الفصل الثامن

انتشر في الصباح خبر القبض على ابن زيدون وزجه بالسجن، فابتهج قوم وابتأس آخرون، وطفق كل رجل يتحدث في هذا الحادث مدفوعًا بعاطفته وما يمليه عليه وجدانه، كدأب الناس في الحديث عن الشئون العامة، واجتمع بخان أبي إسحاق اليهودي، وهو خان فخم بسوق اليمانية، جمع من شبان قرطبة الذين يجدون من فراغهم وجدتهم١ ما يسوّغ لهم الحديث في كل أمر من أمور الدولة، قال أحدهم وكان يدعى عمر البلنسي: بلغني في الصباح ممن أثق به ولا تخالجني في أخباره خطرة شك، أن ابن زيدون كان متفقًا مع ابن جهور على القبض عليه، وأن في الأمر مكيدة مدبَّرة يراد بها الاستيلاء على إشبيلية، والقضاء على ملك ابن عبَّاد.

فدهش القوم وقالوا في صوت واحد: هذا غير معقول. أين الصلة بين سجن ابن زيدون والاستيلاء على إشبيلية؟ وأسرع عمر يقول: أنتم لا تدركون خفايا السياسة، فإن لها سراديب ملتوية تمرّون بها أعوامًا ثم تعودون إلى المكان الذي بدأتم منه.

فقال أحدهم في سخرية: وهذا يا ابن عبد الله أظلم السراديب وأشدها إبهامًا!

– الأمر في غاية الوضوح للسياسي الداهية، والخُطة لعب أطفال للبصير الحاذق الفطن.

– كيف يا سيدي؟

– يُحبس ابن زيدون لخروجه على ابن جهور، ويلاقي صنوف العذاب. ثم يفر إلى إشبيلية موتورًا ساخطًا على ابن جهور، فيتلقَّاه ابن عباد بالسرور والغبطة، وينزله أكرم منزل، ويثق به فيطلعه على خفايا مملكته وأسرارها، ويعود ابن زيدون فيفر من إشبيلية وقد أحاط علمًا بمواطن الضعف فيها، وفي أسهل طريق وآمنة لغزوها، وتكُرّ جيوش ابن جهور على المدينة، فلا تمضي ساعة من نهار إلا وهي تحت قدميه فقال أحدهم — مرحى مرحى وقال ثان يجوز، وقال ثالث الحيلة معقولة جدًّا. وابتسم البلنسي لمخالفيه في عطف وإشفاق وقال: غدًا ستكشف لكم الأيام صدق ما أقول، وتحمس شاب منهم فقال: ليس في المسألة سياسة، وليس فيها خديعة، والذي أعلمه علم اليقين أن ابن جهور سقط على رسالة بعث بها ابن زيدون إلى ابنته رملة، فكبر عليه الأمر، وخاف إن هو انتقم منه على فعلته أن يشيع الخبر بين الناس، ويكثر فيه اللغط، فاختار أن يختلق له ذنبًا بعيدًا كل البعد عما يتصل بأهله، فدبَّر له هذه الأخلوقة وسجنه.

وتحرك شاب هادئ مستكين في مكانه وقال مترددًا: ولم لا يكون اعتقال الرجل صحيحًا، وأنه كان يكيد لعميد الجماعة حقًّا؟ فقال البلنسي: ما أظن.

وبينما هم في الحديث إذ دخل أحد أصدقائهم، وحين عرف ما يتمارَوْن فيه صاح: على رِسْلكم أيها الإخوان. لقد أخطأتم جميعًا، وكل ما شاع عن اعتقال ابن زيدون كذب وهراء، فقد قابلت في طريقي أبا القاسم ابن رفق، فسألته فأخبرني أن الخبر غير صحيح، وأنه من إشاعات قرطبة التي تولد في اليوم ألف مرّة وتموت ألف مرّة، وبعد أن فارقته لمحت من بعيد شخصًا يشبه ابن زيدون على بغلته الشهباء وخلفه الخدم والعبيد.

فاضطرب القوم بين مصدق ومكذب، وكثر الحِوار والجدال حتى ملئوا المكان ضجيجًا.

