الإصلاحات المرفوضة

(١) رفض الإصلاحات الفرنسية المزعومة

لم تسجل قضية تونس في جدول أعمال الأمم في اجتماعها بباريس ٥١ / ١٩٥٢ ولم يقبل مجلس الأمن المناقشة فيها عندما اجتمع بنيويورك في أبريل ١٩٥٢، ولكن الحكومة الفرنسية كانت تخشى الجلسة العامة لهيئة الأمم التي ستعقد جلستها بأمريكا في شهر ديسمبر ١٩٥٢، فسعت في أن تسابق الزمن بحل المشكلة التونسية حلًّا ترضاه وتصبو إليه، فتضع الرأي العام العالمي أمام الأمر المقضي؛ إذ تقيم الدليل له على أن المفاوضات بين تونس وفرنسا قد استؤنفت، بل أثمرت ثمرتها وأنتجت خير نتيجة وتم الاتفاق وساد الوئام وصدرت الإصلاحات كما تريدها فرنسا، ونفذت وقضى الأمر ولم يبقَ لتدخل الأمم المتحدة مبرر أصلًا.

وبعد أن استعصى تشكيل اللجنة المختلطة فماتت قبل أن تولد ودُفنت وقُبرت، لم يبقَ إلا أن تفرض الحكومة الفرنسية ما تريده على جلالة الملك بالقوة، وما كونت جو اضطهاد وإرهاب إلا لذلك الغرض، ولكن الشعب بالمرصاد، متماسك القوى، متراص الصفوف، كله يقظة وحذر، مستعد لرد هجمات الاستعمار في كل ميدان، حتى لا يزيد استفحالًا واستعصاء عن كل معالجة، ولكي لا يتمكن من إعطاء اعتداءاته صبغة قانونية تجعل اغتصابه حقًّا مشروعًا، ولكي يبقى الحق حقًّا والظلم ظلمًا، واليقظة واجبة والحذر ضروري؛ لأن ساعة غفلة تقضي على مستقبل البلاد.

وإن نظرة خاطفة للتحويرات التي أرادت فرنسا فرضها، كافية لكشف الغايات الفرنسية وجوهر الاستعمار الفرنسي نفسه.

وقد عددت الدعاية الفرنسية أبواقها وبثت أخبارها ونشرت في العالم دويها وجلبتها، وأكثرت من التصريحات وملأت الدنيا بالبلاغات والبيانات تكرر وتعيد أن فرنسا ستعطي لتونس الترضيات اللازمة وستحقق لها رغباتها وستحل مشكلتها بمنحها إصلاحات جوهرية تضع حدًّا نهائيًّا للخلاف، وأخيرًا ختم وزير خارجية فرنسا نفسه تلك الحملة بخطاب١ ألقاه في المجلس الوطني الفرنسي شرح فيه تلك الإصلاحات وما ترمي إليه، ونبه على أنها لا تمس بالسلطان الفرنسي والمصالح الفرنسية، وأراد الدفاع عن نفسه أمام الرأي العام الفرنسي، فافتضح أمره وأقر أنه سيحافظ على الاستعمار وما فيه، قال: «ونرى لزامًا أن نذكر من مبدأ الأمر أن البرنامج المرتقب لن يؤثر بأي حال في الحقوق التي تكفلها المعاهدات لفرنسا والتي تحرص على الاحتفاظ بها ضمانًا لمصالحها العليا، وفي الوقت ذاته لمواجهة تبعاتها الدولية، ففي هذا النطاق المحدود تدخل بنوع خاص مسائل الدفاع الوطني والأمن الداخلي الذي تقع مهمة المحافظة عليه على كاهلنا بمقتضى الاتفاقات الجارية، والتي تقضي الضرورات أن تكون من اختصاصنا المعترف به في نطاق الشئون الخارجية، وكذلك الاحتفاظ بالقضاء الفرنسي الذي لا يتمتع بحمايته الفرنسيون فحسب، بل جميع من كان يطبق عليهم نظام الامتيازات، وأيضًا الشئون المالية التي تتضمن المعاهدات شروطًا خاصة بها.»
ثم إن الوزير عرض على المجلس الوطني الفرنسي فحوى ما سماه إصلاحات.٢

أن مشروعه هذا كما هو معروض يُعتبر اعتداء خطيرًا على السيادة التونسية بفرض مشاركة أفراد الجالية الفرنسية بتونس، وهي جالية أجنبية في ممارسة هذه السيادة، ثم إن هذا المشروع يناقض مبدأ الحكم الذاتي الذي يعلنه سواء ذلك في شئون الحكم أو التشريع أو الإدارة العمومية.

(٢) الحكم

يقتضي المشروع بأن تبقى الحكومة التونسية مختلطة، فتتألف من سبعة وزراء تونسيين يتولون الوزارات التقليدية وسبعة فرنسيين يشغلون المراكز الرئيسية في الإدارة التونسية، وهي الكتابة العامة والمالية والأشغال العمومية والمعارف العمومية وإدارة البريد والتليفون والتلغراف، وإدارة التعمير، ومنصب مساعد الكاتب العام. أما مصالح الأمن العام فهي موضوعة مباشرة تحت سلطة ممثل فرنسا المقيم العام الفرنسي في تونس، وهو المتصرف المطلق في شئون الأمن العام الذي لا يدخل في اختصاصات الحكومة التونسية إطلاقًا.

ويقضى المشروع من جهة أخرى بتعيين مساعدين تونسيين للمديرين الفرنسيين، مع العلم بأن مناصب المساعدين موجودة حاليًا بالنسبة لبعض الإدارات مثل إدارة المعارف العمومية، على أن أولئك المساعدين مجردون من السلطات الحقيقية، ولا يكون لهم من الصلاحيات إلا بقدر ما يعترف لهم به رؤساؤهم الفرنسيون.

(٣) التشريع

أعلن جلالة الباي في خطاب العرش في ذكرى جلوسه يوم ١٥ مايو ١٩٥١ عزمه على منح الشعب مجلسًا تشريعيًّا يتألف من التونسيين فقط ويُنتخب أعضاؤه انتخابًا ديمقراطيًّا، وله سلطة تفاوضية، وتكون الحكومة التونسية المؤلفة من تونسيين وحدهم مسئولة لديه.

وترمي فرنسا بمشروع الإصلاحات الذي تعتزم فرضه على جلالة الباي إلى الحيلولة دون تنفيذ إرادة الملك في إقامة أنظمة ديمقراطية في البلاد تتلاءم مع تطور الشعب التونسي؛ ذلك أن المشروع الفرنسي يهدف إلى إنشاء مجلسين تتعارض صبغتهما تعارضًا واضحًا مع أبسط مبادئ الديمقراطية وتقر نظام السيادة المزدوجة المنافي للقانون.

أما المجلسان فهما:
  • (أ)

    مجلس تشريعي يتألف من ثلاثين عضوًا تونسيًّا يعيِّنهم جلالة الباي ولجلالته أن يستشيرهم في بعض لوائح القوانين.

  • (ب)

    مجلس مختلط نصفه من التونسيين ونصفه من الفرنسيين، وينظر في جميع شئون الميزانية والشئون الاقتصادية والاجتماعية، وتقوم مشاركة الفرنسيين في هذا المجلس دليلًا على نظام السيادة المزدوجة.

وإذا كان جلالة الباي يحتفظ (في المشروع الفرنسي) بالسلطة التشريعية نظرًا لأن القوانين في تونس تصدر في شكل مراسيم ملكية، فالحقيقة هي أن تلك السلطة إنما هي سلطة صورية، لأن ممثل فرنسا محتفظ بامتياز فظيع يخول له حق إعطاء تلك المراسيم الصفة التنفيذية؛ إذ لا تكون نافذة إلا مشفعة بإمضائه.

وبهذا يتضح جليًّا أن الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس التشريعي وهم من التونسيين فقط إنما تعيِّنهم فرنسا في الواقع؛ إذ إن أمر تعيينهم يخضع لموافقة ممثل فرنسا المقيم العام بتونس ليكون نافذًا.

وخلاصة القول: إن المظاهر الأساسية للسيادة التونسية التي يحتفظ بها جلالة الباي مقضي عليها بالتلاشي؛ بسبب ما للمقيم الفرنسي من سيطرة على حياة البلاد التشريعية.

(٤) الإدارة العمومية

  • (أ)

    تبقى الإدارات التي يسيِّرها الوزراء التونسيون خاضعة لسلطة المقيم العام خلافًا للمزاعم التي تضمنها المشروع الفرنسي؛ ذلك أن المقيم العام يملك حق التعقيب على جميع القرارات الوزارية بإحالتها إلى محكمة أطلق عليها «المحكمة الإدارية»، وقد أُسندت رئاستها لفرنسي، وبها أربعة أعضاء من الفرنسيين وأربعة من التونسيين، وبهذا الحق الذي يملكه المقيم الفرنسي، مضافًا إلى الأغلبية الفرنسية في المحكمة المذكورة يتعذر تنفيذ أي عمل يعتزمه الوزراء التونسيون؛ لأن أعمالهم تكون تحت رحمة السلطات الفرنسية، وعلاوة على ذلك فإن الأحكام التي تصدرها تلك المحكمة يمكن استئنافها لدى محكمة استئنافية مقرها في فرنسا وتتألف هي أيضًا من أغلبية من الفرنسيين، وهكذا تظهر سياسة الازدواج التي تسلكها فرنسا في إلحاق محكمة تونسية بمؤسسة فرنسية مقرها فرنسا.

  • (ب)

    يقضي نظام أية دولة عصرية بأن يشغل الأهالي وظائف بلادهم، كما يقضي بأن تكون لغتهم هي اللغة المتداولة في الإدارة، غير أن المشروع الفرنسي ينكر هذه المبادئ الأولية، ويفرض على التونسيين المرشحين للوظائف العليا والوظائف الرئيسية بالإدارة اللغة الفرنسية كمادة أصلية في الامتحانات التي تجرى لانتخاب الموظفين، وذلك في بلاد لغتها العربية، وهذا الشرط يضاف إلى القائمة الطويلة من الوظائف المخصصة للفرنسيين والتي تحرم التونسيين من جميع المراكز ذات الأهمية في إدارة بلادهم.

يتضح من البحث السابق أن مشروع الإصلاحات الفرنسية يعزز — لا أكثر ولا أقل — السياسة الاستعمارية الفرنسية التي تهدف إلى اعتداء مطرد على السيادة التونسية، وتتجاهل تجاهلًا تامًّا الرغائب المشروعة للشعب التونسي في السيادة الكاملة والاستقلال.

إن الشعب التونسي قد رفض جميع الإصلاحات الفرنسية المضللة، وهو يتحمل منذ أكثر من تسعة أشهر ما تسلطه عليه السلطات الفرنسية من ضروب العسف والإرهاق التي يقابلها بمقاومته الباسلة وهو ثابت في عزمه على استرجاع استقلاله.

وإن فرنسا التي توالي خرق ميثاق هيئة الأمم المتحدة تتقدم بمشروع إصلاحات من شأنه — لو قُبل — أن يدعم على أسس قانونية الحكم المباشر وسياسة إبادة السيادة التونسية، وهي تهدف بذلك المشروع إلى تضليل الرأي العام العالمي عن حقيقة نواياها التي تتسم بأشد النزعات الاستعمارية تأخرًا ووحشية.

ورأى الرأي العام التونسي ما يهدده من خطر بمجرد ما اطلع على مشروع الحكومة الفرنسية، وعقد نواب جميع المنظمات القومية اجتماعًا لبحثه فرفضوه بالإجماع، وبينوا في لائحة نشروها أسباب الرفض، وهذا نصها:

لائحة

  • الحزب الحر الدستوري الجديد.

  • الدستور القديم.

  • الاتحاد العام التونسي للشغل.

  • الاتحاد العام التونسي للفلاحة.

  • الاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة.

  • الغرف الاقتصادية (الزراعية) (التجارية).

  • اتحاد المحامين.

  • اتحاد الأطباء.

  • اتحاد الصيادلة.

  • اتحاد المهندسين.

  • جميع المنظمات الرياضية والثقافية.

إن الموقعين أدناه ممثلي المنظمات القومية التونسية السياسية والنقابية والمهنية والصناعية والغرف الاقتصادية والمهن الحرة.

بعد أن اطلعوا على البيانات التي أفضى بها أمام الجمعية العمومية (مجلس النواب) وزير الخارجية الفرنسية حول مشروع الإصلاحات الذي تنوي فرنسا تطبيقه في تونس.

يرون أن هذا المشروع لا يعدو أن يكون مماثلًا من جميع النواحي للمشروع الذي صدر بصدده بلاغ الإقامة العامة بتاريخ ٢ أبريل الماضي، والذي قد سبق أن اعتبر غير مقبول من قبل عموم الرأي العام التونسي.

وأنه:
  • (١)

    يقر أسلوب السيادة المزدوجة؛ إذ إنه يقضي بإشراك الفرنسيين بصورة إجبارية في جميع المؤسسات السياسية في البلاد، ويُشركهم في ممارسة السياسة ممارسة فعلية.

  • (٢)
    يعلن من جهة مبدأ الاستقلال الداخلي ويخالفه من جهة أخرى في الميادين الثلاثة التالية: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والإدارة العمومية، وذلك:
    • (أ)

      بالإبقاء على المناصفة في داخل الحكومة التونسية؛ حيث لا يزال الفرنسيون يحتلون ستة مناصب من بينها المناصب الرئيسية التالية: السكرتارية العامة، والمالية، والأشغال العامة، والمعارف، ويضاف إلى ذلك الأمن العام التابع إلى الإقامة العامة مباشرة.

    • (ب)

      بالإبقاء على تأشيرة المقيم العام على المراسيم الملكية، وحق طلب وقف التنفيذ الممنوح للمقيم العام ضد أعمال الوزراء والإصلاح الوهمي للمجالس النيابية التي تبقى معينة تعيينًا وذات اختصاصات استشارية بحتة.

    • (جـ)

      بالإبقاء على جميع الاستثناءات والتضييقات لمبدأ وظيفة عمومية تونسية (قائمة المناصب المخصصة للفرنسيين، هيئات التحكيم المشتركة الخاصة، المناظرات، جعل الامتحانات باللغة الفرنسية في الوظائف العليا والرئيسية، استمرار تعيين موظفين فرنسيين بطريقة الإحالة … إلخ).

    • (د)

      بإحداث محكمة إدارية مختلطة ذات رئيس فرنسي تكون آلة في يد المقيم العام ليشدد استحواذه على إدارة البلاد.

  • (٣)

    لا يحقق أي تقدم بالنسبة للوضع الحاضر في ميدان التطور الديمقراطي للمؤسسات التونسية؛ إذ إنه فيما يتعلق بالمجلسين المقترح إحداثهما أن — أحدهما لا يعدو أن يكون صورة أخرى للمجلس الكبير — لا مبدأ الانتخاب ولا سلطة التقرير.

  • (٤)

    يقدم كإنشاءات جديدة بعض المؤسسات الموجودة بالفعل في الوقت الحاضر … مناصب مساعدين تونسيين لمديري الإدارات الفرنسيين (مثل إدارة المعارف، والاقتصاد، والصحة. وقد وجدت منذ سنة ١٩٤٦)، ومجالس الأعمال (المقاطعات) المنتخبة المؤسسة سنة ١٩٢١ والتي وقع العدول عنها فيما بعد.

  • (٥)

    يقدم من جديد المشروع الموضوع تحت الدراسة منذ سنة ١٩٤٤ والخاص بالمجالس البلدية المنتخبة مع مبدأ التمثيل الثنائي في المدن الكبرى.

هذا وبما أن مثل هذا المشروع يعتبر دون الحد الأدنى الذي يطالب به التونسيون لتسيير شئونهم بكثير.

وبما أن حسن الاستعداد والاعتدال الذي أبداه التونسيون طيلة مدة المفاوضات التي بدأت في شهر أغسطس سنة ١٩٥٠ لم تقع مقابلتها بالمثل.

وبما أن الحكومة الفرنسية بعكس ذلك قابلت ذلك الموقف بمذكرة ١٥ ديسمبر وبسياسة البطش التي بدأت في شهر يناير ١٩٥٢.

فإنهم يعتبرون مشروع الإصلاحات الوهمية المعروضة من قبل الحكومة الفرنسية، إذا وقع تنفيذه في الظروف الحالية سيعتبر بناء على هذه الملابسات من الناحيتين القانونية والواقعية مفروضًا فرضًا على الملك وعلى الشعب التونسي، ولن يأتي بأي حل صحيح لأزمة العلاقات الفرنسية التونسية.

ويضعون ثقتهم في جلالة الملك لتحقيق أماني الشعب التي تتفق مع الرغبة السامية المعلنة في مناسبات عديدة وخاصة في خطاب العرش في ١٥ مايو ١٩٥١ ومع مصالح البلاد وسيادتها ضد كل التهديدات التي تتعرض لها.

ويناشدون الضمير العالمي لإيجاد حل للنزاع الفرنسي التونسي على أساس العدالة والقانون الدولي المتمثلين في ميثاق الأمم المتحدة.

