لو طلبت من الحطيئة أن يكتب إلى ابن عبدوس ما كتب أقذع من هذا! ثم جذبت منه الورقة وأخذت تقرأ حتى بلغت قوله:

فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم، والخيبة منك ظَفر، والجنة معك سقر. كيف رأيت لؤمك لكرمي كِفاء؟ وضَعتك لشرفي وفاء؟ وأنَّى جهلت أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها؟ والطير إنما تقع على ألاّفها؟ وهلا علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان.

وهنا قالت ولادة: لقد قتلت الرجل. وإن من السهام كلامًا، ومن البيان موتًا زؤاما. ثم مالت عليه وقالت: بالله عليك إلاّ قلت فيه شعرًا، حتى لا ينبض بعد له عرق، ولا يطَّرد نفس! فجذب ابن زيدون ورقة وأخذ يفكر ساعة، ثم كتب:

أثرت هزبَر الشرى إذ ربضْ
ونبهته إذا هدا فاغتمض
حذار حذار فإن الكريم
إذا سيم خسفًا أبى فامتعض
فإن سكون الشجاع النهو
س ليس بمانعه أن يعض
وإن الكواكب لا تستزل
وإن المقادير لا تُعترض
أبا عامر، أين ذاك الوفاء
إذ الدهر وسنان والعيش غض؟
أبِنْ لي، ألم أضطلع ناهضًا
بأعباء برك فيمن نهض؟
لعمري لفوّقت سهم النضال
وأرسلته لو أصبتَ الغرض
وغرّك من عهد ولادة
سرابٌ تراءى وبرقٌ ومض
هي الماء يأبى على قابض
ويمنع زبدتَه من مخض
وما كاد يتم قراءة الأبيات حتى صفقت بيديها طربًا وإعجابًا كما يصفق الأطفال، ثم صاحت في لهجة الآمر: لا تضع القلم قبل أن تكتب أبياتًا للفدم٤ الجاهل ابن القلاّس. فأطرق ابن زيدون قليلا ثم كتب وهي تطل عليه وهو يكتب:
أصخْ لمقالتي واسمعْ
وخذ فيما ترى أو دعْ
وأقصر بعدها أو زد
وطر في إثرها أو قع
ألم تعلم بأن الدﻫ
ﺮ يعطي بعد ما يمنع؟
وأن السعي قد يكدى
وأن الظن قد يخدع؟
وكأن رامت الأيا
م ترويعي فلم أرتع
أعد نظرًا فإن اﻟﺒﻐ
ﻲ مما لم يزل يصرَع
ولا تك منك تلك الدا
ﺮ بالمرأى ولا المسمع
فإن قُصارك الدهليـ
ـزُ حين سواك في المضجع

فقهقهت ولادة وقالت: حتى والله ولا الدهليز! قل بالله عليك يا أحمد:

فإن قصارك الإصطبـ
ـلُ حين سواك في المضجع

وجمعت الرسائل، ودعت عبدها رابحًا وأمرته أن يسرع بكل رسالة إلى صاحبها.

وبعد قليل أقبل أبو بكر بن ذكوان، وعمَّار الباجيّ، وعبد الله بن المكري، فاتسع نطاق الحديث وتعددت طوائفه، فقال ابن ذكوان: لقد تناثر اليوم في قرطبة خبر يهمس به الناس في سخط واستنكار، هو يدور حول المأمون بن ذي النون أمير طليطلة وما تسوّل له نفسه من الهجوم على قرطبة والاستيلاء عليها.

فقال الباجي: إن القرطبيين لا يبغضون شيئًا في الدنيا كما يبغضون البربر، بعد أن شهدوا حكمهم، وولعهم بالتخريب والتدمير. وهذا المأمون ليس إلا عصارة السلالة البربرية، وهو لا يُدل علينا بشيء إلا أنه حبيب الأذفونش.

