كما لم تكنْ قَطُّ

سِباق

في بِدايةِ العَامِ
قررْتُ أنْ أخوضَ سِباقًا
أيَّ سِباقٍ
مع أيِّ متسابقٍ.
في الصَّباحِ قابلْتُ الجُميزةَ العجوزَ، تلك التي كانتْ صبيةً في طُفولتي، تَضمُّني إليها وتُطعمُني من ثمارِها مثل أمٍّ طبيعيةٍ.
قُلْتُ: «صباحُ الخيرِ أيَّتها الجميزةُ الطيبةُ، تُثمرِين جميزًا وأُثمرُ قصائدَ، تَجْمعِين ثمارَك طولَ العامِ، وأَجمعُ ثِماري، لنرى في النهايةِ مَنْ منَّا ثمارُه أطيب.»
قالتْ: «نحنُ صديقانِ، أمٌّ وابنٌ تقريبًا، أَحزنُ لي إنْ فزْتَ ولكَ إنْ فزْتُ، ما جَدْوى سِباقٍ نهايتُه حزنٌ؟»
فكَّرْتُ،
وقُلْتُ: «نعم، وأنا أيضًا أَحزنُ لكِ إنْ فزْتُ ولي إنْ فزْتِ.»
انصرفْتُ وفي الطريقِ قابلْتُ ذلكَ الأرنبَ الذي سبقَتْه السُّلحفاةُ في الحكايةِ القديمةِ وقد صقلَتْه هزائمُه.
فكَّرْتُ: نحنُ متشابهانِ إلى حدٍّ بعيدٍ، وعرضْتُ عليه أن نتسابقَ.
قال: «إنْ فُزْتُ لن يقولَ أحدٌ فازَ أرنبٌ على شاعرٍ عجوزٍ، وإنْ فزْتَ فضحَتْني كلُّ الكتبِ، وفضيحةُ السُّلحفاةِ ما زالتْ تطاردني.»
وتركَني وانصرفَ إلى لَهوِه المعتاد.
ظَللْتُ على هذه الحال حتَّى الظهيرةِ تقريبًا،
لا أحدَ يريدُ سِباقًا مع شاعرٍ عجوز،
وحينَ رأتْني الأيام مرتبِكًا على هذه الشاكلة،
عرضَتْ عليَّ السباقَ بخبثٍ شديد
وقَبِلْتُ ببلاهةٍ شديدة
وما زلْنا في السِّباق
تَعرفُ أنَّها فائزةٌ بالضرورة،
وأعرفُ أنَّها فائزةٌ بالضرورة.
٢٥ / ٣ / ٢٠١٤م

٢٠١٥م
يهبِط عليك ضيفًا ثقيلًا

بدونِ اسْتئذانٍ،
يَهبِطُ عليك ضيفًا ثقيلًا كالموت،
وقبل أن ينفضَ عن وجهِه ترابَ السَّفر،
وقبل أن يَفتحَ حقائبَه،
يتمدَّدُ في سريرِكَ وينامُ بعمقٍ،
لكنَّ هذا لا يَعْني أنَّه همجيٌّ
أو فوضويٌّ
فَهْوَ يَأتي في موعدِه،
الموعدِ الذي يُحدِّدُه لنفسه
أو تُحدِّدُه له السَّماء،
رُبَّما يكون موعدًا عبثيًّا
لكنَّه موعدٌ على أي حال،
وها هو ذا منذُ يومينِ يُقيمُ معكَ
ولا تعرفُ إنْ كان عليكَ أن ترحِّبَ به
أم تَعبسَ في وجهِه.
يَهبطُ عليكَ ويَبقَى مُقِيمًا
حتى يأتي موعدُه أو يأتي موعدُك،
لا تَعْرفُ كيف تَبدأُ الكلامَ
ولا تعرفُ كيف تواصلُ الصَّمْتَ،
تَخشَى أنْ يُسيءَ تَفسيرَ الكلامِ
وتَخشَى أن يُسيءَ تَفسيرَ الصَّمتِ،
تَخشَى أن تضحكَ وتَخشَى أن تَبكِي.
إنه ضيفُكَ على أيِّ حالٍ
حتَّى لو تَعاملَ وكأنَّه صاحبُ الدَّارِ
وتصرَّفَ في دارِكَ كما يَحلو له
وتصرَّفَ فيكَ كما يَحلو له
وشاركَكَ الطَّعامَ والشَّرابَ،
النومَ واليقظة،
الأحزانَ والأحزانَ
وشاركَكَ ما تحبُّ وتَكرهُ،
عليكَ على أيِّ حالٍ أن تَتَصرَّفَ بلباقةٍ
قبلَ أنْ يستقرَّ تمامًا
ويَستولي عليكَ
ويُكوِّمَكَ في صُرَّتِه
ويَمضِي إلى حيثُ يَشاء.
٢ / ١/ ٢٠١٥م 

ويلٌ للشعراء مما يكتبون

«في خندقٍ واحدٍ يَنامان
الفَارسُ الذي لا يحاربُ معركةَ بلاده
والشَّاعرُ الذي لا يَكتبُ قصائدَ حبٍّ إلى حبيبتِه.»
هكذا كَتبَ مُنذُ شهور.
اليومَ يُتَّهَمُ بأنَّه لم يَعُدْ يُحبُّ
يَسْتفسرُ: «لماذا؟»
تَردُّ ببساطةٍ:
«لم تَعدْ تَكتبُ قصائدَ حُبٍّ إلى حبيبتِكَ.»
يَقولُ بنبرةِ تأكيد: «أحبُّكِ.»
تردُّ بتلقائية:
«لماذا إذنْ
تَنامُ في الأيَّامِ الأخيرة
في خندقٍ واحدٍ
مع ذلكَ الفارسِ الجَبان
الذي لا يُحارِبُ مَعْركةَ بِلادِه؟»
يُواري وجهَه
ويَصرخُ: «ويل للشعراء مما يكتبون!»
٥ / ١ / ٢٠١٥م

