الفصل السابع

كان من عادة ابن جهور أن يجلس كل صباح مع ابنه وخليفته أبي الوليد ليقرأ له ما يرد عليه من أخبار المدينة، وما تطالعه به جواسيسه من شئون وحوادث، وكان في هذا اليوم عبوسًا مهمومًا، يحمل في يده ورقة صغيرة، أطال النظر فيها، ثم ألقى بها إلى أبي الوليد وهو يقول: لقد كان ما خفت أن يكون، صدقت فراستي في الرجل وكنت أرجو الله ألا تصدق.

– من هو يا سيدي؟

– الرجل العبقري الباقعة الداهية الكاتب الشاعر والسياسي البارع! كانت تبهَرني فيه تلك المزايا، وكنت أتحرّق شوقًا إلى أن أراها تتجه دائمًا إلى رفع شأن المملكة وإحياء رميم مجدها، وكنت أرى أن مثله خليق بأن يقتعد أشرف المناصب، ويسمو إلى أرفع الرتب، ولكن كان يصرفني عنه كلما هممت بالانتفاع بمواهبه ما فيه من نَزق وعُجب، وما تلتهب به نفسه من طموح طائش خفت أن يورده ويورد الدولة معه موارد الهلكة، فكنت أهمل أمره آسفًا، وأقنع بأن يقصر عمله على النظر في شئون أهل الذمة كارهًا، ولكني آخر الآمر عصيت نفسي، وكذبت صادق فراستي، ووليته الوزارة، وأطلقت يده في الدولة سيّدًا مطاعًا، فكان منه ما جعلني أسمع كل يوم عنه خبرًا، وأتوجس شرًّا.

– يريد سيدي أبا الوليد بن زيدون؟

– نعم هو يا ولدي.

– إن ابن زيدون يا مولاي من أخلص الناس لك، وأصدقهم في النصح لدولتك. وأطولهم باعًا في الذياد عنها، وهو يطلعنا في كل حين بقصيدة من روائعه كلها ثناء عليك، وإعلاء لك، وإشادة بمجدك. وهو في مديحه غير متكلف ولا مخادع، فإن للصدق في شعره رنينًا يدركه كل أديب، وفيه للإخلاص والوفاء روحًا يُطل من كل بيت. إن ابن زيدون قد يكون شديد الزهو بنفسه، وله العذر، فمثله حقيق بأن يُزهى. وقد يكون طموحًا وثابًا، ولكنه طُموح المعتز بدولته، الناهض بأمته.

– ما أظن يا أبا الوليد. إنه يمدحني بشعره كثيرًا كما تقول، ولكني أخشى أن يكون هذا المديح دريئة يخفي وراءها سيء مساعيه، وحجابًا يسد به عينيّ من أن تريا ما يعمل في الظلام. ثم زفر في ألم وحسرة وقال: أتظن أنه يمدحني مخلصًا، وهو يمدح صاحب بطليوس ويحصر فيه كل صفات العظمة، ويعرّض بغيره من الأمراء، ويقول له:

أشفُّ الورى في النهى رتبة
وأشهرهم في المعالي مثل
وأحرى الأنام بأمر ونهي
وأدرى الملوك بعقد وحل
غمامٌ يظل، وشمس تنير
وبحر يفيض، وسيف يُسل
قسيمُ المحيا ضحوك السماح
لطيف الحوار أديب الجدل
سواك إذا قُلد الأمر جار
وغيرك إن مُلك الفيء غلّ
فإذا كان المظفَّر أشفّ الناس رأيًا، وأحراهم بالأمر والنهي، فماذا بقي لي؟ ثم من سواه الذي إذا قلِّد الأمر جار؟ ومن سواه الذي إذا مُلِّك الفيء١ غل؟ إن كان يقصدني فلأمه الهبَل!

– يا أبي إن الشاعر إذا مدح بالغ وأبعد، والناس جميعًا يعرفون هذا ويتجاوزون عنه، والمبالغة ميزة الشاعر وخاصته منذ أن هلهل ابن ربيعة الشعر، ولو أخذ الشاعر على ما يقول لم يستطع أن يقول شيئًا، والشعر ليس فلسفة ولا منطقًا، ولكنه أوهام تصوّرها أنغام.