وطار الخبر ليلا إلى دار عائشة بنت غالب فاستخفَّها السرور، ووقفت ترقص أمام مرآتها كأن بها مسًّا من جنون. ولذة الانتقام لدى النفوس المريضة أقوى من لذة الخير والإحسان في نفوس المحسنين.

وجلس ابن جهور وإلى جانبه ابنه أبو الوليد، فأخذ ينظر في وجوه وزرائه صامتًا حزينًا ينفخ من الهم، ويتململ من هول الحادثة. لقد كان يعرف ابن زيدون طموحًا، ويعرفه قلقًا متوثبًا جريئًا، ولكنه لم يكن يظن أن تطرحه المطامع هذا المطرَح، وأن يصل به الأمر إلى إشعال فتنة طائشة لن يكون لها إلا حطبًا. لقد كان يقدُر نبوغ ابن زيدون ويعلي مواهبه، وكان يردّ كل ما يرد إليه من وشايات به إلى حسد أنداده له وغيظهم من عجزهم عن الوصول إلى مرتبته، ولكنه علم الآن والأسف يملأ جوانحه أنهم كانوا فيما يرمونه به غير مبطلين. والتفت إلى ابن عباس وقال: ماذا ترى أن نفعل بهذا الرجل؟

– أرى أن نبقيه في السجن حينًا حتى تتحطم شوكته، وتنطفئ حدته، ثم ننفيه إلى الشمال، وقال الوزير عبد العزيز بن حسن: الرأي يا سيدي أن نقتله ونستريح منه، وبذلك يُحسم الداء، وتُستأصل شأفة الفتنة. أما بقاؤه في السجن فمدعاة إلى الخوف الدائم، وإغراء لمن لفّ لفه وسلك مذهبه. وقد يتحين نصراؤه فرصة لفراره فيقتنصونها.

وأسرع ابن عبدوس فقال: هذا هو الرأي الحاسم الحازم، فإن السجن سيزيد ابن زيدون عنفًا وسخطًا وإصرارًا وحبًّا للانتقام، وهو لن يعدَم وسيلة للفرار، وإذا فرّ فذلك هو الشر المستطير، فانتقل أبو الوليد عميد الجماعة إلى جانب ابن برد وهمس في أذنه كلمات. فوقف ابن برد عابسًا وهو يقول: مهلا أبا عامر. إن ابن زيدون ليس من الهوان على الدولة بحيث تستطيع أن تمحو اسمه من سجل الحياة بكلمة هادئة راضية، والدولة التي تقتل أبناءها لزلّة طائشة هي الهرة المضطربة الغريرة التي تأكل صغارها، وهي في جنونها الوحشي لا تدري ما تفعل. إن ابن زيدون قليل الأنداد والنظراء، وهو عمود هذه الدولة، وخير لنا إذا مال العمود أن نقوّمه حتى يثبت ما عليه من بناء، ولعله دُفع إلى ما قاله بالأمس دفعًا ولم يكن فيما قال صادقًا.

ودخل الحاجب في هذه اللحظة يقول: إن امرأتين محجبتين بالباب تلحَّان في لقاء سيدي. فالتفت ابن جهور إلى وزرائه كالمتعجب وهو يقول: من هاتان المرأتان؟

فقال الحاجب: إنهما تقولان يا مولانا، إنهما جاءتا للنصح للدولة ودرء الخطر عنها.

– أيّ خطر ويحك تدرؤه النساء؟ لتدخلا.

وفتح الباب فحسرت المرأتان عن وجهيهما القناع، فإذا نائلة الدمشقية، وولادة بنت المستكفي. فلما رآهما عميد الجماعة ظهر على وجهه الدهش وقال في عبوس: شرٌّ ما جاء بكما إلينا.