القصيدةُ التي طارتْ بعيدًا

كانَ في رأسِه قصيدةٌ
وحين استيقظَ طارتْ بعيدًا
كانتْ على بُعْد ثانيةٍ أو اثنتينِ من قبضتِه
على بُعْد مليمتراتٍ من كتابِه
لكنها طارتْ
ولم يَعُدْ يرى شيئًا
ولم يَعُدْ يتذكَّرُ شيئًا
حتى اسمها طار معها
كلُّ ما يتذكَّرُه أنها كانت جميلة
ولأنها طارت بسرعة
ربما كانت أجملَ القصائد
ربما أكثرها رشاقة
لكنها طارتْ على أيِّ حال
ومهمتُه
التي كلَّفتْه بها الآلهةُ منذ زمنٍ بعيد
أن يصطادَ القصائد
أن يدوِّنَها،
ليست مهمته الحديث عن تلك التي طارت
بعيدًا عن شِبَاكِه
حتى لو حلَّقتْ طولَ الليلِ في الرأس
أو في القلب.
لكن يبقى أنه كانتْ في الرأس قصيدة
قصيدةٌ طارت في السماء البعيدة.
٧ /١ / ٢٠١٥م 

استعراض

كانتْ جميلةَ الروحِ والبدنْ
عفيَّةَ الروحِ والبدنْ
تشبهُ ربةً من ربَّاتِ الأساطير،
ربةً يتنازعُ عليها الأرباب.
والآن،
وقد صارتْ ضعيفةً مثل طائرٍ حزين
لا تزالُ تشبهُ ربةً من ربَّاتِ الأساطير،
ولا يزالُ الأربابُ يتبارزون أمامَها
في استعراضٍ فجٍّ لفروسيتِهم.
٢٢/  ١/  ٢٠١٥م

من الطبيعيِّ أنْ تَصمتَ

من الطبيعيِّ أنْ تَصْمتَ،
كيف تحوِّلُ إلى كلماتٍ رصاصةً
تنطلقُ في قلبِ فتاةٍ
ووردةٍ،
كيف تحوِّلُ إلى كلماتٍ وردةً
تغرقُ في دماء فتاةٍ
كيف تحوِّلُ إلى كلماتٍ فتاةً
تغرقُ في دماءِ وردةٍ،
فتاةً تتِّخِذُ من وردةٍ رايةً،
فتاةً تطوفُ الميدانَ بوردةٍ،
تَحْتجُّ بوردةٍ
وكأنها ذاهبةٌ إلى موعدٍ رومانسيٍّ
لا إلى الموت.
من الطبيعيِّ أنْ تَصْمتَ
كيف تحوِّلُ إلى كلماتٍ عشراتِ الجنود
اشتعلت في أجسادِهم النيران
وفي قلوبِ أُمَّهاتِهم،
كيف تحوِّلُ أحزانَ أُمَّهاتِهم إلى كلمات؟
كيف تحوِّلُ أحزانَ أُمَّةٍ إلى كلمات؟
من الطبيعيِّ أنْ تَصمتَ
كيف تحوِّلُ إلى كلماتٍ أسيرًا
وضعَتْه الشياطينُ في قفصٍ
وأشعلوا في جسدِه النيرانَ حيًّا
ليرفعوا رايةَ الإسلامِ،
ليستردُّوا حقَّهم في الزوجاتِ الأربع
وفيما ملكتْ أيمانُهم،
من الطبيعيِّ أنْ تَصمتَ
كيف تحوِّلُ أحزانَ أُمِّه إلى كَلِمات؟
كيف تحوِّلُ أحزانَ حبيبتِه إلى كَلِمات؟
كيف تحوِّلُ أحزانَ طفلتِه إلى كَلِمات؟
كيف تحوِّلُ أحزانَ أُمَّةٍ إلى كَلِمات؟
٥ / ٢/ ٢٠١٥م 

عفية ومريضة

منذ زمنٍ بعيد
ولدتْني
كانتْ عَفِيَّةَ الروحِ والبدن
لكنَّها ولدتْني في بلادٍ مريضة
وطوالَ تلكَ السنوات
ظلَّتْ عَفِيَّةً والبلادُ مريضة.
والآنَ
بَعْد كلِّ هذه العقود
لم تَعُدْ عَفِيَّةً ولا تزالُ البلادُ مريضة
وغدًا تعودُ عَفيَّةً وتعودُ البلاد.
١٠ / ٢ / ٢٠١٥م

رجاء

مِنْ فَضْلِكُم
كونوا سادةً مُهذَّبين
تَحلُّوا ببعضِ الحياء
وأَشيحوا بعيونِكم عَنِّي،
تعرفون أن الثيابَ التي خاطتْها يدا أُمِّي
سقطتْ عن رُوحي فانْكَشفتْ سَوْءاتي،
وهذا الحزنُ الكثيفُ الذي يَكسُوني
الحزنُ الثقيلُ الذي يتمدَّدُ في أحشائي
لا يسترُ شيئًا
كونوا سادةً مهذَّبين
وأَشيحوا بعيونِكم عن سَوْءاتي.
٧ / ٣/ ٢٠١٥م 

