اغتيال فرحات حشاد

كانت الأخطاء في السياسة الفرنسية كالحلقة المفرغة، بعضها آخذ برقاب بعض. وكل خطأ على ما فيه من مهازل ومضاحك تجرُّ وراءها المآسي جرًّا. ولم تجد الحكومة الفرنسية حلًّا للمشكلة التونسية؛ لأنها رفضت جميع الحلول الممكنة، وعدلت عن طريق الحق، وأغمضت عينيها عن الواقع، والواقع هو أن ثلاثة ملايين ونصفًا من التونسيين أبوا أن يندمجوا في فرنسا، وأن يفنوا في الشعب الفرنسي، وتمسكوا بوجودهم كشعب له سيادته وله كيانه وله مميزاته، وله أيضًا أرض ووطن. ولما رأت الحكومة الفرنسية أن إرادة التونسيين لم تنثنِ، ألقت لدى هوتكلوك الطاغية الهزلي وللجنرال جارباي سفاك مدغشقر الحبل على الغارب، فكان الطغيان بألوانه، وكان الفتك والتنكيل، وكان التقتيل والتشريد، وكان التخريب و«التطهير».

ولما رأت السلطات الفرنسية ارتياع الضمير البشري، وموجة الغضب والحنق تهز الرأي العام العالمي هزًّا لهول ما ارتكبته من فظائع؛ نزعت منزعًا جديدًا، وعوضت اضطهادها الظاهر المفضوح باضطهاد أشنع وأقبح، ألبسته ستارًا شفافًا تُرى خلفه أيديها المخضبة بدماء التونسيين، فقد كانت ترتكب في النهار السافر، فباتت المؤامرات تُحاك بليلٍ لاغتيال الأبرياء وتخريب بيوت الوطنيين وبث الرعب والخوف في النفوس.

(١) اليد الحمراء

شكل الفرنسيون عصابة إجرامية على مرأى ومسمع من السلطات الفرنسية، أطلقوا عليها اسم «اليد الحمراء». ومن الملاحظ أن الكتَّاب الأحرار من الفرنسيين أنفسهم لا يذكرونها، إلا وقرنوا معها اسم أكبر موظف فرنسي بعد المقيم العام، وهو «بونص» الكاتب العام للحكومة التونسية. وقد تجرأ الكاتب المقدام فنيدوري Finidor على فضحهم عندما كشف الحقيقة، فقال:١ «وليس المجرمون مستعمرين فرنسيين فقط (وعناوين «باري — برايس» تقول: «اليد السوداء» أو «اليد الحمراء» أو «اليد الكورسيكية»)، ولكن الإدارة العليا تعرفهم فردًا فردًا.

ويعرفهم هوتكلوك وكولونا.

وإن قادة كوماندوس (من الفرنسيين) بالقطر التونسي معروفون، وإن أسماءهم في كل فم وفوق كل لسان.

وإنه لفي الإمكان الإدلاء بأسماء رؤساء كومندوس مدينة تونس.

ومن الأدلة القاطعة على أن الإدارة الفرنسية كلها تحمي مجرمي عصابة «اليد الحمراء»، وربما تكون مشاركة لهم وساهرة على أعمالهم؛ استحالة إلقاء القبض على أي فرد من أفرادها، حتى قال لنزك لوزون Louzon: بينما لم يفلت من الاعتقال ولا واحد ممن ارتكبوا أو ظُنَّ أنهم ارتكبوا عملية إرهاب ضد أي أوروبي أو ما يملكه أوروبي، ولم ينجُ من الأحكام القاسية وحتى من الإعدام ولا واحد منهم، ترى أنه لم يلقَ القبض ولا على واحد من المجرمين الذين ارتكبوا عشرات الجرائم ضد التونسيين، ولن يلقى القبض على واحد منهم٢ لأجل اغتيال فرحات حشاد، ولا لأجل النسف المتكرر الذي سبقه.

ونرى كذلك كل عملية إرهاب يقوم بها التونسيون مهما تضاءلت، إلا وكانت فرصة لاختطاف عشرات الدستوريين في جميع أنحاء القطر، ولإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال بدعوى مشاركتهم الأدبية في الإرهاب، بينما لم يقع ولن يقع إزعاج ولا واحد فقط من المستعمرين المسئولين عن الجرائم التي ارتكبوها ضد التونسيين.»

نلاحظ أن «اليد الحمراء» تشرع في عملها الإجرامي كلما وجدت السلطات الفرنسية صعوبة في طريقها، تجعل من المستحيل عليها تنفيذ خطة من خططها؛ فقد لجأ المقيم العام دي هوتكلوك بجميع وسائل الضغط ليجبر رئيس الوزراء دولة محمد شنيق على تقديم استقالته ولم يفلح، إذ ذاك رأينا عصابة «اليد الحمراء» تتحرك فبعثت له برسالة كلها تهديد ووعيد في الأيام الأولى من شهر مارس ١٩٥٢، وكانت محررة باللسان الفرنسي في أسلوب بليغ. وفي ليلة الأحد ١٦ مارس وضعت تلك العصابة قنبلة في مدخل بيت دولة الوزير، وكان انفجارها قويًّا شديدًا نسف الباب الخارجي، فأضربت تونس احتجاجًا على ذلك الاعتداء، وعُقدت عدة اجتماعات شعبية، وعرض الشعب على الوزير أن يقوم بحراسته وحراسة جلالة الملك، وعم الإضراب القطر كله في الأيام التالية.

وكان جو تونس داكنًا عبوسًا ينضح منه السخط والغضب على مرتكبي مؤامرة الاعتداء.

ولكن الإرهاب لم يأتِ بالنتيجة المطلوبة، فقام إذ ذاك دي هوتكلوك بالعدوان السافر على الوزارة التونسية، وأُلقي القبض على الوزراء يوم ٢٦ مارس ١٩٥٢ ونفاهم إلى الصحراء.

ولقد أدخل جلالة الملك الحيرة على السلطات الفرنسية، لما جمع «البرلمان التونسي الاستشاري» الذي رفض التحويرات الاستعمارية التي عرضتها الحكومة الفرنسية على جلالته، فاغتاظت الإقامة العامة على أعضاء ذلك «البرلمان» الذي سُمِّي «بمجلس الأربعين»، ولم يعرف طريقة قانونية يتخلص بها منهم، فإذا «باليد الحمراء» تسعى بعد حين في إرهابهم والقضاء عليهم وإبادتهم وتوجه ضرباتها إليهم الواحد تلو الآخر، وهذا جدول جرائمها في هذا المضمار:
  • فرحات حشاد: الأمين العام للاتحاد العام الفرنسي للشغل، اغتيل.
  • فتحي زهير: محامٍ، أُبعد ونُسف بيته.
  • المنصف المنستيري: صحفي، نُسف بيته بالقنابل.
  • الطيب الميلادي: محامٍ، أُبعد ونُسف بيته.
  • الطاهر الأخضر: محامٍ، قنابل انفجرت ببيته فهدمته.
  • محمود الزرزري: رئيس الغرفة التجارية، إبعاده ونسف ممتلكاته وإتلافها.
  • الدكتور صالح عزيز: طبيب جراح، تهدم بيته بالقنابل.
  • الصادق بن يحمد: صيدلي، نسف صيدليته وبيته بالقنابل.
  • الجنرال الطيب الحداد: أمين سر جلالة الملك، نسف ممتلكاته مرتين بالقنابل.
  • محمد بن حمودة: صيدلي وصديق جلالة الملك، نسف بيته.
  • الدكتور الصادق بوصفارة: طبيب جلالة الملك الخاص، نسف بيته.
ولم تقتصر «اليد الحمراء» الاستعمارية على ذلك الميدان، بل عممت إجرامها في القطر كله، ونشرت الدمار والقتل والخراب، وعوضت هكذا الجيش الفرنسي الذي كان يقوم وحده بالأعمال الإرهابية، فكانت أكبر عون للسلطات الفرنسية وهي تعمل لإنزال الخوف والرعب في القلوب وبث الاضطراب في الأفكار وغايتها القضاء على معنويات الشعب وتحطيم أدبياته، وقد جمعت قائمة طويلة في بعض ما اقترفته من جرائم نذكر شيئًا منها:
  • ١٤ مايو، انفجار قنبلة أمام صيدلية الأستاذ زهير بتونس.

  • ١٧ مايو، تخريب مغازة بوزويتة بسوسة.

  • ١٨ مايو، قنبلة أمام صيدلية بوحاجب بتونس.

  • ٢٢ مايو، انفجار في معمل زيوت ابن الشيخ، بنزرت.

  • ٢٣ مايو، نسف لوري يملكه تونسي على بعد ٢٠ كيلومترًا من مدينة سوسة.

  • ٢٢ يونيو، رمي قنابل يدوية على المقهى التونسي «الأهرام» بمدينة تونس وهو مزدحم بالناس.

  • ٢٣ يونيو، انفجار قوي جدًّا في مكتب الاتحاد العام التونسي للشغل بمدينة بنزرت.

  • ٢٥ يونيو، انفجار في أملاك الأستاذ بشر بمدينة سوسة.

  • وانفجار ببيت الأستاذ الهادي خفشة بمدينة سوسة أيضًا.

  • ٨ يوليو، نسف بيت الدكتور الصادق بوصفارة ببلدة حمام الأنف.

  • ٩ يوليو، قنبلة بجراج الهادي بن علي بتونس.

  • ١٢ يوليو، نسف بيت الدكتور العرابي بمدينة سليمان.

  • ١٥ يوليو، انفجار قنبلة في بيت السيد علي الساحلي ببلدة منزل جميل.

  • ١٦ يوليو، محاولة تخريب قام بها فرنسيون مدججون بالسلاح في بيت الدكتور العنابي بتونس.

  • ٢٤ يوليو، رمي قنبلة على مقهى تونسي بمدينة تونس.

  • ٢٩ يونيو، انفجار قنبلة قوية في محل شركة السياحة التونسية بتونس.

  • أول أغسطس، رمي قنبلتين من سيارة على مقهى تونسي بتونس.

  • انفجار قنبلة في بيت صيدلي تونسي ببلدة «باردو».

  • ١٥ أغسطس، أطلق مجرمون مقنعون جاءوا في سيارة رصاص رشاشاتهم على مقهى تونسي ببلدة القلعة الصغرى — وكان ثلاثة من الجرحى في حالة خطيرة.

  • ١٨ أغسطس، رمي قنبلة على سطح بيت الأستاذ الطبري بوادي العين.

  • ٩ سبتمبر، رمي قنبلة في بيت السيد سليمان الحداد أثناء حفلة زفاف، أربعة جرحى في حالة خطيرة.

  • ٢٣ سبتمبر، انفجار قنبلة قوية في بيت الشيخ النيفر ببلدة باردو.

  • أول أكتوبر، انفجار قنبلة في بيت السيد الغرياني ببلدة المتلوي — أربعة قتلى من بينهم طفل صغير وامرأة.

  • ٤ أكتوبر، انفجار قنبلة في بيت الدكتور نصرة بتونس.

  • ٧ أكتوبر، قنبلة أمام دكان السيد المحجوب قرب سوسة.

  • ٩ أكتوبر، انفجار قنبلة في بيت الدكتور دنقزلي بمدينة سوسة.

  • ١٣ أكتوبر، نسف بقالة تونسية بحمام الأنف.

  • انفجار قنبلة قوية في مكتب الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة ببنزرت.

  • ١٤ أكتوبر، انفجار قنبلة شديدة جدًّا في صيدلية الأستاذ ابن يحمد على بعد أمتار من المركز الرئيسي للبوليس بمدينة تونس.

  • ١٤ أكتوبر، نسف بيت الأستاذ كعنيش ببلدة الكرم.

  • ٢٦ أكتوبر، نسف بيت الدكتور صالح عزيز بقمرت، ونسف بيت أخيه الدكتور المختار عزيز بحمام الأنف.

في شهر نوفمبر

  • تدمير بقالة السيد الأحول بالقنابل المحرقة في بلدة بئر بورقيبة.

  • تخريب دكان الأستاذ الزرزوري بالقنابل في بلدة بوعرادة.

  • اكتشاف قنبلة في بيت الأستاذ ابن عباء ببلدة المرسى.

  • نسف كامل لصيدلية الأستاذ ابن زينة بمدينة قابس.

  • انفجار قنبلة في بيت الأستاذ الطاهر الأخضر.

  • تخريب بيت الأستاذ الميلادي بتونس.

  • نسف دكان السيد الحمروني بقابس.

  • وأخيرًا اغتيال فرحات حشاد يوم ٥ ديسمبر.

هل تفطن الفرنسيون إلى ما لحقهم من ضر؟ وهل أقلعوا عن غيهم وكفُّوا عن إرهابهم؟ وهل أدركت السلطات الفرنسية جسامة مسئوليتها بعد أن افتضح أمر «اليد الحمراء» في العالم، وظهرت حقيقتها للعيان؟ وكأن حنق القوم على الشعب التونسي وخوفهم على مناصبهم ومصالحهم أعمى منهم البصائر قبل الأبصار، فجرَّهم تيار الجريمة إلى متابعة الإجرام، واستمرت «اليد الحمراء» على إرهابها الشنيع تحت حماية الإدارة والبوليس والجيش الفرنسي، فنسفت بيت بنات أخت الرئيس الحبيب بورقيبة، ووضعت قنبلة انفجرت في بيت الزعيم نفسه، وكان مبعدًا إلى جزيرة جالطة منذ أكثر من عام، ونُسف في ذلك اليوم أيضًا بيت كريمة دولة محمد شنيق. وفي أول مارس ١٩٥٣ انفجرت قنبلة قوية جدًّا في بيت الأميرة زكية كريمة جلالة الملك وزوجة الدكتور ابن سالم وزير الصحة في وزارة دولة محمد شنيق، ونُسف بيت والده الدكتور محمد بن سالم، وكذلك بيت الأستاذ جلولي فارس العضو في الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري، ووُضعت قنبلة في مصنع الحلوى التونسي التابع للحاج عياد ربانة، وقتلت حسين بوزير من المواطنين في قصر هلال، وهاجمت عصابة منها مقهًى عربيًّا بباب الخضراء في مدينة تونس، وقتلت أربعة من التونسيين وجرحت سبعة منهم.

(٢) شخصية فرحات حشاد

لماذا كان لاغتيال فرحات حشاد أعمق الأثر في اتجاه القضية التونسية؟ ولماذا أبقى حرقة لا تنطفئ في قلب كل تونسي؟ كتب هذا الباب إجابة عن هذين السؤالين.

كان يوم ٥ ديسمبر ١٩٥٢ من أيام كفاح تونس الطويل، وطلع صبحه وكأنه مغرب، قد كست الغيوم سماءه واشتد برد شتائه وغزرت أمطاره، وفي ذلك الصباح نفسه ارتكبت عصابة «اليد الحمراء» جريمتها وتناقلت شركات الأخبار نبأها، ونشرته الصحف بلهجة عادية لا ارتجاف فيها ولا تأثير ولا روح قالت (تونس، ٥ ديسمبر): «كان ركاب سيارة متجهين في الصباح المبكر من تونس إلى مدينة زغوان التي تبعد خمسين كيلومترًا عن العاصمة، فعثروا في الطريق على جثة الزعيم النقابي فرحات حشاد.

وكانت الجثة ملقاة على حافة الطريق بجانب الحفير، وكان الرأس مشدخًا تشدخًا كليًّا، ولم تُعرف شخصية الميت إلا من الأوراق التي كانت في جيوبه.

وبعد ساعة علم أن سيارة فرحات حشاد — وهي من نوع سيتروين — قد وقع العثور عليها ببلدة رادس، على مقربة من تونس، وهي تحمل آثار طلقات الرصاص.