فقالت نائلة: شرّ وأيّ شرّ؛ إنك يا مولانا جمعت أشتات الفرقة بقرطبة، واستأصلت الفتنة، وكنت في كل ما تأتي وتذر حكيمًا حازمًا فدعيت بحق أبا الحزم. ثم إنك لم تقبض على زمام الحكم راغبًا في جاه أو مال أو علوّ منزلة، فإن لك من كريم محتدك، وجلال أبوَّتك ما يغني عن الجاه والمناصب، ولكنك رأيت ملكًا يترنح، وعزًّا يريد أن ينقضّ، فوثبت لإغاثته كريمًا مخلصًا صبورًا على اللأواء، واخترت من الرجال من تعتز بهم الدولة، وتفخر بهم الأمة، ولم تستخلصهم لنفسك إلا بعد طول التجربة ودقة الاختبار، ولكنك يا سيدي تركت هؤلاء الوزراء المخلصين لك، الدائبين على خدمتك عرضة للوشاة وغرضًا للحساد، وزدت فساعدتهم عليهم بأذنيك، ومكنتهم منهم بتصديق ما يأفكون. إن ابن زيدون يا سيدي الذي قبضت عليه بالأمس وألقيته في غيابة السجن جمال دولتك، وسياج حوْزتك، وسيفك الذي تدفع به الأعداء، ورأيك الذي تقارع به الآراء، ولو أنه كان وزيرًا بالمشرق لضربت به الأمثال، ولشدت إليه الرحال، ولكن الأندلس تدفن كنوزها، وتحطم بأيديها سيوفها. ثم من هذا النذل الفسل الدنيء الذي دفعك إلى ما عملت؟ ألم تملأ قصائده فيك أرجاء الأندلس؟ ألم يرحل في سفارتك إلى الأمراء فيرفع من قدر ملكك، ويشيد بسداد رأيك، ويملأ قلوب الأمراء رعبًا من قوتك، ألم يبذل لك النصح أمينًا، والولاء مخلصًا؟ عار وأي عار أن يشيع بين الولايات أن أبا الحزم ابن جهور آخذ أعظم وزرائه وخير رجاله بسعاية كذّاب أثيم — عار وأي عار أن يكون حديث البيوت والمجالس والسوامر أن أبا الحزم بن جهور يؤذي أوفى الناس له، ويقطع اليد التي لم تخلق إلا للذياد عن ملكه!

ثم سكتت قليلا بعد أن نال منها الجهد وانبرت ولادة تقول: إن ابن زيدون يا سيدي خطيبي وشقيق نفسي، فإذا بدرت منه هفوة كما يزعم الزاعمون فخذني به لأننا روح في بدنين، وما يصدر عنه فعني صدر، وما يتحرك لسانه به جهرًا، فإنما هو حديث نفسي سرًّا. إنني يا مولاي بعد تقلص ظل الخلافة عن أهلي وقومي، لم أحزن ولم أبتئس، لأني رأيت فيك خير من يقوم بأعبائها، ويرفع من ألويتها. وعلم الله لو رأيت فيك نقصًا، أو علمت ضعفًا، لحملت راية الأموية، ولدعوت الناس لمبايعة ابن المرتضى، ولأعدت الفتنة جذعة ماحقة تأكل الرطب واليابس، ولكنك يا مولاي جئت فقوّمت المعوج، وأقمت المائل، ووطدت أركان الدولة، ورفعت ذكر قرطبة في الخافقين، ونشرت العدل بين الرعية، فجزاك الله خير ما يجزي به عباده العاملين. ولن أكتمك يا مولاي أني لم أعجب بابن زيدون، ولم أمنحه حبي وصداقتي، إلاّ لأنه من المخلصين في محبتك، المُشيدين بفضلك، المدّاحين لمناقبك. وأقسم أني لو علمت فيه شرًّا لكنت أول من يكشف لك أمره ويفضح لديك سرّه. إنها سعاية يا مولاي، سعاية خبيثة من بعض المنافسين له والحاقدين عليه.

فتململ ابن جهور وقال: أيَّة سعاية يا فتاة؟ إنني سمعته بأذني!

ووقفت نائلة تقول: أين سمعته يا مولاي؟

– بدار ابن المكري.