لُغَةٌ حديثةُ الوِلادة

منذُ الأزلْ
والشعراءُ في كلِّ زَمانٍ
لا يَكفُّون عن تحويلِ أُمَّهاتِهم إلى قصائدَ
وأحيانًا يحوِّلون قصائدَهم إلى أُمَّهاتٍ
وفي الحالتينِ يَختبِئون
تحتَ عباءةِ البلاغةِ العَقِيمة.
وبالنسبةِ لي الأمرُ مربكٌ تمامًا
كانتْ أُمِّي قَصيدةً استثنائيةً
في لحظةٍ استثنائيةٍ أبدعتْها يدا الخَالقِ
لذا سأعاني كثيرًا
لتجريدِ اللُّغةِ من بلاغتِها
لتَعْريةِ اللُّغةِ مما تَرَاكَمَ على جَسدِها.
سأعاني كثيرًا
لأقتربَ من تلكَ القصيدةِ
التي أبدعتْها يدا الخالقِ
من لغةٍ حديثةِ الوِلادةِ
لم يمسسْها لسان.
سأعاني كثيرًا
لكنَّني لنْ أُحاولَ أبدًا
أنْ أُحوِّلَ أُمِّي إلى قصيدةٍ
ولا أَنْوِي أنْ أحوِّل قصيدتي إلى أُم.
١٢ / ٣ / ٢٠١٥م

أربعةَ عشرَ يومًا

يا أمِّي
أُسْبوعان،
أربعةَ عشرَ يومًا،
ولم تبدأْ بَعْدُ مفاوضاتُ الرجوع،
أعرفُ أنَّكِ تُحِبِّين تلك الأرضَ الطيبة
وتَخْتَلِقين الأسبابَ دائمًا
لتَمْكُثي هناك أَيَّامًا إضافية،
وأعرفُ أنَّكِ تَعُودِين دائمًا
لكنْ لماذا مرَّ أسبوعان
ولم تبدأ بعدُ مفاوضات الرجوع؟
يَقُولون إنِّكِ هناكَ عِنْدَ الله
في صُحْبتِه
ويقولون إنَّ صُحبتَه طيبةٌ للغاية.
يا الله،
إنِّها أُمِّي،
أعرفُ أنَّ صُحبتَها طيبةٌ للغاية،
لكنَّ هذا لا يَعْنِي أن تستبقيها كلَّ هذا الزمن.
يا أُمِّي
أعرفُ أن صُحْبةَ اللهِ طيبةٌ للغاية،
لكنَّ هذا لا يَعْني أن تَمْكُثي هناك كلَّ هذا الزمن،
أعرفُ أيضًا أنَّكِ تعرفين أنَّ أبي هنا
وأبناءكِ،
وأنَّكِ لم تَعْتادي الغيابَ كلَّ هذا الزمن،
لنبدأْ، إذن، مفاوضاتِ الرجوع،
ورُبَّما أقتنعُ بأنْ تَبْقي هناك يومًا آخر،
أو بضعة أيام،
لكنني لنْ أقبلَ بأكثرَ من هذا
أحزاني تَتَراكَمُ بسرعةٍ غريبة،
ولا أعرفُ كيف أخلعُها.
يا الله،
أعرفُ أن صُحْبةَ أُمِّي طيبةٌ للغاية،
لكنَّ هذا لا يَعْنِي أن تَسْتَبْقيها كلَّ هذا الزمن.
يا أُمِّي،
أعرفُ أنْ صُحبةَ اللهِ طيبةٌ للغاية،
لكنَّ هذا لا يَعْنِي أنْ تَمْكُثي هناكَ كلَّ هذا الزمن.
١٦ /٣ /٢٠١٥م  

كيف؟

كانوا مُزارِعين طَيِّبين
ومثل نباتاتِ حُقولِهم
كانتْ قلوبُهم طَريَّةً وخَضْراء
وكانتْ حضارتُهم طَيِّبةً وكريمة،
هذا ما تقولُه كُتبُ الأعداءِ والأصدقاء
عن جدودي،
كيف جاء، إذنْ، صائِدو الجَرَاد،
والقَتَلةْ،
بِقُلوبِهم الغَليظَة
من الباديةِ إلى مَدِينتي؟
كيف دنَّسَ الرعاةُ والتُّجَّارُ مَدِينتي؟
١٦ / ٣ / ٢٠١٥م

غُرْبة

كنْتُ الليلةَ في حَضْرَةِ أُمِّي،
لمْ أَرَها
ولمْ أَسْمعْها،
لكنَّ حضورَها كانَ يَمْلأُ المكان.
وكانَ مَعِي أصدقاء،
ثَلاثةٌ من الشُّعَراءِ على الأقلِّ،
أحمد طه وعبد المنعم رمضان ومحمد عيد،
وكانَ الأَخيرُ يحبُّ خُبْزَ أُمِّي وجُبْنَها،
لكنَّه اكْتَفَى الليلةَ بِكُوبٍ مِن الحليب
تَجَرَّعَه بِنَهَمٍ غَريب.
وكانَ معي آخَرونَ لا أعْرفُهم،
كانَ الجميعُ يَأْكُلون
ويَشْرَبون ممَّا ابْتكرتْ يَداها في الغُرْبةِ
ويَبْتَهِجُون بِالحياةِ في حَضْرَتِها.
وَكُنْتُ وَحْدي أَكْتَفي بالطمأنِينَة
أُخَزِّن حِصَّتي منها
حتَّى لو لمْ أَرَها
ولمْ أَسْمعْها
ولمْ أتناولْ شيئًا
ممَّا ابْتكرتْ يداها في الغربة
كانَ يَكْفيني أنَّني في حَضْرَةِ أُمِّي.
٢٠ / ٣ / ٢٠١٥م