فتململ ابن زيدون وقال: إنه لو خدعته نفسه، وزيَّن له الغرور غزو قرطبة، لرأى حولها أسوارًا من سيوف وقلوب، فخير له أن يقبع في داره، وأن يتخلَّى عن الهوى ويعمل على جمع الكلمة ونبذ الفرقة. إن عرب الأندلس لن يعود إليهم مجدهم حتى تعود إليهم وحدتهم، وتتألف قلوبهم.. ثم زفر زفرة طويلة وقال: لقد ضاعت الأندلس، وتبدّد بها ملك كان بهجة الدنيا، وزينة الدهور، وانفصمت تلك العروة العربية التي جمعت الآراء على رأي، وجعلت من الزنود المفتولة زندًا، ومن السيوف الصارمة سيفًا، فأصبح العرب بعد انحلالهم في هذه الجزيرة النائية بدَدًا كالشياه فتك الذئاب برُعاتها، فهامت في بيداء الخوف والجوع لا تسكن إلى ظل ولا تأوي إلى سياج.

نزلنا هذه الجزيرة في قلة من العدد والسلاح، ولكنا كنا من عزائمنا وإقدامنا وإيماننا بالحق في جيش لجِب،٥ وقوة تزلزل الجبال. لن أذكر طارقًا، فإن إقدامه ودهاءه أصبحا مضرب الأمثال، ولا تزال الإفرنجة حولنا تروي حديث وثوبه على الأندلس وقلوبهم ترتجف فزعًا. أعرابي في اثني عشر ألفًا من البربر والعرب، أقوى سلاح لهم سيف مثلَّم، أو رمح محطم، يهجمون على جيش لذريق، وهو كأمواج البحر، ثم لا تنثني لهم عزيمة، ولا تجيش لهم نفس، حتى يكتب لهم الظفر، وتعود سيوفهم ضاحكة إلى أغمادها! فأين هذه القوة؟ وأين هذه العزائم؟ وأين ذلك الروح الإسلامي العاصف الذي لم تقف أمامه أسوار، ولم تصعب عليه أبراج، ولو كانت تتلفَّع بأردية السحاب؟

أين أيام عبد الرحمن الداخل؟ ذلك الفتى الشمَّري الأحوذي الذي قدم الأندلس وحيدًا، فلم تمر به سنة حتى كانت جميعها في قبضته. وأين منا عهد الناصر لدين الله، والناس ناس، والزمان زمان، حين كان ملوك الإفرنجة يستجدون رضاه ويتسابقون إلى طاعته؟ بعث إليه صاحب القسطنطينية العظمى سفراءه ومعهم أشرف الهدايا وأنبلها، فتلقتهم قرطبة في يوم مشهود، وأقبلوا في خضوع نحو قصر الزهراء يقدمون للناصر إخلاص سيدهم وصادق مودته. ثم أين منا أيام ابنه الحكمَ المستنصر بالله حين اعتزم غزو بلاد الملك أردون؟ ذُعر الملك فسار إلى الحكم في عشرين رجلا من أصحابه راجيًا منه أمانًا واعتصامًا بذمته، فلما دخل قرطبة سأل أول ما سأل عن قبر الناصر لدين الله، فلما أرشد إليه وقف أمامه في صمت وخشوع خالعًا قلنسوته حانيًا ظهره، وأمر الحكم بإنزاله بدار الناعورة فأقام بها يومين، ثم استدعاه إليه وكان قد أعد لليوم عُدته من الزينة ومظاهر القوة، وجاء محمد بن القاسم بأردون وأصحابه فدخلوا بين صفوف الجند، والملك ذاهل يقلِّب الطرف ويجيل الفكر في كثرتهم وكمال عدتهم، حتى وصل هو وصحبه إلى أول باب للزهراء فترجَّل وترجلوا، فلما بلغوا البهو جاء الإذن للملك بالدخول فتقدم وأصحابه وراءه، حتى قابل مجلس المستنصر بالله، فوقف وكشف رأسه وخلع برنسه وبقي حاسرًا إعظامًا، فلما قابل سرير المُلك خرّ ساجدًا سويعة ثم استوى قائمًا وأهوى على يد الخليفة يقبلها ويبتهل داعيًا شاكرًا، وقد علاه البُهْر من هول ما باشره، وجلالة ما عاينه من فخامة وعظمة ومُلك وسلطان. وكان يومًا حافلا، وكان للخطباء والشعراء فيه مقامات حسان.