– ومن الذي حملك على الذهاب إليها؟

– هذا سرّ الدولة يا نائلة. فغمغمت تقول بما لا يُسمع: إنها عائشة بنت غالب. ويل للخائنة! لقد سبقتني هذه المرة، وستكون الحرب بيني وبينها مشتعلة الأوار. ثم اتجهت إليه تقول: قد يكون مما دفعه إلى القول بأن ابن المرتضى في داره شدّة حبّه لولادة حينما أدخل عليه أعداؤه أنك قبضت عليها ووكلت إلى عبيدك تعذيبها.

فصرخت ولادة والدموع تتناثر من عينيها: أحضره يا سيدي واسأله عما قصد إليه من هذا الاعتراف الكاذب، فلعل له حجة يُدلي بها، وقد يكون مخطئًا ولو أرشد إلى الحق لعاد إليه أقوى تمسكًا به، وأشدّ صلابة في النفخ دونه، إن الدولة يا سيدي أحوج إلى أمثال ابن زيدون من الجيش والسلاح، وليس من الهين على كل قرطبي أن يراه مُلقى في السجن دون أن يُسأل عما فعل. إنه ملك الأمة، فمن حق أبناء الأمة أن يسألوا عما يُبيَّت لبطلهم من المكايد.

فصرخ ابن جهور قائلا: هذا تهديد يا فتاة! فقالت نائلة: إنه ليس بتهديد ولكنه الحق الصراح الذي لا مواربة فيه. وهب ابن زيدون مخطئًا، أليس في ساحة عفوك، ما يتسع للصفح عنه؟ وقديمًا قال المتنبي:

ترفق أيها المولى عليهم
فإن الرفق بالجاني عتاب

ويقول:

وما قتل الأحرارَ كالعفو عنهم
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟

ويقول الله عز شأنه لمن هو خير منك فيمن هم شرّ منه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.

وماذا صنع ابن زيدون؟ ادعى على نفسه كذبًا أن ابن المرتضى في داره، ليصرف عن ولادة فيما خيلوه له سوء عذابك وتنكيلك، ثم ثبت أن الرجل لم يكن بداره، وأنه لم يظهر له أثر بقرطبة كلها. أيكون جزاؤه بعد ذلك أن يسجن وأن يُطوّق بالأغلال كما يفعل بالأشرار والمجرمين؟ ادعه يا مولاي إليك، وخذه بالمعروف والموعظة الحسنة، فإنك واجد فيه بعد محنته ذهبًا نضارًا أخلصته النار، وسيفًا بتارًا صقله الكفاح.

– لا يا نائلة إنه مِسْعَر فتنة، ونذير شرّ، ولن تهدأ قرطبة وهو طليق ينفث سمومه. لقد كان يمرّ بخاطري أن أقتله، ولكني سأكتفي الآن بسجنه.

فتقدمت ولادة إليه متوسلة تقول: انفه يا سيدي إلى أية مملكة من ممالك الأندلس وانفني معه إن كنت لا تزال ملحًّا في إقصائه.

– لا يا سيدتي، إني لا آمن غوائله إلا إذا كان في قبضة يدي، وتحت سمعي وبصري، ويحسن ألا نطيل الحديث في هذا الشأن فقد جُلتما فيه بأكثر مما أحب. ثم قام من مجلسه فانصرفتا حزينتين باكيتين.

دخل ابن زيدون السجن بائسًا كاسف البال بعد أن طارت آماله، وتقطَّعت حباله، وبعد أن زلت به القدم، وأخطأ سهمه الهدف. كان يبني له الخيال عزًّا كبيرًا، ويصوِّر له الطموح جاهًا عريضًا، ألم يكن من قبيلة بني مخزوم ذات الشرف الباذخ، والمحتد الراسخ، التي دخلت الأندلس مع الفاتحين فملكت البلاد، ووطّدت دعائم الإسلام؟ ألم تكن لأبيه غالب الرياسة والمنزلة الرفيعة في القضاء والعلم والأدب؟ ثم يزفر طويلا وهو يقول: والآن ماذا أصنع؟ أو ماذا سيُصنع بي؟ إن ابن جهور إذا غضب كانت نار الجحيم بردًا وسلامًا، وإذا صمم نكَّب عن ذكر العواقب جانبًا، وبعد حين يرى نفسه وقد قبض على قلم أمامه فكتب:

قل للوزير وقد قطعتُ بمدحه
زمنًا فكان السجن منه ثوابي
لا تخشَ في حقي بما أمضيته
من ذاك فيّ، ولا توقَّ عتابي
لم تُخط في أمري الصواب موفقًا
هذا جزاء الشاعر الكذاب!