استعلاء

حتَّى أيَّامٍ قليلةٍ مَضَتْ
كُنَّا نَتنازعُ أحيانًا
ونَتصافَى في النِّهاية.
حتَّى أيَّامٍ قليلةٍ مضتْ
كانتْ تَهْزمُني غالبًا
لكنَّنا، برغم كلِّ شيءٍ، كُنَّا نِدَّيْن.
لكنَّها مُنْذُ أَيَّامٍ قليلةٍ مضتْ
تَرْمُقُني باسْتعلاء
وتُشرِّحُ مشاعِري بِبِرود
كما لو كانتْ مشاعرَ جثةٍ مُتَعَفِّنة.
١٢/ ٤ / ٢٠١٥م 

ذبول

على الطَّيرانِ تَذبُلُ قُدْرةُ الطَّائر
ليَسْقطَ في هدوء
مثل ورقةٍ صفراءَ في مَطْلعِ الخريف
دون أنْ يَدْري أَحَد.
وعلى الغناء تَذْبُلُ قدرةُ الطَّائر
ليَصْمتَ مثل ورقةٍ ميَّتة
دون أنْ يَدري أحد.
هكذا في انتظارِ أوَّلِ عابرٍ
يَسْتلقي بين الترابِ طائرٌ
لا يَطيرُ ولا يُغنِّي.
٨/ ٥ / ٢٠١٥م 

كما لم تكنْ قطُّ

في صباحِ الجُمعةِ ٤ / ٩/ ٢٠١٥ م
كانتْ هنا
ممدَّدةً على سريرِها
فتيةً وجميلةً كما كانتْ دائمًا
حولَ وجهِها هالةٌ من سحرٍ مَلَكي كما كانتْ دائمًا
بشكلٍ يُؤكِّدُ أنَّها الوريثةُ الشرعيةُ لنفرتيتي سيدةِ المَلِكَات
لكنَّها أيضًا تبدو وكأنَّها لا تزالُ تجيدُ صناعةَ الخُبْز
وصناعةَ الرِّجال
كما كانتْ دائمًا
وأيضًا، كما لم تكنْ قطُّ،
تبدو مُسترخِيةً وغير مباليةٍ.
نهضْتُ من غفوة الصباحِ على صوتي يُعاتبُها مثل صبيٍّ مراهقٍ يعاتبُ أُمًّا لم تنشغلْ طوالَ يومٍ كاملٍ بطعامِه أو شرابِه.
نهضْتُ لأدركَ على الفورِ،
كما في حكاياتِ الحُوريَّاتِ والجنِّيَّات،
أنَّها لم تَعدْ هنا.
حلَّقتْ إلى هناك منذ ستةِ شهورٍ، حيثُ ينبغي أن تكونَ من وقتِها في حَضْرةِ ملكِ الملوكِ، وحيثُ لا بُدَّ أنه من غير اللائق أنْ تُفكِّرَ أمٌّ في طعامِ طفلِها أو شرابِه في حَضْرةِ ملكِ الملوك.
لكنَّ الغريبَ حقًّا أن طفلَها الذي صار شيخًا في غفوة قصيرةٍ يفكِّر منذ نهضَ من غفوتِه في سطرٍ كتبَه شخصٌ كان يحمل اسمَه في سبعينياتِ القرنِ العشرين:
«أتزوج امرأةً تجيدُ صناعةَ الخبزِ الطَّريِّ …»
لا بُدَّ أنَّه سطرٌ غريبٌ حقًّا من فتًى يَتملْملُ بين مدرَّجاتِ كُلِّيَّة الطبِّ، تحت إبطِه حزمةٌ من دواوينِ الشِّعرِ، وفي رئتيه حزمةٌ من الأحلامِ، ليحفظَ اتِّزانه، ولا يفهمُ حتَّى الآنَ من أين أتتْ هذه الأمنيةُ الغريبة:
«أتزوجُ امرأةً تجيدُ صناعةَ الخبزِ الطَّريِّ …»
منذ أربعةِ عقودٍ
أو كيف انبعثَت اليومَ في ذاكرةٍ شاختْ
لتُهيمنَ عليها مثل طاغيةٍ محترف.
١٠ / ٩/ ٢٠١٥م 

ذكريات

هذا السَّقْفُ، المُعلَّقُ على هذه الجُدرانِ، أظلَّني دائمًا. نعمْ، كانتِ السماءُ تُغافلُه أحيانًا وتَصبُّ على رأسي بعْضَ ويلاتِها، لكنَّه ظلَّ يُظلُّني.
هذا السَّقْفُ، المُعلَّقُ على الهاويةِ، يكاد يسقطُ على رأسي، رأسي المكتظِّ بذكرياتٍ مرعبةٍ عن كلِّ طُوبةٍ من الجدران التي كانتْ، الجدران التي عجزتْ عن ترميمِها كلُّ اللُّغات.
وما يُحيِّرُني حقًّا:
أين تمضي كلُّ هذي الذِّكْريات
حين يتهشمُ رأسي
وتتناثرُ أشلاؤه في الطُّرُقات؟
١٩ / ٩/ ٢٠١٥م 