لما رأت الحكومة الفرنسية أن مكانة «دي هوتكلوك» في البلاد غير مكينة، وأنه لا يتمتع بثقة الملك، بل التوتر بينهما يقوي ويشتد، أرادت أن تتلافى الأمر بأسلوب زاد الطين بلة، والهوة اتساعًا؛ إذ أضافت ضغطها إلى ضغط المقيم، وسعت في إجبار الملك على قبول الإصلاحات المزعومة، وذلك برسالة بعث بها رئيس الحكومة الفرنسية إلى الملك قال فيها:

سري
باريس في ٤ يوليو ١٩٥٢
رئاسة مجلس الوزراء
الرئيس
مولاي

بمناسبة عودة «السيد دي هوتكلوك» إلى تونس ممتعًا بالثقة التامة للحكومة، أرغب بأن أكلفه برسالة شخصية إلى سموكم.

إن مشروع الإصلاحات الذي سيعرضه المقيم العام على خاتمكم السامي قد نال تصديق مجلس الوزراء وعُرض على البرلمان فدلت الآراء التي أبديت في اتجاهات مختلفة أثناء المناقشات أن الإصلاحات تعد شوطًا بعيدًا جدًّا في طريق التحرر.

وبناء عليه فإن جلالتكم بفضل سامي حكمتكم سترى بدون شك أنها لا يمكنها تأجيل قبولها لهذه الإصلاحات التي تتفق اتفاقًا تامًّا مع روح معاهدة «المرسى».

لذلك فإن الحكومة الفرنسية تضع ثقتها في جلالتكم، وهي واثقة أن ختم هذه الإصلاحات المختلفة سوف تدل على استمرار علاقات الود والصداقة بين فرنسا والأسرة الحسينية وتكون بداية عهد جديد يسوده الهدوء والرفاهية.

وأرجو يا صاحب الجلالة أن تتفضلوا بقبول عبارات خالص شعوري وفائق تقديري.

رئاسة مجلس الوزراء
أ. بينيه

إلى جلالة سيدي الأمين باشا باي
صاحب المملكة التونسية
المناورات الفرنسية المفضوحة

لقد أصبحت الإقامة العامة هي المصدر الوحيد الذي تستقي منه الصحافة المحلية والعالمية أخبارها، بعد أن فرضت الرقابة الشديدة على جميع الصحف، وكمت الأفواه، وقضت على حرية القول والفكر، فأبعدت عن طريقها كل مساجل، وأزالت كل منافس، فخلا لها الميدان، وأخذت إذ ذاك تنشر ما بدا لها مما يماشي رغباتها، ويسهل عليها بلوغ غاياتها، رامية إلى وضع الملك في مأزق حرج، وإلزامه بالأمر الواقع، فنسبت إليه أقوالًا لم يفُه بها وتعهدات لم يقبلها.

ودأبت المقامات الفرنسية منذ الانقلاب المسلح الذي قام به المقيم العام في ٢٦ مارس ١٩٥٢ فأقصى وزارة السيد محمد شنيق عن الحكم، تنشر أنباء مضللة تزعم فيها أن جلالة محمد الأمين الأول متفق مع الحكومة الفرنسية في جميع الخطوات التي أقدمت عليها بواسطة ممثلها بتونس، ومنها إقصاء الحكومة التونسية الشرعية، وتنصيب وزارة البكوش، وإدخال إصلاحات على نظام الحكم في البلاد طبقًا لمبدأ السيادة المشتركة الذي تضمنته مذكرة الخارجية الفرنسية في ١٥ / ١٢ / ١٩٥١، تلك المذكرة التي انقطعت بسببها المفاوضات بين تونس وفرنسا.

وكانت فرية من ذلك القبيل ما زعمه ممثل فرنسا في مجلس الأمن أثناء إثارة القضية التونسية في أبريل ١٩٥٢، كما كانت من ذلك القبيل أيضًا المزاعم التي رددتها المقامات الفرنسية بمناسبة طلب الكتلة العربية الآسيوية عقد دورة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وما أشاعته في الدوائر الدبلوماسية من أن المفاوضات بين تونس وفرنسا مستمرة، وإن جلالة ملك تونس قبل الإصلاحات التي عرضتها عليه الحكومة الفرنسية.

وقد نبهت صحف فرنسا «دي هوتكلوك» إلى وجوب الاقتصاد في الكلام وعدم الإفراط في التبجح بالشدة والضغط، فكتبت جريدة «لي بويلير» في ٢٥ / ٧ / ١٩٥٢:

ومن صالح الإقامة العامة أن تبدو أكثر تحفظًا فيما يتعلق بالتلميح إلى الضغط الذي قد يستهدف له الباي، وأن ميل الأمير الشاذلي نجل الباي الأكبر للحزب الدستوري الجديد معروف، وممكن أن يكون له أحيانًا أثره على سياسة القصر، ولكن الباي لم يقصِ وزارة شنيق مثلًا تحت تأثير ابنه الأكبر أو تحت تأثير الرأي العام.

ولكن المقيم العام لم يعمل بتلك النصيحة، بل ادعى أن جلالة الملك كلف وزارة البكوش ببحث الإصلاحات التي قبلها مبدئيًّا، واجتمع مجلس الوزراء التونسي بالفعل وأخذ في بحثها وإدخال بعض التحويرات التافهة الجزئية عليها، ولم يكتفِ المقيم بادعائه ذلك، بل نشر مزاعمه على الصحف التي تناقلتها، فكتبت جريدة «الفيجارو» في ٢٧ / ٧ / ١٩٥٢:

إن الباي نسي أنه علنًا وفي عدة مناسبات أيَّد مشروع الإصلاحات، وأنه منح وزيره الأول السيد بكوش حق مناقشة وسائل التنفيذ، فهو اليوم يخضع لتأثير حاشيته.

ثم سافر الكاتب العام الفرنسي «بونص» إلى باريس لعرضها في قالبها الجديد على الحكومة الفرنسية، وأخذ موافقتها عليها، وذلك ما قالته الصحافة، فكتبت جريدة «كومبا» في ٢٦ / ٧ / ١٩٥٢:

قيل لنا إن مسيو «بونص» سيلحق بمقر عمله يوم الأحد حاملًا النصوص التي أعدها المختصون بوزارة الخارجية والوزراء الذين يهمهم الأمر، ويقال إن بعض التعديلات التي قدمتها وزارة بكوش قد أُقرت، وأن هذا من شأنه أن يسهل الاتفاق على الأقل مع الوزارة الحالية في تونس.

كل تلك الحركة والأسفار والتصريحات والأخبار والجلبة والضوضاء لم يطلع عليها الذي يهمه أمرها قبل غيره، وهو جلالة الملك، فلم يتصل بنصها، فرأى من اللائق أن يعلم بذلك رئيس الجمهورية الفرنسية وأن يرجع الحقيقة إلى نصابها، فأرسل إليه البرقية التالية.

تونس في ٢٢ يوليو ١٩٥٢
برقية عاجلة
حضرة رئيس الجمهورية الفرنسية
باريس

لقد سلَّم لي حضرة السفير المقيم العام خطابًا بتاريخ ٤ يوليو ١٩٥٢ من رئيس مجلس الوزراء الفرنسي يعلمنا فيه أن لوائح مراسيم الإصلاحات ستسلم لنا قريبًا، ومن ذلك التاريخ نشرت بلاغات صحفية تفيد أننا صادقنا على تلك الإصلاحات، وأننا منحنا الوزير الأول سلطات واسعة لدراستها، ثم عقد مجلس الوزراء كثيرًا من الاجتماعات درست في أثنائها المشاريع المذكورة، وأخيرًا سافر المسيو بونص السكرتير العام للحكومة التونسية يحمل تعديلات لتلك الإصلاحات لعرضها على الحكومة الفرنسية.

وإننا نعجب من مثل هذا السلوك نحونا؛ إذ لم تصلنا إلى اليوم لوائح الإصلاحات ولم نمنح أي تفويض للوزير الأول بشأنها ولا لمجلس الوزراء الذي له مهمة إدارية بحتة، أما سفر السكرتير العام، فقد تم بغير علمنا.

ونوجه أنظاركم السامية إلى هذه الحالة.

محمد الأمين الأول
أظهرت تلك البرقية أن الأزمة التونسية ما زالت على أشدها ووضعت حدًّا لمفتريات السلطات الفرنسية، وبينت جريدة «فران تيرور» ما نتج عن ادعاءات الإقامة العامة والسياسة العنيفة التي تتبعها، قالت في ٢٦ / ٧ / ١٩٥٢:

إن رفض الباي التصديق على الإصلاحات قد يضع فرنسا في موقف حرج أمام الأمم المتحدة.

وتجتاز الأزمة التونسية من جديد فترة صعبة.

لقد حاول دي هوتكلوك أن يبقى الخبر سرًّا، وأن رسالة سيدي الأمين إلى مسيو فنسان أوريول التي يصرح له فيها أنه لم يجد متسعًا من الوقت للاطلاع على مشروع الإصلاحات قد أبقيت عدة أيام بدار السفارة الفرنسية في تونس.

وأن احتجاج الباي يسدد فعلًا ضربة شديدة للسياسة التي اتبعها مسيو دي هوتكلوك منذ وصوله إلى تونس، ألم يقل المقيم العام ويصرح بعد أن سجن أعضاء وزارة شنيق أنه أجاب رغبات الباي الخفية؟ أولم يقل فيما بعد أن وزارة بكوش تتمتع بتأييد سيدي الأمين المطلق؟ وقد لازم سوء الحظ مسيو دي هوتكلوك، ولازم الحكومة أيضًا، ويتحمل مسيو روبير شومان نفس المسئوليات التي يتحملها المقيم، وليس لمسيو بيني أي عذر في تركه الأمور تجري بدون أن يتدخل.

فلم يبقَ للحكومة الفرنسية ولمسيو دي هوتكلوك إذا أرادوا أن يواصلوا سياستهم التي اتبعوها إلا أن يُقصوا الباي كما أقصوا السيد شنيق، ألم يعرض مسيو دي هوتكلوك هذا الاقتراح على مسيو إدقارفور.

وقد كلَّف جلالة الملك نجله الأكبر بالإدلاء بتصريحات لوكالة الأسوشيتيد بريس يوضح فيها حقيقة الموقف من وزارة بكوش ومشروعات الإصلاحات الفرنسية وهذا نصها:

تفضل الأمير الشاذلي باي النجل الأكبر لجلالة ملك تونس والذي كان يشغل منصب رئيس الديوان الملكي، وقد كثر الحديث عنه في الأشهر الأخيرة، فأدلى إلينا بالتصريحات التالية:

أعلنت الحكومة الفرنسية عن مشروعات الإصلاحات التي تعتزم منحها لتونس، وجاء هذا الإعلان بعد عدة أشهر استغرقتها المناقشات حولها في مجلس الوزراء والمؤتمرات الدولية ودوائر شمال أفريقيا، وبعد مشاورات بين الجزائر والرباط، بيد أن جلالة الباي لم يستلم تلك المشروعات حتى يستطيع الرد على الحكومة الفرنسية برفضها أو قبولها.

وقد أعلن جلالته في أثناء الحديث الأخير الذي جرى بينه وبين المقيم العام أنه خادم الشعب التونسي وأنه يقبل تلك الإصلاحات إذا قبلها الشعب ويرفضها إذا رفضها.

وجلالته لم يكلِّف البكوش بالبحث في الإصلاحات المذكورة، وهذا الوزير لا يتمتع بثقته ووزارته كلها فُرضت بقوة الجيش، وقد رفض جلالة الباي مثلًا استقبال الوزير الأول في يومي ١٤ يوليو و١٥ يوليو سنة ١٩٥٢، وعلاوة على ذلك فإن دي هوتكلوك كان يقول عند تأليف الوزارة الحالية إنها وزارة إدارية وليست وزارة مفاوضات.

ومهما يكن من الأمر فإن الإصلاحات المذكورة تعتبر خطوة إلى الوراء ولا تحقق أي تقدم نحو الاستقلال الداخلي وتقر السيادة المشتركة، فهي تبقي الازدواج في الحكومة وتترك مراكز أساسية للفرنسيين مثل المالية والتعليم العمومي وغيرهما … ثم إن مصلحتين مهمتين وهما مصلحة مراقبة الموظفين ومصلحة مراقبة الحسابات قد أُقصي عنها التونسيون، ويحتفظ مدير المال في هذه الإصلاحات بحق مراقبة المصروفات، وهو يعين في كل إدارة أو وزارة مراقبين تابعين له يتصرفون بمطلق الحرية، وهؤلاء المراقبون يرفضون بوصفهم فرنسيين الامتثال لأوامر الوزراء التونسيين، وإذا حدث أنهم امتثلوا لأمر وزير فيهم يخبرون مدير المال بعدم موافقتهم على ما اقترح صرفه، فيقوم مدير المال بالمساعي اللازمة لإلغاء مقترحات الوزير. وكذلك تقضي المشروعات المذكورة ببقاء «الأمن» خارجًا عن سلطة الحكومة التونسية، والحال أن حكومة بدون «بوليس» تكون تحت رحمة مختلف أنواع المناورات، وحكومة هذا شأنها لا تستطيع القيام بمهام الحكم.

وفي معاهدة «باردو» عهد لفرنسا بالسهر على الأمن في الحدود والسواحل لا غير، وقد كانت مصلحة الأمن قبل سنة ١٩٣٩ تابعة للسكرتارية العامة للحكومة التونسية تحت سلطة الوزير الأول.

(٥) المحكمة الإدارية

جعلت الحكومة الفرنسية من هذه الهيئة محكمة فرنسية تراقب أعمال الإدارة التونسية وتعتبر المحكمة الاستئنافية التابعة لها والتي مقرها باريس تابعة لفرنسا أيضًا، وقد سبق لجلالة الباي أن رفض مثل هذا «الإلحاق» في مذكرة سلمها للمقيم العام (الأسبق) مونص ووجود المحكمة المذكورة تمكن المقيم العام من إلغاء جميع قرارات الوزراء التي لا يرتاح لها المقيم العام، ومعنى ذلك بقاء العمل بتأشيرة المقيم.

ولا ينبغي أن نغفل أن إسناد رئاسة المحكمة لفرنسي يجعل الأغلبية فيه فرنسية.

(٦) المجلس الاقتصادي

وفي هذه الهيئة تعتبر القرارات لاغية لقيامها على مبدأ السيادة المشتركة.

والمسألة لا تعدو أن تكون شطر المجلس الكبير السابق إلى شطرين.

والشطر الآخر هوج.

(٧) المجلس التشريعي

الذي لا يؤلف بالانتخاب العام خلافًا للمجلس الكبير السابق، وتحتم أن تحمل قراراته تأشيرة المقيم العام فلا اختصاصات له إطلاقًا.

(٨) الوظائف العمومية

لا تنطوي المشروعات في هذا السبيل على أية خطوة تقدمية؛ إذ تبقى أبواب الوظائف العليا والرئيسية مثل المالية والأمن موصدة في وجه التونسيين، وبالإضافة إلى ذلك فإن مواد الامتحانات مماثلة لمواد الامتحانات في فرنسا، ويتولى التحكيم فيها لجان مختلطة، ومن جميع ما تقدم يتضح أن الإصلاحات لن تحدث صدمة «بسيكولوجية».

ويستمر الفرنسيون المقيمون بتونس وفقًا لما جاء في رسالة ١٥ ديسمبر المشهورة في المشاركة في المنظمات السياسية والإدارية للملكة التونسية، والحال أن النزاع بين تونس وفرنسا نشأ عن تلك الرسالة.

ثم تحدث الأمير الشاذلي باي عن احتفالات ١٤ يوليو وما قيل من انتداب ولي العهد الأمير «عز الدين» ممثلًا لجلالة الباي فقال:

إني أكذِّب تكذيبًا قاطعًا مثل هذا الانتداب؛ فقد جرت العادة أن يمثل الباي أحد أبنائه في الاحتفالات الرسمية التي لا يحضرها بنفسه، وقد قيل إن المقيم العام بعث برسالة شكر للباي بمناسبة ١٤ يوليو، وهو أمر لا أساس له من الصحة، ولا وجود لمثل هذه الرسالة.

ثم استطرد الأمير الشاذلي باي يتحدث عن مساعي وزارة البكوش الحالية بشأن الإصلاحات، فأكدنا تأكيدًا جازمًا بأنه ليس هناك وزير واحد يتمتع بثقة جلالة الباي، وحتى «بلخيرية» وزير الدولة الذي قيل عنه إنه دافع بقوة في أثناء المباحثات الأخيرة عن بعض وجهات نظر الوزارة السابقة.

وهنا سألنا الأمير الشاذلي كيف يمكن الخروج من المأزق الحالي الذي بلغت إليه العلاقات التونسية الفرنسية، فابتسم ولم يُجب واكتفى بقوله:

لما يعرض المقيم العام مشروعات الإصلاحات على جلالة الباي فإن جلالته سيدرسها ويبلغ ملحوظاته عليها إلى رئيس الجمهورية الفرنسية.