ولكنه بعد أن يقرأ الأبيات يمزق الورقة ويصيح: هذا لن يكون، يجب أن أحتال لاتقاء شره، ويجب أن أستعطفه وأستنجد بعفوه، ويجب أن أعتذر له بشعر ينسي الناس قصائد النابغة في الاعتذار للنعمان بن المنذر. لن أيأس مادام في العمر فُسْحة، ولن أقنط من رَوح الله، ولن أدع وسيلة للخروج من هذا المأزق إلا سلكتها. إن أمامي حياة وآمالا ومطامح، وإن البطل إذا عثر انتعش، وإذا سقط وثب، وربَّ ضارة نافعة، وربّ نقمة من ورائها نعمة!

هكذا كانت نفس أبي الوليد، وهكذا كان تشبثه بالحياة وتعلقه بالآمال، فأخذ يبعث في كل يوم إلى ابن جهور بقصائد في الرجاء والاعتذار من عيون الشعر. بعث له مرّة بقصيدة منها:

إيه أبا الحزم اهتبل منَّةً
ألسنة الشكر عليها فِصاحْ
لا طار بي حظٌّ إلى غاية
إن لم أكن منك مريش الجناح
لم يثنني عن أمل ما جرى
قد يُرقع الخرقُ وتُؤسى الجراح!
وقاك ما تخشى من الدهر من
تعبت في تأمينه واستراح

وبعث مرة بأخرى منها:

من يسأل الناس عن حالي فشاهدُها
محضُ العيان الذي يغني عن الخبر
لم تطو بُردَ شبابي كَبرةٌ وأرى
برقَ المشيب اعتلى في عارض الشعر
قبل الثلاثين إذ عهد الصبا كثبٌ
وللشبيبة غصنٌ غيرُ مهتَصر
ها إنها لوعة في الصدر قادحةٌ
نارَ الأسى ومشيبي طائر الشرر
لا يهنئ الشامت المرتاح خاطرُه
أنَّى معنَّى الأماني ضائعُ الخطر
هل الرياح بنجم الأرض عاصفة؟
أو الكسوف لغير الشمس والقمر؟
إن طال في السجن إيداعي فلا عجبٌ
قد يودع الجفنَ حدَّ الصارم الذكر
وإن يثبط أبا الحزم الرضا قدَرٌ
عن كشف ضري فلا عتب على القدر

ولكن ابن جهور لم يُلق إلى شعر أبي الوليد سمعًا، ولم يقبل له عذرًا، ولم تعطفه عليه عاطفة، وبقي ابن زيدون يسخط على الحياة، ويبكي الأمل الضائع، والرجاء الخائب. ولم يكن يفرّج عنه بعض همومه وأوجاله إلا زيارة نائلة وولادة، فإنهما لم تنقطعا عن زيارته يومًا واحدًا. والحب والوفاء خلَّتان لم يخلقهما الله يوم خلق الأحزان والكوارث إلا لتخفّفا من شدَّتها ويهدئا من عاصفتها. ومن الناس من يتحلّى بقدرة عجيبة على استلال همّ المهمومين، ولباقة نادرة في الحديث إلى المحزونين بحيث لا يدعهم يشعرون أنه يقصد إلى تسليتهم، أو الترويح عنهم، فإن مما يدعو إلى تمرد النفوس أن تشعر أن هناك حيلة تحاك لتغفلها وصرفها عما هي فيه. وأكثر ما يبدو ذلك في الأطفال، فإن من أنجع وسائل الإيحاء إليهم بنصح أو إرشاد ألا يدور بخلدهم أن ما يوجه إليهم إنما صنع قصدًا للاحتيال لإرشادهم.