ولوحظ أن الجثة وُضعت في مكان ظاهر مكشوف، وكذلك السيارة التي تُركت في ملتقى الطرق برادس.»

وأضافت الصحافة قائلة: «ويظهر جليًّا أن القتلة بيَّتوا الجريمة وأعدوا لوازمها إعدادًا دقيقًا، وهيئوا تمثيلها كما تُهيأ رواية مسرحية، وقد ارتكبوها في موضع بعيد جدًّا عن المكان الذي اكتشف فيه الجثة، ثم حُمل الجثمان إلى جهة زغوان، وكذلك نقلت السيارة.»

حنق أعداء تونس وأعداء شعبها من المستعمرين، وامتلأت منهم النفوس غيظًا وحقدًا، واستعرت القلوب بغضًا وكراهية، فلفظت الصدور حفائظها، وأبرزت طبائعها وأظهرت ما تحتويه من قسوة وخسة وانحطاط، فلم يشفِ غليلهم تقتيل الأبرياء رميًا بالرصاص في النهار السافر، ولا دوس الأطفال بالأقدام أمام أمهاتهم، ولا التنكيل والتعذيب ولا التخريب والإتلاف، والقوة في قبضتهم والجيش في تصرفهم والبوليس تحت أمرهم حتى مالوا إلى الإجرام المبيَّت والفظائع النكراء، وكانوا جماعة مدججين بالسلاح، وكان فرحات حشاد وحيدًا أعزل، فبعد أن عذَّبوه قتلوه برصاصة في رأسه، وبعد أن قتلوه شوهوا جثته وشدخوا رأسه، وهم يشعرون أنهم ينتقمون من شعب كامل لا من شخص واحد؛ لعلمهم أن فرحات رمز الكفاح وعنوان الإخلاص قد اجتمعت عليه القلوب وأحبه القريب والبعيد، واحترمه الخصوم والأصدقاء. ولو شوهت جثة فرنسي واحد لأقاموا الدنيا وأقعدوها، ولنسبوا التونسيين جميعًا إلى التوحش والبعد عن المدنية، ولرموهم بكل نقيصة، ونسبوا إليهم كل عاهة ولمزوهم بالتدهور والانحطاط. ولكن زيادة جريمة تضاف إلى مئات سابقاتها لا تخدش في شرف الأسياد المستعمرين، ولا تفسد سمعتهم، ولا تحط من قدرهم ولا من نفوذ كلمتهم في العالم. وهم يكررون ويعيدون أنهم جاءوا لتونس ولغير تونس، لينشروا المدنية وليبثوا العلم في الصدور، وليخرجوا البشرية من الظلمات إلى النور «يحملون معهم حيث حلوا العدالة، يلقنون مبادئها لمن تاه عنها من الشعوب، ويعبِّدون طرق الديمقراطية، وينشرون الحرية والأخوة والمساواة في الدنيا!»

وكتب أحد التونسيين عن فرحات حشاد قال:٣ ثم إنه اليوم غنيٌّ عن التمجيد العقيم وعن المغالاة في المدح، غير محتاج إلى أن نشهد له أو نتكثر في شأنه للتاريخ، فلعل أبرز ما امتاز به فرحات هو غناه عن الزوائد وخصبه كأرض كريمة ذات ثراء من باطنها، وبها يزكو نبتها وينشرق فيكتهل فيكون فيه للناس رزق وغنًى يفيض على الإخوان جودًا وبذلًا وسخاء، ولا يستجدي ولا يتكئ على سند.

«وتشهد بذلك حياته بما لها من مراحل متماسكة مطردة، ويشهد به تكوينه وخلقه، وتشهد به تضحيته الكبرى في صباح يوم ذي مطر وبرد وغيوم … وقد لاقى أعداءه الكثيرين أعزل وحيدًا فردًا.»

وامتاز فرحات حشاد بحيوية متدفقة متشعبة كما يكون الإنسان عندما يستوي بشرًا كاملًا، ذكاء يتفهم النظريات العقلية تفهمًا دقيقًا مع نظر للواقع يجعله يؤثر فيه ورجلاه على الأرض راسختان، وذهن لطيف مرن، وعاطفة رقيقة تسهل عليه مشاركة النفوس دواخلها وما بطن من أمرها، ويقاسمها آلامها وشجوها وفرحها وغبطتها. وذلك سر تأثيره في عشرات الآلاف من العمال وغير العمال، أفرادًا وجماعات، فينقادون إليه بغير احتراز، ويتبعونه في غير تردد؛ إذ يشعرون شعورًا غامضًا أحيانًا وواضحًا مرات أنه أصبح عقلهم المفكر وعواطفهم الثائرة، وأنه مع ذلك بشر ضعيف كضعفهم، يعرف الألم كما يعرف العواطف البشرية الطبيعية العادية، وقد عاش فقيرًا وذاق المسغبة ومسكنة الفقراء، فبات قريبًا منهم، وهو صديق صدوق لأحبابه وخلانه، وهو أب مرح يلاعب أطفاله كأنه واحد منهم، وهو زوج مثالي، وهو أحسن مثال للتونسيين جميعًا؛ إذ يشعر بالأخوة البشرية بطبيعته وجبلَّته، وحيثما حل سواء بميلانو في إيطاليا أو بنيويورك أو بسان فرانسيسكو بأمريكا أو بستكهولم أو بباريس، إلا وتتكون صلات فطرية بينه وبين من يجتمع بهم من البشر، وكأن الفوارق قد زالت وأصبحت النفوس متلاحمة متصلة، يجهل التعصب الأعمى، ويمقت الظلم، ويتألم للقسوة، والرحمة عنده هي العدل وإرجاع الحق لذويه.

كان مربوع القامة، أبيض مشربًا بحمرة، أزرق العينين، مستوي الأنف، صغيره، أصفر الشعر، من عرفه ينسى صورته بسهولة. ولكن لا يمكن أن ينسى نظرة عينيه التي تتلون بعواطفه، فتبرق عند الغضب وتضيق عند الحزم والعزم، وتصبح ضاربة للشهلة عند الألم والشفقة. وهو دومًا هادئ الحركات، بل ميزته الكبرى رصانته وركونه واقتصاده في الإشارات، وحبسه للسانه. يحسن الاستماع، ويطيل الصمت، حتى إذا ما تكلم نفذ رأسًا إلى عمود الكلام وصلب الموضوع، فعالجه معالجة عملية وضاءة واضحة مع عمق ودراية.

لم تسمح له ظروفه العائلية بإتمام تعليمه؛ لأنه احتاج إلى لقمة الخبز يعمل لاقتنائها، فاقتصر على التعليم الابتدائي، ولم يمنعه ذلك من أن يبز الموظفين الفرنسيين العالين عند التفاوض معهم في شئون العمال، فكان يتحدث إليهم بلغة أسلس وأفصح من كلامهم؛ لأنه انكب رغم كثرة أشغاله على دراسة اللغة الفرنسية حتى أجادها كما أجاد لغته العربية، إلى أن أصبح كاتبًا فيها وخطيبًا مفوهًا بها.

كان مولده بجزيرة قرقنة في قرية العباسية يوم ٢ فبراير سنة ١٩١٤، وكان أبوه صيادًا فضحى في سبيله وأرسله إلى مدرسة الكلابين التي تبعد عن قريته ميلين تقريبًا، فأحبه مدرسه الفرنسي مسيو أرمان سيبيل، وشغف به لذكائه ولطفه، وقد كتب إلى جريدة «فران تيرور» مقالًا إثر اغتياله قال فيه: «عاش فرحات في بيتي وعائلتي سبع سنوات.

وكان وهو صغير السن يزاول تعليمه بالمدرسة العربية — الفرنسية ببلدة «الكلابين» على بُعد ثلاثة كيلومترات من مسقط رأسه ببلدة العباسية، وسرعان ما أبرزته خصاله، فهو ليس كبقية التلاميذ، فأظهر رغبة في أن يعيش وسط عائلتنا لتلهفه للعلم، فتبنَّيناه. وهو مكافح صادق ثابت، ولكنه خصم نزيه. وإن عاطفته الإنسانية الطيبة تجعل من المستحيل أن يكون متعصبًا أو إرهابيًّا، وكان يتفهم شقاء إخوانه لأنه ولد في عائلة فقيرة معدمة، وقد اختار أن يكافح في سبيلهم.

وخدم مثلًا أعلى، ومات لأجله.

فيحق لكثير من التونسيين ومن أعظمهم شأنًا أن ينحنوا أمام تضحيته.»

وانتقل فرحات حشاد إلى مدينة صفاقس ابتغاء العيش، فعمل في أول أمره كأجير بسيط، وبعد سنوات استأجرته الشركة التونسية للنقل بالسيارات في الساحل Sttas كقابض على سيارات نقلها في جهة صفاقس، ثم استعملته كاتبًا محاسبًا في مكتبها بمدينة سوسة. وكان في عمله ذلك المتواضع يسهر على مصلحة غيره من إخوانه، فتدرج هكذا بصفة طبيعية إلى الكفاح النقابي وانضم إليه، وسرعان ما احتل بين القائمين عليه إذ ذاك مكانة تليق بأمثاله. وكان عمله متصلًا اتصالًا وثيقًا بالساهرين الأولين على فرع تونس لمنظمة الجامعة العامة للعمل (س ج ت) الفرنسية، وكانت غايته تحقيق المساواة بين جميع العمال.

ثم شارك في مناظرة اختيار بعض الموظفين ونجح فيها، فأصبح كاتبًا في الحسابات بفرع إدارة الأشغال العامة بصفاقس، واستمر ناشطًا في الكفاح النقابي. وكان في آن واحد وطنيًّا عاملًا، ففطن إلى أن النقابات الفرنسية تستخدم قوة العمال التونسيين لأهداف بعيدة عن مصلحة التونسيين جميعًا، فرأى من الضروري الانسحاب من المنظمة الفرنسية وتشكيل نقابات مستقلة عنها، وكان يعتمد في تلك الفترة على نقابي مقتدر ووطني قوي وهو صديقه الحبيب عاشور، وكانا يسيران في حلبة العمل النقابي كفرسي رهان، فتشكلت على أيديهما النقابات المستقلة بمدينة صفاقس، واشتد ساعدها وقويت حتى أصبحت مسيطرة على ميدان الشغل في الجهة كلها، وإذ ذاك اتفقا مع الحزب الحر الدستوري على تكوين نقابات مستقلة في القطر كله، على أن يبقى الحبيب عاشور ساهرًا على القوة الأصلية المتينة بمدينة صفاقس، وينتقل فرحات حشاد إلى تونس. وبعد نشاط في جميع جهات تونس، وتكوين عشرات وعشرات من النقابات، دعا فرحات حشاد نواب العمال إلى عقد مؤتمر لجمع كلمتهم وتنظيم صفوفهم، فاجتمع في ٥ / ٨ / ١٩٤٥ وخرج الاتحاد العام التونسي للشغل للوجود.

ومنذ ذلك اليوم اندمجت حياة فرحات حشاد في حياة المنظمة النقابية التونسية، وأراد فرحات أن يسمع صوت العمال التونسيين في الأوساط العالمية. ولما تقدم الاتحاد بطلب الانضمام إلى المنظمة العالمية للنقابات (ف. س. م) وقف الفرنسيون معارضين معارضة باتة؛ لأن الفكرة الاستعمارية غالبة حتى عند النقابيين منهم، ولم يدخل الاتحاد في تلك المنظمة بصفة رسمية إلا عام ١٩٤٩؛ أي ليلة انقسامها وخروج غير الشيوعيين منها، ولم يعط فيها حقه الكامل، وبقي مبخوس الحظ مستهدفًا لدي الفرنسيين، ورأى أن وجوده ضمنها لم يأتِ بالنتيجة المطلوبة، فقرر الاتحاد في اجتماع عقده في ٢٣ / ٧ / ١٩٥٠ الانفصال عن اﻟ (ف. س. م) ووافق المؤتمر الرابع القومي للاتحاد (مارس ١٩٥١) على ذلك القرار.

وشرع الاتحاد في التفاوض مع النقابات الحرة العالمية (س. ي. س. ل) في شهر سبتمبر ١٩٥٠، ولبَّى فرحات الدعوة التي وجهتها له تلك المنظمة، فسافر إلى بروكسل في ١٥ / ٢ / ١٩٥١ لحضور اجتماع اللجنة التنفيذية للنقابات الحرة، وكانت نتيجة تلك المفاوضات مرضية؛ لأن منظمة النقابات الحرة تحترم الفكرة الوطنية الحقيقية كاحترامها للكفاح في سبيل التقدم الاجتماعي، وهي تهتم بمصير الشعوب المغلوبة على أمرها وتعترف بأن الاتحاد هو المنظمة النقابية القومية التونسية الوحيدة وتؤيدها وتتضامن معها، وهي مستعدة أيضًا لإعانتها على تكوين نقابات وطنية في الجزائر ومراكش، وتوافق على توحيد العمل النقابي في المغرب العربي كله، ووعدت بإعطاء اللغة العربية حظها في نشراتها ومجلاتها.

فقرر إذ ذاك المؤتمر الرابع للاتحاد الانضمام للنقابات الحرة العالمية على تلك الأسس.

وقد فهم فرحات أن تحرير طبقة العمال مرتبط ارتباطًا لا ينفصم بتحرير الشعب التونسي بأسره، فكان يقول: «ولذا سيجد الرجال الذين يقودون الكفاح في الميدان القومي طبقة العمال في جانبهم ما داموا يسعون لتحقيق أهدافنا السامية، وسيجد النظام الاستعماري الظالم طبقة العمال واقفة في وجهه على مر الأزمان، ما دام يتحكم في مصيرنا أو في جزء منه.»

وقد بيَّن تلك الفكرة التي كانت أساسًا لعمله في حياته وسببًا لموته، في تقرير عن المشكلة القومية والتمثيل الشعبي قدمه للمؤتمر الرابع. «إن النظام الاستعماري يتنافى منافاة باتة أصلية مع المصالح القومية، سواء في اتجاهاته الاقتصادية والاجتماعية أو في طرق عمله القانونية والإدارية والحربية والاقتصادية والسياسية، فمن العبث محاولة تحسين الحالة الاجتماعية أو قلب نظام المجتمع قبل التخلص من النظام السياسي والاقتصادي الحالي، وبعبارة أخرى فلسنا ببالغين هدفًا من أهدافنا إن لم نعوض النظام السياسي الاستعماري الموجود بنظام سياسي واقتصادي قومي بحت.»

وقد شرح فرحات حشاد آراءه في خطبه وتقاريره ومقالاته، نقتبس هنا شيئًا منها كنماذج من كتابته وتفكيره:

خطبة فرحات حشاد في المؤتمر العمالي الوطني الرابع

إن الرسالة التي نؤديها لا تهدف إلا إلى تحقيق مصلحة طبقة العمال وسعادة شعبنا ورفاهيته وتحرير بلادنا، ولن نحيد عن طريقنا هذا أبدًا.

من أين يستمد الاتحاد العام التونسي للعمال قوته؟

لقد أصبح الاتحاد العام التونسي للعمال من حيث نظامه، وتعدد أجهزته الإقليمية، وقوة النقابات الأساسية، وكفاحه المستمر، وجهوده الصادقة من أجل صالح العمال، المنظمة المثالية التي تتمتع في نفس الوقت بثقة طبقة العمال وبتأييد الشعب التونسي بأسره.

وقد زادت هذه الثقة بازدياد الكفاح الاجتماعي الذي أثبت فيه الاتحاد العام أنه أحسن وسيلة لتحرير العمال.