ثم سألناه عن المساعي التي تُبذل في هيئة الأمم المتحدة فأجاب بقوله:

أما نتيجة هذه المساعي التي ستظهر في ٢٠ يوليو فيظهر لي أننا سنتجاوزها … ولكن أكتوبر قريب!

وأوفد المقيم العام إثر ذلك المسيو ساماران مستشار الحكومة التونسية لمقابلة جلالة الملك للاستفسار عن حقيقة البرقية وتبديد كل التباس بشأنها، إنه أرسل فعلًا تلك البرقية قطعًا لدابر الإشاعات والأنباء الكاذبة التي تنشرها الصحف، كما أعلمه بأنه موافق تمام الموافقة على التصريحات التي أدلى بها نجله الأمير الشاذلي لوكالة الأسوشيتيد بريس وأنه هو الذي كلفه بالإدلاء بتلك التصريحات نيابة عنه، بل هو الذي حدد موضوعاتها وعباراتها.

وفي ٢٧ يوليو قام مسيو ماتييه مدير الخاصة الملكية — وهو فرنسي — بنشر إشاعة في القصر تفيد أن مصروفات القصر تجاوزت الاعتمادات المقررة، وأن السلطات قلقة من هذا الأمر، وقد يكون الغرض من نشرها هو أن الإقامة العامة كانت تريد معرفة رد فعل جلالة الملك لاستثمار المساومة للضغط عليه.

وتمت المقابلة بين جلالة الملك والمقيم العام الفرنسي في اليوم التالي، ودامت ثمانين دقيقة بحضور بكوش الوزير الأول وسامران مستشار الحكومة التونسية وبيك المستشار بالإقامة العامة.

وبدأ المقيم العام حديثه بطلب إيضاحات عن البرقية وعن تصريحات الأمير الشاذلي باي، فأعاد جلالته ما أجاب به سامران بالأمس.

ثم قدم المقيم لجلالة الملك بعض أوراق محررة باللغة الفرنسية لا تتضمن نص الإصلاحات، بل عرضًا ملخصًا لمشروعات مراسيم الإصلاحات مرفقًا بمسودة ترجمتها باللغة العربية.

وطلب المقيم من الملك بيان الأسباب التي دعت لإرسال برقيته إلى رئيس الجمهورية، فرد عليه جلالته بقوله:

لقد اتجهت إلى رئيسكم لإحاطته علمًا بموقفكم تجاهنا، ولأحتج على الأعمال التي نسبتها إليَّ صحافتكم، وبناء عليه أرجوكم أن تبلغوني في المستقبل رغباتكم كتابيًّا، وسأجيب عليها كتابيًّا، وذلك منعًا لانتشار الشائعات والأقوال الكاذبة التي تنسب في أثر كل مباحثة تجرى بيننا، أما فيما يتعلق بمشروعات الإصلاحات فيجب أن تعلموا أنها لا تخصني شخصيًّا ولكنها تهم شعبًا كاملًا، وأنا لست إلا خادم هذا الشعب الذي يبلغ تعداده الثلاثة ملايين ونصف من الأشخاص، لا بد من الاتصال بهم وتلقى آرائهم بهذا الشأن، فإذا قبلوا الإصلاحات فيا حبذا، وإذا رفضوها فإني أكون قد قمت بواجبي، ولذلك فلا بد لي من شهر أو شهرين للتفكير مليًّا في الأمر وجمع مختلف الآراء.

فقال المقيم: ولكن أطلب إليكم ألا تقتصروا على استشارة المتطرفين وأن تتصل استشاراتكم العناصر المعتدلة.

فأجاب جلالة الملك: حسنًا، سأستشير جميع الشخصيات المسئولة والتي لها مركز اجتماعي مثل السيد القسطلي وغيره.

وبعد ذلك ذكر المقيم العام لجلالة الباي أن مصاريف القصر تجاوزت كل حد، فرد عليه جلالته قائلًا: «اعلموا أولًا أن مصروفات القصر يتحملها الشعب التونسي على أن سلفكم وعدني بزيادة مخصصات القصر، ولكنه لم يفعل شيئًا، وكان ينبغي أن أطلب إليه تسجيل وعوده كتابة، وعلى كل حال إذا كانت الدولة لا تريد أن تستمر في صرف مخصصات القصر فإن الشعب مستعد لتحملها مباشرة.»

وهنا أشار المقيم العام إلى حوادث مصر وما كان من مصير الملك فاروق فقال: إنكم تتحدثون دائمًا عن الشعوب، هلا رأيتم موقف الشعب المصري تجاه فاروق.

فأجاب الملك: أجل! ولكن الشعب المصري كان في خصام مع ملكه، والحالة في تونس مغايرة، فإن الشعب والملك متفقان ويعملان لنفس الغاية، ولو بقينا وحدنا لكنا متفقين في جميع الشئون.

وقال دي هوتكلوك: أخيرًا من المصلحة أن نتقابل مرة أخرى قبل انتهاء الأسبوع.

فأجاب الملك: الوزير الأول بكوش هو صندوقي للبريد فإذا كان لديك شيء تريد أن تقوله لي فإنه يقوم بمأموريته بسرعته الاعتيادية.

ثم طلب المقيم العام في ختام المقابلة نشر بلاغ عنها في الصحف، فرفض جلالته الموافقة على ذلك قائلًا: إنه قد تنسب له اقوال لم يفُه بها بتاتًا.

وعند ذلك غادر المقيم العام القصر وصرح للصحفيين بأنه ليست لديه أقوال يدلي بها.

وقد نشرت بعض الصحف الباريسية المحادثات التي دارت بين جلالة الملك والمقيم العام خلال هذه الفترة الدقيقة، وبينت الظروف التي أحاطت بها بيانًا شافيًا، واستقت جريدة «فران تيرور» خاصة أخبارها من أوثق المصادر قالت بتاريخ ٦ / ٨ / ١٩٥٢:

لو لم تشتمل المشكلة الفرنسية التونسية على مأساة، لكان ما ننشره اليوم عنها يذكرنا مشهدًا مسرحيًّا، وأما فيما يتعلق بممثل فرنسا فإنه مشهد مضحك يبقي في نفوسنا مرارة، وسيرى القارئ فيما يأتي هل لمقيمنا العام الحذق اللازم لكسب ثقة الذين يملي علينا العقل السليم أن نجعل منهم أصدقاء وشركاء مع المحافظة على كرامتهم واستقلالهم، هذا المقيم الذي سلمت له جميع سلطات القمع والمفاوضة، وسيرى القارئ أيضًا خلال هذه الرواية أي الشقين امتاز بالكياسة والكرامة.

عندما يأكل «م. دي هوتكلوك» من لحم الأسد

رجع المقيم العام إلى تونس يوم ٥ يوليو ١٩٥٢ بعد غياب دام خمسة أسابيع، حاملًا معه مشروع إصلاحات ورسالة من رئيس الوزارة الفرنسية إلى جلالة الملك يطلب منه فيها أن يوقع على المشروع الذي سيعرضه عليه «م. دي هوتكلوك»، وصرح «م. دي هوتكلوك» إلى أصدقائه إثر نزوله من الطائرة جادًّا: «إني رجعت من باريس قويًّا إلى أقصى درجة! أقول لكم: قويًّا جدًّا!»

وإننا سنرى ما سنرى … ونتفرج على الأدوار والألعاب … وجمع المقيم يوم ٧ يوليو المديرين الفرنسيين والوزراء التونسيين في مقره بمدينة المرسى (من ضواحي تونس) وقرأ عليهم نصوص الإصلاحات قبل أن يعرضها على الملك، ويوم ٨ يوليو تحدث مع الباي وسلم له رسالة الرئيس بينيه.

وكان الملك يتجنب ما أمكن الاتصال المباشر مع المقيم العام لأنه يراه سيئ الأدب.

(٨-١) المحادثة الأولى

المقيم العام : سأسلم لسموكم في القريب نص الإصلاحات بمجرد ما تنتهي إدارتي من ترجمتها للعربية، وأصرح لكم أن ١٤٠٠ من المعتقلين سيطلق سراحهم ما عدا الذين قاموا بمخالفة، وباستثناء بورقيبة.
الباي : يوجد حينئذٍ معتقلون من بين التونسيين لم يعملوا شيئًا؟ أما بورقيبة فإننا لا نفهم أن تتعنت الحكومة الفرنسية ضد هذا الرجل الذي قام بجميع ما يمكن ليحقق الصداقة الفرنسية التونسية، فأصبح اليوم مرمي على كدس من الحجارة وحوله بعض الصيادين، فلا يمكن له أن يقتني حتى حبوب «إسبرين»، وأنتم ترفضون إطلاق سراحه أو نقله إلى مكان آخر.

فلم يجب المقيم العام بشيء، بل رأى من البراعة أن يطلب من الباي أن يحضر في العرض العسكري يوم ١٤ يوليو، «فرفض الباي» وألح دي هوتكلوك قائلًا: «إن الحكومة الفرنسية تلح كثيرًا لتكونوا ممثلين، ويمكن لكم أن تنيبوا نجلكم الأمير الشاذلي مثلًا.»

الباي : ولكنكم كنتم قلتم لي أنتم بأنفسكم إن ابني الشاذلي، وابنتي زكية كانا يقومان بأعمال التخريب، وإنا نرى غير لائق وجود مخربين يجلسون بجانب ممثل فرنسا، ومهما يكن من أمر فإن لم نحضر بأنفسنا فلن نرسل أحدًا ليمثلنا.

هكذا خُتمت تلك الحادثة.

(٨-٢) المقيم يتظاهر باللطف

ثم مضت مدة طويلة كانت كلها مخاتلات، وكان الكلام دائمًا يدور حول الإصلاحات التي لم يطلع عليها الباي أبدًا، وفي كل مرة يطلب الباي نص هذه الإصلاحات إلا ويجاب أنها: «بصدد التعريب»، وقد سعى المقيم العام في الاتصال بالبلاط الملكي يوم ٢٨ يوليو، بمناسبة زفاف الأميرة ليليه ابنة الباي، وأظهر الرغبة في تقديم تهانيه، فأجاب الباي لمن توسط في ذلك: «فما على المقيم العام إلا أن يقدم تهانيه مباشرة للزوجين نفسيهما، وأن حفلة الزفاف كانت عائلية بحتة»، ولم يجد «م. دي هوتكلوك» أحسن من نشر بلاغ يعلن للرأي العام أن الإقامة العامة إظهارًا لروح التفهم والصداقة قد أبلغت إلى البلاط هدية ذات قيمة لا تقاس، وتلك الهدية التي لا تقاس طبق!

وكان ينبغي حسب طلب المقيم أن تكون المحادثات خاصة بين الباي والمقيم لا يحضرها غيرهما، وكان الباي وحده، ولكن المقيم أتى مصحوبًا بأربعة أشخاص: سامران مترجم الإقامة، والكولونيل لوفاسور دي بياك، المستشار القانوني بالإقامة … وبكوش.

وأخذ دي هوتكلوك يتعاظم، ثم أخرج ورقة من جيبه وشرع يلقي على الملك عدة أسئلة كما يحقق رئيس مركز البوليس مع أي متهم عادي، وصمد الباي في موقفه، واحتج على رقابة الأخبار معلنًا أنه لن يتأخر عن دعوة ممثلي شركات الأنباء الأجنبية لإرجاع الحقيقة إلى نصابها فيما يتعلق بالأخبار التي لا نصيب لها من الصحة والتي تذاع عن سلوكه.

فقال دي هوتكلوك في صلف وحِدَّة: «ولكنك رفضت أن توقع على بعض الأوامر (المراسيم) التي لا تتحمل التأخير نظرًا لخطرها.» فقال الباي: «لسنا آلة لتوقيع جميع المشروعات التي تعرضونها علينا، وإننا نرى من اللازم بحثها بحثًا دقيقًا، وإننا لا نوقع عليها إذا رأيناها تضر بمصالح التونسيين الذين أقسمنا على أن نبقى أوفياء لهم وخدامًا لمصالحهم.»

فاستخدم دي هوتكلوك اللمز والدس قائلًا: «يظهر أن مصاريف البلاط فاقت الميزانية المعينة للدائرة السنية.»

فأجاب الباي بشدة: «إنا نأخذ ما نتقاضاه من الصندوق الوطني الذي يغذيه الشعب التونسي بماله، فإن رفضتم فإن الشعب التونسي يتكفل بتوفير ما أحتاجه.»

فقال دي هوتكلوك — بلطفه العادي: «ما زلتم تتكلمون على الشعب، فلتفكروا قليلًا فيما صنعه مع الملك فاروق.»

فقال الباي والاحتقار والازدراء بائن عليه: «لم ينل فاروق إلا ما استحقه، ولقد كنا نتوقع ما ناله من مصير منذ مدة مديدة، ولكن يا حضرة المقيم العام هل جئتم لتحدثوني عن الميزانية أم عن الملك فاروق؟ فأتموا قائمة أسئلتكم، وسلموا لي نص الإصلاحات، إن كان تعريبها قد تم، في حالة من الأحوال؛ لأننا بقينا وحدنا من دون الناس لم نطلع عليها.»

(٨-٣) كيف يتم فصل الأمور الهامة؟

وهكذا يصبح المشهد الروائي مضحكًا فيه من الفضيحة ما فيه، يتظاهر المقيم بأنه يفتش في جيوبه، فيخرج منديله، ثم علبة سجاير، ثم يصيح بالكولونيل لوفاسور: «كولونيل، اذهب وفتش عن ذلك النص، فإنه بقي في سيارتي أمام البلاط.»

وخيم سكوت ثقيل.

وخرج الكولونيل، ثم دخل وناول المقيم ورقة صغيرة — من الورق العادي — على إحدى صفحتيها نص فرنسي، وعلى الصفحة الأخرى نص عربي، وسلم المقيم بدوره تلك الورقة للباي. ويظهر أن التعريب حديث جدًّا، وكان كله استدراكات.

فأخذ الباي الورقة وقلبها، وعير وزنها مُظهرًا استغرابه وتهكمه. وإن تلك الإصلاحات العظيمة التي كثر التحدث عنها ونوه بشأنها وخطرها وتعمقه في بحثها، قد احتوتها هذه الوريقة الصغيرة التي تشبه ورق بقال والتي قُدمت له هكذا من غير اكتراث.

واتخذ دي هوتكلوك لهجة رسمية فخمة ليقول: «إنا نرغب من سموكم أن توقعوا على هذا النص في أقرب وقت ممكن، في حفلة الطابع المقبل، يوم الخميس.»

فأجاب الباي بهدوء: «لقد قلنا لكم إننا لسنا آلة توقيع، إن إعداد فرنسا لذلك النص استغرق سبعة أشهر لتعرضه علي، وقد طلب من البرلمان الفرنسي وجميع المصالح المختصة، ومن الجزائر نفسها ومراكش أيضًا أن يُبدوا رأيهم في تلك الإصلاحات، فإنكم تعطوننا لا محالة شهرين أو ثلاثة لنتمكن نحن أيضًا من بحثها بدقة، ونستشير في موضوعها الممثلين الحقيقيين للشعب التونسي.»

فظهر القلق على دي هوتكلوك، وقال: «ترى الحكومة الفرنسية ألا يقع بحث تلك النصوص ومناقشتها إلا من طرف الممثلين الشرعيين للشعب التونسي، وألا يطلع عليها المتطرفون.»

فأجاب الباي بحزم: «إننا ننوي استشارة جميع الناس، متطرفين ومعتدلين، ويبلغك القرار بطريقة بكوش الذي نعتبره «ساعي بريدنا».»

وخُتمت هكذا المحادثة، ورفض دي هوتكلوك الإدلاء بأي تصريح إثر خروجه من البلاط، ولكنه أسرَّ إلى صديق له من الصحفيين: «إني عدت بالخيبة والمرارة والانهيار.»

أهكذا يكون الكلام؟

هكذا كان الأمر!

هل نحن في حاجة لنبين أن الكلام الذي يتفوه به حضرة المقيم العام للجمهورية الفرنسية، يجعلنا نشك في حسن ذوقه وعقله واتزانه السياسي وخصاله الدبلوماسية؟ ومهما تكن الأغلاط وسوء التفاهم في العلاقات الفرنسية التونسية، فإنا نحتاج قبل كل شيء في حالة التوتر الراهنة إلى أشخاص ممتازين بذكاء يكون فوق المتوسط على الأقل، فليس أمام فرنسا هناك أناس متوحشون، بل يقابلها بتونس مفاوضون أو خصوم بلغوا الذروة في المدنية.

وكنا نود أن يكون الطرفان متعادلين في ميدان المحادثة والمفاهمة، عندما تحمل المحادثات في طياتها أخطر النتائج، فتكون كفة من يمثلنا تعدل على الأقل كفة من يخاطبنا.

أوَليس من الحقيقة أن تلك الوثيقة تسمح لنا أن نزداد فهمًا في الميدان السيكلوجي على الأقل للسبب الذي جعل أمورنا وأمور الحرية نفسها لا تسير حسب المرغوب.