كانت نائلة تتحلى بهذه الصفة النادرة، فلم يدر حديثها مع ابن زيدون على السجن والآمال الضائعة، ولكنه كان حديثًا لطيفًا عذبًا تتخلله الضحكات، وتمتزج به الفكاهات، كما لو كانت تسامره في بهو دارها، والدنيا مقبلة، وثغر الزمان بسَّام، وكأن تلك الفواجع الجسام من قبض واعتقال وتعذيب، قد خُطّ عليها في سجل الماضي، كما خط في القرطاس سطر على سطر. ولكن ولادة كانت من طابَع آخر، كانت من الصنف الذي يعتقد أن الأحزان لا تنقشع إلا بالحديث فيها، وأن الحزين إنما يخف حزنه إذا أكثر ألم الناس له وامتزجت دموعهم بدموعه. لم ترقأ لها عين، ولم يهدأ لها وجيب قلب، وكانت كلما نظرت إلى حبيبها وهو في تلك الغرفة المظلمة المعفنة الهواء في سرداب الجامع الكبير، زادت شجونها، وفاضت شئونها.٢ فسألت ابن زيدون: من الذي دعا ابن جهور إلى الذهاب إلى دار ابن المكري؟ فأجاب في نبرة حزينة: لا أدري يا سيدتي، إلا أنه فجأنا بغتة فرأيناه في الدار من حيث لم نكن نحتسب.

وأسرعت نائلة تقول: ما لنا وللحديث في هذا الآن يا ابنة الخليفة! يجب ألا ننظر إلى الخلف، وأن نتجه دائمًا إلى الأمام، فكثيرًا ما أضاع الناس حياتهم بالنظر إلى الماضي، والغفلة عن الحاضر والمستقبل، وكم طارت منهم فرص لو رأوها وهي مقبلة عليهم لاقتنصوها. أنا أعرف كيف دُبرت الدسيسة، وكيف دُعي ابن جهور إلى دار ابن المكري، وسأعرف كيف أنتقم من الدساسين. دعينا بالله يا فتاة من الخوض في هذا الحديث، وقولي لأبي الوليد خبر العجوز المراكشية.

فانفرجت شفتا ولادة عن ابتسامة حزينة، وقالت: إن أمر هذه المرأة كان عجبًا من العجب، كنت أجلس بالأمس أنا ونائلة في شرفة القصر، فسمعنا صياحًا وضجيجًا، فنظرنا فإذا عدد عظيم من الصبيان يتبعون عجوزًا تحمل فوق رأسها سَفَطًا،٣ وتجر وراءها كلبًا ومعزاة، وكانت ثياب العجوز ممزقة بالية، وكان وجهها يتكلم بما هي فيه من فقر وجَهْد. وتملك الصبيان شيطان الشر، فأخذوا يقذفونها بالحجارة وهي تتقي سهامهم بالانحراف عنها يمنة ويسرة، حتى إذا أحردوها لجأت إلى باب القصر فدخلته وأغلقت بابه، ثم سقطت وراءه من الإعياء لا تكاد تتنفس، فأسرعت إليها جاريتي عتبة، وأخذت تسرّي عنها بعض ما هي فيه وأحضرت لها طعامًا وشرابًا، فلما سكن ما بها، وأفرخ رَوْعها، نزلنا لمعرفة أمرها فأخبرتنا: أنها من مراكش، وأنها جاءت من إشبيلية ماشية حافية. ثم سألناها عن الكلب والمعزاة فقالت: هذا أخي يجود عليّ بأمانته ووفائه، وهذه أختي تجود عليّ بلبنها وزبدها. ثم سألناها عن مورد رزقها فقالت: إنني عرَّافة، وإنني ألمح في سطور الكف ما حجبه الماضي في موجاته، وما يخبؤه المستقبل في طيَّاته، وأقرأ ما في نفس سائلي كأنما أقرأ في كتاب مفتوح. ثم تناولت كفي في خشونة وجفوة، فلما نظرت فيها صاحت: هذه كف عجيبة! هذا خط الملك يا سيدتي، ولكنه واحسرتاه ينحرف نحو اليسار قليلا، فسبحان من لا يبيد ملكه! له الملك وله الأمر وهو على كل شيء قدير. تاج هوى، وصولجان تحطم، ثم جذبتها إلى عينيها كأنها تريد أن تصوب النظر إلى خطوطها وقالت: وهذا الخط خط الحب، ماذا به؟ إنه يتدارك ما فات من انحراف خط الملك، هو أعمق خط رأيته في حياتي. حب يملك القلوب، ويخضع جامحات النفوس، ولكنه كان حائرًا مضطربًا مختلج العزيمة، كلما جلس فوق عرش من القلوب قلق به الموضع، فطار يبتغي سواه، ولكنه استقر الآن، نعم إنه استقر في قاعة مظلمة تحت مسجد كبير. إني أسمع شكوى، وأسمع أنينًا في هذه القاعة المظلمة، وأرى فتى كان يملأ الدنيا همَّة ونبوغًا يحصره مكان ضيق ليس به إلا نافذة صغيرة في أعلاه. ثم بدا على وجهها الدهش وصاحت: انظري يا سيدتي، إن النافذة تتسع، انظري بالله عليك إلى قضبانها، إنها تتحطم وتطير في الهواء. ما هذا؟ لقد أصبحت النافذة بابًا، والفتى الحزين يهم بالخروج من الباب. ثم قهقهت وصاحت: لقد خرج إلى الهواء والنور! إنه طليق ينفض أثوابه كما يصفق الطائر بجناحيه إذا هم بالطيران. إنه يضحك ويمزح، ويستقبل الحياة كأشهى ما تكون الحياة. سبحانك يا رب! ما أقصر الزمن في هذه الدنيا بين الحزن والسرور! وما أوهى الحدَّ بين الأفراح والأتراح؛ ثم عادت إلى عبوسها وقالت: ولكن الحب شحيح ضنين، فهل يجمع في هذه المرّة بين القلبين ويأسو مرهمه الجرحين؟ ثم التفتت إليّ وقالت: اضحكي يا سيدتي واستبشري واغتنمي فرصة الشباب فإن الشباب لن يعود!