إن الرأسمالية الاستعمارية التي استقرت في بلادنا قد ضاعفت هجماتها على حركتنا ورجالها؛ لأن تلك الرأسمالية أدركت أن كفاح الاتحاد العام يهدد امتيازاتها تهديدًا مباشرًا، وقد ازدادت قوة حركتنا إزاء هذه التهجمات بحيث إن العمال يبدون نحو مؤسستهم العظيمة تعلقًا لا حد له بالإضافة إلى ما يظهرونه نحوها من ثقة عظيمة خصوصًا في الأوقات الحرجة.

التنظيم الداخلي تمهيدًا للكفاح النقابي

إن اتساع كفاح العمال ضد من يستغلونهم يكون في الواقع على نسبة تنظيم حركتهم ومدى تعزيز جهازهم وصفوفهم، وقد روعي هذا العمل المنظم باستمرار حتى يبلغ جهادنا أقصى مداه.

وقد بدأ عمل تنظيمي واسع المدى في كافة البلاد التونسية، فشمل جميع المراكز العمالية حتى في أبعد الجهات، وتسرب إلى الأوساط العمالية الريفية كلها.

دور التثقيف في الحركة النقابية

إننا لم نفرق أبدًا بين الكفاح النقابي وبين تكوين دعاة في مدرسة الواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه ونكافح في سبيل تحسينه.

وسيرًا في هذا الاتجاه، تولى الاتحاد العام بالرغم من ضعف الوسائل المادية التي يملكها من تنظيم سلسلة من الدروس والمحاضرات، تمهيدًا لتكوين قادة نقابيين قادرين على القيام بالمهمة التي تنتظرهم، فإن العناية بتعليم الطبقات العمالية واجب من أنبل وأوكد الواجبات الملقاة على عاتقنا.

هذا العمل هو الذي مكننا من أن نغرس في نفس العامل التونسي عقيدة بأن الكفاح الاجتماعي مرتبط بالكفاح العام لتحرير الوطن ارتباطًا لا ينفصم، فالعامل يشعر أنه متضامن مع أمته، ولا يستطيع أن يتصور أي سعادة خاصة ما دام مواطنًا في بلاد لا تزال مستعبدة سياسيًّا واقتصاديًّا.

الكفاح النقابي وحركة المطالبة بالحرية النقابية وحق الإضراب

إن المشكلة الأساسية هي مشكلة التمتع الكامل بالحرية النقابية وحق الإضراب.

وهذه الحرية النقابية تكون لها أهمية خاصة في مثل بلادنا وفي جميع البلاد المستعمرة؛ لأنها تحمل العمال — سواء للحصول عليها أو بفضل وجودها — على التنظيم والمناقشة والنقد والمطالبة والكفاح والاهتمام بشئون وطنهم وإعداد البرامج لخلاصه، وذلك بمقاومة قوى الرأسمالية التي تستعبد العمال وتضطهد الأمة بأسرها.

أما حق الإضراب فهو في ظل حكومة تبدو وكأنها اتخذت سوء النية والغدر مبدأ سياسيًّا يصبح أعز سلاح وأكثر الأسلحة مفعولية وتأثيرًا بيد طبقة العمال للدفاع عن مصالحها الحيوية المادية والأدبية.

وهذا حق لن يتنازل عنه العمال أبدًا حتى في حالة إقدام السلطات على محاربته. إننا لم ننتظر صدور تشريع أو أمر رسمي بإعلان حق الإضراب لاستعمال هذا الحق، كما أن محمد علي وزملاءه البواسل لم ينتظروا من قبل الاعتراف بالحرية النقابية لتأسيس النقابات التونسية الأولى منذ ٢٧ سنة مضت.

الخلاصة

إننا انتصرنا على الجمود الذي كان يهددنا بالتقهقر القاتل في الميدانين الاجتماعي والوطني.

إننا دافعنا بكل شدة عن حرياتنا النقابية وحقنا في الإضراب، وقد أظهرت طبقة العمال التونسيين بفضل ما أبدته من تضحيات أنها أهل لمواصلة كفاح التحرير، وقد فرضت الحركة النقابية احترامها على الأعداء مهما تكن قوتهم. حقًّا إن الكفاح لم يبلغ نهايته، ولكننا تغلبنا على العراقيل التي وضعها أعداؤنا، دون أهدافنا ليصرعونا، ونجاحنا في الماضي خير عربون على نجاح حركتنا التي تواصل سيرها. إن حركتنا النقابية، وهي مثال الوحدة والانسجام، ستبقى رمزًا حيًّا نشيطًا لعزم شعبنا على قهر الصعوبات واجتناب الفخاخ والأشباك وإحباط المناورات والدسائس، وفشل سياسة الاضطهاد ومواصلة السير نحو الهدف المنشود. انتهى.

ولما اعتدت فرنسا على تونس اعتداءها المسلح في يناير ١٩٥٢ وسجنت القادة وأبعدت الزعماء، حمل فرحات حشاد لواء الكفاح القومي، وأصبح رمز الجهاد وكعبة القصاد، يأتمر الشعب بأوامره وينتهي بنواهيه، فمثَّل في تلك اللحظة الضمير القومي التونسي أنصع تمثيل، ولا يمكن أن ننسى أنه من أبرز رجال الحزب الحر الدستوري التونسي وعضو ممتاز في مجلسه الملي، فليس من الحق أن نقول إنه متصل بالحركة الوطنية؛ إذ هو عنصر أصلي من عناصرها ومسيِّر من مسيِّريها، وكان من المستشارين المقربين في القصر الملكي، فلا غرابة إذا رأيناه يلعب دورًا رئيسيًّا في مجلس الأربعين الذي دعاه جلالة الملك للاجتماع.

وأصبح فرحات حشاد عنوان الوحدة بين جميع طبقات الشعب، ومثالًا حيًّا لإرادة تونس على تحقيق أهدافها وعزمها على متابعة الجهاد.

ولقد عبر زعيم تونس الحبيب بورقيبة عما يختلج في نفوس التونسيين جميعًا، عندما تحدث عن فرحات حشاد فقال:

بورقيبة يتحدث عن فرحات حشاد

لقد بكى فرحات حشاد جميع الرجال والنساء في تونس، وقد استولى الفقيد على جميع القلوب بشجاعته وبنزاهته وبإخلاصه، ليس في تونس فقط بل في جميع الدوائر النقابية في العالم الحر.

وإن موته على ذلك النحو الفظيع بدلًا من أن يدخل الذعر على صفوف رفاقه، لم يزد الأعصاب إلا تشنجًا، والقلوب إلا تصلبًا، والتونسيين إلا إقدامًا على استعمال الوسائل العنيفة. ولم تتخذ المقاومة الشعبية شكلًا عنيفًا إلا منذ اغتياله، فأصبح الكفاح حربًا لا هوادة فيها، حربًا لا يملك كل إنسان عاقل إلا أن يأسف لها؛ لأنه ليس من شأنها إلا تأخير ساعة الوفاق والوئام التي لا مفر من أن تحل إن عاجلًا أو آجلًا.

وقد كان من نتيجة اغتياله أن انتفعت القضية التونسية أكثر من انتفاعها بعشر سنين من الدعاية أو المناقشات أو الخطب، سواء في الميدان الفرنسي أو الميدان العالمي. وإن عدم معاقبة قتلته قد جعل التونسيين وجميع الديمقراطيين في العالم يلمسون بأيديهم ضعف النظام الفرنسي وعجزه، ذلك النظام الذي يسير في اتجاه واحد، والذي يجعل شدته وقفًا على الوطنيين بينما يحمي المجرمين بدون حياء. وخلاصة القول هي أنه ما دامت الدولة التونسية لم تحصل على أول مخصصات السيادة وهي مسئولية الأمن العام، فإن حياة التونسيين وأملاكهم باقية مهددة بالخطر في بلادهم ذاتها.

إن اغتيال فرحات حشاد مع عدم معاقبة قتلته، سوف يبقى في جنب النظام الحالي كالدمل الذي يزداد مع الأيام تعفنًا، ويسرع بساعة خلاص التونسيين.

وهكذا يكون فرحات حشاد قد خدم وطنه حيًّا وميتًا.

وفي الختام أريد أن أذكر بعض الذكريات الشخصية.

إني لم أعرف فرحات حشاد كثيرًا مهما يبدو ذلك مناقضًا للمعقول … لم ألتقِ به لأول مرة إلا سنة ١٩٤٩ عندما رجعت من مصر، وقد تلاقينا من حين لآخر في الاجتماعات العامة أو الجولات الدعائية، وعندما أُدعى أحيانًا إلى نادي الاتحاد العام التونسي للشغل في بعض المناسبات. لقد كان لكل واحد منا مسئولياته الثقيلة، وكان كل منا يعمل في ميدانه الخاص، ولكن على أساس ثابت دائم؛ وهو أن المنظمتين: الاتحاد العام التونسي للشغل وحزب الدستور الجديد متضامنتان تضامنًا وثيقًا، ويجب أن تسيرا متساندتين.

ولم أختلط به عن كثب إلا خلال إقامتي بأمريكا في سبتمبر ١٩٥١، ففي «سان فرانسيسكو» خلال المؤتمر السنوي لمنظمة العمل الأمريكية (ا-ف-ل) وفي «واشنطون»، عشنا وعملنا معًا ودرسنا وحللنا مشاكل خطرة تتعلق بالخطط السياسية والدبلوماسية. ولكن خلال هذه المدة الوجيزة استطعت أن أعرفه جيدًا، فعرفت سر صيته، واستولى عليَّ تمامًا بشخصيته اللطيفة، وعينيه الزرقاوين الكبيرتين، وضحكته الصريحة، وذكائه المتقد، وخلقه الجذاب.

لقد كان مقتنعًا أشد الاقتناع بأنه لا يمكن الفصل بين قضية الطبقة العاملة التونسية والقضية الوطنية، ولذلك كان كلما عاب عليه بعض محدثيه من الفرنسيين اشتغاله بالسياسة يجيبهم «ولكن السياسة في كل ميدان، فإذا سمحنا لأنفسنا بتجاهلها، فإنها لا تتجاهلنا، وإن العامل التونسي في كفاحه من أجل التحرر من الاستغلال، وفي سبيل التقدم الاجتماعي يصطدم بعقبات سياسية يجب عليه أن يجتازها، ولا يستطيع أن يجتازها إلا إذا اهتم بالميدان السياسي.»

وكان مقتنعًا بأن الطبقة العاملة في البلاد المستعمرة؛ أي البلاد الخاضعة «لسيطرة سياسية ترمي إلى الاستغلال الاقتصادي» تعاني نوعين من الاستغلال متصلين ببعضهما: الاستغلال الرأسمالي الذي يقاسي منه جميع العمال في البلاد الحرة والمرتبطة بطرق الملكية ووسائل الإنتاج، وفوق هذا الاستغلال استغلال ذو أسلوب استعماري يجثم تحته جميع السكان الأصليين في البلاد المستعمرة ومن بينهم الطبقة العاملة. وكان مقتنعًا لذلك أن هذا النوع من الاستغلال عاجل وملموس وبيِّن أكثر من النوع الأول، وهو يعاضد ويساعد الاستغلال الرأسمالي ويجعله أشد خطورة. كما كان مقتنعًا أنه في هذه الحالة يجب على كل مشروع تحريري إذا قُصد به الجد والنجاح، أن يحارب النوعين من الاستغلال في وقت واحد؛ لكي يقضي على الامتيازات التي يتميز بها كل من النوعين.

وإني أعترف أنه بقي في نفسي من شهر سبتمبر ذلك الذي قضيته مع حشاد في أمريكا أثر لا ينسى؛ فذلك الرجل العظيم جمع بين حمية الرائد وحماس المكافح ورصانة السياسي وواقعيته وشعور القائد بمسئوليته ومرونة الدبلوماسي.

وهنا اطمأنت نفسي أن قضية العمال التونسيين أمسكت بها أيد صالحة، فقد وجدوا في ابن الشعب ذاك الرجل المختار الذي يملك الإرادة والوسائل الكفيلة بقيادتهم إلى النصر، ثم افترقنا ليتابع كل واحد منا سيره في طريقه، وعدت فرأيته في شهر يناير ١٩٥٢ بطبرقة حيث كنت «مبعَدًا» وكان بصحبته الهادي نويرة، وقد جاء يقود بنفسه سيارته البسيطة؛ تلك السيارة نفسها التي أصابته فيها عن كثب أول طلقات الرشاشة في صباح ذلك اليوم المحزن الخامس من ديسمبر في نفس السنة.

وعندما ورد عليَّ أكد لي ثقته في النصر، وقال: «سوف ننتصر في الجولة الأخيرة، فلا تتضايق؛ إن هذه المحنة الشديدة التي يجتازها الشعب سوف تكون نافعة إذ أقنعت المشرفين على الاستعمار في فرنسا بأنه لا يمكن القيام بأي شيء في تونس عن طريق القوة، وسوف لا يتخلى عنا الديمقراطيون في فرنسا والعالم الحر، وسيرجحون إن عاجلًا أو آجلًا كفة الميزان في جانب العدالة والحرية. سنقاوم ونصر على المقاومة مدة عشر سنين إذا لزم ذلك؛ لكي نصمد في ربع الساعة الأخيرة، وستصبح طريق التحرير القومي معبدة نهائيًّا، ففكر خصوصًا في صحتك، فستحتاج إليها البلاد احتياجًا كبيرًا.»

ولكن مع الأسف الشديد سنفتقده هو يوم الانتصار، وقد تأثرت جدًّا وصاحبته إلى الجسر الذي يقطع الوادي الكبير عند الخروج من طبرقة، وكأني أشاهده الآن وهو يقود سيارته ويلتفت ليشير إليَّ بيده الإشارة التي كانت وداعه الأخير؛ إذ لم أره بعد ذلك.

ولكني تلقيت فيما بعد ذلك بمدة طويلة تعبيرًا عن عواطفه، فإن كل من عرف السجن ومعسكرات الاعتقال يعلم أنه لا يوجد حائل لا يمكن أن ينفذ منه شيء يمكن المعتقل من الاتصال بالخارج.

ففي صباح أحد أيام شهر سبتمبر ١٩٥٢ وفي جزيرة جالطة هذه التي رمتني فيها نزوة مسيو دي هوتكلوك، أتاني القدر بحزمة صغيرة مربوطة بعناية، ففتحتها ولشدَّ ما كان عجبي عندما وجدت فيها مجموعة من الوثائق الحديثة نسبيًّا تقرير لجنة الأربعين ورسالة جلالة الباي ورد رئيس الجمهورية وتقرير ميتران وقرار من الجامعة العالمية للنقابات الحرة … وفي آخر الوثائق ورقة صغيرة كتبها «فرحات» بيده بالفرنسية يقول فيها: «لقد جعلنا شعارنا اليقظة دائمًا وأبدًا والصلابة.» وكتب على الهامش بالعربية: «إلى الأمام دائمًا فالمستقبل لنا» وأمضاها «ف.ح».

وليس هناك شك في أن ذلك الشعار بقي شعار الشعب التونسي، ولا سيما شعار رفاق فرحات حشاد الذين لهم اليوم شرف مواصلة عمله — وأي شرف عظيم! — وسيوصلونه إلى نهايته المرجوة.