– صدقت أيها الفتى، إن الشعر أوهام تصورها أنغام. وهكذا كان شعر الرجل في مديحي، ثم ألقى إليه بالورقة التي كانت في يده وهو يقول: اقرأ يا أبا الوليد هذه الورقة، واكشف لي وجه الرأي فيها فقد غُمَّ٢ عليّ أمري. فقرأ:

من ابن عبدوس إلى الرئيس الأكبر عميد الجماعة:

أما بعد فقد أخبرني الرجل الذي طلبت إليه أن يرافق ابن زيدون ويرقبه عن كثب: أنه منذ حضر من بطليوس، والحيرة لا تفارقه، فهو يتنقل من دار إلى دار، ويزور أقوامًا لم يكن يزورهم من قبل، وقد تردّد في الأسبوع الفائت على دار راجح الصنهاجي، وكان يودعه عند الباب في كل مرة، وسمعته يقول له في إحدى المرات: سيكون الأمر هيِّنًا والجو ملائمًا. وزاره منذ يومين ثابت الغافقي، وخرج من عنده عابس الوجه يبدو عليه التفكير والقلق. وكان بالأمس مع ابن ذكوان عند ولادة، وخرجا قبيل الفجر، وأخذا يتهامسان في الطريق في جدّ واهتمام.

ما كاد أبو الوليد يتم قراءة الرسالة حتى صاح ابن جهور: أرأيت أن الرجل لا يخالط إلا المتردّدين المزعزعين الذين لا يحجُبهم عن الفتنة إلا العجز أو الخوف من أن يكونوا حطبًا لنارها؟

– إنني أخاف يا أبي أن يكون أعداء ابن زيدون قد أحكموا دهاءهم، ولاحت لهم فرصة من حسن استماعك لهم فراحوا يصوّرون لك أوهامًا، لو ألقيت عليها نظرة واحدة من نظراتك الثاقبة لطارت في الهواء. ما هذا يا مولاي؟ كل الذي سمعته وقرأته في هذا المجلس أن ابن زيدون عبقري طموح، وليس في ذلك عيب ولا عار، وأنه مدح بعض الأمراء فأغرق، وهو إذا مدحهم فبلسانك نطق، وإلى إعلاء دولتك قصد، لأنه سفيرك ووزيرك، وقد يرى من حسن الرأي، وخُدَع السياسة أن يمدح من يكون لك عدوًّا، ويُحسن إلى من يكون لك مسيئًا. على أن عبيد الله بن قيس الرقيَّات وهو زبيري المذهب خارج على بني أمية، كان يمدح مُصْعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان في آن. وكان الكميت بن علي من مدّاحي الأمويين، ومن أشد الشعراء بغضًا لهم. أما كل ما في هذه الورقة فهراء لا يقام له وزن، ولا يحسب له حساب، فليس فيها إلا أن ابن زيدون قابل فلانًا وفلانًا وفلانًا، وماذا في هذا يا أبي؟ إنك أنت تقابلهم وتخالطهم وتزورهم في دورهم. ثم إن هذا كان عابسًا، وهذا كان مفكرًا، وهذا كان هامسًا، هذا كلام لا ينهض بجناحين، ولا يسير على قدمين، فلو أن العبوس أو التفكير أو الهمس كان يدل على العمل لإسقاط الدول ما بقيت دولة في بقاع الأرض يومًا واحدًا. مزّق يا مولاي هذه الورقة، وامح ما كان فيها من لوح فكرك، واترك عنك هذا الهاجس الذي ليس من ورائه إلا أن قومًا يتخذون منك سيفًا للقضاء على عدوهم، وازجر هؤلاء الوشاة الدسَّاسين، فإنك لن تجد مثل أبي الوليد في كرم نصابه، وبعد همته، وجلالة قدره.

– أرجو أن تكون موفق الرأي صادق الفراسة يا ولدي! فإن أودّ ما أوده أن يبقى ابن زيدون لهذه الدولة عضدًا وزندًا.