فتنهدت نائلة وقالت: أي والله إن الشباب لن يعود؛ ووددت لو كان بالسجن مرآة لترى في وجهها منه بقية. وابتسم ابن زيدون لولادة وقال: لن يطول سجني يا فتاتي وستزيد مرارة الماضي في حلاوة ما يُقتبل من الأيام.

ويعود ابن زيدون بعد خروج حبيبتيه الوفيتين إلى أشجانه، ويتمرّد على سجنه، وتثور نفسه، ويتذكر أصدقاءه، ويرجو حسن شفاعتهم فيه، فيكتب إلى صديقه أبي الوليد ابن عميد الجماعة متوسلًا:

هل النداء الذي أعلنت مستمعُ
أم في المئات التي قدمت منتفعُ
قل للوزير الذي تأميله وزَري
إن ضاق مضطرب، أو هال مطَّلع
أصخ لهمس عتاب تحته مقة
وكلف النفس منه فوق ما تسع
لا تستجز وضع قدري بعد رفعته
فالله لا يرفع القدر الذي تضع

ولكن أبا الوليد على حبه له ورغبته في فك أسره كان يهاب أن يخاطب أباه في شأنه، فذهبت صيحة ابن زيدون في الهواء.

وفي صبيحة يوم يدخل عليه حارس السجن وبيده رسالة من نائلة، فيسرع إلى فضها ويقرأ فيها:
إذا ما الدهرُ جرَّ على أناس
كلاكلَه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا: أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا

كادت لك عائشة بنت غالب فكدنا لها، وهي اليوم في طريقها إلى منفاها بقشتالة بعد أن صادر ابن جهور كلّ ما تملكه من صامت وناطق، إني أرى تباشير الفرج، فاصبر ولا تبتئس.

وما قرأ الرسالة حتى ابتسم للخبر، ثم أخذ يغمغم:

ليس الركون إلى الدنيا دليل حجًا
فإنها دولٌ أيامُها متعُ
١  الجدة: الغنى.
٢  العرق الذي تجري منه الدموع.
٣  وعاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