وكان المقيم العام أراد أن يحتاط لنفسه، وأن يضع المسئولية كلها على الجانب التونسي، وأن يزيد في الضغط على الملك، فأرسل له في يوم المقابلة نفسه مذكرة طالبًا منه أن يوقع حالًا مراسيم الإصلاحات، قال فيها:

بناء على اهتمام حكومة الجمهورية الفرنسية بالبر بالوعود التي قطعها ممثلوها الرسميون، ونظرًا لرغبتها في احترام تعهداتها التي التزمت بها للمملكة التونسية؛ فقد وضعت نصوصًا تدخل إصلاحات جوهرية على المنظمات التونسية وفقًا للفصل الأول من اتفاقية ٨ يونيو ١٨٨٣، فباسم حكومتي أعرض هذا المشروع على موافقة حضرتكم العلية، راجيًا منها أن تضع ختمها على لوائح المراسيم التي ستقدم لها.

وإن حضرتكم العلية ستجعل «للبيليك» — أي حكومة الباي — بإصلاح الهيئة التنفيذية والمجالس النيابية والسلطات المدنية، منظمات صالحة لمساعدة تطور البلاد التونسية، وتمكن السكان من المشاركة بصورة أوسع من الماضي في تسيير الشئون العامة.

وسينسى هكذا التونسيون والفرنسيون والأجانب بفضل حكمة حضرتكم العلية وبمشيئة الله الصعاب التي نشأت أخيرًا، وسيتحدون في العمل ويستأنفون بشجاعة أكبر وفائدة أوفر المجهود الذي يبذلونه بلا انقطاع لازدهار البلاد وسد حاجة الجميع.

وأخذ المقيم العام يمطر الملك برسائله المتوالية، حتى أجحف إلحاحًا وأفرط في الضغط، ولكنه اعترف أنه لم يطلع القصر على نص الإصلاحات، وأن المسودة التي تليت يوم ٢٨ يوليو هي مجرد تلخيص لفحواها. وقد اكتفى دي هوتكلوك بإرسال ذلك التلخيص نفسه مصحوبًا بمذكرة هذا نصها:

سري
البلاد التونسية
٢٩ يوليو ١٩٥٢
المقيم العام
مولاي

أتشرف بأن أرسل إليكم رفقة هذا النص العربي للمذكرة التي تمت تلاوتها على جلالتكم أثناء المقابلة التي تفضلت بتحديدها لي يوم ٢٨ يوليو.

وأغتنم هذه الفرصة لأذكر جلالتكم أنني سلمت إليه أثناء تلك المقابلة ذاتها مذكرة مرفق بها مذكرة تفسيرية لمشروعات المراسيم المختلفة الخاصة بالإصلاحات، وطلبت منها أن تعلم يوم الخميس القادم الوزير الأكبر برأيها في هذا الموضوع، ورأيت أن هذا الأجل كان كافيًا لدراسة وثائق موجزة، وهي على كل حال واضحة وضوحًا كبيرًا.

وإني أستسمح في الإلحاح كثيرًا لدى جلالتكم لتتفضل بإعلام الوزير الأكبر، إما يوم الخميس المقبل أو حتى قبل هذا الميعاد بما تراه في هذا الصدد، وخاصة بتحديد مقابلة لي لنبحث سويًّا جزئيات مشروعات الإصلاحات المختلفة.

وأرى من واجبي لفت اهتمام جلالتكم إلى ضرورة البت بالسرعة الممكنة في هذه المسألة الحيوية بالنسبة لمستقبل البلاد التونسية والعلاقات الفرنسية التونسية.

وأرجو يا صاحب الجلالة أن تتفضلوا بقبول عبارات تقديري الفائق.

دي هوتكلوك
ثم بعد يومين أردفها برسالة أخرى بعث معها حسب قوله النص الكامل للمشروع الفرنسي، وأعلم فيها الملك أن تلك الإصلاحات هي الحد الأقصى لما تراه الحكومة الفرنسية، فأوضح هكذا إصراره وإصرار حكومته على التمسك بالسيادة المزدوجة، وعلى رفض كل مناقشة جدية، وأن المفاوضات في حقيقة الأمر هي فرض إرادة المستعمرين. ولقد زادت تلك الرسالة التوتر شدة والقطيعة استفحالًا، وهذا نصها:

سفارة فرنسا بتونس
المقيم العام بتونس
تونس في أول أغسطس سنة ١٩٥٢
مولاي

تبعًا للتقرير الذي تشرفت بتسليمه لحضرتكم العلية في ط ٢٨ يوليو الماضي، وبناء على الرغبة التي أبديتموها لي كلفت دولة الوزير الأول بأن يسلم لحضرتكم العلية النصوص المرفقة بهذا، وهي باللغتين الفرنسية والعربية، وهي نصوص لوائح سبعة مراسيم يتألف منها برنامج الإصلاحات التي دعتني حكومة الجمهورية الفرنسية لعرضها على موافقتكم.

وكما لا يخفى على حضرتكم العلية، فإن التدابير التي تضمنتها المشاريع المذكورة تعتبر الحد الأقصى للإصلاحات التي ترى الحكومة الفرنسية في استطاعتها التفكير فيها حاليًا مراعاة لمصلحة حسن سير المنظمات التونسية. ومن جهة أخرى فإن حكومة الجمهورية الفرنسية تعلق أهمية على المصادقة على المراسيم المذكورة في أقرب وقت ممكن.

ولا شك في أن حضرتكم العلية تقيم أكبر وزن بما لها من حكمة عالية للاعتبارات المشار إليها.

لذلك فإني أعرب لها عن أملي في أن تعطي هذه المسألة حلًّا سريعًا، من شأنه أن يمكن البلاد التونسية من مواصلة تطورها في سبيل الرقي تحت الرعاية الأبوية لملكها، وفي نطاق صداقتها التقليدية مع فرنسا.

وأرجو من حضرتكم العلية قبول عظيم تقديري.

الإمضاء
ج. دي هوتكلوك

(٩) مجلس الأربعين أو البرلمان التونسي الأول

لقد أعلم جلالة الملك المقيم العام في مقابلة ٢٨ يوليو أنه سيستشير الشعب في مشروع الإصلاحات، وفي صباح الجمعة أول أغسطس دعا إلى قصره بقرطاجنة أربعين شخصية تمثل مختلف عناصر الشعب التونسي، وكان من بينها السادة:
  • الدكتور الصادق المقدم (عن الحزب الدستوري «الجديد»).

  • صالح فرحات والمنصف المستيري (عن الدستور «القديم»).

  • فرحات حشاد (عن الاتحاد العام التونسي للشغل).

  • محمود الخياري (عن الجامعة العامة للموظفين التونسيين).

  • محمد بن الحاج (عن الاتحاد العام للفلاحة التونسية).

  • عبد السلام عاشور (عن الاتحاد العام للصناعة والتجارة).

  • الشيخ عبد العزيز جعيط ومحمد عباس (عن هيئة العلماء ومجلس الشرع والجامعة الزيتونية).

  • محمد الصالح النيفر (عن جميعة الشبان المسلمين).

  • شارل حداد (عن الجالية الإسرائيلية).

  • البربسيس ومحمد بن رمضان وعلي بالحاج والشاذلي رحيم (عن المجلس الكبير).

  • الشاذلي القسطلي (عن المجلس البلدي لمدينة تونس).

  • الطاهر بن عمار والبرقاوي (عن الغرفة الزراعية التونسية).

  • عبد العزيز الشابي، وعبد النبي، والطيب العنابي، وفتحي زهير، والشاذلي الخلادي، وعز الدين الشريف، والطاهر الأخضر، والطيب الميلادي (عن المحامين).

  • إبراهيم الرايس، وصالح عزيز، وصالح عويج، والصادق بوصفارة (عن الأطباء).

  • الصادق بن يحمد، وعبد الرحمن الجزيري، وعبد السلام خالد (عن الصيادلة).

رأس جلالة الباي الجلسة، وافتتحها بإبلاغ المجتمعين بأن موضوع الاجتماع بحث شروح جميع مراسيم الإصلاحات المعروضة من قبل الحكومة الفرنسية (ولم تكن النصوص الكاملة للوائح الإصلاحات سلمت لجلالة الباي). ثم أعلن بأنه يريد أن يشرك في مسئولية قبول تلك الإصلاحات أو رفضها الممثلين الحقيقيين للشعب التونسي، وفقًا لما تضمنته تصريحاته السابقة الواردة في خطاب العرش الذي ألقاه بمناسبة ذكرى توليه الملك في ١٠ مايو ١٩٥١. ثم أضاف جلالته أنه عضو واحد من أمة تقدَّر نفوسها بثلاثة ملايين ونصف، وأن الإصلاحات المشار إليها تهم الشعب بأسره؛ لذلك ينبغي لكل ممثل أن يستشير جماعته ثم يقدم لجلالته تقريرًا عن تلك الإصلاحات وبيان أسباب موقفهم منها، وذلك في ظرف لا يتجاوز الخامس عشر من شهر أغسطس. وكانت تصريحات جلالة الباي مستندة إلى:
  • (١)

    شروح المراسيم التي قدمتها الإقامة العامة لجلالة الباي.

  • (٢)

    تصريحات المسيو روبير شومان وزير الخارجية الفرنسية أمام الجمعية الوطنية الفرنسية.

  • (٣)

    مناقشات الجمعية الوطنية الفرنسية عن تونس.

وبعد تلك التصريحات تناوب عدة ممثلين الكلمة مبينين الإجراءات التي يجب اتباعها في الموضوع، وقد شرح جلالة الباي أن لجنة عليا ينبغي أن تجتمع في ١٦ أغسطس؛ لفحص التقارير ووضع تقرير عام عنها يتضمن الموقف النهائي الذي يجب اتخاذه من الإصلاحات المعروضة من قبل الحكومة الفرنسية.

وتألفت اللجنة بانتخاب أشرف عليه جلالة الباي، وصادَق على نتيجته من حضرات:

الدكتور المقدم، فرحات حشاد، المنصف المنستيري، الطاهر بن عمار، ألبرت بسيس، الشاذلي رحيم، محمد بن رمضان، محمود الخياري، محمود الزرزي، شارل حداد حداد، الطيب الميلادي، الطاهر الأخضر، وفتحي زهير (وانتُخب مقرر اللجنة).

لم تخفَ أهمية ذلك الاجتماع التاريخي عن الشعب التونسي، فاعتبره أول برلمان تونسي منذ انتصاب الحماية، كما رأى فيه عنوان الوحدة الوطنية تحت رعاية الملك. ومن الملاحظ أن صنائع الفرنسيين والخونة المارقين لم يمثلهم غير القسطلي، أما أعضاء وزارة البكوش فقد أبعدهم الملك؛ إذ لا يعتبرهم شرعيين لأنهم فرضوا عليه فرضًا بالقوة.

وقد كان وقع «البرلمان التونسي الأول» عظيمًا في الأوساط الفرنسية، فأحدث فيها استياء وخوفًا، وأكثرت صحفها من التعليقات، وأرسلت الصحف الباريسية مكاتبيها باحثين ومستقصين، فصوروا الاجتماع وبينوا نتائجه وشرحوا الغايات منه.

قال مبعوث جريدة «لوموند» بتاريخ ٣-٤ / ٨ / ١٩٥٢ «جان لاكونور»:

إن خطر المسألة يجعلنا نحاول تصوير الاجتماع الذي يصفه الوطنيون بأنه تاريخي.

فقد كان السر محفوظًا حتى إنني أمضيت سهرة الخميس مع شخصيتين ممن لعبوا دورًا هامًّا في اجتماع الغد، ولم أشعر في أي وقت من الأوقات بما يحاك في الخفاء.

فقد دعي بعضهم منذ أيام وبعضهم منذ ساعات، وأخذوا يتلاحقون كلهم منذ الساعة العاشرة، فكانوا يدخلون إلى قاعة طويلة ذات واجهة زجاجية تطل على خليج تونس، وقد اصطف على جانبي العرش ستة وثلاثون مقعدًا، وإنه لمجلس عجيب جمع بين أكبر الشخصيات الإسلامية: الشيخ عباس، شيخ الإسلام الحنفي، والشيخ جعيط، شيخ الإسلام المالكي، وبين زعيم عمالي: فرحات حشاد، ورجل اشتراكي: الشاذلي رحيم. وكانت كثير من النزعات ممثلة فيه، فكان محمد بن رمضان يمثل البرجوازية البعيدة عن السياسة، والطاهر بن عمار الوطنية المعتدلة، والعزيز الجلولي الوطنية غير الدستورية، والطاهر الأخضر النزعات المماشية للدستور، والدكتور المقدم الدستور الجديد نفسه، وصالح فرحات الدستور القديم، وبسيس وشارل حداد اليهود.

وكتبت جريدة «فرانس سوار» بحثًا استقت عناصره من مصادر وثيقة، كشفت فيه عن أعمال الإقامة العامة، وأوضحت كثيرًا من الحقائق للرأي العام الفرنسي. وننشر هذا المقال كله لأنه يغنينا عن غيره، قالت الجريدة:

تونس في ٢ أغسطس ١٩٥٢

عقد أمس جلالة الباي بدون الرجوع إلى وزيره الأول بكوش اجتماعًا في قصره الأبيض بقرطاجنة، حضره أعيان تونس، وكانوا ٣٦ حسب قول بعضهم، و٤٢ حسب آخرين، ولكن أقل من ٥٠ على كل حال.

وإذا استثنينا بعضهم فإن جميعهم قد وقع اختيارهم بدقة، وهم يمثلون بدون شك الجناح العامل النشيط في النخبة التونسية التي تقاوم مثلما يقاوم الباي بنفسه مبدأ المقيم العام، وهو وجود الفرنسيين في المؤسسات السياسية التونسية.

فهم من نقابات العمال والأعراف ومن منظمات الأطباء والصيادلة والمزارعين والتجار … إلخ، وبعضهم مثل الشيخ عباس والشيخ جعيط من كبار رجال الدين، والبعض الآخر نواب سابقون متطرفون أو معتدلون في المجلس الكبير، ورئيس وزراء منتظر وهو العزيز الجلولي. ولم يكن السيد شنيق من بينهم، ولكن جميعهم أعضاء في حزب الدستور القديم أو حزب الدستور الجديد، ولاحظت كذلك وجود اشتراكي من بينهم وهو الشاذلي رحيم، وقد اختارهم الباي من جميع النزعات ليظهر أنهم يمثلون الرأي العام التونسي بأكمله، وبالجملة يمكن القول بأن الباي قد أجاب عروض الاتفاق التي قدمتها الحكومة الفرنسية باستدعاء ممثلي جميع طبقات الأمة ليسددوا ضربة قاضية للإصلاحات، ويطالبوا علنًا بحقوق التونسيين في تونس (تلك الحقوق التي لا رجوع فيها) وبانتهاء الرقابة الفرنسية.

(٩-١) استشارة الرأي العام

وقد حدث كل هذا كما لو أن الباي لا يريد اتخاذ أي قرار قبل استشارة شعبه.

فقد افتتح الاجتماع بقوله:

ها هي مقدمة سبعة مشاريع مراسيم إصلاحات قدمتها لنا فرنسا، وها هو خطاب «م روبير شومان» بالمجلس النيابي الفرنسي، فادرسوها وأتوني بالرد؛ لأن النصوص التي ستقدم لي تبلغ حدًّا من الخطورة لا أستطيع عنده تجاهل الرأي العام التونسي.

ورغم أن الحوادث جعلت الوقت في منتهى الضيق، فإن الباي لم يطلب من لجنة الاثني عشر عضوًا المتفرعة من مجلس الأعيان هذا الأجل القديم.

هذا وقد أجاب بعضهم بقبوله ما دامت فرنسا لم تعترف في تصريح رسمي بوجود السيادة التونسية موحدة وغير قابلة للتقسيم، فإننا نرفض الإصلاحات الفرنسية.

وقد صرح الدكتور المقدم (الزعيم الحالي للدستور الجديد بعد إبعاد الحبيب بورقيبة)، بدقة قائلًا: إن أغلبية المجلس قد ردت بعدُ ردًّا أدبيًّا على مشروعات الإصلاح التي لا تتمشى مع رغبات الشعب التونسي ورغبة جلالة الباي، وختم تصريحه بقوله بشدة: إن هذه النصوص فيها رجوع إلى الوراء بالنسبة للوضع الحالي في تونس.

(٩-٢) دهشة في الإقامة العامة

«وقد دهش المقيم العام والبكوش من هذه المناورة الفجائية ولم يبتهجا بها، وذلك لأن البكوش كان يعتزم دراسة النصوص مع جلالة الباي بمفرده بدلًا من المقيم العام الذي أقسم الباي على أنه سوف لا يقابله في المستقبل. وقد وضعته هذه المناورة في موقف مضحك، ويبدو من الطبيعي أن يفكر في تقديم استقالته إلى الباي.

أما «م. دي هوتكلوك»، فقد وضعه هذا الملك الذي تحميه فرنسا في موقف محرج للغاية، فقد أعاد فتح ملف الإصلاحات التي قبلها وزيره الأول ومجلس وزرائه، واختار لدراستها وطنيين يرفضونها.

ومع ذلك يجب علينا أن نتفاوض، ولكن مع من سنتفاوض في المستقبل وقد جمع ترددنا حول الباي جميع القوى الشديدة التي تمثل عالمًا عربيًّا، يريد أن يحكم نفسه بدون تدخل الأجنبي في المستقبل.