طلل ٢٠١٥

يَعرفُ اليومَ
معرفةً غُنُّوصيَّةً خالصةً
لماذا ظلَّ الشَّاعرُ البدويُّ قرونًا
يَمْضي في الصَّباحِ إلى طَلَلِ الحبيبةِ ويَبْكي،
لم يكنْ يَمْضي إلى هناكَ ليَبْكي،
لم يكنْ يَعشقُ البُكَاء،
كان يَعشقُ الحبيبة.
كان يَمْضي إلى هناك ليرى الحبيبة
ليسمعَ صوتَها
وتلمسَ عيناه جمالَ طيفِها.
كان يَعرفُ أنَّها ليستْ هناك
لكنَّه ظلَّ يَمْضي إليها كلَّ صباح.
وهناك كان الشَّوقُ يَنهشُ قلبَه
فيبكي بحُرْقةٍ
حتى يبدأَ رحلةَ العودةِ في المساء.
٢٣ / ٩/ ٢٠١٥م 

شيطان الملل

ثَقيلةً لا تَزالُ هذه الحقيبةُ القديمةُ
ولا بُدَّ أنَّها كانتْ ثقيلةً دائمًا
وقديمةً دائمًا
تلك الحقيبةُ التي أحكمتْ غلقَها أصابعُ الآلهة
ولا بُدَّ أنَّها كانتْ ثقيلةً جدًّا وقديمةً جدًّا
حين ثبَّتتْها الآلهةُ في كَتِفي
في يومٍ ما في مُنْتصفِ القَرْنِ الماضي
وهو ما تَبوحُ به كلُّ المؤشِّرات،
هذه الحقيبةُ القديمةُ لا تزالُ ثقيلةً.
في البداية،
كانتْ تَتَخفَّفُ من حُمولتِها
عَقْدًا بَعْد عَقْدٍ،
وحين لم تَعُدْ هناك عُقودٌ
كانتْ تَتَخفَّفُ منها عامًا بعد عامٍ،
وحين لم تَعُدْ هناك أعوامٌ
كانتْ تَتَخفَّفُ منها يومًا بعد يومٍ.
وذاتَ يومٍ وَسْوسَ لي شَيْطانُ الملل
فَثَقبْتُها من كلِّ الجِهات
لكنَّها وقد صارتْ خاويةً تقريبًا
لا تزالُ ثقيلةً وقديمةً،
لا تزالُ محكمةَ الإغلاق
وقد أفرغتْ كلَّ أسرارِها
ربَّما باستثناءِ سرٍّ وحيدٍ
يعرفه الجميع.
٩ / ١٠/ ٢٠١٥م 

إثمٌ مخضرم

حصانٌ هَرِمٌ يَجرُّ عَرَبةً مَعْطوبةً
وثقيلةً مثل إثمٍ مُخَضْرمٍ،
لا يَدْرِي الحصانُ ماذا تحملُ العربة
ولا يَدْرِي صاحبُه،
لكنَّه يَظلُّ يَمْشي لا يَدْرِي إلى أينَ
ولا يَدْرِي صاحبُه،
يَظلُّ الحصانُ يَحلُمُ
ويَظلُّ صاحبُه،
وتمرُّ السَّنواتُ،
لا الطريقُ تَنْتهي
ولا الحلمُ يَبْدأ.
١٢ / ١٠/ ٢٠١٥م 

رحلة إلى البلاد البعيدة

ثَمَّةَ أحلامٌ عتيقةٌ
تَعودُ إلى عصورٍ عتيقة،
حين كان الإنسانُ يعيشُ على الجبالِ والأشْجار،
وربَّما تَعودُ إلى تلك السَّقْطةِ المدويةِ التي سقطتْها حواءُ وسقطَها آدمُ من السَّماءِ إلى الأرضِ، ولا تزالُ أصداؤها تتردَّدُ حتَّى اليومِ في آفاقِ الكونِ العتيق،
وفي آفاقِ نَفْسي.
ثَمَّةَ أحلامٌ عتيقة،
أحلامٌ تُوحِّدُ أبناءَ حوَّاء في كلِّ البقاع،
تُوحِّدُ أبناءَها من كلِّ الأجْناسِ والطَّبَقات،
أحلامٌ يُسمِّيها ذلك النِّمْساويُّ الشهير
أحلامًا نَمَطيَّةً.
أمسِ، حلَمْتُ حُلْمًا عتيقًا
حُلْمًا نَمَطيًّا،
كُنْتُ مُعلَّقًا في بَرَارٍ مهجورةٍ
على جِسْرٍ هائلٍ
ليس له مَطْلعٌ أو مَهْبطٌ،
كُنْتُ مُعلَّقًا وحيدًا على جسرٍ هائلٍ
ولم تكنْ هناك أرضٌ عنْ قُرْبٍ أو بُعْدٍ
وأغلبُ الظَّنِّ لم تكنْ هناك سماء.
وشاءَ مُخرِجُ الحُلْمِ
أنْ أنتقلَ في المشْهدِ التالي
لا أعرفُ كيف
لأراني مُعلَّقًا من نافذةٍ عاليةٍ في بيتٍ يَنْهارُ
كُنْتُ مُعلَّقًا وحيدًا من نافذةٍ،
ومرة أخرى،
لم تكنْ هناك أرضٌ عن قُرْبٍ أو بُعْدٍ
وأغلبُ الظَّنِّ لم تكنْ هناك سماء.
لم أستيقظْ هنا مُتقطِّعَ الأنْفاسِ، كما يحدثُ عادةً في حُلمٍ نَمَطيٍّ، لكنَّ مُخرِجَ الحُلْمِ نَقلَني مرَّةً أخرى إلى أرضٍ غريبةٍ، أرضٍ لم أضعْ قَدَمي فيها من قبلُ ولم تَعرفْها عيناي،
أرضٍ غريبةٍ لم يعرفْها أبي ولم تعرفْها أمِّي
لكنَّني وجدْتُ أمِّي هناك،
استقْبلتْني كما لو كانتْ في انتظاري منذُ زمن،
ووضعتْني في غُرْفةٍ آمنةٍ وأخذتْ تواصلُ رحلتَها
فَتيَّةً وعَفيَّةً كما كانتْ دائمًا
وفي تلك الغُرْفةِ الغريبةِ الآمنة
استيقظْتُ متقطِّعَ الأنفاسِ
وأنا أحاولُ الرَّكْضَ وراءها
وأنا أحاولُ الصُّراخَ لتَسمعَني
لأبقى معها هناك
أو نعودَ معًا من تلك البلاد الغريبة.
١٩ / ١٠/ ٢٠١٥م 