جزيرة جالطة، يوليو ١٩٥٣
الحبيب بورقيبة

(٣) الجريمة

كان فرحات حشاد يعيش في جو رهيب، يرى الأخطار المحدقة به رأي العين، ويشعر أن الدائرة تضيق، والخناق يشتد، وقد بسم بسمة الضحايا النازعة إلى مصيرها الدامي، بقلب عارف واعٍ، وفكرٍ متجمعٍ سامٍ، ونفس مطمئنة لا ترتجف إلا لبؤس الأشقياء ذوي الحق الناصع المغصوب، ولا تلين إلا للأحباء والبنين والأهل. لم يقطع الروابط البشرية، بل غذاها وواصلها وأدامها، وتابع خطاه في طريق اختاره وعرًا في صعوده، محفوفًا بأعداء نصبوا فيه شركهم للصيد، واختاروا زعيم المستضعفين في الأرض فريسة لقنصهم، وجعلوه هدفًا لمراميهم، وظنوا — وخسئ ظنهم وخاب — أن دم الضحية سيذهب هدرًا، وأن موت فرحات سيُبقي للمستضعفين ضعفهم وينزل بهم عن آمالهم في عدل يسود وحق يعود، وظلم يزول وطغيان يتهدم ويحول.

وكان حشاد — على علمه بالموت الذي حوله يطوف — يسير سيرته الأولى ويشتغل بشغله العادي هادئ البال، منتظم الأعمال، وقد كتب إلى زميله الأخ النوري بودالي رسالة ينبهه فيها إلى كيد المستعمرين واستعدادهم لارتكاب جريمتهم الشنيعة، وهذه رسالة فرحات الأخيرة بنصها:

تونس في ٢٩ نوفمبر
عزيز نوري

إذا وصلتك هذه الرسالة وأنت لا تزال في باريس، فإن رأيي أن تبقى هناك أسبوعًا آخر؛ إذ يبدو أن سياسة الاضطهاد تشتد وتستفحل، والإشاعات المتكررة تنذر بأحداث خطيرة في المستقبل القريب، وسوف توجه الضربات خاصة للاتحاد العام التونسي للشغل، وقد شرعوا يتحدثون عن قرب اعتقالي في المؤتمرات الصحفية التي تعقدها الإقامة العامة. هذا وقد نظمت حملة لإعداد الرأي العام لأعمال اضطهادية جديدة، كتنفيذ الإعدام في المحكوم عليهم بالموت، وإنشاء محاكم خاصة، والقيام باعتقالات بالجملة وخاصة من بين المتصلين بالقصر الملكي، ولا تزال الاعتداءات مستمرة وخاصة ضد أعضاء مجلس الأربعين.

أما رجال «الجستابو» الاستعماري، فإنهم يعملون في الظلام، وقد تمت عدة اعتقالات هامة جدًّا في الأيام الأخيرة. ويقال إن المعتقلين يوجدون في «رمادة»، بالإضافة إلى المعتقلين السابقين في «جربة» الذين وقع نقلهم إلى «برج البوف»، ولا أحد يعلم عدد المعتقلين في رمادة ولا أسماءهم.

هذا وقد علم أن عددًا كبيرًا من الوطنيين وقع نقلهم بصورة سرية إلى «قرنبالية»؛ حيث ظلوا طيلة أسبوعين يقاسون أنواعًا من التعذيب تقشعر منها الأبدان، ولم يستطع المحامون معرفة المكان الذي نُقل إليه موكلوهم.

أما الشعب، فقد جُرِّد من كل وسائل الدفاع، وسلِّم مكتوف الأيدي والأرجل إلى جماعة إجرامية إرهابية. وتدعي السلطات البحث عن الإرهابيين، فتنشر الرعب والإرهاب في جهات كاملة مثل جهة «قابس» حيث تطبق مبدأ المسئولية الجماعية، وتقوم بأعمال وحشية انتقامًا وأخذًا بالثأر.

وينقل المعتقلون إلى جهات مجهولة، وقد توجه إليهم تهم معينة، فيحرمون من جميع وسائل الدفاع عن أنفسهم، وقد يتقرر إبعادهم وهم يجهلون كل شيء عن مصيرهم، وتبقى عائلاتهم لا تعرف شيئًا عن مكان إقامتهم، ويُسجن المعتقلون ويذوقون من العذاب ألوانًا ومن الآلام أنواعًا، ثم يتقرر عقابهم بما يرضي أصحاب حزب التجمع الاستعماري، وينفذ فيهم فورًا.

وفي الوقت نفسه تركت الجريمة كاملة للإرهابيين «الرسميين» لارتكاب ما يُرضي نفوسهم من جرائم بدون أي رد فعل من البوليس.

ويجري الحديث الآن حول إبادة كل ما زال حيًّا في الشعب، والرجعيون الذين أعمتهم العداوة سوف ينزلون ضربتهم «بالاتحاد العام التونسي للشغل» قبل كل شيء آخر.

وبما أن بحث القضية في هيئة الأمم أصبح على الأبواب، فيجب أن يقع عرض هذه الحالة، فقد أصبح من المستعجل أن يجد الشعب ومليكه الحماية الحازمة ضد أعمال الاضطهاد الآخذة في الازدياد.

وإلى اللقاء القريب
وأخذ نشاط المجرمين من عصابة «اليد الحمراء» ينتشر ويزداد في تلك الأثناء، وأعمالهم تتسع وتتعدد، وقد رفعوا عن وجوههم القناع وظهروا في النهار السافر بعد أن كان يخفيهم الليل البهيم، بل نظموا إلى إجرامهم الدعوة وطرحوا الحياء، وجاهروا بخفايا النوايا وسوء الخيانة وتبييت الغدر، والبوليس الفرنسي ينظر ويعلم، والسلطات الفرنسية تشاهد وتحمي، وملأت «اليد الحمراء» تونس بنداءاتها، وها نحن ننشر إحداها كمثال وأنموذج وهذا نصه:

انضموا إلى اليد الحمراء.

ضد استعباد تونس من قبل التجار الأمريكيين الاستعماريين، أولئك الذين أبادوا الجنس الأحمر وقتلوا سكان بورتوريكو وحافظوا على استعباد السود وشنقوا سكان الفيليبين.

انضموا إلى اليد الحمراء.

ضد فرحات حشاد الأمريكي.

انضموا إلى اليد الحمراء.

ضد تواطؤ البلاط الملكي الفاسد.

انضموا إلى اليد الحمراء.

التي ستجعل من هذه البلاد أرضًا فرنسية تقوم على الحرية التقليدية الموروثة عن مبادئ سنة ١٧٨٩.

الحرية والمساواة والإخاء.

أيها الرجال الأحرار، أيها الإخوان التونسيون من المسلمين والمسيحيين واليهود، في سبيل استقلالنا المهدد والمحافظة على مدنيتنا القديمة التي نشأت على ضفاف البحر المتوسط، تلك المدنية العربية واللاتينية.

انضموا إلى اليد الحمراء.

وتعالت أصوات من الصحافة الاستعمارية تدعو إلى نفس المجازر والجرائم، وتحض الفرنسيين على أن يلغوا في دماء التونسيين وتحرضهم على قتل فرحات حشاد خاصة، فأخذت التهديدات التي كانت تنشرها جريدة «تونيزي فرانس» تتضح صبغتها، وتنكشف نداءاتها للعمل المباشر، وأشارت جريدة «لابريس» بتاريخ ٢٩ / ١٠ / ١٩٥٢ إلى عصابة دفاعية مهمتها قتل أعداء السياسة الاستعمارية الفرنسية، وأخيرًا خصصت الجريدة الاستعمارية «باريس» الصادرة في «الدار البيضاء» فصلًا طويلًا في عدد ٢٩ نوفمبر ١٩٥٢ عن فرحات حشاد ختمته بهذه العبارة:

إذا كان هناك رجل يهددك بالقتل، فاضربه على رأسه — كما يقول المثل السوري — واليوم يجب أن تضرب ذلك الرأس، وما لم تقم بهذا العمل الذي هو عنوان الرجولة، هذا العمل الذي فيه الخلاص، فإنك لن تكون قد قمت بواجبك.

في الساعة الثامنة وعشر دقائق من يوم الجمعة ٥ ديسمبر ١٩٥٢ غادر فرحات حشاد مسكنه ببلدة رادس متجهًا في سيارته نحو مكتبه بتونس، وكان وحده لا يرافقه أحد، وكانت زوجته مشفقة عليه من الخطر لما أطلعها على رسائل التهديد التي وجهتها له «اليد الحمراء»، وقد ألحت عليه المرة تلو الأخرى في أن يلزم بيته ويستأنس بأبنائه، وألا يخرج وحيدًا فريدًا، بل ليأخذ معه بعض الزملاء والأقران، فكان يجيبها بهدوء وحزم: «إن الأعمال كثيرة والمسئولية ثقيلة، أما زملائي فلا أريد أن أعرض بهم للخطر الذي يهددني — فإذا مت فالأحسن أن أموت وحدي، ولا فائدة في أن أجر جماعة إلى الموت.»

ولما وصل إلى منحدر في الطريق بعد قطع كيلومترين فقط، على مقربة من مقبرة، دوت طلقات نارية في أذنيه، وكانت سيارة تجري خلفه، قد أطلقت عليه الرصاص من مدفع رشاش، ثم لحقته وتمادت في إطلاق النار من ناحية الجانب الأيسر، فمالت سيارة حشاد ودخلت مزرعة بالقرب من سور المقبرة، وتوقفت إذ ذاك السيارة المهاجمة قليلًا، وسمع إطلاق عيارات نارية من مسدس، ثم عاودت السيارة السير، وعرجت على اليمين.

وشاهد الحادث أحد الفلاحين، وكان على بعد خمسين مترًا منه، وأحد الرعاة وراكب دراجة وأخيرًا ركاب لوري وهم ثلاثة أوروبيون.

وتخلص فرحات حشاد من سيارته بتعب شديد، وخرج منها منحنيًا لما أصابه من جراح، وطلب من سائق اللوري أن ينقله إلى المستشفى بتونس، وفي تلك الأثناء توقفت سيارة إلى جانبهم، ونزل منها أحد الركاب، وبدعوى أن تلك السيارة السريعة متجهة إلى تونس حمل أصاحبها فرحات معهم وانطلقوا به في الحال، وكان بها ثلاثة أشخاص، وكانت الساعة ٨٫٢٥.

وعُثر على جثة فرحات حشاد وقد مزقها الرصاص وشدخ منها الرأس وشوِّه الوجه ومثِّل بها، وكانت ملقاه إلى جانب طريق «نعسان» على بعد خمسة كيلومترات من مكان الحادث.

ووصل رجال البوليس الفرنسي بعد دقائق إلى المكان الذي به الجثة وأسرعوا في نقلها منه، فكيف تمكن البوليس من معرفة مصرع حشاد ولما تمضِ عليه دقائق؟

وجاء البوليس إلى مكان سيارة فرحات حشاد في الساعة ٩٫١٥، وأزال جميع آثار العجلات وغيرها وجمع بعض الطلقات الفارغة، ونقل السيارة إلى الفناء التابع للمحكمة العسكرية الفرنسية، بينما نقلت الجثة إلى المستشفى العسكري الفرنسي.

ولم يتصل القضاء بالحادثة إلا في الساعة ١٢٫٤٥.

وعندما بلغ أحد التونسيين مقر «الاتحاد العام التونسي للشغل» في الساعة ٩٫٣٠ بأن سيارة فرحات حشاد كانت على الطريق قرب رادس وبها آثار الرصاص، أوفد الاتحاد اثنين من أعضائه في الحال إلى مكان الحادث، فاعترضتهم في الطريق سيارة فرحات يقودها أحد المدنيين على بعد خمسة كيلومترات من مكان الجريمة وكان متجهًا بها نحو تونس.

وتابعا السير، وعند وصولهما قرب المقبرة لم يجدا أي أثر سوى بعض الزجاج المكسور قد جمع كومًا، والتقطا بعض الرصاصات الفارغة التي نسي رجال البوليس جمعها، واستمعا إلى أقوال المزارع الذي قال لهما إن فرحات حشاد نزل من سيارته وهو جريح وإنه ركب سيارة أخرى.

فذهبا إلى مركز البوليس في «مقرين» حيث قال لهما الضباط الفرنسي إنه لا علم له بشيء (بينما كان هو الذي أمر بنقل سيارة فرحات حشاد)، وذهبا إلى «حمام الأنف» فقيل لهما إنهم يجهلون كل شيء عن الموضوع (بينما كان مركز بوليس حمام الأنف ممثلًا وقت رفع الجثة في الساعة ٩٫٥٠)، فذهبا إلى مركز البوليس برادس، وشاهدا على مكتب الضابط الفرنسي بعض أوراق فرحات حشاد وعدة طلقات فارغة، ولكن الضابط دس الأوراق بسرعة في جيبه وقال إنه لا علم له بشيء.

ولم يُعلم بمقتل فرحات حشاد إلا عندما صدر بلاغ من الإقامة العامة أذاعته محطة الإذاعة في الساعة الواحدة بعد الظهر.

وتدخل القضاء الوطني التونسي في هذه القضية باعتبارها من اختصاصه؛ لأن القتيل تونسي، وشرع في التحقيق، ولكن القضية سُحبت منه فورًا وبدون تقديم أي مبرر لذلك، بينما تقضي الإجراءات العادية أنه ما لم يظهر في القضية أي طرف فرنسي، فإن القضية المتعلقة بتونسي يجب أن تظل بين يدي القضاء الوطني الذي لا يتخلى عن قضية إلا بقرار منه لفائدة المحاكم الفرنسية، ولكن فيما يتعلق بهذه القضية فقد وقع خرق كل هذه القواعد.

وأشركت المحكمة الفرنسية القاضي «بوشو» في التحقيق، وكان يتمتع بسمعة طيبة في كثير من الأوساط التونسية، ثم عادت المحكمة فسحبت منه الملف، مما حمل التونسيين على الاعتقاد بأن السبب في إقصاء هذا الرجل عن التحقيق هو حرصه على كشف المجرمين.

وأخذت الإقامة العامة تنشر الأخبار المتناقضة والروايات المختلفة والافتراضات الغريبة، بعد أن كممت الأفواه وشلت الصحف التونسية ووضعت الرقابة على كل ما يقال ويُنقل، ونقلت الصحف والمذياعات كل ذلك، وإن المصدر الوحيد لجميع تلك الترهات هو الإقامة نفسها.

فقد بعث مكاتب جريدة «الفيجارو» الباريسية بأنموذج من تلك الأقوال في ٨ / ١٢ / ١٩٥٢:

حوالي الساعة الثامنة من صباح الجمعة، غادرت سيارة فرحات حشاد رادس حيث محل سكناه قاصدًا تونس، وفي ملتقى الطرق على بعد كيلومتر واحد من رادس، جاوزته سيارة يقال إنها سوداء من نوع «سيتروين» وأطلقت نيران رشاشة على سيارة الزعيم، ووصل الشاهد وهو يقود لوري في اللحظة التي وفق فيها فرحات إلى التخلص من سيارته المنقلبة على حافة الطريق، فعرض السائق عليه أن يأخذه معه فقبل حشاد وهو يظهر كأنه جريح، وفي تلك اللحظة أتت سيارة ثانية فشكر الزعيم النقابي سائق اللوري وقال له: «هؤلاء أصدقائي فإنهم سينقلونني في وقت أسرع مما يمكنك.» وأخذ ركابها الزعيم معهم، وعُثر فيما بعد على جثته في جهة «نعسان» على بُعد ٨ كيلومترات من تونس في طريق مدينة «زغوان»، وأظهر فحص الجثة أن رصاصة مسدس قد أُطلقت في رأس القتيل.