– لا تأبه لحديث ابن عبدوس يا مولاي فإنه غريم ابن زيدون في الحب والسياسة.

– في الحب؟

– نعم في حب ولادة. فابتسم ابن جهور وقال: هكذا رأينا الحب ينبت البغضاء! ثم نظر إلى ابنه نظرة طويلة وقال: اكتم هذا المجلس أبا الوليد ولا تحدث به نفسك في خلوتك، وأرجو الله أن يبعد عنا المكروه، ويوفقنا لما نحب ويحب.

وفي ضحا هذا اليوم ذهبت ولادة لزيارة نائلة فوجدتها لا تزال في سريرها تصلح لها جواريها ما أفسد الليل من زينة المساء، فقابلتها نائلة في شوق وشغف، وأمرت أن يقرّب لها كرسي إلى جانبها، وقالت: كيف حال أبي الوليد؟ إن هذا الولد العاق لم يزرني منذ حين.

– إن ابن زيدون في هذه الأيام ليس كعهد الناس به، فهو كثير الوجوم، بادي الهموم. وقد فارقه ذلك المرح الذي كان ينشر الأنس في كل مكان، ويغتصب الضحك من فم الحزين.

– تزيد هموم الناس يا بُنية إذا ارتفعت منازلهم وعظمت مناصبهم، وقد كنتِ تبغين أن يكون خطيبك وزيرًا، فلما أصبح وزيرًا برمت برزانته، وضقت ذرعًا لصرامته وجده.

– لا يا خالة. ليست المسألة مسألة رزانة أو صرامة، ولكني أشك في أن أمرًا عظيمًا يشغل باله ويملك عليه نواحي نفسه.

فقهقهت نائلة وقالت: ليس الأمر كما تتوهمين يا ولادة. وإذا كان هناك ما يشغل باله فهو أنه أسير حبك، ينتظر اليوم الذي يصبح فيه بعلا لأجمل فتاة.

فابتسمت ولادة ابتسامة زهو وإعجاب وقالت: أخشى يا نائلة أن أعداءه يكيدون له، وأخشى أن يجدوا من ابن جهور أذنًا صاغية.

– ما أظن يا حبيبتي أن يجرؤ أعداؤه على منابذته، فإن أيديهم أقصر من أن تنال له ذيلا. على أن ابن جهور على تزمّته وجفوته، من أطوع الناس لي عنانًا، وهو في يدي كالعجينة في يد الخباز، وكلمة مني واحدة كفيلة بأن تطرد ما ألقى النمَّامون في أذنه من كلمات.

زارتني عائشة بنت غالب من أيام، وأظهرت لي تمام الود وصادق المحبة، واتخذت من سرقتي لرسائل ابن زيدون من خزانتها مجالا للفكاهة والضحك والتندّر، وأقسمت أغلظ الأيمان أنها كانت تريد أن تردّ إليه هذه الرسائل، وأن كل وعيدها وتهديدها كان كاذبًا مصطنعًا لم تقصد به إلا أن يعود إلى ظلال حبها، وأن يعيشا كما كانا سعيدين هانئين. ثم تفرّست في وجهي طويلا، وتابعت حديثها تقول: ولكنه حين أبَى، وحين يئست من عودته، طويت نفسي على آلامها، وتمنيت له خير ما يتمنى محبّ لحبيب. ولقد سرني والله قبل كل امرأة بقرطبة أن ينال تلك الحظوة التي نالها عند ابن جهور، وأن يرقى إلى منصب الوزارة، نبئيه يا خالتي أني أحفظ الناس لوده، وأبقاهم على عهده، وأزهاهم برفعته وعلو شأنه. لقد رأيته مرة «برحبة مغيث» فوق بغلته الشهباء، والأعوان من حوله، ورجال الديوان من ورائه، فسألت الله أن يصونه ويُعمي عنه أعين الحاسدين، وتمثلت بقوله في صاحب بطليوس:

ألا هل سبيلُ إلى العيبِ فيه
فكم عين من قبله من كمَل؟

فأسرعت ولادة تقول: وهل صدّقت شيئًا من هذا يا نائلة؟ فغمزت العجوز بإحدى عينيها وقالت: صدّقت أو لم أصدق. إنها هدنة على أيَّة حال.