ومع ذلك فقد وقعت محاولات في دوائر الإقامة العامة طيلة الأسبوع للضغط على الباي، واستُعملت جميع الوسائل حتى المالية منها والتي كانت تستهوي الملوك الأخيرين، فلم تُضَف إلى مخصصاته ١٨٠ مليونًا رغم طلباته الملحة تلك المخصصات التي تمثل ٦ أضعاف مخصصات رئيس الجمهورية الفرنسية.

وأوقفنا دفع الأموال التي يحتاج لها والتي بلغت في الأشهر الثلاثة الأولى سنة ١٩٥٢ فقط ١٨٠ مليونًا، وسخرنا أصحاب القروض وقدمنا له حسابات ما كان يدفعها من قبل حتى هددنا بالالتجاء إلى أصحاب البنوك.

ولكن رغم تشديد الخناق على أمواله، فإن الباي لم يبلغ منتهى الفناء؛ إذ إنه يقبض علاوة على مخصصاته العادية ٤٠٠ مليون في السنة لشئون عائلته وكبار رجال البلاط، ورجال الدائرة الملكية، ولكن يبدو أن ذلك لا يكفيه.

ولذا أفهمناه في الأسابيع الأخيرة أن قائمة مخصصاته ستضاعف، وأنه سوف يقبض مبالغ جديدة وضخمة لا تؤخذ إلا من إرثه. ولكن وسائل الضغط هذه لم تأتِ بالنتائج المنتظرة؛ فإن حاجة الحاشية لا تفسر تفسيرًا كافيًا موقف الباي الصلب. إن الشيخ العنيد يستند إلى رغبات الأمريكيين وتصريحاتهم، وإن كان يختبئ وراء عزم يبعثه على الاستقلال، فإنه يريد بذلك الانتقام للنفوذ الملكي الذي حطمه وجود الحماية الفرنسية.

ويلاحظ في دار الإقامة العامة أن الباي أراد باستدعاء مجلس نواب تونسي أن يبرر موقفه أمام شعبه قبل قبول الإصلاحات، ويضاف إلى ذلك أن من بين الشخصيات التي حضرت المجلس وتألفت منها لجنة الاثني عشر المتفرعة عنه، بعض الشخصيات ذات الميول الفرنسية.

ونعتقد في الوقت نفسه أن أي تصلب من الجانب الفرنسي سيؤدي حتمًا إلى موقف أشد صلابة من الجانب التونسي.

والمظنون أن «م. دي هوتكلوك» كان عشية أمس دائم الاتصال بوزارة الخارجية الفرنسية، وأنه حاول أن يتحادث مع السيد البكوش الذي لا يريد أن يزعجه أحد في يوم الجمعة المقدس يوم الصلاة، كما حاول أن يتحادث مع بعض الشخصيات التونسية.

ومهما يكن من أمر فإن «م. دي هوتكلوك» سوف يسلم للباي عن طريق البكوش النصوص التي وعده بتسليمها، وسوف يكتفي بأن يطلب منه النظر فيها خلال ثمانية أيام، وإن لم يأته جواب بعد مرور الأجل اعتبر ذلك رفضًا للمشروع.»

(٩-٣) نجل الباي

ولكن ماذا يمكن أن تنتظر من قصر يعتبر فيه الاعتدال خيانة؟ أليس هناك أمر مقصود بعقد اجتماع ثانٍ على إثر انفضاض اجتماع قرطاجنة عند الزوال تحت رئاسة نجل الباي الذي أقلناه والذي يكرهنا، وهو الأمير الشاذلي بصحبة أخيه الأمير محمد؟

ومن المصادفات العجيبة أن تكون جماعات المتظاهرين تقترب في ذلك الحين من قصر الوزير الأول، وأن يرمي بعض المندفعين ثلاث قذائف على رجال البوليس، وقد وقع هجوم من نفس النوع بعد مضي ربع ساعة على الهجوم الأول على الساعة الثانية والأربعين دقيقة، وجُرح أثناءه طفل يبلغ ١٤ سنة وامرأة.

قد حصلت بعض الحوادث العادية ولكن هذا ليس خطرًا، ومن المجازفة ألا نتوقع وقوع حوادث أخطر في الميدان السياسي في الأيام المقبلة.

هنري فور

(٩-٤) مقابلة بين جلالة الباي والمسيو بينوش

على إثر استشارة يوم أول أغسطس التي نزلت كالقنبلة في الأوساط الفرنسية، بادرت الحكومة الفرنسية بإيفاد المسيو بينوش إلى تونس في مهمة اتصال واستعلام، فقابل المسيو بينوش جلالة الباي في يوم الخميس ٧ أغسطس، فأكد له جلالته أنه لن يفعل شيئًا ضد إرادة الشعب، وأجهد المبعوث نفسه في بيان أن فرنسا لا تعترف إلا بجلالته طرفًا ثانيًا في المباحثات، ولكن جلالة الباي صرح له بأن الكلمة للشعب الذي يهمه الأمر قبل غيره، فإذا قبل الشعب الإصلاحات فإني أقبلها وإذا رفضها رفضتها. وذكر بينوش أن المقيم العام يتمتع بثقة الحكومة الفرنسية، وأنه دبلوماسي من عائلة نبيلة، فعدد له جلالة الباي ما اقترفه المقيم العام نحوه من تهديدات واعتداءات، ومن ذلك اعتقال الوزراء دون علمه واستعمال القوة والضغط بأنواعه، ومن ذلك التهديد باعتقال الأمراء والأميرة زكية وغير ذلك من ضروب التعدي. ثم أضاف جلالة الباي: «ومهما يكن من الأمر، فإني لم أعد مستعدًّا لاستقباله، وليس عليه إلا أن يبلغني ما يريد إبلاغه إليَّ كتابةً بواسطة البكوش الذي يقوم بعمل ساعي البريد.» ثم ذكر بينوش بأن المقيم تألم من سفر الوزيرين التونسيين إلى باريس (صالح بن يوسف وزير العدل ومحمد بدرة وزير الشئون الاجتماعية)، فرد عليه جلالة الباي بأن المقيم هو الذي بدأ بإساءة التصرف عندما قام بحركة لإسكات الوزير صالح بن يوسف، لما أراد أن يصلح خطأ في الترجمة لمدير التشريفات، وكانت تلك الحركة بمثابة صفعة.

ثم قال بينوش إن رد الباي ينبغي أن يسلم قبل ١٥ أغسطس، وإن فرنسا لا تخشى هيئة الأمم المتحدة. فرد عليه الباي: لماذا العجلة إذن؟ فأجاب بينوش: ذلك لأن البرلمان يستأنف جلساته في أكتوبر، ونتمنى أن تصدر الإصلاحات قبل ذلك التاريخ؛ لذلك يتحتم الإسراع. فرد الباي بأنه عندما يتحصل على الأجوبة فإنه يبادر بالرد.

فقال المسيو بينوش: يهمني أن أعلمكم أن الحكومة الفرنسية عازمة على الاحتفاظ بشمال أفريقيا، وبتونس خاصة، ولو اقتضى ذلك انسحابها من هيئة الأمم المتحدة وقطع صلاتها بالولايات المتحدة الأمريكية. فرد عليه الباي أن هذه المسألة تهمكم، فقد كنا تقدمنا لكم بمطالب، ولو منحنا كل مقيم عُيِّن هنا منذ ذلك التاريخ بعض الشيء، لما وصلنا إلى الحالة التي نحن عليها الآن. إن المسألة هي ترضية رغائب شعب كامل.

واستمر بينوش قائلًا: إنه إذا لم تصدر الإصلاحات في أقرب وقت، فإن الحكومة الفرنسية تكون مضطرة لاتخاذ إجراءات خطيرة.

فأجابه الباي: إني أبلغ ٧٣ سنة، ومنذ أشهر تُنشر إشاعات إبعاد وسجن واستعمال القوة، أما فيما يخصني فإني مستعد لكل شيء.

وفي أثناء المحادثة لمَّح بينوش إلى أن تكوين برلمان في تونس من شأنه التقليل من سلطة الباي، فقال له الباي؛ أولًا: لم تبقَ لي أية سلطة. وثانيًا: إن هذه المسألة مسألة خاصة بي والشعب.

واستأذن بينوش من جلالته قائلًا: «إن الحكومة الفرنسية تعتمد على حكمته السامية للخروج من الحالة الراهنة وإعادة الهدوء والنظام إلى البلاد.»

وقد دامت المقابلة ساعة وعشرين دقيقة.

ثم سافر بينوش فجأة إلى باريس ليلة الجمعة بعد أن قابل بعض الشخصيات، وقد علمنا أن العلاقات بينه وبين المقيم كانت متوترة!

ولقد أدخل عمل جلالة الملك الحيرة والقلق على المقيم العام والحكومة الفرنسية، عندما أقام الدليل على أنها عدوة الديمقراطية، وعلى أنه هو الديمقراطي الحقيقي؛ إذ لا يريد إلا ما يريده الشعب نفسه. وقد عبرت جريدة «لوموند» عن ذلك الاضطراب في مقالات متعددة، بينت فيها قيمة ذلك الاجتماع التاريخي والمناورة السياسية التي احتوى عليها.

قالت بتاريخ ٣-٤ / ٨ / ١٩٥٢:

في الواقع لا يمكن أن نتغافل عن الأهمية الكبرى التي لتلك النواة البرلمانية، سواء في ميدان الحوادث الجارية الآن وغضون المحادثات التي شرع فيها المقيم العام، أو في ميدان أوسع وهو ميدان الملكية الحسينية ونظام الدولة التونسية.

ولكن نظرًا للتوتر الحالي للنتائج الممكنة لكل حركة يقوم بها أحد الطرفين؛ فإن ما يسترعي الانتباه ويلفت النظر في ذلك العمل، ليست ميزته الثورية الحاملة في طياتها تطورات المستقبل، لما فيها من خروج عن الملكية المطلقة، ولكن في القيام بمناورة تكتيكية بالنسبة للسياسة الفرنسية، فلا يمكن أن يجد الملك عملًا أكثر إقلاقًا للمقيم العام ووزارة البكوش مما قام به، وهو يوضح أيضًا بجرأة لا مزيد عليها اتفاق البلاط مع الحركات الوطنية، ولم يتظاهر الباي أبدًا حتى في مدة وزارة شنيق — الذي لاحظنا غيابه عن ذلك الاجتماع — بذلك الوفاق المتين بينه وبين الدستور وأنصاره. ويجب الاعتراف بأن السياسة التي كانت ترمي خلال أشهر طوال إلى التفريق بين الملك والحركة الوطنية، قد منيت أمس بخيبة مرة.

واتصل حالًا «م. دي هوتكلوك» بباريس؛ إذ حسب من المعقول أنه لا بد أن تتطلب الحالة الجديدة تعليمات جديدة، وأن المقيم على استعداد ليضرب أجلًا مدته سبعة أيام، إما للقبول وإما للرفض، وقد أصبحت الجالية الفرنسية تعلق على عمل الباي في حديثها وهي غاضبة، وتشير إلى أنها ستعرف قيمة المقيم العام من رد فعله على «استفزاز» البلاط الملكي.

وإن التعليقات التي سمعتها من جميع الجهات تزداد حماسًا وحرارة بقدر ما تزداد الاضطرابات والمظاهرات حول مقر الحكومة التونسية، ففي الصباح نفسه بينما كان ذلك الاجتماع الشهير يتجادل بقرطاجنة، كانت جماعات من المتظاهرين متجهين نحو القصر الذي يسكنه البكوش، وانفجرت ثلاث مرات متواليات المفرقعات.

وأردفت قولها ذاك بمقال ثانٍ في نفس العدد، أبرزت فيه ما سينتج عن اجتماع الأربعين من أخطار، قالت:

سيستمر الحديث طويلًا على ما قام به باي تونس يوم الجمعة (غرة أغسطس ١٩٥٢) من عمل ثوري تقريبًا، ولقد ظهر كأن سيدي الأمين وضع حدًّا لتلك الملكية المطلقة — نظريًّا على الأقل — التي كانت أقيمت بتونس وجعلت من الملك وحده المتحكم في اختيار مستشاريه ووزرائه وقراراته.

ومما يدل على نواياه أيضًا إشارته لخطاب العرش الشهير (١٥ مايو سنة ١٩٥١) فإن سيدي الأمين أعلن في ذلك اليوم عن نيته في إدخال تعديلات، على أداة الحكم، وكيفية تركيزها على قاعدة تمثيل شعبنا في تشكيلات منتخبة، وتحديد اختصاصات هاته التشكيلات.

ثم بعد ذلك تحدث عن إعداد النصوص التي تقر نيابة منتخبة تمثل كافة طبقات شعبنا، وكذلك عن مراعاة ما تقتضيه سياسة الرعية من الرضاء والقبول للأحكام الماضية عليها.

ربما لم نُعر ذلك الكلام — في وقته — ما يستحق من الاهتمام، مع أنه ينبئنا عن أحداث ملكية دستورية، بل وقع التصريح فيما بعد عن شكوكنا الكبيرة في نية الباي الحقيقية في وضع حد لسلطانه كملك مطلق، وتحت ضغط الحوادث رأى سيدي الأمين من مصلحته أن يسابق إلى تكوين مجلس استشاري قد شمله مشروع الإصلاحات.

وإن مناورة الملك في المرحلة الراهنة للمفاوضات الفرنسية من أبرع المناورات، وإنه وإن لم يكن عازمًا على رفض مشروع الإصلاحات، إلا أنه يريد تأخير قبولها أكثر ما يمكن، وإن استشارة ما يقرب من ثلاثين شخصية طلب منهم أن يعبروا عن رأيهم فيها كتابيًّا يسمح له بربح الوقت.

وقد تضع تلك المناورة المقيم العام في موقف حرج، ومهما يكن قرار الملك فقد أصبح في إمكانه أن يدعي أنه لا يتكلم باسمه الخاص، ولكنه يتكلم بتأييد ومساندة ممثلي شعبه الحقيقيين.

وبما أن ما قام به من عمل كان سريًّا إلى ساعة الاجتماع نفسها، فإنه أحدث بعض الدهشة بتونس، ولم يكن من نتائجه تهدئة الخواطر، بل ارتفعت درجة الحرارة من جديد بعد.

واجتمعت اللجنة مرة ثانية وقدمت لجلالة الملك تقريرها، فوافق عليه، ونظرًا لأهمية هذه الوثيقة التاريخية فإننا ننشرها بنصها:

تقرير هام

تفضل جلالة محمد الأمين الأول في غرة أغسطس ١٩٥٢ بدعوة أربعين شخصية تمثل مختلف نزعات الرأي العام التونسي للاجتماع في قصره بقرطاجنة، بقصد النظر في مشروعات الإصلاحات التي عرضتها الحكومة الفرنسية على مصادقة جلالته.

وجدير بنا أن ننوه بالمغزى التاريخي لهذه الخطوة التي قام بها جلالة الباي، وما تنطوي عليه من نزعة ديمقراطية تجسمت فيها المبادئ الديمقراطية التي تضمنها خطاب العرش في ١٥ / ٥ / ١٩٥١، فقد رغب جلالة الباي المعظم في تشريك الشعب في مسئوليات اتخاذ قرار يتعلق بمصير البلاد، وطلب من جميع الشخصيات التي قام باستشارتها بأن تدرس نصوص الإصلاحات دراسة عميقة، ثم تدلي بآرائها فيها وتبيِّن هل هي موافقة للمبادئ التي تضمنها خطاب العرش، وهل تُرضي الرغائب الوطنية؟

استشارت الشخصيات المذكورة هيئاتها، وحررت تقارير تضمنتها تعاليقها على المشروعات، وسلمت تلك التقارير للجنة المتكونة من ثلاثة عشر عضوًا انتُخبوا في اجتماع أول أغسطس؛ لكي تتولى هذه اللجنة تحرير تقرير عام ترفعه إلى جلالة الباي مع جميع الوثائق المجتمعة لديها.

رأت اللجنة بعد فحص التقارير فحصًا دقيقًا أن تتخذ طريقة في العمل ترمي إلى جمع الآراء الرئيسية الواردة في شتَّى التقارير تحت عناوين جامعة، ثم تجمع تحت عناوين أخرى الآراء المتفرقة في سائر التقارير والتي عرضها أصحابها باختصار.

وحرصت اللجنة في تحرير تقريرها على احترام النزعة العامة للآراء التي أدلى بها المستشارون، مع ملاحظة أنها فضلت عند تحرير التقرير توزيع عناصره حسب الآراء لا حسب المواد.

ظروف وضع مشروع الإصلاحات

يهمنا أن نذكر الظروف التي أدت إلى وضع مشروع الإصلاحات الحالي قبل الشروع في دراسة هذه الإصلاحات.

أُلِّفت وزارة السيد محمد شنيق في ط ١٧ أغسطس ١٩٥٠، وعهد إليها بمهمة «التفاوض باسم جلالة الباي في التعديلات الجوهرية التي ينبغي أن تقود البلاد التونسية إلى الاستقلال الداخلي على مراحل متتابعة.»