فقد دست السلطات الفرنسية — وهي المصدر الوحيد للخبر — الكذب الصراح في تلك الرواية، فادعت أن فرحات قال: «هؤلاء أصدقائي …» واتخذت السلطات ذلك الكذب أساسًا لما نشرته فيما بعد من افتراضات، وخاصة أن قتلة فرحات يمكن أن يكونوا دستوريين! وقد فضحت الصحف الفرنسية النزيهة نفسها تلك الأكاذيب، فأرسلت جريدة «لوموند» مكاتبًا لبحث القضية، فاستجوب المكاتب «م. سرا» (الشاهد الأصلي في جريمة اغتيال فرحات حشاد) وهو سائق اللوري الذي انتقل إليه فرحات قبل أن يركب في سيارة القتلة بلحظات، وقد حرفت المصادر الرسمية والبوليسية شهادته، قالت «لوموند» في ٩ / ١٢ / ٥٢:
كان «م. شارل سرا» ينقل بعض العمال في جهة رادس على بعد كيلومترات من تونس، وكان يسوق لوري من نوع ستروين قديم يحمل بعض الأدوات أيضًا، وكان قريبًا من بلدة رادس عندما شاهد سيارة من نوع «سيمكا» آتية من الاتجاه المقابل تميل يمينًا وشمالًا، ثم تنقلب في الحفير حذو الطريق، ونزل منها رجل وأشار إليه، ثم أوقف «م. سرا» سيارته ظانًّا أنه أمام حادث عادي، فاقترب الرجل وقال إنه جريح وطلب نقله إلى المستشفى الصادقي بتونس، فلم يفكر «م. سرا» في الرفض، ولكنه لاحظ أن في الإمكان إيجاد طبيب في مكان قريب، فألح الرجل في النقل إلى المستشفى الصادقي، فلم يرَ «م. سرا» مانعًا من ذلك، وانتقل «م. برنيس» Bernes الذي كان جالسًا حذوه إلى خلف، وأبقى مكانه للرجل الجريح الذي كان يحمل آثار دم، وليس فيه جرح ظاهر والذي جلس على الكرسي الأمامي وحده.

وحين استعد «م. سرا» لاستئناف السير في لوريه، وصلت سيارة ركاب وقفت حذوه، وكان بها عدد من الرجال لا يحملون قبعة ولا طربوشًا فوق رءوسهم، ويرتدون لباسًا أوروبيًّا، ولا يمكن ﻟ «م. سرا» أن يعرف هل هم أوروبيون أم تونسيون، فصاح الجريح الذي لم يعرف أحد من رفاق «م. سرا» فيه فرحات حشاد: «قفوا! قفوا!» ونزل، وتبادل بعض الكلمات مع ركاب السيارة، وركب معهم وسارت السيارة.

إن الرواية التي سمعناها من لسان «م. سرا» نفسه تختلف في نقطة أصلية أساسية عما نشرته بعض الصحف بتونس التي روت أن فرحات حشاد قال: «هؤلاء أصدقائي، وإن نقلي يكون أسرع معهم»، وأكد «م. سرا مرات» ثلاثًا أنه لم يسمع من حشاد تلك العبارات، ولكن كلمة واحدة وهي: «قفوا قفوا»، ولما رأى الشاهد إلحاحنا فإنه استهل كلامه من جديد بقوله: «يمكن لي أن أجزم جزمًا باتًّا …»

إن تلك الأعمال كلها وتلك الأقاويل لا تدع شكًّا لشاكٍّ في أن السلطات الفرنسية تريد تزييف الحقيقة ليذهب دم حشاد هدرًا، وقد أرادت أيضًا أن تبخس حقه ميتًا بعد أن أضاعت حقه حيًّا، فقصد وفد من الاتحاد العام التونسي للشغل الإقامة العامة الفرنسية صباح السبت ٦ ديسمبر طالبًا تسليم جثمان الشهيد، معلنًا أنهم سيعدون النظام اللازم لتشييع جنازة الزعيم.

فأعلمتهم الإقامة بأن الجنازة ستقع بجزيرة قرقنة بمحضر العائلة وعشرين من قادة الاتحاد إذا ما أرادوا الحضور، فرفض الوفد النقابي.

ونُقل الجثمان بالفعل على ظهر الباخرة الحربية الصغيرة «لولا نسييه»، وكانت زوجته وأولاده في صحبته.

ودُفن فرحات حشاد في جزيرة قرقنة مسقط رأسه يوم الأحد ٧ ديسمبر، وحضر مواراة الجثمان التراب زوجته وأبناؤه الأربعة وأخواه وبعض الأقارب؛ كل ذلك تحت حراسة المراقب المدني الفرنسي لمدينة صفاقس والسلطات المحلية.

وكان الجو رهيبًا، كله خشوع.

ويوم ١٣ ديسمبر رجعت زوجة حشاد إلى بيتها الصغير «برادس» وأتت إلى ذلك المنزل الذي كله مآسٍ ومآتم بأبنائها الصغار، وعمر أكبرهم ثمانية أعوام، وما زال أصغرهم رضيعًا، وهي شابة في مقتبل العمر أصلها من جزيرة قرقنة كفرحات نفسه، وكانت قواها قد خارت لطول السفر وتعبه وشدة المصاب.

ودخلت بيتها مع أبنائها وأمها لا تعلم كيف تعيش ولا من أين يتعيشون، بعد أن تسلمت مفتاحها من البوليس الذي احتفظ به إثر تفتيش بيت الزعيم، وأغلقت على نفسها باب منزلها الصغير.

وتفرَّق من كان أمامه.

لم يوارَ جثمان الشهيد التراب بعدُ حتى تدفقت المصادر الفرنسية — وينبغي ألا ننسى أنها كلها فرنسية — تغمر الدنيا بالأراجيف المختلفة، والأكاذيب الملفقة، فحملتها عنها الإذاعات الفرنسية ونشرتها الصحف الاستعمارية بالمغرب العربي وفرنسا.

فقالت جريدة «الفيجارو» ٦-٧ / ١٢ / ١٩٥٢:

وكان فرحات حشاد يخشى لا محالة اعتداء من هذا النوع، فكان يحرسه ليلًا ونهارًا شبان دستوريون مسلحون.

فاغتاظ أحد الفرنسيين الأحرار وفضح تلك الأكذوبة وذلك التدليس، قال٤ تحت هذا العنوان:

من الأكاذيب القذرة للصحافة المقذرة

لقد تجاسرت الصحف بعد اغتيال فرحات حشاد على القول بأن فرحات حشاد كان عادة مخفورًا بحرس مسلح!

حرس شخصي مسلح! تونسيون مسلحون! والحالة أن أقل سكين لو وُجد عند تونسي أو في بيته لكان كافيًا لإرساله حالًا للسجن أو لأحد المعسكرات!

وقد كان يستحيل على فرحات حشاد نفسه أن يحمل سلاحًا واحدًا رغم التهديدات التي تكتنفه من كل جانب؛ إذ كان يكون ذلك سببًا في اعتقاله.

إن الجلادين يبدءون بنزع السلاح من ضحاياهم.

ثم جعلت السلطات الفرنسية تُكثر من التأويلات وتعدِّد الافتراضات رامية إلى التضليل والتعمية، فنقلت جريدة «لوموند» (٧ / ١٢ / ١٩٥٢) عما أملتها تلك السلطات على وكالة الأنباء الفرنسية قالت نشرت «فرنس بوس» خبرًا من تونس لتقديم ثلاث افتراضات ممكنة للاغتيال، فإما أن يكون مقترفو الجريمة من شق دستوري معادٍ لفرحات أو من الشيوعيين أو جماعات من الفرنسيين تكونوا للدفاع عن أنفسهم، ولكن محرر النص أبعد الرواية الأخيرة بمجرد ذكرها، وأضاف قائلًا: «وإن عدد الذين ينفون هذا الافتراض رفضًا باتًّا لعديد، إذ إن اغتيال فرحات حشاد يجر للفرنسيين الضر والخسران.»

لماذا تنفي وكالة الأنباء ذلك الافتراض وتغري الناس بالافتراضات البعيدة؟ كاد المريب أن يقول خذوني، وتعزيزًا للافتراضات المغرضة وزيادة في المغالطة ازدحمت الصحف الاستعمارية بالأباطيل تبثها والأراجيف تنشرها والروايات تزيفها والأكاذيب تروجها.

فكتبت جريدة «الفيجارو» (٧ / ١٢ / ١٩٥٢): و«كانت المعارضة شديدة حسب ما استقيناه من الأخبار الوثيقة بين خواص فرحات حشاد وأصدقاء بورقيبة الذين أصبحوا يرون أن الزعيم النقابي قد أحرز على قيمة سياسية أكبر من اللازم منذ إبعاد رئيس الدستور الجديد إلى جزيرة جالطة، «ومصدر تلك الأخبار الوثيقة» هي السلطات الفرنسية نفسها التي تعلم علم اليقين أن فرحات حشاد ليس زعيمًا نقابيًّا فقط، بل هو أيضًا من أساطين الحزب الحر الدستوري، وأحد قادته الأفذاذ وأكبر ساهر عليه، بعد نفي بقية الزعماء وسجنهم، وأن أتباع بورقيبة هم بطبيعة الحال أتباع فرحات حشاد.»

وقد اختلقت تلك الصحف القذرة رواية باطلة لتوهم الرأي العام أن القصر الملكي هو الذي أراد التخلص من فرحات، فقالت جريدة «الفيجارو» (٩ / ١٢ / ١٩٥٢) تحت عنوان: «مناقشة عنيفة تُحدث خلافًا بين الباي وفرحات حشاد.»

من كاتبنا الخاص: إيف لوجون

تونس في ٨ ديسمبر، من الشائعات المتناقلة بتونس أنه أُلقي القبض على أحد ركاب السيارة التي نقلت فرحات حشاد في أواخر أمره.

ويؤخذ من تصريحات ذلك الشخص إن ركاب السيارة كانوا من أجراء شخصية عالية قريبة جدًّا من القصر الملكي.

وقد قورنت تلك الإشاعة بما حدث يوم الأربعاء إذ يقال إن مشادة عنيفة جرت في مساء ذلك اليوم بين الزعيم النقابي والباي، وقد يكون السيد فرحات حشاد قد لام الملك لومًا شديدًا على عدم إعطاء نيابة رسمية عنه لصالح بن يوسف الموجود الآن بنيويورك ليتمكن من المشاركة في المناقشة لدى الأمم المتحدة، وقد يكون أيضًا أنَّبه على عدم الرضى بالمشاركة مشاركة رسمية في مناقشة تلك المنظمة الدولية.

ويقال إن الزعيم النقابي عندما رأى رفض الباي طالبه وألح عليه في الطلب، بأن يطرد وزارة «م. بكوش» ويعوضها بوزارة شنيق من جديد، وكان الزعيم يريد أن يتم ذلك من الغد (الخميس) في حفلة الطابع الأسبوعية، وإنا نعلم أن الباي لم يتخذ ذلك القرار.

وجمع السيد فرحات حشاد يوم الخميس الفارط بعد الظهر قادة من الدستور الجديد والاتحاد العام التونسي للشغل في جلسة استغرقت المساء كله، وانتقد أثناءها موقف الباي انتقادًا شديدًا.

وكان القصر الملكي قد اتخذ احتياطات في ذلك الوقت نفسه، وكان الملك قد أخبر عن طريق حاشيته أنه مريض ملازم الفراش.

فقد سعت السلطات الفرنسية في توجيه الشكوك إلى الشيوعيين، ثم إلى الدستوريين، ولما رأت عبث محاولتها وفشلها وجهت الاتهام إلى القصر الملكي، ولكن الجريمة ألصق بصاحبها من جلده، وبقيت المسئولية كلها ملقاة على عاتق تلك السلطات.

وبلغت مسئوليتها درجة أصبحت معها العدالة الفرنسية عاطلة، وذلك ما لاحظه الفرنسيون أنفسهم، فقال «م. روبير» جوتيه في مقال كتبه لجريدة «لوموند»:

ينبغي للعدالة قبل كل شيء أن تكون عادلة، وليست بالعدالة العادلة تلك التي تعاقب بعض المجرمين وتتغاضى عن البعض، وليست بالعدالة العادلة تلك التي تخص بضرباتها القاسية الأشخاص من ذوي السمرة في الجلد والقعقعة في الصوت والهجنة في اللسان.

وإن المواطنين إذا ما فقدوا الثقة في العدالة، فإنهم يقتصُّون لأنفسهم.

وندخل هكذا في الدور والتسلسل الجهنمي، فالقنابل تجيب القنابل، والاغتيال يقابل الاغتيال، ويجر الانتقام الأخذ بالثأر، ويصبح الإرهاب نفسه على ما فيه من حمق وبشاعة، حسنة من الحسنات في نظر مرتكبيه.

وجد المقيم صعوبات مع السيد شنيق فلجأ إلى إبعاد بعض أعضاء الدستور الجديد، واغتيل فرحات حشاد فوقع إبعاد دستوريين من جديد، وتعددت أعمال الإرهاب التي كانت تصيب الأوروبيين تارة، وطورًا التونسيين الموالين للإقامة، وطورًا آخر الوطنيين، أما الاضطهاد، فاتجاهه واحد دومًا واستمرارًا.

وبفضل بوليس متيقظ، كانت بعض الساعات كافية لإلقاء القبض على قتلة الطيب غشام والشاذلي القسطلي، وبفضل قضاء ناشط كانت بعض الأسابيع كافية لإذاقتهم سلطة القانون العادلة، ولكن قتلة فرحات حشاد ما زالوا أحرارًا خمسة أشهر بعد ارتكاب الجريمة.

فمن يتحمل ذلك منا يكن مشاركًا في الإجرام، كل في مرتبته.

(٤) تبييت الجريمة وسبب الاغتيال

وقد تساءل كل من اهتم بقضية فرحات حشاد عن مدى مسئولية الحكومة الفرنسية فيها، وظهر جليًّا أن الاغتيال مبيت أعدَّت له العدة من قبل؛ فقد قدم حشاد في أوائل سبتمبر إلى السلطات الفرنسية طلبًا بمنحه جواز سفر إلى أمريكا للمشاركة في اللجنة التنفيذية للنقابات العمالية الحرة التي ستجتمع في نيويورك، فرفضت الإقامة العامة مطلبه رفضًا باتًّا حتى لا يفلت من قبضتها ولكي يبقى بتونس في تصرفها كالمسجون.

ومما يبعث على الارتياب في نوايا السلطات الفرنسية ويوضح سلوكها هو أن الباخرة الصغيرة «لولا نسييه» التي نقلت جثمان الشهيد من العاصمة إلى جزيرة قرقنة حيث وقع دفنه كانت قدمت من ميناء بنزرت إلى ميناء تونس في الليلة التي سبقت يوم الاغتيال، وكانت في انتظار تعليمات خاصة، وفي صبيحة الحادث كانت جميع الطرقات المؤدية إلى الجنوب تحت مراقبة شديدة.

أوَيكون من باب المصادفات أن سافر المقيم العام إلى باريس ليلة الاغتيال؟ أوَلم يكن سفره إبعادًا للشبهة؟ أوَلم يكن على علم من تبييت الجريمة؟ وقد أجابت الصحف الفرنسية المطلعة على تلك الأسئلة، فقالت جريدة «فران تيرور» (٧-٨ / ١٢ / ١٩٥٢) «أوَلم تُرتكب الجريمة يوم الخميس؟ أوَلم يعلم بها «م. دي هوتكلوك» عندما جاء إلى باريس بغتة؟» ثم أضافت: «إن تلك الجريمة السياسية أتت إثر سلسلة من تنفيذ الإعدام تمت يوم الخميس بمدينة قفصة، بينما لم يقع العثور على أي فرد ممن ارتكبوا جرائم إرهابية ضد التونسيين، وأخيرًا حدث اغتيال فرحات حشاد إثر عام كامل من الاضطهاد للحركة التونسية.»