– ولا هدنة!

– وأي ضرر في أن نتغابى ونأخذ الحذر؟

– من أخبر هذه الرقطاء أن أبا الوليد قال قصيدة في مدح صاحب بطليوس؟ ومن الذي نقل إليها هذه القصيدة؟

– الجواسيس! الجواسيس! إنهم أكثر من ذباب قرطبة. ثم اتجهت إلى ولادة كأنها تذكرت شيئًا وقالت فيما يشبه العتاب: ماذا فعلتم بابن عبدوس يا ابنة المستكفي؟

فظهر الضجر على وجه ولادة وقالت: اسمعي يا نائلة ما رواه القصّاصون، فقد قالوا: إن الجبال يوم خلقت اشتكت من ثقلها وصلادة صخورها، ولكنها هدأت حينما علمت أن الله خلق من هو أثقل منها. وقالوا: إن الأفاعي باهت يومًا بسمومها فقيل لها: أطرقي؛ فإن الله خلق من هو أوحى منك سمًّا. أتعرفين يا خالتي من ذلك الذي هو أثقل من الجبال وأفتك سمًّا من الأفاعي؟ هو ابن عبدوس. لقد كدت أفارق قرطبة لأجله، جاء بثقله ودمامته وخبثه يرمي نفسه عليّ رميًا، ويلزمني حبه إلزامًا، فلم أجد محيصًا إلا أن أرسل إليه رسالة باسمي بل صفعات متتابعة يدمَى لها قذاله٣ العريض وأرسل إليه أبو الوليد أبياتًا ستقُض مضجعه، وتؤرق وساده.

– جاءني بالأمس يشتكي من الرسالة والأبيات، ويرجوني أن أصلح ما فسد بينه وبين ابن زيدون، لأنه يغالي بصداقته، ويحرص على مودّته، ثم ألح في أن أكون وسيلته إليك على أن يقنعَ منك بالحديث والمجاملة، وأن يرضى منك بقبوله في ندوتك صديقًا مخلصًا.

– خير لي وله أن يبتعد عن ندوتي يا نائلة.

– ألا ترين في الأمر شيئًا يدعو إلى التوجس والقلق؟ فإنه ليس من محض المصادفة في رأيي أن تأتي عائشة ثم يليها ابن عبدوس فيعلنا في أسلوب يكاد يكون واحدًا حبهما لابن زيدون، ووفاءهما له، إني أكاد أرى وراء الأكمة شيئًا. وعلى أبي الوليد أن يحذر وعلى كل أصحابه أن يحذروا ويتربصوا. فظهر الذعر على وجه ولادة وقالت: ماذا نصنع يا خالتي؟

– نحذر ونتربص!

وكأن الخوف أعجل قيامها فقالت وهي تتحفزّ له: إنني أحذّره دائمًا، ولكنه لا يأبه ولا يبالي، وهو لك أطوع، ولكلمتك أسمع، فهوّلي له الأمر يا حبيبتي، لعله يرعوي.٤ ثم أسرعت إلى الباب مرتجفة الأوصال.

وفي مساء هذا اليوم كان يجتمع في دار عائشة مربع له أربعة رءوس، لو أراد إبليس وكان أبرع خلق الله في علم الهندسة أن يؤلف مثله مربعًا للؤم والدهاء والمكيدة والخسة ما استطاع — اجتمع أبو عامر ابن عبدوس، وابن القلاس، وابن المكري وعائشة وأغلقوا الباب دونهم، واتجهت عائشة نحو ابن المكري تقول: عجيب أن نراك بيننا اليوم يا أبا يزيد، وأنت تعرف. والناس يعرفون أنك أقرب الناس إلى ابن زيدون! وأحرصهم على صداقته، فإذا حدّثتك نفسك يا سيدي بأن تلعب على حبلين، وأن تشهد طعام معاوية وتصلي خلف عليّ، فإنا لسنا من الغفلة بحيث تخفي علينا هذه الأخاديع، أو تلتبس علينا وجوه الحق من وراءها.