هكذا كانت صولتنا، وهكذا كان سلطاننا، فأين منا ذلك المجد الضائع، وذلك السلطان الذي احتسبته أسفار التاريخ حتى لا يظهر للعِيان؟

فأسرع ابن المكري يقول: الله الله! إن من البيان لسحرًا!

وقال ابن ذكوان: حقًّا إنك لخطيب يا أبا الوليد؟

فابتسم ابن زيدون ابتسامة حزينة وقال: وماذا تفيد الخطب يا أبا بكر إذا لم تجد آذانًا وعقولا؟ يجب أن نستيقظ، ويجب ألا نسدّ أعيننا دون الخطر الداهم. إن ملك الإفرنجة بعد أن وحَّد ولايات أستورياس وليون وقشتالة، اتجه إلى تفريق كلمة العرب، وبثَّ التحاسد بين امرائهم، وأخذ يُغري بعضهم ببعض، وينصر فريقًا ويخذل فريقًا، لا يبغي من وراء ذلك إلا إضعافهم جميعًا. فإذا لم نصدمه الصدمة القاصمة، شالت نعامتنا،٦ وذهبت ريحنا. لقد حادثت ابن جهور كثيرًا في هذا الأمر، ولكنه كان يطرق طويلا، ثم لا يزيد بعد أن يرفع رأسه على أن يقول: أنت طموح يا فتى!

فصاح ابن المكري: ابن جهور أقدر الناس على حمل هذا العبء العظيم بذكائه ودهائه وبعد رأيه، ولا يقف في طريقه إلا أنه ليس من سلالة الملوك. والقرطبيون خُلقوا وفي دمائهم حب الملوك، فهم لا يبذلون أرواحهم رخيصة، ولا يجبهون الموت، إلا إذا قادهم ملك أو خليفة.

فهز ابن زيدون رأسه في حزن وقال: هذا صحيح يا أبا يزيد. فأسرع الخبيث يقول: لم يبق بقرطبة اليوم أحد يصلح لمقاومة الإفرنجة. وكان الناس منذ حين يلتفون حول فتى من أبناء الناصر لدين الله يسمى ابن المرتضى، ولكنه لا يُعلم له الآن مكان، وأظنه قضى نحبه.

فتحرك الباجي في مجلسه وهو يقول في صوت خافت: أخشى يا ابن أخي ألا تكون محيطًا بالخفيِّ من الأمور، فإن بعض الناس يظن أن ابن المرتضى عاد إلى قرطبة منذ شهر، وأنه في مكان لا يعرفه إلا خاصة أتباعه. فانقبض وجه ابن زيدون، وقال في صوت مختلج.

– من أخبرك بهذا؟

– لم يخبرني أحد، ولعله ظن يا أخي، وإن بعض الظن إثم.

– هذه أباطيل يصطنعها مختلقو الأكاذيب، ويرجف بها المرجفون ثم تحفَّز القوم للقيام فودعوا ولادة وانصرفوا.

ولما بلغ ابن زيدون داره التفت خلفه فرأى رجلا كان يتبع خطواته، يسرع ثم يختفي وراء جدار، فسهم وجهه وقال متأففًا: سُحقًا لجواسيس قرطبة؟

١  امتناع.
٢  لا ينازع.
٣  فصاحة.
٤  العيي عن الكلام في رخاوة وقلة فهم – الأحمق.
٥  ذو جلبة وكثرة.
٦  متنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