جولة

لا تستسلمْ!
إن ذاك الذي يُدعَى «الموتَ»
جبان.
نعمْ، ربَّما كنْتَ عجوزًا،
لكنَّه أيضًا عجوزٌ،
وجبان.
لا تستسلمْ!
ولن تكونَ إلا جولةً
كما كانتِ الجولاتُ السابقة.
٧ / ٥ / ٢٠١٣م

موت

هَواءٌ قاتمٌ وثقيل
هَواءٌ مُشبَّعٌ بالموتِ
هَواءٌ له لونُ الموتِ وشكلُ الموتِ
وصوتُ الموتِ ورائحةُ الموتِ.
وحتَّى بَعْدَ أنْ أَغلقَ العَيْنَين
وسَدَّ الأُذُنَين
ووَضَعَ الكمامةَ الكثيفةَ على منخاريه
لا يزالُ يَرَى الموتَ في الهواء
يَسمعُ الموتَ في الهواء
ويشمُّ الموتَ في الهواء.
٢٣ / ١٠/ ٢٠١٥م 

جولاتٌ معَ الموت

إلى أبي
منذُ زمنٍ بعيد،
في النِّصْفِ الثَّاني من عشرينيات القَرْنِ الماضي،
وهو لا يزالُ طفلًا يحبو على أكثرِ تقديرٍ،
نازلَه الموتُ،
ذلك الخبيثُ الجبانُ نازلَ طفلًا أعزلَ إلَّا من فِطْرتِه
نازلَه بكلِّ قوةٍ وخبثٍ،
ولم يَفلحْ.
ولا بُدَّ أنَّ الموتَ تحالفَ عليه مع النزلاتِ المعويةِ والنزلاتِ الشُّعَبيَّةِ والحَصْبةِ، وكلِّ تلك العللِ الخبيثةِ التي كانتْ تُسهِّلُ على الموتِ هزيمةَ الفقراءِ لينطلقَ ويتباهَى بقوَّتِه في كلِّ أرجاءِ الكون، ولم يفلحْ.
في ثلاثينياتِ القَرْنِ نفسِه، وهو لا يزالُ صبيًّا،
نازلَه الموتُ في جولةٍ أخرى
لا تَقِلُّ خِسَّةً عن الجولاتِ الأولى
ولا تختلفُ كثيرًا
اختلفَ الحليفُ فقطْ
نازلَه الموتُ متحالفًا مع البلهارسيا التي يسَّرتْ له قتلَ ملايينِ المصريِّين ببؤسٍ منقطعِ النظير،
ولم يفلحْ.
تحالفَ الموتُ مع العقاربِ والحيَّاتِ في حقولِ الدِّلتا،
تحالفَ مع الذبابِ والبعوضِ في سمائِها،
تحالفَ في عتمتِها مع العفاريتِ والجنِّيَّاتِ والمَرَدَة،
ولم يفلحْ.
وفي منتصفِ أربعينياتِ القرنِ نفسِه
وهو لا يزالُ فتيًّا في العشرين،
متحالفًا مع وباء الكوليرا،
ذلك القاتلِ الشرسِ،
نازلَه الموتُ في جولةٍ أخرى،
ولم يفلحْ.
وهكذا ظلَّ الموتُ، تسعةَ عقودٍ، ينازلُه كلما عثرَ على حليفٍ، ويتراجعُ بخِزْيِه ليعاودَ الإغارةَ عليه من جديد،
وفي الشُّهورِ الأولى من عَقْدِه العاشرِ،
في منتصفِ العَقْدِ الثَّاني من القرنِ التَّالي للقَرْنِ العشرين
تحالفَ الموتُ مع شيخوخةِ الشيخِ،
لم يتحالفْ مع حليفٍ خارجيٍّ،
تحالفَ، أو تآمرَ، مع شيخوخةِ الشَّيخِ نفسِه
في خيانةٍ جَبَانةٍ،
وبنذالةٍ خبيثةٍ باغتاه من الخلْفِ،
ليستسلمَ الشيخُ بالضرْبةِ القاضية.
هكذا ترى الموتَ الجبان
يتبخترُ منذُ أمسِ، الجمعة ٢٠ نوفمبر ٢٠١٥
يتبخترُ في الشَّوارعِ والأزِقَّة
يتبخترُ في السماوات
متباهيًا بفوزٍ غير مستحقٍّ
على شيخٍ عجوزٍ
خانتْه شيخوختُه.
٢١ / ١١/ ٢٠١٥م 