ثم صدرت إصلاحات ٨ فبراير ١٩٥١ بعد مفاوضات طويلة وشاقة.

وكان القصد من تلك الإصلاحات في نظر الذين عملوا على إصدارها، أن تظهر شخصية الحكومة التونسية، وتقلل من العراقيل التي كانت تحول دون تمتعها بحرية العمل. ولكن شتَّى ضروب المعاملات والمقاومات والمشاغبات وسوء النية التي بلغت في بعض الأحيان بأصحابها إلى التخريب، حالت عند التنفيذ دون تطبيق ما تضمنته الإصلاحات من وعد بإظهار شخصية الحكومة التونسية.

وبما أن المفاوضات في العاصمة التونسية لم تثمر النتائج المرجوة بسبب تأثيرات الجالية الفرنسية، تم الاتفاق على مواصلة تلك المفاوضات مع الحكومة الفرنسية في باريس.

واضطر الوفد الوزاري التونسي بعد إقامة بضعة أسابيع في باريس، عومل في أثنائها معاملة عدم اكتراث تتنافى مع التقاليد الدبلوماسية، وبعد أن وجد أن المتفاوض معه يتهرب من كل تعهد تحت تأثير أعوان ومبعوثي الجالية الفرنسية بتونس، وكانت مهمة الوفد الوزاري أن يذكر الحكومة الفرنسية بوعدها المتعلق بالاستقلال الداخلي، ويطالبها بضرورة النظر في طرق تنفيذه؛ فأكد الوفد الوزاري في مذكرته بتاريخ ٣١ أكتوبر أن اجتياز المرحلة الأولى من الاستقلال الداخلي يتطلب قيام حكومة تونسية متجانسة، وإنشاء مجلس منتخب للتشريع والمراقبة، ووضع نظام تونسي للوظائف العمومية.

ويلاحظ أن المطالب المذكورة تمثل الحد الأدنى للرغائب الوطنية.

وقضت الحكومة الفرنسية ستة أسابيع تفكر في تلك المطالب وتتباحث فيها، ثم ردت على مذكرة الحكومة التونسية برسالة ١٥ ديسمبر ١٩٥١ التي سببت قطع المفاوضات بشدة؛ إذ تضمنت نقض الحكومة الفرنسية لجميع تعهداتها السابقة التي كانت تعتبر نهائية، واستبدلت الحكم الذاتي الموعود برابطة نهائية بين البلدين، منتهكة بذلك بصورة واضحة نصوص الحماية والقانون الدولي.

وقد أدلى المسيو روبير شومان لمجلس الجمهورية الفرنسية في ٢٠ / ١٢ / ١٩٥١ بتصريحات، حاول فيها أن يخفف من تأثير رسالة ١٥ ديسمبر، بأن أكد أن عبارة «السيادة المشتركة» لم ينص عليها في تلك الوثيقة الرسمية، ولكن برغم تصريحاته تلك بقيت فكرة السيادة المشتركة هي الفكرة التي تركزت فيها إرادة الحكومة الفرنسية في المحافظة على مشاركة الفرنسيين في المنظمات السياسية بالبلاد التونسية.

ثم اتخذت رسالة ١٥ ديسمبر ١٩٥١ التي كانت السبب الرئيسي في الأزمة التونسية الفرنسية الحالية، قاعدة لوضع مشروع الإصلاحات الذي يقصد به في نظر أصحابه إيجاد حل لتلك الأزمة.

نقد مشروع الإصلاحات

لم تتناول الشخصيات المستشارة في تقاريرها بحث مشروع الإصلاحات من الناحية المبدئية الصرفة، ولكنها بحثتها على ضوء المصلحة الوطنية البحتة.

وهم لا يؤخذون على هذه الطريقة في الوقت الذي يعلق فيه السياسيون الفرنسيون — على اختلاف نزعاتهم — تسوية المشكلة التونسية على صيانة مصالح فرنسا قبل كل شيء، وبصورة لا تقبل الجدل.

وبناء عليه اتخذنا في هذا التقرير العام معيارًا واحدًا اتفقت عليه جميع اتجاهات الرأي العام التونسي، واهتدينا إلى هذا المعيار بفضل ما اقترحت بعض الشخصيات التونسية خلال اجتماع أول أغسطس سنة ١٩٥٢ من ضرورة دراسة مشروع الإصلاحات على ضوء صلاحيته لبعث السيادة التونسية، فنال موافقة جميع الحاضرين.

فجاء خطاب العرش في ١٥ مايو ١٩٥١ نتيجة لذلك يعلن فيه جلالة الباي بصورة خاصة «أن التدابير التي اتُّخذت تكون مرحلة أولى، وقد قررنا القيام بخطوة جديدة تشمل إعادة تنظيم الحكومة وقيامها على أساس التمثيل الشعبي في مجالس منتخبة.»

اعتداء على السيادة التونسية

ليست الحماية هي التي أنشأت السيادة التونسية، فقد كانت تونس موحدة وذات إدارة منظمة قبل تكوين الوحدة الإيطالية والوحدة الألمانية بكثير، خلافًا لما أشارت إليه رسالة ١٥ ديسمبر ١٩٥١.

كان لبلادنا ملكها وميثاق حقوقها (عهد الأمان المعلن في سنة ١٨٥٧) ودستورها (١٨٦١) وحكومتها وإدارتها، وكانت نزعتها إلى التطور متمشية مع تيارات التاريخ السياسية.

وإذا لم تبلغ المنظمات المذكورة كامل ازدهارها في ذلك العهد، فمرجع ذلك إلى أن ظروفًا غير مواتية وناتجة عن قوانين التناسق الطبيعية وعن المناورات الأجنبية التقليدية في بلاد الشرق.

وكان على نظام الحماية الذي تولته جمهورية ديمقراطية وحرة، أن يساعد وفقًا لنصوص المعاهدات وحرصها على تطور المنظمات التونسية التي كانت قبل قيام ذلك النظام في نمو مطرد، وقد ضمنت فرنسا بقاء تلك المنظمات رسميًّا، حتى إن ممثلها في ذلك الوقت أكد بأنه «لا يرى داعيًا لزوال الأنظمة الإدارية التونسية التي كانت ثمرة تجارب عدة قرون، ولها ما يشابهها عند الشعوب ذات الحضارة المماثلة لحضارة تونس الحديثة، ولتعويضها بمنظمات نشأت عن حضارة أخرى تلبية لحاجات أخرى.»

وهل يوجد أبلغ من هذا القول في الدفاع عن السيادة التونسية، وضد فرنسة المنظمات التي تتمثل فيها؟

ولكن السيادة التونسية لم تحترم فيما بعد تحت عاملي مزاولة شئون الحكم ومرور الزمن.

وقد أقر مشروع الإصلاحات جميع الاعتداءات المتتالية التي وقعت على السيادة التونسية.

التشريع

يلاحظ في الميدان التشريعي أن تأشيرة المقيم العام المحدثة بقرار صادر من جانب واحد، وهو رئيس الجمهورية الفرنسية، تجعل المشرع التونسي تحت إرادة ممثل فرنسا، وتجرده من كل حق في التصرف، وتجعل صلاحياته صورية لا غير. (وقد احتفظ بالتأشيرة المذكورة في مشروع الإصلاحات).

التنفيذ

وفي الميدان التنفيذي لا يعيد المشروع الانسجام للحكومة التونسية ويتركها محرومة من السلطات الحقيقية، بل يقضي بالتنقيص من بعض السلطات التي كانت لها.

ولا يسند مصالح جديدة للوزراء التونسيين، وعلاوة على ذلك يلاحظ أن فكرة إحداث مناصب مساعدين للمديرين الفرنسيين قد استُبعدت، وهي فكرة كان المسيو روبير شومان وافق عليها. وبالإضافة إلى ذلك يمنع عن التونسيين تولي منصب نائب مدير المالية، ويخصص هذا المنصب بصورة نهائية للفرنسيين.

ثم إن المشروع يُبقي الوزير الأول بلا سلطة حقيقية ومباشرة على مجموع الإدارات.

ومن جهة أخرى كان السكرتير العام يقوم بمهام وظيفة إلى جانب الوزير الأول الذي كان محتفظًا بسلطة اسمية على مصالح السكرتارية العامة، فأصبح في المشروع الجديد مستقلًّا وله الخيار في إطلاع الوزير الأول على أعماله.

وكانت قرارات الوزراء غير نافذة ما لم تحمل تأشيرة (السكرتير العام)، ثم استُبدلت التأشيرة بمصادقة المقيم العام قبل إصدارها، وفي النظام المقترح أصبحت تلك القرارات رهن التعقيب الذي له حق القيام به لدى المحكمة الإدارية، وعهد لإدارة المالية بمراقبة المصروفات التي كان يتولاها الوزير الأول، وهكذا أصبحت تلك الإدارة وزارة فوق الوزارات، وصارت سلطة الوزراء القانونية وهمية في حالة ما إذا كانت قراراتهم لها علاقة بالمالية.

ثم إن مصلحة الأمن التي ألحقت بالإقامة العامة منذ سنة ١٩٣٩ لا تدخل في اختصاصات السلطة التونسية، وهل يمكن أن تتصور حكومة تتمتع بالاستقلال الداخلي ولا سلطة لها على البوليس؟

الوظائف العمومية

أما فيما يتعلق بالوظائف العمومية، فقد حرِّم على التونسيين تحريمًا باتًّا ونهائيًّا أن يتولوا مناصب النفوذ والمسئولية؛ فقد خصصت هذه الوظائف للفرنسيين بعنوان «الوظائف المستثناة»، وهذا التحريم يجعل تحقيق الحكم الذاتي أمرًا مستحيلًا. وتقوم «الوظائف المستثناة» حائلًا دون تنفيذ القرارات الوزارية؛ نظرًا لكثرتها ونوعها وطريقة توزيعها، وقد شهدنا في عهد وزارة السيد شنيق كيف نظم الموظفون الفرنسيون عرقلة أعمال الوزراء التونسيين.

أما تخصيص الوظائف التي أطلق عليها «الوظائف التقليدية» للتونسيين، وأقصاه هؤلاء عن وظائف المالية والميزانية والأعمال الفنية، يجعل من المستحيل إقامة دولة تونسية عصرية.

المحكمة الإدارية

تعتبر المحكمة الإدارية مؤسسة ضرورية للدولة الديمقراطية، ولكن المحكمة المقترحة لتونس تعد اعتداء على البلاد التونسية لهذه الأسباب:
  • الأغلبية فيها فرنسية.

  • عينت باريس لهيئتها الاستثنائية.

  • خولت الحكومة الفرنسية حق تعيين أعضائها غير التونسيين.

وهي شروط تجعل من تونس ولاية فرنسية.

ويلاحظ بعد ذلك أن إسناد رئاسة المحكمة الإدارية لفرنسي مبعثه مركب السيطرة الفرنسية، الذي يقضي بأن يتولى الفرنسيون حسم المشاكل التي تحدث بينهم وبين التونسيين.

التمثيل النيابي

وفي ميدان التمثيل النيابي تعتبر مشاركة الفرنسيين في المجلس المالي والمجالس البلدية اعتداء على السيادة التونسية، وهي مسألة خطرة جدًّا، لا سيما وقد سبق للنواب الفرنسيين في تلك المجالس أن استندوا لصفتهم التمثيلية للممارسة نيابة تتعلق بالسيادة الفرنسية الصرفة.

ذكر في تبرير المشاركة المذكورة أن الفرنسيين يساهمون في ميزانية الدولة، بيد أن الحقائق الجبائية تكذب هذا الزعم؛ فإن ٨٥٪ من موارد الميزانية تأتي من الضرائب غير المباشرة التي يتحملها المستهلكون وغالبيتهم من التونسيين، و١٥٪ فقط من الضرائب المباشرة يدفعها أصحاب الثروات وغالبيتهم من الفرنسيين.

وإذا كان استغلال ثروة البلاد والمشاركة في الميزانية سببًا للمشاركة في المنظمات السياسية؛ فإنه لا يُعقل أن يُحرم غير الفرنسيين من الأجانب في تلك المشاركة ووضعيتهم كوضعية الفرنسيين.

ومن جهة أخرى، فإن طريقة تأليف المجالس المذكورة بتعيين فريق من أعضائها وانتخاب الفريق الآخر بالاقتراع العام، تمنع السيادة التونسية من الظهور في ميدانها الحقيقي، ويلاحظ أن المجلس المالي ليس إلا تمديدًا للمجلس الكبير الذي لم يعد في نظر روبير شومان ذاته يتماشى مع تطور الشعب التونسي في الوقت الحاضر.

أما المجلس التشريعي فلا سلطة تفاوضية له، ولا يملك حق وضع مشاريع للقوانين، وليس له إلا إبداء الرأي في بعض الشئون المعينة، ورأيه لا يلزم الحكومة في شيء، ولا صلاحية له إطلاقًا بالنسبة للمراسيم المتعلقة بالمالية والميزانية، وكذلك بالنسبة للنصوص التأسيسية المتعلقة بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وصلات هذه السلطات بعضها ببعض، كما يمنع عنه الخوض في الشئون السياسية أو الدستورية، وهكذا يقصر دور المجلس المذكور وهو منظمة تتمثل فيها السيادة التونسية، على مجرد إبداء بعض الآراء الفقهية في مسائل محددة.

ولم يدخل المشروع أي تعديل في الميدان التشريعي على صلاحيات الحماية المجحفة، بل أقرها وعززها في كثير من الحالات.

الاحتفاظ بالحكم المباشر وتعزيزه

يستمر المقيم العام كما — كان الحال في الماضي — في مباشرة سلطات إدارية مهمة (الأمن العام، الحريات العامة، تعيين لجان التحكيم، تنظيم الامتحانات لاختيار الموظفين … إلخ). ويبقى المراقبون المدنيون يتمتعون بسلطات عديدة يتسع نطاقها شيئًا فشيئًا، وفي احتفاظهم بهذه السلطات صورة من صور الحكم المباشر في النطاق المحلي للدوائر. وهؤلاء المراقبون المدنيون الذين يزداد عددهم يشرفون فعلًا على المصالح الإدارية في دوائرهم، فهم يسيطرون على البوليس وعلى الحريات العامة، وهم يتبعون الإقامة العامة، وكل واحد منهم «قيصر» ناحية تتمثل فيه السيطرة الفرنسية على إدارة البلاد.

ثم إن المصالح الوزارية التي يشرف عليها المديرون الفرنسيون في الوقت الحاضر والوظائف الرئيسية المخصصة للفرنسيين و«الوظائف المستثناة»، لتقوم دليلًا على الحكم المباشر. وقد عزز هذا الحكم في مشروع الإصلاحات بجعل قسم كبير من الإدارة التونسية تحت سيطرة فرنسا مباشرة، وهو يشمل مصالح الأمن العام والمالية والعدلية والشئون الخارجية والدفاع الوطني.

السكرتارية العامة

كانت السكرتارية العامة تابعة للوزير الأول، فجعل المشروع منها إدارة حقيقية مستقلة بذاتها، وعهد إلى السكرتير العام بمباشرة اختصاصات معينة واسعة النطاق، كانت تابعة لسلطات الوزير الأول، التي تشمل أقسام الإدارة المركزية، ومن بين تلك الاختصاصات مراقبة المصالح الإدارية والوظائف العمومية وإعداد البرنامج الاقتصادي والاجتماعي، وبإلغاء الصلة بين السكرتير العام والوزير الأول أصبح السكرتير العام هو الرئيس الحقيقي للدولة يباشر سلطات معينة واسعة، بينما حصر الوزير الأول في النطاق التقليدي والتشريفاتي، ومما يزيد في خطورة هذه الوضعية تكليف السكرتير العام بإعداد البرنامج الاجتماعي الذي يخوله سلطة جديدة تمتد إلى المؤسسات العامة والصحة والشئون الاجتماعية.

ثم إن تخصيص الوظائف الرئيسية (المالية والأشغال العمومية والمعارف العمومية والبريد والتلغراف والتليفون)، وكذلك وظائف السلطة التنفيذية (وهي الوظائف المستثناة) للفرنسيين وحدهم، تجعل الاتجاه إلى فرنسة الإدارة التونسية حقيقة تقرها النصوص التأسيسية، على أنه يلاحظ أن ممارسة الحكم المباشر وفرنسة الإدارة مبعثها سياسة التعمير بواسطة الموظف الفرنسي، أكثر من العناية بتحسين سير الإدارة التونسية. وقد حاولت الجالية الفرنسية، نتيجة للتوسع في السياسة المذكورة أن تركزها على قاعدة شرعية، فابتدعت فكرة السيادة المشتركة.

وهذه الفكرة العجيبة لا يمكن تصورها عقلًا أو قانونًا، والواقع أن فكرة السيادة المشتركة التي ابتدعت لخدمة غرض خاص، انعكست في رسالة الحكومة الفرنسية بتاريخ ١٥ ديسمبر، وهي الرسالة التي وضعت على أساسها مشروعات الإصلاحات خرقًا لما وقع تأكيده من أعلى منصة البرلمان الفرنسي، من أن فرنسا ليست في تونس صاحبة سيادة أو مشاركة في السيادة.