أما جريدة «لوموند» فكانت أوضح وأجلى إذ قالت (٧-٨ / ١٢ / ١٩٥٢): «يظهر أن اغتيال فرحات حشاد أدخل الذعر على خواص الباي وعلى القادة الدستوريين، ويظهر أيضًا إن الإقامة العامة لم تستغرب الأمر، بل اغتنمت الفرصة لتتخذ بعض الإجراءات لاستتباب النظام التي كان الداعي لتأجيلها عدم عرقلة أعمال هيئة الأمم (أي إن خشية هيئة الأمم هي التي جعلتها تتأخر عن اتخاذها) …» ثم إنها رغم احتياطاتها اللفظية صرحت بالحقيقة فقالت: «ولنلاحظ بهذا الصدد حسب بعض الإشاعات أن المقيم العام قد وقع إعلامه قبل سفره إلى باريس بأنه من المحتمل وقوع تلك الجريمة.»

هل أطلع دي هوتكلوك الوزراء الفرنسيين على خفايا الأمور الجارية بتونس؟ وهل أعلمهم بما ترتكبه السلطات الفرنسية؟ وهل وافقوه على إجراءاته الظاهرة والخفية؟ ومهما يكن من أمر، فقد نشرت الصحف الفرنسية بتاريخ ٦ / ١٢ / ١٩٥٢ بلاغًا عن اجتماع الوزراء الفرنسيين بالمقيم العام جاء فيه: «انعقدت جلسة عاجلة بين الوزراء في قصر ماتينيون حضرها «م. هنري كوي» و«م. روبير شومان» و«م. ريني بليفن» و«م. دي هوتكلوك» الذي وصل صباح ذلك اليوم إلى باريس.

وقد بحث المجلس وقرر بالتدقيق الإجراءات اللازمة لاستتباب النظام والأمن.»

إن كل بحث في الاستعمار الفرنسي بتونس يثبت أن المسئول الحقيقي عن جميع ما يجري من عدوان ومؤامرات واضطهاد وفظائع هي الحكومة الفرنسية بما تسنه من سياسة وبما تريد فرضه من حلول وبما تعطيه من أوامر لممثليها؛ ولذا نرى كل أجنبي انحنى على القضية التونسية بالبحث والتفاهم إلا وأعلن ذلك، وقد قاله «م. فالتر روير» رئيس «س-ي-و» مؤتمر المنظمات والصناعات الأمريكي في تصريح له أدلى به إثر اغتيال حشاد، فقال: إن خبر اغتيال فرحات حشاد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل وزعيم قوات الحرية التي تتجمع في الشرق الأدنى قد أدخل على «مؤتمر المنظمات الصناعية» الشجى والارتياع.

«وكان حشاد رئيسًا لجميع مواطنيه الذين يكافحون في سبيل استقلالهم والعدالة الاجتماعية والاقتصادية وفي سبيل الاعتراف للإنسان بكرامته البشرية.

وليس المسئولون مباشرة على الاغتيال بمعروفين الآن، ولكننا عند التحقق نرى أن الحكومة الفرنسية تحمل قسطًا وافرًا من المسئولية في ذلك الاغتيال.

إذ إن الفرنسيين برفضهم فهم الحكم الشعبية والاجتماعية التي تضطرب اليوم بالشرق الأدنى وبمعارضتهم كل مفاوضة نزيهة مع المنظمات الوطنية المعتدلة بتونس التي تؤيد جهرة قضية الديمقراطية والعالم الحر وبإجراءاتهم التعسفية المدبرة والمعطلة لنشاط الاتحاد العام التونسي للشغل جعلوا من المستحيل على المعتدلين أمثال فرحات حشاد أن يصلوا إلى نتيجة إيجابية في أعمالهم.

ويمكن للمجرمين أن يقتلوا رجالًا أمثال حشاد، ولكن لا يمكنهم أن يقضوا على المثل العليا التي كانت تغذي نشاطهم ولا على الحركات التي كانوا يقودونها.

وستستمر القوات التي شيدها حشاد في سيرها إلى أن تبلغ الغاية المنشودة وهي الحرية للجميع.

وإن «س-ي-و» لتعبر عن أخلص وأعمق عطفها على عائلة ورفقاء فرحات حشاد وعلى جميع من يكافحون في سبيل حرية تونس.»

وخطا عدد وافر من الكتاب الفرنسيين خطوة جريئة وأعلنوا بصراحة أن اغتيال الزعيم التونسي جريمة دولية.

فقال الكاتب الحر «جان روس» بعد عام كامل من الحادث: «مات فرحات حشاد، لقد اغتالوا فرحات حشاد»، ما كاد خبر تلك الفاجعة ينتشر حتى تيقن الرأي العام الشعبي رغم مداهنة التعازي الرسمية إننا أمام إحدى تلك الجرائم التي ترتكب لغايات دولية، فقيل إنهم لم يتجاسروا على اعتقاله بصفة رسمية، فليقتله إذن بوليس إضافي، وقامت الحجة بعد عام على أن الحدس الشعبي لم يكن مخطئًا إذ إن الحكومات الفرنسية المتوالية حرمت على قاضي تحقيق نزيه إمكانية الوصول إلى نتيجة بحثه، وبينما لم ينجُ من السجن ولو مكافح تونسي واحد، فإننا ما زلنا ننتظر اعتقال المسئولين عن اغتيال فرحات حشاد والمسئولين عن مئات أعمال الإرهاب التي ارتكبت ضد التونسيين.

وخاصة ضد واحد من خيارهم وهو الهادي شاكر عضو الديوان السياسي للدستور الجديد الذي كان تحت «حماية» البوليس الرسمي.

وقد فضح الكاتب الجريء «دانيال جيران» مؤامرة السلطات الفرنسية فقال: «لا أظن أن أسماء الفرنسيين الأشقياء الذين دنسوا بالعار عرض فرنسا في صباح ٥ ديسمبر ١٩٥٢ مجهولة في «الإليزية» (مقر رئاسة الجمهورية الفرنسية) ولا في «الكي دورسييه» (مقر وزارة الخارجية) ولا عند المطلعين على خفايا السياسة، وحتى في مكتب قاضي التحقيق، ولكن كل واحد منهم التزم الصمت والكتمان، فإن الجريمة كانت من الشناعة وكان الموزعون بها من علو في المناصب ما جعل الناس يخشون رفع الستار عن أسرارها.»

وخشية أن تفتح الأفواه المكممة وأن تذاع الحقيقة كان السيناتور «كولونا» يتوعد في المدة الأخيرة بصواعق القانون كل من تحدثه نفسه بإفشاء أسماء المجرمين أو حتى جنسيتهم.

«وإن الصحافة الكبرى التي ترتمي عادة على الجرائم والفظائع ارتماء لم تنشر عن قضية فرحات حشاد إثر اغتياله، إلا مقالات مقتضبة كتبت وصدرت عن مكاتب الذين اغتالوه أنفسهم، ثم لم تعد تهتم بعد مدة وجيزة بمقتل الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل، وهي تعتبر لا محالة تلك القضية قد انتهت.»

وشمل الغضب والحنق قسمًا كبيرًا جدًّا من الفرنسيين أنفسهم الذين رأوا في تلك الجريمة وصمة عار لا تمحى في جبين فرنسا، فتضامن عدد وافر من الشخصيات الكبرى مع شعب تونس ووجه جماعة منهم البرقية التالية للمكتب الإداري للاتحاد العام التونسي للشغل «نأسى لاغتيال فرحات حشاد ونعبر عن تضامننا مع العمال المكافحين والشعب التونسي، نعد بنشاط لا هوادة فيه لإنزال العقاب بالمسئولين عن سياسة الشدة المرتكبين مباشرة أو بواسطة للاضطهاد والجرائم.»

وقد أمضى تلك البرقية خاصة أراجوان، وبوردي، ودمناشرة، ودي شيزل، وأميل كهن – ومادول، ولاكروا، ومارتيني، وروس، وستيفان.

وظهرت الحقيقة ناصعة جلية، وصرح بها الكاتب الفرنسي الحر فيسنيدوري فقال: «إن تغاضي السلطات الفرنسية الكامل عن مرتكبي الجرائم ضد التونسيين وعن الذين نظموا تلك الجرائم وسهروا على تنفيذها والذين أغروا بها وحرضوا عليها لهو الدليل القاطع على مشاركة الدولة وغيرها»، وأضاف: «إذا علمنا أن المستعمرين قد قالوا منذ عام وبينما كان شنيق يتفاوض بباريس أنهم لن يقبلوا اتفاقًا لا يرضيهم وإذا علمنا أنهم قد أعدوا الكوماندوس للهجوم منذ ذلك الوقت، وقد عقدوا العزم على شدخ رأس فرحات حشاد «كما يشدخ رأس الحية» وإذا قرأنا النداءات للاغتيال التي يوجهها ذلك السافل «كاميل إيمار».»

(وقد استقبلته الإقامة العامة بتونس في الصيف الماضي)، وإذا علمنا ضغط «السيناتور كولونا» على رجال «الكي دورسي» (مقر وزارة الخارجية الفرنسية) الذين لا إرادة لهم ولا عزم، فلا يبقى شك في أن المجرمين القتلة من المستعمرين الفرنسيين.

«وهؤلاء مجرمون قتلة يتمتعون بحماية رجال ذوي نفوذ وسلطة؛ إذ لم يقع العثور عليهم إلى الآن والظروف نفسها التي ارتكبت فيها الجريمة — بين مركزين من مراكز البوليس يبعد الواحد عن الآخر خمسة كيلومترات، وفي الساعة الثامنة صباحًا، وفي طريق كثير المارة — لا تبقى شكًا في أنه لم يقع العثور عليهم، لأنه لا يراد طلبهم ولا التفتيش عنهم، ولم يقع التفتيش عنهم لأنهم معروفين.

ولا يمكن لغير الجيش والبوليس أن يتجول باطمئنان وهو مسلح بالرشاشات والمسدسات في بلاد تعيش تحت حالة الحصار في جو حرب منذ أشهر.

ولكن رغم ذلك كان للمجرمين سيارتان، جرحت الأولى فرحات حشاد برصاص مدفع رشاش، وأتمت الثانية قتله برصاص مسدسات.

… ولو كانت تصريحات شهود الجريمة تسمح باتهام الستالينيين (الشيوعيين) والدستوريين، فهل تظنون أنهم لا ينشرونها، ولا يشهرون بها؟»

(٥) أسباب الجريمة

إن أسباب الجريمة وإن تعددت تتلخص كلها في أن السلطات الفرنسية اعتبرت فرحات حشاد سدًّا في وجهها وعرقلة في طريقها ولم تجد وسيلة للتخلص منه غير الاغتيال، فهو من زعماء العمال الكبار في العالم تحميه منظمات العمال العالمية وخاصة النقابات الأمريكية، وهو زعيم وطني قد التف شعب تونس كله حوله، وهو مستشار الملك مسموع الكلمة مهاب الجانب، فلم تتجاسر الإقامة العامة على نفيه وإبعاده خوفًا من إثارة عاصفة في العالم وخاصة في أمريكا، ولم يقدر البوليس على اعتقاله خوفًا من ثورة عامة، ولم تتمكن المحاكم الفرنسية من توجيه أية تهمة ضده، وإذا بالصحافة الاستعمارية نفسها تتكفل بفضح سلطات الحماية وتظهر بالإشارة والتلويح والتلميح للأسباب الحقيقية التي أدت إلى اغتيال فرحات حشاد، إذ تعتبر تلك السلطات حشاد حجر عثرة في طريقها سواء في الشعب وداخل البلاد أو في الخارج، فلا بد من إزالتها، وظنت أنها عندما استراحت منه قد فتحت لنفسها الأبواب وحررت طريقها.

السبب الأول للاغتيال هو القضاء على أكبر مستشار للباي، وأعظم سند له، وإدخال الرعب في القصر الملكي كما اعترفت به جريدة «الفيجارو» الاستعمارية التي تستقي أخبارها من الإقامة العامة بتونس، قالت (٨ / ١٢ / ٥٢): «إن أهمية رسالة «م شومان» للباي تضاءلت بموت فرحات حشاد، وقد اطلع عليها ابن الملك والزعيم النقابي المستولي على القصر استيلاء، ولا ينتظر أن يكون الجواب عن تلك الرسالة عاجلًا وإن كانت صريحة مكتوبة بصيغة الأمر لا تقبل تأويلًا، وأن رد الباي الذي تم تحريره في هذا الأسبوع والذي ختم برفض مذكرة ٢٦ نوفمبر فقد فُقد بموت فرحات حشاد محرره الأصلي، وفقد القصر أعز مستشاريه، ويقال إن الشاذلي باي تأثر جدًّا بذلك الاغتيال.»

والسبب الثاني للاغتيال هو السعي في أن يصبح الباي في عزلة تامة لإضعاف معنوياته وإرضاخه لإرادة دي هوتكلوك، وأن الخطة لعزلة الباي باغتيال فرحات حشاد وإبعاد بقية مستشاريه كلهم كانت من الوضوح مما جعل تونس كلها تتفطن إليها، وإنا نجد الدليل على وجود تلك الخطة فيما أبرقه مكاتب «باري بريس» بتاريخ ١٠ ديسمبر، فقد لخص في سذاجة ووقاحة جميع خطة الإقامة العامة والمستعمرين وخاصة فيما يتعلق بتهديد الأمير سيدي الشاذلي نجل جلالة الملك بالإبعاد، وكان عنوان مقاله (مائة وأربع رءوس) وهذا نصها:

لماذا — يا ترى — أصبحت السلطات الفرنسية تعير بغتة وجود الأمير الشاذلي بجنب الباي من الأهمية ما جعلها تعتبر أن بقاء ذلك الأمير سيحتم إما التنازل أو الخلع؟ وعللوا ذلك بما يلي: أن بورقيبة المسجون وسط مائتي صياد بجزيرته الشبيهة «بسانت هيلينة» الفاصل بينه وبين شواطئ تونس البحر، قد نسيته الجماهير وإن لم ينسه المخلصون له، ويأتي بعد بورقيبة، فرحات حشاد الذي كوَّن نقابات ديكتاتورية، وقام بحملة إرهابية، فأزيل فرحات حشاد من الطريق، وما كان لأي منهما قيمة لو لم يتحدا مع الباي بواسطة ابنه، فبورقيبة مبعد، ومنافسه صالح بن يوسف هارب في الولايات المتحدة، وفرحات حشاد مقتول، فلم يبقَ للثورة السرية إلا مائة وأربع رءوس، منهم مائة وثلاثة مبعدون اليوم في الجنوب برمادة وبرج القصيرة (ويقال بصفة رسمية أن السجن الإداري سيقف عند هذا الحد) ولكن رقم مائة وأربعة لا يمكن أن يمس.

فلا يمكن لكاتب استعماري أن يكون أكثر رقاعه ووقاحة.

ومن أسباب الاغتيال، شل الحركة الوطنية وإدخال الاضطراب والفوضى فيها والقضاء على معنوياتها بالقضاء على قادتها إبعادًا وسجنًا وتقتيلًا حتى تبقى جسدًا بلا رأس وجثة بلا روح؛ ولذا كان قتل فرحات حشاد غير كاف وحده لبلوغ تلك الغاية، فاغتنمته الإقامة العامة فرصة لإتمام خطتها، وأبعدت بعد الحادث بيوم واحد إلى «رمادة» في صحراء الجنوب التونسي تسعة من قادة الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الدستوري الجديد وهم: الأستاذ محمود المسعدي الأمين العام للاتحاد والسادة عمر الرياحي عضو اللجنة الإدارية للاتحاد، ومحمود الخياري والصادق الشايبي من جامعة الموظفين التونسيين، ومحمد الري قائد نقابة عمال الرصيف، والدكتور الصادق المقدم المسير للحزب الدستوري الجديد، والمعروف بصداقته لفرحات حشاد، وعمر بوزيد من دستوري صفاقس، والأستاذ فتحي زهير أمين «لجنة الأربعين» التي استشارها الباي في مشروع الإصلاحات الفرنسية.