فأسرع ابن عبدوس يقول: على رِسلك يا عائشة! فإن ابن المكري من أشدّ أعداء ابن زيدون وأحقدهم عليه، وأبعدهم له كيدًا، ولكنه بارع في الرياء، عبقريّ في ألا يظهر فوق وجهه شعاع من قلبه، يعانق عدّوه ويقبله في الصباح، ليطعن أحشاءه آمنًا مطمئنًّا في المساء، أنت لا تعرفينه يا عائشة. إنه داهية الدواهي، وباقعة البواقع.

فابتسمت عائشة فيما يشبه السخرية وقالت: ومن يُدريني — بعد أن وصفت الرجل بما وصفت — أنه اليوم صادق أمين؟ ألا يجوز أنه الآن يلبس غير ثوبه، ويقتعد غير سرجه، ويدلّس علينا كما يدلس على كل مخلوق؟

فانبرى ابن المكري يقول: اسمعي يا عائشة، إن العداوة والبغضاء يجريان وراء المنفعة، فأعدى أعدائك من يزاحمك في رزق أو جاه أو منصب. تلك غريزة يا سيدتي، ترينها في الإنسان كما ترينها في الحيوان. أسقطي حَفْنة من الحب بين أفراخ الدجاج، ثم انظري ماذا تعمل، يثب هذا على ذاك، وينقر هذا ذاك، ويضرب هذا بجناحه ذاك. وابن زيدون يزاحمني الآن في كل شيء: يزاحمني في الأدب والجاه والرزق، حتى أصبحت في الديوان حشرة ملقاة على كرسيّ لا رأي لها ولا عمل. أصبحت مغمورًا في الظلام لا يراني الناس، بعد أن بهر أبصارهم ضياؤه المتوهج، وأصبح شعري هُذاء محموم، وأدبي لا جسم له ولا روح، ومنصبي لا يحتفظ إلا باسم أجوف يتندّر به المتندرون، ويسخر منه الساخرون، فكنت يا عائشة بين أمرين: إمَّا أن أناصبه العداء، وأجاهره بالبغضاء، كما فعل صاحبي ابن عبدوس، وإما أن أطوي نفسي على الغل والكمد، وأعمل في الظلام لدكّ ذلك الجبل الشامخ، واصطياد ذلك الأسد الزائر! فرأيت أن الأولى ستدفعه إلى الحذر، واتخاذ الحيطة، ثم إلى محاربتي بسيف أصلب من سيفي، وقوّة تنهار أمامها قوتي. ورأيت أن الثانية أقرب من السلامة، وأدنى إلى الحزم، وأكفل ببلوغ الغاية، فزدت له من بسط وجهي، ولطف حديثي، وما أجيد اصطناعه من الملق والدهان والخديعة، حتى سكن إليّ واطمأنت نفسه لمودتي، فأصبحت له الخل الوفي، والصديق الأمين. ولو فعلت معه كما فعل ابن عبدوس لم أزد على أني نفرت الصيد من الصائد، وأبعدته عن الشرك، ونطحت برأسي صخرة لأوهنها كما يفعل الوعل الأحمق.

فقال ابن عبدوس: مرحى يا أبا بدير! إن للناس وجهًا واحدًا ولك ألف وجه ليس فيها وجه صحيح!

فضحك ابن القلاس وقال: أخشى كما تخشى عائشة أن يكون اليوم قد لبس أحد هذه الوجوه.

فقالت عائشة: لا يا عبد الله. إنني فهمت الرجل وأدركت فلسفته. ثم اتجهت نحو ابن عبدوس وقالت: أخبرني بلال — وهو من أخص عبيدي بعد أن أطلقته خلف ابن زيدون يقتصّ آثاره، ويتلقف أخباره — أنه لا يكثر من زيارة ولادة في هذه الأيام، وأنه يقضي أكثر الليالي بداره منفردًا.