الخلط بين السلطات

نجد في مشروع الإصلاحات نفس الخلط في السلطات الذي كانت تمتاز به منظمات الحماية من قبل.

فالمقيم العام يتولى منصب وزير خارجية جلالة الباي، وله سلطة على التشريع بواسطة التأشيرة (التي لا تكون المراسيم نافذة بدونها)، وإن كان هذا الإجراء غير مسلَّم به، كما أن له سلطة على الأداة التنفيذية بما له من حق التعقيب لدى المحكمة الإدارية. وعلاوة على ذلك يمارس سلطات تشريعية بواسطة القرارات وسلطات تنفيذية بإشرافه على مصالح الأمن العام والوظائف العمومية، ويتدخل في شئون التمثيل النيابي فيما يتعلق بتأليف المجالس وسيرها ونظامها؛ إذ إن جميع المراسيم المتعلقة بهذه الشئون لا تكون نافذة إلا إذا وقعها بإمضائه.

وقد كان من الطبيعي أن يترك الوزير الأول، وهو الرئيس الأعلى للإدارة العامة بالمملكة التونسية، حق الإشراف على مصلحة رقابة المصروفات، غير أن مشروع الإصلاحات أخرج هذه المصلحة المهمة من نطاق اختصاصات السلطة التونسية، وكلف بها مدير المال الذي يشترط فيه المشروع أن يكون فرنسيًّا.

ويترتب على ذلك أن إدارة واحدة تقوم بالمصروفات، وتجري الرقابة عليها في نفس الوقت، ويا له من خلط فظيع في السلطات.

نظام اللامسئولية

إن تونس من البلدان القليلة التي رفعت فيها اللامسئولية إلى درجة نظام؛ فالحكومة ليست مسئولة أمام أي مجلس لا عن سياستها ولا عن تصرفاتها، وقد حدد دور المجالس بجعلها استشارية فقط، فأصبحت بذلك مؤسسات إضافية تابعة لسلطة مطلقة بدلًا من أن تكون أنظمة ذات سيادة تتمتع بحق مراقبة تصرفات الحكومة، وينشأ عن ذلك فقدان المسئولية العامة والإخلال والإسراف وإتلاف أموال الدولة، كما حدث في أثناء الحرب عند قيام نظام الاقتصاد العسير، وفيما بعد الحرب بالنسبة لشئون الإنشاء والتعمير والأعمال الكبرى وغيرها …

مشروع الإصلاحات والديمقراطية

يتضح من البيانات السابقة أن مشروع الإصلاحات لا يعطي للمنظمات التونسية — وخصوصًا المجالس — أية صبغة ديمقراطية، فهو لا يرضي رغبة الشعب في الحياة الديمقراطية.

وهذا الأمر يؤسف له حقًّا، ولا سيما أن رغبة الشعب في الحياة الديمقراطية تتفق مع إرادة ملكه في بعث نظام الملكية الدستورية، الذي كان معمولًا به في عهد أجداده.

ثم إن المشروع يقضي على إمكانية الوصول بواسطة الإصلاحات الجوهرية في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي، إلى إحداث تغيير حقيقي في حياة الجماهير بالمدن والقرى الذين تزاد نسبة المواليد بينهم، وتعتبر من المشاكل الإنسانية الكبرى.

وبكلمة وجيزة ليست الديمقراطية الاجتماعية لغد.

بعض النتائج العملية للمشروع

لنا أن نتساءل: هل سيدخل التونسيون حقًّا الوظائف العمومية؟ ولنا أن نجيب دون خشية الخطأ: أن شيئًا من ذلك لن يكون؛ لأنه لم تُتَّخذ أية تدابير من شأنها إخلاء المناصب الإدارية التي يشغلها جمهرة من الأعيان الفرنسيين الذين قُبلوا في تلك الوظائف خلافًا للمبادئ والوعود، بقصد زيادة عدد السكان الفرنسيين وحرمان التونسيين من إمكانية المشاركة في الوظائف العمومية، فالإصلاحات في هذا الموضوع ليست إلا مجرد «إعلان حقوق ذي صبغة أفلاطونية».

وبالإضافة إلى ذلك، فإن أبواب الوظائف المخصصة للفرنسيين موصدة في وجوه التونسيين، وهو أمر يعرقل تكوين موظفين تونسيين سامين ونخبة فنية تونسية.

ولا شك في أن اللوم يوجه بعد ذلك للتونسيين، فيُتهمون بالعجز عن القيام بمسئوليات الحكم، ويوصفون بعدم الكفاءة الفنية. وخلاصة القول: يشغل الفرنسيون مراكز السلطة والنفوذ والمناصب الفنية، ويشغل التونسيون المناصب الثانوية والتقليدية.

وهو أمر يضطرنا إلى التفكير في أن المسألة لا تعدو أن تكون إقامة «نظام عنصري» للوظائف العامة.

ظروف عرض الإصلاحات

تحدثنا عن ظروف وضع مشروع الإصلاحات، وأوردنا نقدنا للمشروع. بقي علينا أن نذكر الظروف التي عُرض فيها المشروع على جلالة الباي وأُبلغ للشعب.

بدأ الحديث عن إصلاحات في جو إرهابي اعتُقل فيه الزعماء، ونُبذت وزارة شنيق واقتُرفت أعمال البطش «والتطهير»، وشُددت الأحكام العرفية، وأُعيد نظام الرقابة.

ثم اعتُقل الوزراء وأُبعدوا، وتوالت شتَّى ضروب الضغط على جلالة الباي، ونُشرت الأنباء المضللة والحملات المفزعة.

وكانت تلك مراحل السياسة التي نشأت عن رسالة ١٥ ديسمبر، وأدت إلى تأليف وزارة طيعة لتصريف الشئون الإدارية، على أن تتألف إلى جانبها لجنة مشتركة للبحث في الإصلاحات، وتبين فيما بعد أن تأليف هذه اللجنة يتطلب جهودًا، فرُئي من المصلحة تسهيلًا لتأليفها إذاعة خلاصة الإصلاحات، فأدت تفاهتها وأهدافها المحدودة بالإضافة إلى رد الفعل الشعبي إلى إعراض المرشحين عن المشاركة فيها، وحينذاك عُهد للوزراء الإداريين الذين تحولوا إلى مفاوضين بمهمة المصادقة على مشروع الإصلاحات بعد بحثها بحثًا صوريًّا.

ويلاحظ أن مشروع الإصلاحات يتماشى نقطة بنقطة مع ما ورد في الخلاصة التي نُشرت في ٢ أبريل سنة ١٩٥٢، كما اعترف بذلك المسيو روبير شومان في الجمعية الوطنية الفرنسية.

أما عن مدى الإصلاحات واستعدادات المصلح، فقد أنذرنا المسيو بيناي بأن الحكومة الفرنسية لن تفعل أكثر من تلك الإصلاحات.

بيد أن هذه الإصلاحات لم تجد قبولًا عند أيٍّ كان بسبب تفاهة مضمونها، الأمر الذي اعترف به على منصة الجمعية الوطنية الفرنسية، وبسبب الظروف السيئة التي أُعدَّت فيها.

وأخيرًا رأى أنصار المشروع سرعة للتنفيذ وحسمًا للإشكال أن يسلكوا طريق إرغام جلالة الباي للمصادقة على ذلك المشروع دون إجراء أية استشارة بشأنها — تطبيقًا للمعاهدات — والمقصود هنا بالمعاهدات اتفاقية المرسى (٨ يونيو ١٨٨٣) التي تضمنت في فصلها الأول: «إن جلالة الباي يتعهد بإجراء الإصلاحات الإدارية والعدلية والمالية التي تراها الحكومة الفرنسية صالحة.»

إن مدلول هذه الكلمات واضح؛ فالمقصود بها هي الإصلاحات الإدارية والعدلية والمالية، ولا يمكن أن يُفهم منها إطلاقًا بطريقة التأويل أن يُقصد بها الإصلاحات السياسية والدستورية. فهذا النوع من الإصلاحات لا يدخل في نطاق اتفاقية المرسى، وهذه الحقيقة وردت مرارًا في أثناء مناقشات الأزمة التونسية الفرنسية بالجمعية الوطنية الفرنسية.

وقد صرح أحد كبار أفراد الجالية الفرنسية بتونس في محاضرة ألقاها في يوم ٢٦ مارس ١٩٥٢ بالمركز الجمهوري بباريس، أنه يرى أن القيام «بإصلاحات لم تنص عليها اتفاقية المرسى» يثير مشكلة خطيرة لها علاقة بالقانون الدولي، ويجوز تحديد هذه المشكلة في العبارات التالية:

تقترح فرنسا إصلاحات سياسية ودستورية تراها صالحة، فيرفض جلالة الباي الذي يرى رأيًا مخالفًا المصادقة عليها، فهل تستطيع فرنسا فرضها استنادًا إلى المعاهدات.

وإزاء هذا النزاع الذي له صلة بالقانون الدولي يسوغ أنصار مشروع الإصلاحات، سواء في تونس أو باريس، باقتراح حل يستند إلى القوة.

ولكن القانون يعرض حلولًا أصلح، ففي أفضل الفروض ملاءمة لأنصار المشروع؛ أي في تلك الفروض التي يكون فيها الباي قد فوض لفرنسا التصرف الكامل في سيادته الداخلية بواسطة اتفاقية المرسى، ويكون فيها الحكم على صلاحية الإصلاحات المقترحة متروكًا لفرنسا، فإن القانون الدولي وفقه المحكمة الدائمة بلاهاي يمنعان في أحكام قاطعة الالتجاء إلى الضغط لفرض الإصلاحات.

وهذه هي بعض القرارات:
  • (١)

    في صورة ما إذا حامت شبهة حول نية المتعاقدين، فلا بد من الأخذ بالتأويل الذي يحد الحرية أقل من غيره (قرار ١٠ سبتمبر ١٩٣٩، المسألة القضائية الترابية للجنة الدولية بالاودر).

  • (٢)

    في صورة ومجرد شك يُؤوَّل تحديد السيادة في أضيق الحدود (قرار ١٧ أغسطس ١٩٢٣ قضية ونبلدون، قرار ٧ يونيو، مسألة المناطق الحرة بالسافوا العليا وبلاد جكس).

  • (٣)

    إذا كان معنى إحدى الفقرات معقدًا، فلا بد من اختيار التأويل الأخف ضررًا بالفريق الذي يتحمل التعهد، الذي تنص عليه الفقرة (استشارة ٢١ نوفمبر ١٩٣٥).

إن حكمة هذه القرارات أفضل مبرر لالتجاء الحكومة التونسية لهيئة الأمم المتحدة، لطلب تحكيمها في نزاع بين دولتين تربط بينهما معاهدات حماية مستمدة من القانون الدولي، بعد أن أصر أحد المتعاقدين على حسمه بالالتجاء إلى العنف.

الخلاصة:

تستطيع اللجنة في خاتمة هذا التقرير العام، أن تؤكد أن مشروع الإصلاحات لا يمكن الأخذ به، بسبب المآخذ المفصلة في تقارير جميع الشخصيات التونسية.

وترى من واجبها ردًّا على السؤال المدقق الذي ألقاه جلالة الباي على الشخصيات التونسية، ورغبة منها في البقاء في حدود مهمتها، أن تقترح مجرد رفض مشروع الإصلاحات رفضًا باتًّا.

وبهذه المناسبة تنوه اللجنة بالعناية الكريمة التي يرعى بها جلالة الباي شعبه، وتؤكد له تعلقه المتين وإخلاصه العميق وولاءه المطلق.

المرسى في ٢٣ أغسطس ١٩٥٢

وتسلم جلالة الملك ذلك التقرير، واتخذه أساسًا للمفاوضة مع فرنسا، فلم يجمع مجلس الأربعين عابثًا، ولم يستشر ممثلي الشعب لاعبًا. بل كانت أعماله تؤيد أقواله؛ فقد اعتبر نفسه واحدًا من الشعب وفردًا من أفراده، لا يتميز عن غيره إلا بالأمانة التي وضعها الله في عنقه، والمسئولية التي يشعر بها والتي يريد أن يساهمه الشعب في حملها، فكان ديمقراطيًّا مثاليًّا وملكًا دستوريًّا، وإن لم يقيده دستور مكتوب ولا تقاليد موروثة، فأظهر لفرنسا بل للعالم كله أن تونس — ملكًا وشعبًا — تريد نظامًا ديمقراطيًّا للحكم وتنبذ الفكرة الاستبدادية والملكية المطلقة التي تريد الحكومة الفرنسية المحافظة عليها لغايات لا تخفى على متبصر. لقد قرر شعب تونس رفض الإصلاحات المزعومة، فرفضها الملك أيضًا، وكتب قراره ذاك في رسالة بعث بها إلى رئيس الجمهورية الفرنسية.

وهذا نص تلك الوثيقة التاريخية:

قرطاجنة في ٩ / ٩ / ١٩٥٢
حضرة السيد فنسان أوريول
رئيس الجمهورية الفرنسية — باريس
حضرة السيد الرئيس

يدفعنا حرصنا المستمر في المحافظة على العلاقات الطيبة بين بلادينا، إلى مخاطبتكم من جديد بوصفكم — وأنتم رئيس الجمهورية الفرنسية — الحارس لما لفرنسا من تقاليد تحريرية وديمقراطية.

وغير خفي عنكم أننا لم نترك فرصة سنحت لنا منذ ارتقائنا عرش العائلة الحسينية، غداة هزيمة جيوش المحور في ميدان القتال بالبلاد التونسية، دون أن نوجه أنظار ممثلي فرنسا لدينا إلى ضرورة إصلاح الأنظمة في مملكتنا إصلاحًا جوهريًّا، يتطلبه ما بلغه شعبنا من تطور لا جدال فيه، وما تكبده من تضحيات في سبيل تحرير أوروبا إلى جانب حماة الحق والديمقراطية. وقد أعلن الجنرال ماست وعودًا لم تتبعها سوى محاولات فاترة، أفسدت جوانبها الطيبة أعمال الضغط وبقاء الأحكام العرفية.

وجاء المسيو جان مونس بدوره يؤكد في عدة خطابات وجوب «التطورات الضرورية»، ولكن عمله الإيجابي اقتصر على تغيير التشكيلة الوزارية.

فكانت الخيبات المتكررة التي واجهت رعايانا تُحدث شكوكًا في نفوسهم، وتعكر الثقة التي وضعوها في وعود فرنسا بإرضاء رغبتهم المشروعة؛ وإذ ذاك لبَّينا داعي الواجب الناجم عن المهمة الملقاة على عاتقنا، وحرصنا على تجنب تحول مظاهر القلق الذي ساور رعايانا إلى اليأس، فوجهنا إليكم في ١١ أبريل ١٩٥٠ خطابًا أشرنا فيه بإخلاص إلى المخاوف التي تخامرنا بشأن الحالة، وإلى الضرورة الملحة في معالجة القلق المتزايد، وقد أثبت تطور الحوادث فيما بعد وجهة نظرنا.

وكنا نعتقد عند تعيين المسيو بريليه خلفًا للمسيو مونس، أن الحكومة الفرنسية أدركت حقيقة المشكلة؛ إذ حددت لأول مرة في عبارات واضحة الخطوط الرئيسية لسياستها في تونس، وعهدت إليه بمهمة تحقيق الحكم الذاتي، ولهذه الغاية ألفت في ١٧ أغسطس ١٩٥٠ (وزارة المفاوضات)، كلِّفت بمهمة تحديد مراحل الحكم الذاتي مع ممثل فرنسا.

وكانت الثقة التي تتمتع بها الوزارة الجديدة لدى شعبنا كفيلة بمساعدتها على نجاحها في مهمتها.

غير أن الصعوبات التي لقيها المفاوضون محليًّا، والعراقيل التي أقيمت في سبيل تنفيذ المجموعة الأولى من الإصلاحات الصادرة في ٨ فبراير بإخلاص؛ جعلتنا نقرر باتفاق مع ممثل فرنسا إرسال وفد وزاري إلى باريس لمتابعة المفاوضات مباشرة مع حكومة الجمهورية.

ثم جاء الرد الفرنسي في ١٥ ديسمبر ١٩٥١ يحمل إعادة النظر في مبدأ السيادة التونسية، واستبدال المسيو بريليه بمقيم عامٍّ جديد: هو المسيو دي هوتكلوك، فكان هذان الحادثان دليلًا على تحول واضح من جانب فرنسا؛ الأمر الذي ترك في الرأي العام التونسي أثرًا أسوأ من أثر المماطلات التي سبقت إعلان السياسة التحريرية في سنة ١٩٥٠ التي سرعان ما أُهملت.

ولطالما أسفنا في أثناء المحن المؤلمة التي تجتازها مملكتنا منذ أوائل سنة ١٩٥٢؛ لأن الحكومة الفرنسية لم ترَ من واجبها الاستماع إلى مقترحاتنا وهي ثمرة تجاربنا الطويلة. كما أسفنا لأن نداءاتنا التي وجهناها إليها للمبادرة بإعادة جو من الثقة، لم تلقَ منها أذنًا صاغية؛ فقد آثرت الحكومة الفرنسية أن تأخذ بمقترحات أخرى لجأت إلى تدابير العنف التي لم تنجُ منها أية طبقة من طبقات الشعب بما فيها أعلى طبقة؛ فقد اعتُقل الوزراء المباشرون لمهامهم وأُبعدوا، وهم الذين لم نسحب ثقتنا منهم ولم نُقِلهم.