كأنَّكَ أنتَ

قد يَسْقطُ عليكَ بيتُ أبيكَ فجأةً
قد تَموتُ أُمُّكَ فجأةً
وقد يَموتُ أبوكَ فجأةً
قد تَلْتفتُ إلى اليمين
وتَلْتفتُ إلى اليسار
وتَلْتفتُ أمامَكَ
وتَلْتفتُ خلفَكَ
ولا تَعْثرُ على جدارٍ تَسندُ إليه ظهرَك.
قد تَتَطَّلعُ إلى الكونِ
الشَّمْسُ مُشرِقةٌ كالمعتاد
والناسُ يَهيمون على وجوهِهم كالمعتاد
وكأنَّ بيتَ أبيكَ لم يَسقطْ عليكَ فجأةً
وكأنَّ أُمَّكَ لم تَمُتْ فجأةً
وكأنَّ أباكَ لم يَمُتْ فجأةً
وكأنَّ عمودَكَ الفقريَّ لا يَخذلُكَ فجأةً.
تَصرُخُ في السَّماء
تَبدو وكأنَّ كلَّ قاطنيها رحلوا،
تَصرُخُ في البشر
يبدو وكأنَّهم دمًى يحرِّكُها بَهْلوانٌ خياليٌّ
تَصرُخُ في البشرِ وكأنَّهم بشر
تَصرُخُ في نَفْسِكَ وكأنَّك نَفْسُك.
تَصرُخ
يَنْحبسُ صوتُكَ في العتمَة
ولا يَعرفُ كيف يفرُّ
تَبكي بحرارةٍ وتَنام ببرودٍ
وكأنَّك أنتَ.
٢٥ / ١١/ ٢٠١٥م 

الوهميُّ والخرافيُّ

ذاتَ صباحٍ مُعتِمٍ
مثل كلِّ الأيَّامِ في الغابةِ النَّائيةِ المُعتِمةْ
في ركنٍ ناءٍ
يَقعُ الوهميُّ في عِشْقِ الخرافيِّ
يَكتبُ الوهميُّ قصائدَ عِشْقٍ في الخرافيِّ
ويُغنِّي الخرافيُّ أغنياتِ عِشْقٍ للوهميِّ.
ويَستمرُّ الحالُ،
الوهميُّ يَفرشُ طريقَ الخرافيِّ شِعرًا
والخرافيُّ يَفرشُ طريقَ الوهميِّ غناء.
وذاتَ مساءٍ مُعتِمٍ،
في الغابةِ النَّائيةِ المُعتِمة
يحاولُ الخرافيُّ عناقَ الوهميِّ
وحين يَقبضُ الخرافيُّ على وَهْمٍ
يُوبِّخُ الخرافيُّ الوهميَّ
ويعيِّره بالوَهْمِ.
حدَّقَ الوهميُّ في الخرافيِّ والخرافيُّ في الوهميِّ
الْتَفَتَا يمينًا ويسارًا في الغابة المعتِمة
وحدَّقا في الماضي،
وتَبخَّرَا.
وطولَ الوقْتِ يَقْبعُ في ركنٍ ناءٍ
ومُعتِمٍ
فيلسوفٌ كفيف،
يُحدِّقُ في الفراغ
ويَسخَرُ ممَّا يرى.
٢٦ / ١١/ ٢٠١٥م 

موتٌ فيزيائيٌّ

في الحياةِ نَموتُ يَوميًّا،
نَموتُ كلَّ ثَانيةٍ،
لا نَكُفُّ عن الموتْ.
لا أَتحدَّثُ عن الموتِ المعْنوِيِّ
فَهْوَ مُشْكلةٌ مُعقَّدةٌ حقًّا،
أَتحدَّثُ عن موتٍ فيزيَّائيٍّ
عن مَوتٍ عمليٍّ،
عن موتٍ يليق بنا.
في الحياةِ نَموتُ يَوميًّا
في أحْلكِ اللَّحظاتِ نَموت
وفي أبْهجِ اللحظات نموت.
نَموتُ باستمرارٍ
نَموتُ حين نُدرِكُ
وحينَ لا نُدرِكُ
ولا نَكُفُّ عن الموت
إلا حين نَموت.
٢ / ١٢/ ٢٠١٥م 

علاقتان

عَلاقتي بالحياةِ واهيةٌ وسطحيَّةٌ ومعقَّدةٌ
علاقةٌ بين حياةٍ تُشبهُ الحياة
وإنسانٍ يُشبهُ الإنسان.
لكنَّ علاقتي بالموتِ على العكسِ تمامًا
علاقةٌ بين موتٍ ناضجٍ
وإنسانٍ ناضجٍ.
في نهايةِ كلِّ يومٍ، وبعد أنْ أُنْجزَ واجبي اليوميَّ، أُغلِّفُ يومي في غلافٍ رقيقٍ وأضعُه في حقيبةٍ من حقائبِ الهدايا الرومانسيَّةِ وأقدِّمُه بصدرٍ رَحبٍ للموت: «شكرًا أيُّها الموتُ، أمهلتني اليومَ، وها هو اليوم لك.»
٢ / ١٢/ ٢٠١٥م 