فقال ابن عبدوس: ألا يجوز أن يكون الرجل يُخفي بداره شخصًا؟ وأنه يكتم خبره عن أخصّ أصدقائه.

فصاح ابن المكري: يجوز جدًّا. ولقد علمت علمًا ليس بالظن أن ابن المرتضى نزل قرطبة خِفْية، وأن ابن زيدون يتصل به، فإذا استطعنا أن نقنع ابن جهور بهذه الصلة فقد قُضِي الأمر، وقُضِي على الرجل.

فقال ابن عبدوس: إن الجو جدُّ ملائم، فإن ابن جهور تساوره الوساوس من قِبَل ابن زيدون، ولكنها كالبعوض يطِنّ في أذنه ثم يطير فلا يستطيع له قبضًا.

فصاحت عائشة: كيف نقنع ابن جهور بهذا الأمر الخطير، وهو رجل صارم في الحق، لا يأخذ بالشبهة، ولا يحكم إلاّ عن بينة؟

فقال ابن القلاس: هذا هو الذي جئنا لنتشاور فيه.

فالتفتت عائشة إلى ابن المكري وقالت: أواثق أنت تمام الوثوق من أن ابن المرتضى يقيم الآن بقرطبة، وأن ابن زيدون يتصل به؟

– نعم.

– من نبَّأك هذا؟

– نبأنيه صديق ما كذبني قط، وقد كان ينادم ابن زيدون على شراب فتعثر لسانه وهو في نشوته بكلمات فهم منها صاحبي أنه يلتقي بابن المرتضى في كل ليلة.

فأطرقت عائشة ثم قالت وهي تمدّ ذراعيها كأنها ترحب بمقدم مكيدة جديدة: لقد وجدت الرأي! لقد وقفت على مفتاح اللغز! الآن أستطيع أن أرى، وأستطيع أن أدبّر. ثم اتجهت إلى ابن المكري سائلة: أتستطيع أن تدعو ابن زيدون إلى دارك غدًا؟

– هذا سهل يسير، وهو الآن يكثر من زيارتي لتوثق الصداقة بيننا.

– حسن. ادعه غدًا للعشاء، وادع معه من يحب من خُلانه.

– ثم؟

– ثم تذهب الآن إلى ابن جهور، وتطلب إليه أن يزورك غدًا في دارك مستخفيًا، ليتحقق من خروج ابن زيدون عليه ونكثه لعهده.

ثم؟ فابتسمت عائشة وقالت: ثم تتحادثون بعد العشاء، فتسمعون جلبة وضجيجًا بين عبيدك وغلمانك، فتسألون عن جليَّة الخبر، فيخبركم أحدهم بأن ابن جهور قبض على ولادة لأنها كانت تخفي في قصرها ابن المرتضى الأموي.

– ثم؟

– ثم إني أعرَفُ الناس بأخلاق ابن زيدون، فإن الحزن والغضب سيدفعانه إلى أن يكشف عن ذات نفسه، وإلى أن يقذف بألفاظ يحبسها في صدره الخوف والحذر، فإذا سمعها ابن جهور لم يتردد في التنكيل به وإراحتنا منه ومن كبره وغروره.

فقال ابن عبدوس: أخشى ألا يكون حسابك مستقيمًا.

– إني إذا فكرت بإمعان وهدوء استطعت أن أقرأ المستقبل كأنه صفحة من الماضي. ليس عندي شك في أن ابن زيدون سيقع في الفخ.

فقال ابن المكري: حسن. سأذهب الآن إلى ابن جهور. فصاح ابن عبدوس: إذهب إليه بالوجه الذي لا يرى فيه أثرًا للشك ولا لمحة من الريبة، وإذا وفّقت فسوف تراه غدًا في دارك.

وأسرع ابن المكري نحو دار الجماعة، وقابل ابن جهور، ولبِث في حضرته طويلا، فلما انتهى الحديث، واتجه نحو الباب صاح ابن جهور: إني لست ألعوبة يا فتى! فإذا كنت في شك من أمرك فارجع عما قلته قبل أن تجاوز الباب.