وقد وضعت هذه السياسة، التي لم يسبق لها مثيل في تونس، المشكلة في مأزق حقيقي.

وفي الوقت ذاته أعلن المسيو دي هوتكلوك، أنه سيتم وضع الإصلاحات المرتقبة.

وفي أثناء قيام الإقامة العامة بتحضير مشروعات الإصلاحات، نسبت إلينا بعض الصحف التي لا نود الخوض في مصدر إلهامها، مواقف معينة تجاه تلك الإصلاحات، وكانت تلك المواقف وهمية، ولا سيما أن مشروعات الإصلاحات لم تبلغ إلينا إلا في يوم ٢ أغسطس الماضي.

وقد أبرقنا إليكم في ٢٢ يوليو حرصًا منا على تجنب كل سوء تفاهم جديد مع الحكومة الفرنسية، وعندما استلمنا لوائح المراسيم لاحظنا قبل كل شيء أنها تضمنت عدة تدابير مخالفة للغرض المقصود بالإصلاحات، وأن تلك المراسيم هي أبعد ما تكون مطابقة للتأكيدات التي تضمنتها شروحها التي سلمت لنا قبل ذلك بأيام، حيث طلب إلينا المصادقة مقدمًا بمجرد الاطلاع على تلك الشروح على نصوص لم نطلع عليها.

ولاحظنا من جهة أخرى أن رسالة المقيم العام المرفقة للوائح المراسيم المعروضة على ختمنا، أوردت رأيًا كان أدلى به حضرة رئيس مجلس الوزراء على منصة الجمعية الوطنية الفرنسية، وضمَّنه رسالته إلينا بتاريخ ٤ يوليو ١٩٥٢: وهو أن التدابير المقترحة هي «الحد الأقصى» لما تستطيع فرنسا منحه لترضية المطالب التونسية. ومعنى هذا أنه لم تترك لنا إمكانية اتخاذ تدابير أخرى غير التي تضمنتها المراسيم المذكورة، ووجدنا أنفسنا أمام أحد أمرين: إما قبول النصوص كما هي، أو رفضها.

فرجعنا قبل اتخاذ أي موقف، على أن نستشير وفقًا للمبادئ الديمقراطية التي أكدناها في الخطاب الذي ألقيناه بمناسبة ذكرى ارتقائنا العرش في ١٥ مايو ١٩٥١، الممثلين الحقيقيين لجميع نزعات الرأي العام التونسي، لنشرك رعايانا المخلصين في مسئولية اتخاذ قرار يتعلق بمستقبل مملكتنا.

وقد قامت الشخصيات التونسية — سواء المسلمون أو اليهود — الذين اجتمعوا لهذا الغرض بدعوة منا، بدراسة مشروعات الإصلاحات مع هيئاتهم، وقدموا لنا في خاتمة أعمالهم تقريرًا واضحًا نرى من المناسب أن نرسل إليكم رفقة هذا نسخة منه.

وتوضح هذه الوثيقة أن الإصلاحات المقترحة:
  • تكون اعتداءً على السيادة التونسية.

  • تقر الإدارة الفرنسية المباشرة.

  • تعزز الخلط بين السلطات واللامسئولية في الحكم.

  • لا تأتي بأي تقدم في سبيل إقرار الديمقراطية في المنظمات التونسية.

وهكذا يتضح أن الإصلاحات المذكورة لا تُرضي رغائب الشعب التونسي، ولا تُرضي «الحد الأدنى» لمطالبنا التي حددناها بنفسنا في خطاب ١٥ مايو ١٩٥١، وفي مذكرة ٣١ أكتوبر من السنة ذاتها، وعلاوة على ذلك فإنها لا تُعتبر خطوة في سبيل الحكم الذاتي الذي وعدت به فرنسا رسميًّا.

فمن الصعب علينا — والحالة هذه — أن نضع عليها ختمنا.

ويجدر بنا أن نلاحظ في هذا الصدد أن اتفاقية المرسى التي ورد ذكرها عدة مرات في الرسائل التي وجهها أو أحالها إلينا المقيم العام، لم تكن لتجعل حقنا في الموافقة على القوانين التي تصدر في مملكتنا مجرد مسألة شكلية، وخاصة بالنسبة للمراسيم ذات الصبغة السياسية أو التأسيسية التي تُعتبر خارجة عن نطاق تلك الاتفاقية.

ولم يبقَ لنا من جهتنا إلا أن نأسف مرة أخرى للصعوبات التي انتهت إليها العلاقات التونسية الفرنسية، بسبب سوء التفاهم الذي جعل فرنسا تخسر فرصًا كثيرة للوصول إلى حل مُرضٍ للمشكلة.

وأرجوكم، حضرة الرئيس، أن تثقوا في عواطف الصداقة التي نكنُّها لكم.

وتفضلوا بقبول عميق تقديرنا السامي.

الأمين الأول
١  الخميس ١٩ / ٦ / ١٩٥٢، الجريدة الرسمية الفرنسية رقم ٥٧ في ٢٠ / ٧ / ١٩٥٢.
٢  وهذا نصها:
الباب الأول: إصلاح السلطة التنفيذية: (١) الحكومة: إن انسجام الحكومة لا يمكن بحثه في إحدى مراحله الأولى، لأنه يفضي في الوقت الحاضر إلى حل غير مقبول، وهو يقتضينا أن نلائم بين عدة شروط فيصبح بذلك إجراء عديم الجدوى، ويخلق بنا فضلًا عن ذلك أن ندخل في حسابنا التطور السريع الذي امتاز به تأليف الحكومة التونسية خلال بضع السنين الماضية، ومما تجدر الإشارة إليه أن المساواة القائمة بين الأعضاء التونسيين والفرنسيين في مجلس الوزراء قد أصبحت حقيقة واقعة منذ أقل من عامين.
ويجب أن نذكر أن المرحلة التالية تشمل فضلًا عن ذلك احتمال تعديل الوضع الراهن لمجلس الوزراء، وذلك بزيادة جديدة لعدد المصالح الوزارية التي يتولى التونسيون إدارتها.
ففي المشروع الحالي سيتولى التونسيون شئون الوزارات التالية:
  • رياسة الوزارة، وسيكون من يتولاها رئيسًا للحكومة.

  • وزارة الدولة التي تُشرف على الإدارات المحلية.

  • وزارة العدل.

  • وزارة الصحة العامة.

  • وزارة الزراعة.

  • وزارة التجارة.

  • وزارة العمل.

أما المصالح الوزارية التي سيقوم الفرنسيون بالإشراف عليها بصفة مؤقتة فهي الآتية:
  • وزارة المالية.

  • وزارة الأشغال العمومية.

  • وزارة المعارف.

وكذلك المصلحة التونسية للبريد والتلغرافات والتليفونات، وكذلك إدارة الإنشاء والمساكن، أما في المصالح الوزارية التي يدير شئونها الفرنسيون، فعيِّن لمديريها وكلاء من التونسيين لهم سلطات معينة.
ولإقامة الدليل على أن انسجام الحكومة التونسية هو ما يرمى إليه هذا التطور الراهن سيُمنح الوزراء سلطات أوسع مما كان لهم فيما مضى، فسيصدر مرسوم يجعل لرؤساء الإدارات التونسية استقلالًا في إدارة شئون المصالح التي يديرونها؛ أي إن:
(أ) وجوب إقرار المقيم العام للقرارات الوزارية سيلغى، فتعلن القرارات وتنفذ دون أي إشراف سابق من جانب السلطات الفرنسية.
(ب) الإشراف على الموظفين الذي ظل معهودًا به حتى الآن إلى السكرتير العام، سيترك أمره من الآن فصاعدًا لرؤساء الإدارات.
ويتولى رئيس الوزراء في الوقت ذاته رياسة اللجان الوزارية ويقوم مدير المالية بفرض الرقابة على النفقات العامة.
وهكذا تتم خطوة جديدة في سبيل تحقيق ما كانت النية متجهة إليه منذ سنوات، وهو جعل السكرتير العام «الساعد الأيمن» لرئيس الوزراء، فهو يحتفظ بوصفه رئيس الإدارة بالسلطات الآتية: البت في الوظائف العامة وإعداد المشروعات الاقتصادية والإشراف عليها.
(٢) إنشاء محكمة إدارية: يعتبر إنشاء هذه المحكمة من الإصلاحات الجوهرية، فإن إقامة هيئة مهمتها النظر في القضايا المرفوعة ضد الدولة، ولتقرر هل تعتبر بعض الإجراءات الإدارية شرعية أم لا، يُعدُّ في كل بلد آخذ بأسباب النهضة الحديثة، من أعظم الضمانات التي يتمتع بها الأفراد.
ويشمل اختصاص هذه المحكمة جميع الإجراءات الصادرة عن السلطات الإدارية للحكومة، ويدخل في هذا النطاق بنوع خاص سلطات البوليس، ولكن لا تختص هذه المحكمة بالنظر في المراسيم التي يصدرها الباي من الناحية القضائية أو الدينية، أو التي تتصل بأمور التشريع، أما فيما يختص بالمراسيم الأخرى، فالمفهوم أن هذه الهيئة ستكتفي بإصدار الفتاوى القانونية وذلك تأييدًا لسلطة المليك، ولكن في وسعها على النقيض من ذلك أن تلغي الأوامر التي يصدرها الوزراء ومديرو المصالح الوزارية من الفرنسيين.
ويدخل في نطاق سلطة الإشراف على أعمال الحكومة ما للمقيم العام من اختصاص، بأن يعرض المراسيم التي تعتبرها مخالفة للقانون، وهذا الإجراء الذي يجب القيام به خلال شهر واحد، له أثر في وقف بعض هذه القرارات.
والمحكمة الإدارية التي يتولى رياستها فرنسي منتخب من بين أعضاء مجلس الدولة تؤلف من ثمانية أعضاء، أربعة منهم فرنسيون والأربعة الباقون من التونسيين.
ويمكن استئناف قرارات هذه المحكمة الإدارية أمام مجلس استئنافي تابع للقضاء التونسي، ويتولى رياسته رئيس من قسم قضايا مجلس الدولة، ويشكل من ثلاثة أعضاء فرنسيين يقع عليهم الاختيار من بين أعضاء مجلس الدولة، وثلاثة أعضاء تونسيين يعينهم الباي بمرسوم ملكي، ويعقد المجلس جلساته في باريس.
أما تشكيل المحكمة الإدارية والمجلس الاستثنائي على النحو السابق، فتفرضه الاعتبارات الدولية بسبب ما قطعته فرنسا من عهود للبلاد التي تنازلت عن نظام الامتيازات الأجنبية.
(٣) إصلاح مسائل الموظفين: يحقق المشروع في هذه الناحية من الآن أقصى ما يطالب به أبناء البلاد.
ففيما يتعلق «بالنسبة» التي حددتها المراسيم الصادرة في شهر فبراير من عام ١٩٥١، استبدل بها نص جديد أكثر فائدة للتونسيين، فقد بات باب التوظف في الحكومة مفتوحًا من ناحية المبدأ للتونسيين دون غيرهم فيما عدا بعض المراكز التي تدخل في دائرة الحقوق المكتسبة، وطائفة من المناصب التي تعينها مراسيم يصدرها الباي، والتي يجب أن يشغلها الفرنسيون وعلى الأخص فيما يتصل بتعهدات فرنسا بشأن الأمور المالية ومسائل الدفاع الوطني.
وضمانًا لحسن اختيار الموظفين يشمل المشروع إجراءات ترمي إلى الاحتفاظ بمستوى الاختبارات وذلك بمقارنتها بمثيلاتها في فرنسا، ومن الناحية الأخرى يجعل لجان الامتحانات مشتركة، ويجري امتحان راغبي التوظف باللغة الفرنسية للمناصب العالية والرئيسية ووفقًا لاختيار الطالب بالفرنسية أو العربية للوظائف الأخرى، وتستعمل اللغة العربية دون غيرها للحصول على الوظائف التقليدية.
ويتضمن المشروع أيضًا إجراءات لفترة الانتقال في مصلحة الموظفين بعقود أو المؤقتين الذين يعملون منذ زمن محدود في خدمة الحكومة التونسية.
وفي خلال المدة التي قد يتعذر فيها وجود العدد الكافي من المرشحين التونسيين لملء جميع الوظائف الخالية يجوز تعيين مرشحين من الفرنسيين بمقتضى نظام منفصل، وأن يكون وضعهم تحت تصرف الحكومة التونسية، وفقًا لشروط تحددها السلطات الفرنسية.
الباب الثاني: الإجراءات التشريعية: الباي هو صاحب السلطة التشريعية الفعلية في البلاد، ولا يرمي المشروع فيما يتعلق بالهيئات القائمة في تونس في الوقت الحاضر، إلى إنشاء أي نظام برلماني قبل أن يوطد أركان المجالس المحلية المنتخبة التي تعتبر أساسًا ضروريًّا لمثل هذا النظام، وهي التي يرمي مشروع الإصلاح الحالي إلى إنشائها.
لذلك لا يتضمن المشروع أي اقتراح بأن تتعدى الهيئات النيابية الصفة الاستشارية، ولكي تحقق في الوقت ذاته بعض الأماني الوطنية التونسية، وتكفل المحافظة على مصالح الفرنسيين المقيمين بالمملكة التونسية فإننا نقترح إنشاء مجلسين، لكل منهما اختصاص يختلف عن الآخر.
(١) المجلس التشريعي: لهذا المجلس المؤلف من التونسيين دون غيرهم، اختصاص تشريعي عام، لا يدخل فيه البحث في المراسيم ذات الصبغة المالية أو المتصلة بالميزانية، ولا تعرض عليه المواضيع إلا من طريق الباي، وعليه أن يبدي رأيه في مشروعات القوانين التي تُعرض عليه ويقترح إدخال التعديلات التي يرى لزومًا لها.
وعدد أعضاء المجلس ثلاثون يعيِّنهم الباي بمرسوم، وبعد تعميم إنشاء مجالس «العمالات» والمجالس البلدية، يستبدل بهم الأعضاء المنتخبون بالتدريج.
(٢) المجلس المالي: أما المجلس المالي المقترح فهو هيئة مختلطة، ويشترك في عضويته التونسيون والفرنسيون على قدم المساواة، وهذه المساواة يبررها ما يساهم به الفرنسيون في ميزانية الدولة، ومساهمة فرنسا في النفقات المحلية على صورة قروض وإعانات.
وبخصوص اختصاص هذا المجلس في بحث الميزانية والشئون المالية دون غيرها، وليس له أن يتدخل في التشريع. ويتم اختيار بعض أعضائه ممن يمثلون المصالح الاقتصادية.
وللمجلس المالي سلطة تعديل المشروعات التي تُعرض عليه، ولكن إذا اعترضت الحكومة على أي تعديل، فلها الحق في أن تطالب بقراءة ثانية.
ومما تجدر الإشارة إليه أن المشروع لا يتضمن نصًّا فيما يتعلق بالأغلبية المطلوبة يقوم على مبدأ الدوائر الانتخابية المنفصلة أو تقسيم المجلس إلى قسمين.
الباب الثالث: المجالس المحلية: إن الإصلاح المرتقب في هذه الناحية ذو أهمية بالغة؛ لأنه يقضي بأن يحل الانتخاب محل التعيين بمراسيم لأعضاء المجالس البلدية، ولأنه يقرر إنشاء مجلس محلي في كل «عمالة». والدولة التونسية يقوم فيها في الوقت الحاضر نظام المركزية.
فإذا استثنينا المجالس البلدية القائمة في نحو ٧٠ مركزًا، فليس في البلاد أي مجلس يُعهد إليه الإشراف على المصالح المحلية على نحو شامل، لذلك ينوء كاهل الميزانية بأبواب يمكن القيام بها على خير وجه إذا عولجت في كل منطقة على حدة.
ويرمى مشروع الإصلاح من وراء إنشائه في نطاق العمالات مجالس يعهد إليها بوضع ميزانيات المناطق وإدارة شئونها بالقيام ببعض أمور الحكم المحلية، إلى تدريب التونسيين على ممارسة حق الانتخاب، وأن يتيح للأعضاء المنتخبين تقدير التبعات التي تقع على كاهل الهيئات النيابية.
وستتم هذه التجربة في المدن الكبرى عن طريق التعاون بين الفرنسيين والتونسيين الذين يجرى انتخابهم بواسطة دوائر مخصصة لكل فريق منهم، أما في المدن والمناطق التي لا يكثر فيها عدد السكان الفرنسيين مثل أكثر العمالات، فسيكون الأعضاء المنتخبون كلهم أو أغلبهم من التونسيين وستؤدي هذه التجارب إلى فوائد جمة؛ إذ ستعجِّل السير بالبلاد في طريق الحكم الذاتي الداخلي …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