وقد أقدمت الإقامة العامة على «إجراءات الإبعاد» بدعوى أن القادة الوطنيين قد اتفقوا في اجتماع مشترك بين الدستور والاتحاد على القيام بثورة عامة، ثم لما رأت أن تلك الدعوى لم تصدق، عللت الإبعاد بحماية هؤلاء القادة من «اليد الحمراء.» فعلقت الجريدة الباريسية «فران تيرور» بكلام لاذع على الأدوار الهزلية المشينة التي يقوم بها دي هوتكلوك في مقال عنوانه: «الحامي المستهتر» قالت:

لقد تمت — بعد — ست إيقافات هامة إثر اغتيال فرحات حشاد. وكلهم من أصدقاء الضحية.

لا تظن أنك نائم غارق في الأحلام، وكان أول رد فعل ﻟ «م. دي هوتكلوك» بعد رجوعه إلى تونس هو إلقاء القبض على محمود المسعدي الذي عوض المسكين حشاد في قيادة المنظمة النقابية التونسية وإرساله صحبة خمسة قادة نقابيين ودستوريين آخرين إلى رمادة على حدود الصحراء.

ويدعي أنهم «أبعدوا» محافظة على سلامتهم.

إن هذا النظام السياسي لعجيب؛ إذ ليس أمام المعارضة فيه إلا الإبعاد أو الموت، وأن علم الجمهورية يحمي هنالك بضاعة غريبة!

يقولون لنا إننا نعيش في نظام ديمقراطي وكأن المظاهر تؤيد ذلك القول في هذه الجهة من شواطئ البحر المتوسط؛ إذ لما كان الأستاذ محمود المسعدي المبرز في الفلسفة والدكتور في الآداب بباريس يدرس في «السربون» كان يرجع إلى بيته في المساء ولا ينذعر من كل دقة على بابه في الصباح، والأستاذ المسعدي نفسه يختطف اختطافًا بعد رجوعه لوطنه وبلاده بإذن جبار يتصرف في الحظوظ كما تمليه عليه شهواته، ولكن ذلك الجبار ليس إلا موظفًا فرنسيًّا.

ومهما أعادوا لنا وكرروا بأن تلك الأمور طبيعية، فإننا لا يمكن بحال أن نقبلها ونتعود بها، وإن عبرنا عن دهشتنا واستبشاعنا يعتبروننا فرنسيين غير صالحين ممن يساندون خصوم بلادهم وهي في موقف المتهم أمام الأمم المتحدة.

فمن هو أكثر أذى لفرنسا؟ هل الذين بقوا أوفياء لأسمى تقاليدها أم الذين أعطوها وجهًا غير وجهها وأظهروها في غير مظهرها.

وقد كثر التحدث في الأيام الأخيرة عما قام به الفرنسيون بتونس، وهي أعمال عظيمة حقًّا، ولكن ينبغي أن نعترف أن السكك الحديدية والطرقات والمواني والمستشفيات والمدارس نفسها غير كافية لاكتساب اعتراف شعب وصداقته إن لم نأت له أيضًا بالحرية والمساواة، وأن السيد المسعدي يقدِّر لفرنسا أن سمحت له بأن يحرز على التبريز في الفلسفة والدكتوراه في الآداب، ولكن من الصعب عليه أن يتغنى بمدح نظام يجرده من كل حق سياسي ويرسل به للسجن من غير مبرر.

ويجيب «م. دي هوتكلوك» أننا في وقت اضطرابات وأنه من المحتوم المحافظة على الأمن، كأن النظام هو الظلم وكأن الاضطرابات لم تكن نتيجة رفض منح الحريات لشعب كامل …

ولاحظت جريدة لوموند: «أن الإجراءات التي اتخذت ضد عدد من القادة الدستوريين والنقابيين أدخلت الدهشة والاستغراب.» وذكرت ادعاءات الإقامة العامة بلهجة لا تخلو من الشك والتهكم الخفي.

لما قامت «اليد الحمراء» بدورها في المأساة الاستعمارية ونفذت الخطة التي وضعت لها، دخلت القوات الفرنسية المسلحة في الميدان لتزيد الخناق شدًّا والشعب تكبيلًا وربطًا، فأعلنت القيادة العليا حالة منع التجول لأجل غير مسمى، وكان قرارها الذي يظهر أنها أعدته من قبل ماضيًا منفذًا مساء يوم الجمعة من الساعة الثامنة — أي يوم اغتيال فرحات حشاد. وبقيت الجنود على تعبئتهم وسلاحهم في الثكنات استعدادًا للقمع والتنكيل، وأخذت دوريات الحرس المتنقل تجوب تحت المطر شوارع مدينة تونس المقفرة الليل كله، وفي الصباح خرجت قوات مسلحة ضخمة تطوف في المدينة.

وأرادت السلطات العسكرية أن تحطم معنويات الشعب وأن تبث الرعب في قلوب المجاهدين وأن تنشر الإرهاب الرسمي حذو الإرهاب الشبيه بالرسمي، فنفذت الحكم بالإعداد على عدد من الوطنيين وأصدر القائد الأعلى لجيوش الاحتلال البلاغ التالي في صباح يوم الاثنين ٨ / ١٢ / ١٩٥٢:

قرر حضرة رئيس الجمهورية بتاريخ ٣ ديسمبر في مجلس العدالة الأعلى وبعد النظر في مطالب العفو، أنه ينبغي للعدالة أن تتبع مجراها فيما يتعلق بالمسمين حمادي بيانكو (المعروف بزيدان) ومحمد بن الناصر والبشير بن خصيبة الذين أصدرت عليهم المحكمة العسكرية القارة بتونس في ١١ يونيو ١٩٥٢ حكمًا بالإعدام بتهمة القتل ومحاولة القتل، ووقع إعدام الثلاثة رميًا بالرصاص في مدينة تونس في فجر ٨ ديسمبر ١٩٥٢. وعلقت الصحف على ذلك قائلة: ولأول مرة في تونس ينفذ حكم بالإعدام أصدرته المحكمة العسكرية.

ولا أظن تاريخ ٣ ديسمبر قد اختير مصادفة، يومين فقط قبل اغتيال حشاد، ولا تاريخ اغتيال هؤلاء الشهداء (٨ ديسمبر) ثلاثة أيام بعد الاغتيال، ويظهر الارتباط جليًّا بين إرهاب السلطات العسكرية وإرهاب «اليد الحمراء.»

(٦) تأثير الإرهاب ورد الفعل

لقد استبشرت الجالية الفرنسية وفرحت وأظهرت ارتياحها لذلك القمع العنيف الشديد وقد امتلأت قلوبها بغضًا للتونسيين وحنقًا عليهم وميلًا للانتقام منهم، وكانت شماتتها بقدر خوفها على ضياع امتيازاتها ومصالحها غير المشروعة، وما فتئت تنادي بوجوب استخدام القوة واستعمال الضغط، ونشر الإرهاب وإبادة الوطنيين والقضاء على الشعب التونسي كشعب عربي مسلم، وقد عبرت جريدة «لوموند» عن عواطفهم بألفاظ تظهر الحقيقة خلال اعتدالها قالت: «وارتاحت الجالية الفرنسية للإجراءات التي اتخذتها الإقامة العامة والقيادة العليا، وما زال الأكثرية من الفرنسيين يعتقدون أن إظهار القوة في الحالة الراهنة قمين بإرجاع الهدوء لتونس.»

واعترى التونسيين الذهول وغلب عليهم الأسى وتملكتهم الهموم، وعدها الكثير منهم نكبة خاصة وفاجعة شخصية، وقد هجمت المصيبة على القلوب، فغمتها حتى رأيت الناس كالسكارى المبهوتين، ناسين كل شيء ما عدا وجه حشاد المشدخ وجسمه الدامي، وعم الحزن الشوارع والبيوت ولم تنقشع الدهشة إلا بعد مدة.

واجتمع الجم الغفير في المساجد، فاكتظ جامع الزيتونة بآلاف من التونسيين يوم الأحد ٧ ديسمبر منذ الصباح المبكر، وخرجت منه بعد الظهر مظاهرة شعبية رائعة قاصدين الإقامة العامة التي كان يحرسها قسم كبير من الجيش وتحميها السيارات المصفحة والدبابات والبوليس، وما أن وصل المتظاهرون إلى شارع الكنيسة حتى اصطدموا بالحرس المتنقل الذي منعهم من المرور وهاجمهم بعنف وأمطرهم بوابل من الرصاص، وبعد أن عززته قوات النجدات المتوالية، ارجع المتظاهرين إلى الجامع، وقد ادعت المصادر الرسمية كعادتها أن طلقات نارية صدرت عن الجماهير نحو قوات البوليس التي لم يصب ولا واحد منها، واعتقل عدد وافر من التونسيين، ولم يحص عدد الأموات.

وكانت الحالة متوترة جدًّا، والدوريات المدججة بالسلاح تجوب أحياء المدينة، ولا يسمح لأي تونسي بأن يخرج من الحي العربي إلا بعد أن يستظهر بأوراق تعريفه، وأن يفتش تفتيشًا دقيقًا ويهان وينكل به.

واستمرت الحوادث مدة طويلة، فكانت تونس مسرحًا للاصطدامات أسبوعًا بعد اغتيال فرحات حشاد، وكانت المساجد يوم الجمعة ملآى غاصة بالخلائق في جميع القطر، وأقيمت فيها كلها صلاة الغائب على روح الشهيد إثر صلاة الجمعة، وتعالى الدعاء من آلاف الأفواه، وساد الخشوع والجلال فبكي الناس تأثرًا.

وخرج المصلون في مظاهرات هادئة منظمة في جميع أحياء تونس، وخاصة في حي باب سويقة وحي باب الخضراء.

وتظاهرت الوطنيات التونسيات في جهة باب الخضراء واصطدمن اصطدامات عنيفة بقوات البوليس ونظم إثرها الشبان مظاهرة أخرى في نفس المكان، فألقي القبض على أربعة منهم في معركة حامية.

وفي شارع الملاحة هاجم التونسيون محلات التجارة الفرنسية فكسروا ودمروا وأتلفوا، وفر الفرنسيون وقد ملأ الرعب قلوبهم، واستنجدوا بقوات البوليس والجيش التي لا تعرف رحمة.

وقرر الاتحاد العام التونسي للعمل القيام بإضراب عام لمدة ثلاثة أيام، فامتثل الشعب التونسي وأغلقت أسواق مدينة تونس منذ يوم الجمعة بعد الظهر، وكاد التموين ينقطع تمامًا ما عدا ما تأتي به بعض لوريات فرنسية، وأضرب عمال الرصيف فعطلوا حركة الميناء، وانقطع أيضًا سير الترام إلا بعض العربات القليلة التي يسوقها فرنسيون.

وكان الإضراب في القطر التونسي كله أسواقه ومدنه وقراه عامًّا شاملًا، في المواصلات والمعامل والدكاكين والمواني، والمناجم، وقد شارك فيه الموظفون التونسيون بالإجماع، وطلبة المدارس وجامعة الزيتونة والمدرسة الصادقية.

وكانت ليالي تونس تشبه نهارها كآبة وحزنًا، وكان الإنسان يشعر بالوحشة والانفراد بعد ساعة منع التجول من الثامنة مساء إلى السادسة صباحًا شوارع مقفرة خاوية على عروشها تحت مطر منهمر هطال لا مار فيها غير الدوريات العسكرية العديدة التي توقف المارة المتأخرين وتراقب سراح الجولان.

وقد قطعت المخابرات التليفونية، وتعطلت حياة المدينة تعطيلًا كاملًا إلى الصباح.

وأصدر الديوان السياسي البلاغ الآتي: «لم يكد يواري جثمان رفيقنا المحبوب فرحات حشاد التراب حتى أخذت قوات الاضطهاد الاستعمارية تعتقل قادة الحزب والاتحاد العام التونسي للعمل.»

وقد تمت تلك الإجراءات إثر الاغتيال الذي يعد جريمة جمعت بين الخسة والجبن، دبرتها ونظمتها عصابة مجرمين استأجرها المتفوقون، وهي تكتسي معنى واضحًا لا يتطلب تعليقًا، ويشبه ذلك العدوان سابقة يوم ٢٦ مارس ويرمي مثله إلى تهديد جلالة الملك المعظم وإلى القضاء على المقاومة الوطنية.

ولكن الملك والشعب متضامنان متكاتفان في السراء والضراء، يردان بما لهما من قوة أدبية ومن مثل عليا في الحرية وروح التقدم على القوات الغاشمة التي يستخدمها نظام يحتضر.

وتضامنت الجزائر مع تونس في تلك الفاجعة وعقدت لتأبين فرحات حشاد الاجتماعات العامة في غالب المدن، وتظاهر شعب الجزائر في جهات عديدة.

وأما في مراكش فقد قررت نقابات العمال القيام بإضراب عام في القطر كله احتجاجًا على اغتيال الزعيم النقابي، وتم ذلك الإضراب يوم الاثنين ٨ ديسمبر ونجح نجاحًا باهرًا كاملًا في القطر الشقيق بأسره، ولكن السلطات الاستعمارية اغتنمتها فرصة لتجعل منه كارثة، فقد قامت القوات المسلحة الفرنسية بقمع عنيف شديد ومجازر مهولة قتلت أثناءها آلافًا من المراكشيين الأبرياء، وتبعتها باضطهاد شنيع وفظائع تقشعر منها الأبدان، وشملت الحركة الوطنية وأتباعها بالعدوان.

وشاركت مصر الشقيقة تونس في مصابها وكذلك العراق وبقية الشعوب العربية والإسلامية والشرقية، وكانت الصحافة من إندونيسيا وبورما والهند والباكستان وإيران إلى ليبيا تندد بإجرام الفرنسيين واعتداءاتهم الأثيمة، وكانت الشعوب تقيم السرادقات لتأبين الشهيد العزيز.

ولم تتردد المنظمات الحرة والأحرار في العالم عن إعلان استنكارهم واستفظاعهم لهذه الجرائم الاستعمارية، فقالت السيدة فيجايا لاكشمي بانديت شقيقة البانديت نهرو، ورئيسة الأمم المتحدة: «إنه يمكن القول على ضوء هذه الظروف المحزنة مثل اغتيال السيد فرحات حشاد بجبن ونذاله أن تونس أصبحت اليوم مركز اضطرابات يمكن أن تنشر وراء حدود البلاد وأن تهدد حقًّا سلام العالم.»

وقال «فيليب جاسوب» مندوب أمريكا بالأمم المتحدة: «لقد خسرت قضية السلم رجلًا عظيمًا بموت فرحات حشاد.»

ونشرت اللجنة التنفيذية لجامعة النقابات العالمية الحرة المجتمعة بنيويورك في ٥ ديسمبر ١٩٥٢ البيان التالي:

إن اللجنة التنفيذية تعرب عن الصدمة التي شعرت بها من جراء ضربة القدر المؤلمة وغير المنتظرة التي لحقت بالعالم الحر باغتيال فرحات حشاد الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل وعضو هذه اللجنة.

وأن موت صديقنا وزميلنا فرحات حشاد خسارة لا تعوض بالنسبة للحركة النقابية الحرة في بلاده وبالنسبة للشعب التونسي كله، وفوق كل ذلك بالنسبة لقضية الحرية نفسها في العالم، وإنه لمن المصادفات المحزنة أن يقضي فرحات حشاد في حين أن مكانه يجب أن يكون باجتماع هذه اللجنة الآن ذلك المكان الذي رفضت الحكومة الفرنسية أن تسمح له باتخاذه.

إن جامعة النقابات العالمية الحرة ما فتئت توجه الإنذارات حول خطورة الحالة في تونس التي هي النتيجة الطبيعية لرفض الحكومة الفرنسية إجراء مفاوضات جديدة مع ممثلي الشعب التونسي حول مسألة استقلال تلك البلاد الذاتي.