– أنا واثق يا سيدي.

– عظيم. إن سيفي غدًا سيطيح أحد رأسين، فاحذر أن يكون رأسك هذا الأحد. إذهب.

وجاء الغد، وانطوى نهاره فغشي قرطبة وأهلها ليل حالك الإهاب كأنه حظّ الأديب، أو صحيفة الزنديق، ليل رآه قوم موطن الصبابة واللهو والطرب والمجون، ورآه آخرون باعث الأحزان ومثير الأشجان والهموم. شمل الليل قرطبة، وأخذ الناس يضطربون فيما يضطربون فيه كل ليلة، واجتمع ابن زيدون وبعض صحبه بدار ابن المكري، وقصد إليها ابن جهور ووزراؤه وصاحب شرطته وأعوانه مستخفين متنكرين، فجلسوا في حجرة إلى جانب حجرة الضيوف. ومدّت الموائد فنال منها القوم ما اشتهوا، ثم أخذوا في الحديث، وكان ابن زيدون في هذه الليلة كثير التفكير كثير الذهول والقلق، يغتصب منه أصحابه الكلمة اغتصابًا، ويغرونه بالنوادر والأفاكيه فلا يظفرون منه إلا بابتسامة فاترة واهنة، وبينما القوم يسمرون إذا ضجيج بين الخدم ولغط وجلبة، فنادى ابن المكري كبير العبيد وسأله في استنكار وتأنيب: ما هذا يا رباح؟

فظهر التردد على وجه العبد وقال: لقد أخبرنا الآن أحد أعوان صاحب الشرطة بأن مولانا عميد الجماعة قبض على سيدتي ولادة، ووكل بها طائفة من الجند يعذِّبونها أشد أنواع العذاب.

فارتعد ابن المكري وقال بصوت كاد يخنقه الغضب: يعذبونها؟ لِمَ يعذبونها؟

– لأنهم وجدوا مولاي ابن المرتضى بقصرها. فوقف ابن زيدون مذعورًا والغضب ينفخ أوداجه وصاح: هذا كذب صُراح؛ إن ابن المرتضى لا يختفي بقصر ولادة؛ أنا أعرف مكان اختفائه. إن ولادة بريئة من كل ما يتصل بابن المرتضى إنها وشاية نمَّامين. إن ابن المرتضى في داري، وسأذهب فأخبر ابن جهور بهذا حتى يكفّ زبانية عذابه عن أشرف امرأة، وأطهر امرأة بقرطبة.

وهنا فُتح باب الحجرة، ووقف ابن جهور في وسْطها كأنما نبع من أرضها، وصاح بصوت يشبه هزيم الرعد: ولم تُخف ابن المرتضى في دارك يا منبع الدسائس؟ لمْ تُخفه إلا لتشعل به فتنة تبدد الجماعة وتفرق الكلمة. لقد كنت أرى آخرتك منذ عرفتك، وكنت أتجاوز وأغضى حتى أصل إلى وجه الحق. الآن صرّح٥ الزبد عن اللبن وترك الخداع من كشف القناع، وتبلَّج الصبح لذي عينين!

ثم أشار في غضب إلى عبيد الله بن يزيد صاحب شرطته وهو يقول: ابعث أعوانك إلى دار هذا المارق ليبحثوا عن الرجل الذي يخفيه.

وغاب الجند ساعة ثم عادوا يقولون: إنهم لم يجدوا لابن المرتضى ظلاًّ، فتنفس ابن زيدون الصعداء وطفق يردد: الحمد لله! الحمد لله!

وزاد غضب ابن جهور: فرّ الطائر من القفص، واختفى ثانية ليعيد الفتنة مرة أخرى. ثم وجه الكلام إلى صاحب الشرطة وقال: خذ هذا الوغد إلى السجن حتى ننظر في أمره ونرى حكم الله فيه. صدق الله العظيم: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.

١  الغنيمة.
٢  خفي واستعجم.
٣  القذال ما بين الأذنين من مؤخر الرأس.
٤  يلتفت.
٥  الأمر قد بان وانكشف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