وفي هذه الساعة المؤلمة نرى من واجبنا أن نصرح أنه يستحيل علينا أن نتجاهل مسئولية من لم يعرفوا كيف يفهمون رغبات العمال التونسيون والشعب التونسي جميعه، تلك الرغبات العادلة الديموقراطية وكذلك أن نلح في المطالبة مرة أخرى بإعادة الحقوق النقابية والمدنية والسياسية في الحال، والشروع في مفاوضات تهدف إلى إنشاء نظام سياسي ديموقراطي.

وعقدت الكتلة الأفريقية الآسيوية اجتماعًا عاجلًا في مقر الأمم المتحدة درست فيه التطورات الناتجة عن اغتيال فرحات حشاد في تونس وفي العالم.

واجتمع كبار قادة العرب غير الرسميين في القاهرة وتباحثوا في خطورة الحالة في تونس وألفوا لجنة قومية للدفاع عن المغرب العربي تحت رئاسة الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر سابقًا.

وسعت السلطات الفرنسية في استثمار الجريمة واستغلال الإرهاب الرسمي والشبيه بالرسمي، فطلب دي هوتكلوك بمجرد رجوعه من باريس يوم الجمعة مساء مقابلة من الملك الذي كان طريح الفراش، فلم يقبله، ولم يمكنه هكذا من فرض إرادة المستعمرين وتنفيذ خطتهم وإكساب ما اغتصبه الفرنسيون من نفوذ الصبغة الشرعية، وادعى المقيم بعد أيام وإثر مقابلة مع الملك أنه حصل على كلمة الشرف منه بأنه سيوقع المراسيم المعروضة عليه، ولكن سرعان ما ظهرت الحقيقة ناصعة جلية وافتضح المقيم لأن الملك كذب رسميًّا ذلك الادعاء وصرح بأنه لم يعد بشيء، وتورط دي هوتكلوك من جديد وأراد أن يوقع غيره في الشرك فوقع فيه، ولم يوقع سيدي الأمين الأول على المراسيم المعروضة، ورفض كل مقابلة مع المقيم لخروجه عن اللياقة، وأبان مكاتب «لوموند» عن حالة دي هوتكلوك واضطرابه وحيرته في مقال استقى مادته من الإقامة العامة نفسها ونشره بتاريخ ١٣ / ١٢ / ١٩٥٢ قال فيه:

كان الاهتمام كبيرًا في تونس بسفر الكولونيل «جريبيوس» إلى باريس وقد علم أن المقيم العام طلب من رئيس ديوانه العسكري أن يرفع للحكومة الفرنسية مذكرة في وصف الحالة تؤيد خاصة أن بعض أفراد العائلة المالكة مصرون على المعارضة في استئناف المحادثات الفرنسية التونسية، وأن موقف سيدي الأمين إزاءنا قد يتأثر بتلك المعارضة.

… ويمكن أن نلاحظ — رغم عدم صدور أي تعليق رسمي أو شبه رسمي — أن المقيم العام منذ أن التحق بمنصبه مقتنع بأن الباي كان يمكن أن يكون أكثر استعدادًا لقبول المطالب الفرنسية لو لم يكن محاطًا بمستشارين يثبطون عزمه على الرضى بمقترحاتنا أو حتى على مناقشتها.

وقد سعى «م. دي هوتكلوك» منذ شهر مارس الماضي في إزالة تلك السدود ووقع هكذا «إبعاد» المسيو شنيق ووزرائه بصفة وقتية.

وظهر السيد بكوش بمظهر من وضع الباي ثقته فيه مدة من الزمن، ولكن سيدي الأمين أوضح جليًّا منذ أسابيع بل منذ أشهر … وكتب ذلك أحيانًا، أنه يعتبر التشكيلة الوزارية الحالية مفروضة عليه فرضًا، وكان في ذلك الوقت يستشير إما مباشرة أو بطريق ابنه الأمير الشاذلي تارة وزراءه القدماء، وطورًا ممثلي الاتحاد العام التونسي للعمل، وطورًا آخر نواب الدستور الجديد.

وقد اغتيل فرحات حشاد في الأسبوع الماضي، و«أبعد» بعد أيام من ذلك عدد من القادة النقابيين والسياسيين، وفي الوقت نفسه عبر عن الرغبة في أن يقلل وزراء قدماء من زيارة سيدي الأمين.

فلم يبعد من المستشارين في الدائرة القريبة من الباي إلا أبناه الأميران الشاذلي ومحمد وابنته الأميرة زكية وصهره الدكتور ابن سالم الذين يسكنون على مقربة من قصر قرطاجة.

فمن الواضح الجلي أنه ينبغي للمقيم إن أراد إتمام ما شرع فيه منذ أشهر، أن يصل إلى أن يصبح الباي ولا يستشير غير وزرائه.

وبعد أيام قليلة استفحلت الأزمة واشتد التوتر بين القصر والإقامة العامة، فقد هجم دي هوتكلوك على الملك هجومًا، وقابله يوم ١٥ / ١٢ / ١٩٥٢ مقابلة جبرية، وأعلن إثرها في الصحف ما نشرته جريدة «لوموند» في ١٦ / ١٢ / ١٩٥٢ تحت عنوان «مقابلة حاسمة بين سيدي الأمين ودي هوتكلوك.

استقبل الباي «م. دي هوتكلوك» في آخر الصباح في قصره بقرطاج، فإن كان المتخاطبان لم يخرجا في مقابلتهما السابقة من الحديث التشريفاتي نظرًا للحالة الصحية التي كان عليها الملك، فإن مقابلة اليوم التي دامت ساعة تقريبًا قد أظهرت تراجعًا في موقف سيدي الأمين.

وإن أخبارًا من تونس تفيد «من مصدر وثيق» حسب مكاتب (رويتر) — اتخاذ إجراءات هامة تتعلق بالأمن العام، وأن الباي وقع على عدة مراسيم كانت معطلة إلى اليوم، وسيمكن إصدارها من استئناف حياة البلاد الإدارية، وقد وعد الباي أيضًا «م. دي هوتكلوك» بأنه سيوقع بعد الظهر على مرسومين من مجموع الإصلاحات التي عرضت عليه من قبل.

وقد أضافت برقية من وكالة الأنباء الفرنسية أن ذينك المرسومين متعلقان بنظام العمال (المديرين) والبلديات … وهما الأولان من المراسيم السبعة التي يتكون منها مشروع الإصلاحات التي أعدتها الدولة الحامية لإدخال النظام الديمقراطي على مؤسسات الدولية التونسية.»

ولسنا في حاجة إلى الملاحظة بأن المقيم العام كمَّ جميع الأفواه وحرَّم الكلام على غيره، ومنع الصحف التي كانت كلها تحت الرقابة الشديدة من نشر أي خبر لا يرضاه، وأخذ يصرح كما يريد ويقول ما يشتهي، فجزم يوم ١٦ / ١٢ / ١٩٥٢ جزمًا بأن الباي أعطاه مرات عديدة كلمة الشرف «واعتبرت من واجبي إعلام الحكومة بخطورة الحالة.» ولكن البلاط وجد طريقة لإعلام الرأي العام لتكذيبه البات للخبر الذي ادعى أن الباي تعهد بأن يوقع مشروعات المراسيم في أجل معين، وإذ ذاك انهالت التهديدات على الملك أولًا بإبعاد أنجاله وثانيًا بنوع من الخلع وذلك بتكوين مجلس وصاية ينوب عنه ويصبح النفوذ بيده.

أراد هكذا دي هوتكلوك أن يستثمر اغتيال فرحات حشاد واعتقال أصحابه وقد عاجلته مناقشات الأمم المتحدة للقضية التونسية، فسعى بجد لوقفها، وشن حرب أعصاب شديدة عنيفة على الملك الذي عرف بحكمته وحزمه كيف يربح الوقت، فلم تتمكن الحكومة الفرنسية من أن تعلن استئناف المفاوضات قبل أن تتخذ الأمم المتحدة قرارها النهائي، فمن هذه الوجهة خسرت الصفقة الاستعمارية، ولكن فرحات حشاد قد مات.

وقد اعترفت جميع الأوساط الفرنسية بأن سياسة الاضطهاد خابت بتونس، وأن فرنسا أصبحت في مأزق يصعب الخروج منه، وأنها هي وحدها التي تتحمل مسئولية ما يمكن أن ينشأ من أخطار جسام على نفس وجودها بالمغرب العربي، وشرحت جريدة «لوموند» في مقال افتتاحي تلك المخاوف الفرنسية قالت:

يظهر أن الولايات المتحدة الأمريكية قد غيرت موقفها تغييرًا واضحًا فيما يتعلق بالمحميتين في شمال أفريقيا، فكلف الرئيس ترومان «م. جسوب» بتلك المهمة، كما كلفه إثر انتخابات ١٩٤٨ بقلب السياسة الأمريكية نحو إسرائيل، وذلك بسحب التأييد للدول العربية.

فهل في ذلك انتصار لسياستنا؟ فإن واشنطون تؤيد سياستنا في نقطة معينة، في أن معاهدتي «باردو» و«المرسى» هما المتحكمتان وجوبًا في العلاقات الفرنسية التونسية، وقد ذهب «م. جسوب» إلى أبعد من ذلك عندما أكد أن حكومته تضع ثقتها في فرنسا.

ولكن ينبغي ألا نغتر بمدى ذلك «الانتصار» فهو لا ينافي تأييد الولايات المتحدة للمشروع البرازيلي الذي وإن طالب استئناف المفاوضات الثنائية — إلا أنه عين لها كمرمى «تشكيل حكومة تونسية مستقلة» فهو يعترف ضمنيًّا، رغم نكير فرنسا واستنكارها بحق نظر الأمم المتحدة في القضية.

ومهما يكن قتلة فرحات حشاد فإن من حقنا أن نعتقد أن أشد المشوشين تعصبًا كانوا يترددون في ارتكاب أي عمل إجرامي لو لم يعتقدوا أن في إمكانهم الاعتماد على بعض التأييد في الشرق الأدنى وفي وسط الأمم المتحدة نفسها، وكان من المتوقع الحتمي تقريبًا أن جو العنف سيجرف الأوساط الفرنسية بتونس.

ولكن فرنسا لا تستفيد أبدًا من تحميل غيرها المسئولية الناجمة عن نقائصها وأغلاطها، فيكون من السهل على الولايات المتحدة أن تجيب بأن عدم تحمل المسئولية من طرف البرلمان الفرنسي أجبرها على التدخل، وخاصة أن ذلك البرلمان ظهر بمظهر المتخاذل المتنازل عن كل نفوذ خلال استجواب بقي من غير خاتمة.

إن الولايات المتحدة تؤيد اليوم تأييدًا فاترًا نقطة من النظرية الفرنسية، فهل تكفي تضحية ذلك العدد العديد من الأرواح البشرية، وتلك المرارة في العلاقات بين فرنسا وشمال أفريقيا؛ لكي نتخلص من تلك السياسة العمياء التي قادتنا إلى الحالة الراهنة لما فيها من وعود ثم رفض، ومن تردد ثم اضطهاد شديد.

أحد عشر قطرًا أمريكيًّا لاتينيًّا ومعهم الولايات المتحدة يلحون علينا اليوم لاستئناف المحادثات الثنائية المباشرة التي لا تريد الحكومة حلًّا إلا بواسطتها، فعلى وزرائنا إذن أن يوضحوا مع من تكون تلك المحادثات وعلى أي أساس، وهل تسمح السياسات الخمس أو الست التي فرقت البرلمان والوزارة فرقًا بالأمل في تحديد خطة حازمة للسير بتونس نحو الهدف المعين؟

وأن أول مشكلة تتطلب الحل هي اختيار المتفاوضين، ولقد اختطف المنون — في مأساة مؤلمة — أحدهم، وكان الباي الذي ظهر جادًّا في عدم التساهل، يقيم اعتبارًا لنصائحه، ولا يرى السيد البكوش عمله إلا مقتصرًا على القيام بالأمور العادية، فمن بقي يا ترى؟

فإذا ألغينا استخدام القوة الصرفة الذي نريد تجنبه، فإن كل محادثة تتطلب مخاطبين مستعدين لبحث شروط اتفاق، ولكن على أي أساس؟ فإن البرامج الضيقة لم تمكنا من الخروج من المأزق، وأن اضطرابات الدار البيضاء (٤٤ قتيلًا مراكشيًّا وثمانية أموات فرنسيين) تبين بوضوح أنه لو لم نصل بسرعة إلى الاتفاق على برنامج عمل تظهر نتائجه تدريجيًّا مع الزمن فإن التطور السلمي لأفريقيا الشمالية كلها يصبح مقضيًّا عليه، وربما يقضى عليه بصفة نهائية.

ولنختم هذا الفصل بنداء وجهه فرحات حشاد إلى الشعب التونسي تتجلى فيه روحه الطيبة وإيمانه القوي:

إخواني …

يستمر الصراع داميًا منذ ثلاثة أشهر.

يستمر الصراع بين الشعب التونسي المستميت الأعزل وبين قوة الظلم والعسف الاستعماري.

وهذا الصراع إنما هو صورة متجددة لكفاحكم المتواصل منذ أن اغتصب الاستعمار اللدود بلادنا.

واليوم تتخبط قوى العسف محاولة إلقاء الشعب التونسي في حالة الاستسلام والانحطاط الذي لا نهوض بعده، تحاول قوى العسف بلوغ هذا الهدف بما تسلطه علينا من ألوان الإرهاق والاضطهاد وخنق جميع الحريات والإمكانيات، بينما يتقدم العالم ويسمو إلى إقرار الحق والعدالة بين البشر والشعوب، وإن ما بلغه الشعب التونسي اليوم من نضج اجتماعي وسياسي لا يسمح ولن يسمح بأن تجره هاته القوى إلى التخلي عن افتكاك حقوقه المغتصبة.

•••

إن صمودكم جميعًا رجالًا ونساءً كهولًا وشبابًا أمام الضربات المتوالية وإقدامكم على تحمل التضحيات بألوانها، قد حمل العالم الديمقراطي على الإعجاب بوحدتكم المتينة وتقدير حكمتكم وإكبار جهادكم وتأييدكم في كفاحكم.

•••

لقد أزهقت الأرواح وامتلأت السجون والمستشفيات وتعددت المحتشدات بالمجاهدين المخلصين ولكن لم يفت ذلك في سواعدكم ولم يفل من عزيمتكم ولم يزحزح من إيمانكم، بل لم يزدكم كل ذلك إلا ثباتًا وثقة في مستقبل بلادكم وازدهارها، ولم يزدكم إلا تبصرًا بما تنصبه قوى الاحتلال الفرنسي من شراك مثل الإصلاحات الرجعية المزيفة، التي قدمتها لتعود ببلادنا عشرات السنين إلى الوراء.

لكن ها هي قد أصبحت اليوم قضية الشعب التونسي تفرض اهتمام العالم منادية بإنصافها وهي سائرة في طريق النجاح لا محالة، ما دام من ورائها شعب باسل، ورجال ذو عزم ثابت وأنصار في جميع أنحاء المعمورة.

فكلمتي لكم أن ثابروا على الكفاح وحافظوا على وحدتكم القومية المتينة الغالية.

فإننا لا محالة وبحول الله منتصرون.

فرحات حشاد
أبريل ١٩٥٢
١  Révolution Prolétarienne, Janvler 1953.
٢  الكاتب نفسه هو الذي سطر هذه العبارة.
٣  مجلة «الندوة» العدد ١٢ (ديسمبر١٩٥٣).
٤  في عدد يناير ١٩٥٣ من مجلة Observateur.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