حصار

هذا المَسْرَحيُّ المتأنِّقُ،
المسرحيُّ الذي لا يراه أحد،
شاخَ وخرَّفَ،
لا تنسَ أنه كان على عَتَباتِ الشيخوخةِ
حين بدأَ يؤلِّفُ الدورَ الذي تُمثِّلُه منذ ولدتْكَ أُمُّكَ،
كان يؤلِّفُ بارتباكٍ شديد
لكنَّ المُخرِجَ كان يُراجعُه أحيانًا،
والآنَ وقد ماتَ المُخرِجُ منذ زمنٍ بعيد.
الآنَ وقد شاخَ المسرحيُّ وخرَّفَ
ولم يَعُد هناك غيره وغيرك،
مَسْرَحيٌّ شاخَ وخرَّفَ وبطلٌ عاجزٌ وجبان
لا يَجرؤُ على مغادرةِ الخشَبة،
ولا يستطيع.
يواصلُ المسرحيُّ تخاريفَه
لتَغْرقَ فيها.
على خشَبةِ المَسْرحِ،
قتلةٌ حقيقيون يُحاصِرونكَ من كلِّ ناحيةٍ
قَتْلَى حقيقيون يُحاصِرونكَ من كلِّ ناحيةٍ
دماءٌ حقيقيةٌ تُغطِّيكَ من القدمينِ إلى الرأْس
دماء تَزحفُ ليغرقَ الجمهورُ فيها
وقد بَدَا عاجزًا وجبانًا
لا يَجرؤُ على الخروج
ولا يستطيع،
هذا المسرحيُّ شاخَ وخَرَّفَ
وأنتَ عاجزٌ على خشَبة المَسْرحِ
بقسوةٍ يُحاصِرُكَ الموت.
٩ / ١٢/ ٢٠١٥م 

حَفنة من الهدوء

كلَّما مرَّ يومٌ
بشكلٍ دراماتيكيٍّ
يَهْبطُ سقْفُ أمنيَّاتِك.
في صباكَ كان مرتفعًا
ولم تكنْ تَراه غالبًا.
لا تَتَحدَّثْ عنه أكثرَ
حتَّى لا يتَّهمَكَ الأشرارُ بالغرور
وحتَّى لا يتَّهمَكَ أبناءُ الربِّ بالكُفْرِ،
لا تَتَحدَّثْ عنه أكثرَ.
مرَّتْ أيَّامٌ وسنونٌ وعقودٌ،
عَبَرْتَ من قَرْنٍ إلى آخر،
وسَقْفُ أمنيَّاتِك لا يَكفُّ عن الهبوط.
يَهْبطُ سَقْفُ أمنيَّاتِكَ،
تنحني غالبًا لتمرَّ من تحته،
صار أقصرَ من قامتِكَ
ببضعِ بوصاتٍ على الأقل
ورقَّ بشكلٍّ رهيب.
كلُّ أمنيَّاتِكَ
بعضُ الهدوءِ وبعضُ السَّلام
وأنتَ لا تتحدَّثُ عن هدوءٍ وسلامٍ مُطلَقَين
حتَّى لا يتَّهمَكَ الأشرارُ بالطُّوباويَّةِ
أو يَتَّهمَكَ أبناءُ الرَّبِّ بالكُفْرِ.
إنَّكَ تَتَحدَّثُ عن حَفْنةٍ من الهدوء
وحَفْنةٍ من السَّلام.
١٦ / ١٢/ ٢٠١٥م 

خمسة أضرحة

قد تَسْتيقظُ فَجْأةً
مَدينًا للكونِ بخمسةِ أضْرِحةٍ.
قد تَستَيقظُ فجأةً على حالةٍ تتشكَّلُ، حالةٍ تَقفزُ على طَرفِ اللِّسان أو الأَنَاملِ، تَقفزُ مباشرةً إلى أوراقِكَ وأنتَ لا تَدْري، تَتبخْترُ برشاقةٍ، حالةٍ تتعثَّرُ وتَهوِي على الأرضِ لتَتهشَّم ذراعُها أو ساقُها، حالةٍ تَسْقطُ على دِمَاغِها لتَمشِي مترنِّحةً أو تروحُ في غَيبوبةٍ، ثم تموتُ، ليكونَ عليكَ أن تَبنيَ لها ضَريحًا مناسبًا.
وقد تَستيقظُ فجأةً لتَجدَ حالتينِ من هذا النَّوعِ تَتَصارعانِ حتَّى الموتِ، وتَتَدخَّلَ في الوقتِ المناسبِ وتَنجحَ في عقد صُلحٍ بينهما وتصنع منهما مُرَكَّبًا فريدًا، وقد لا تَنجحُ، ليكونَ عليك أن تَبنِي لهما ضَريحينِ مناسبين.
لكنَّ الكارثةَ تَحُلُّ حين تَستيقظُ فجأةً لتجدَ خَمْسَ حالاتٍ تتصارعُ، ويكونَ عليكَ أن تتناومَ أو تَسقطَ مغشيًّا عليكَ من هَوْلِ ما ترى، لتَستيقظَ فجأةً أمام حَشْدٍ من القَتْلَى والجَرْحَى والمُنْهَكين، لتُعاودَ النَّومَ مرغَمًا، وأنتَ لا تَعرفُ كيف تَبْنِي خمسةَ أضرحةٍ في يومٍ واحد.
وهكذا تَستيقظُ فجأةً
مَدينًا للكونِ بخمسةِ أضرحة.
١٧ / ١٢/ ٢٠١٥م 

لا مبالاة

خَيطٌ رفيعٌ وَوَاهٍ
كلُّ ما يَربطُني بالسَّماواتِ،
بالأرضِ، بالبشر.
خَيْطٌ رفيعٌ وَوَاهٍ
مُعلَّقٌ في إصبعٍ رفيعةٍ وواهية.
ليستِ المأساةُ في الخيطِ أو الإصبعِ،
المأساةُ أنْ تُدركَ في المهْدِ
أنَّ الخيطَ رفيعٌ وَوَاهٍ
وأنَّ الإصبعَ رفيعةٌ وواهية.
لذا لا تستغربْ كثيرًا
إذا رأيْتَني لا أُبالي
بالأمورِ التي شغلتِ الفلاسفةَ الحكماء
والسَّاسةَ المشعوذين،
الأمورِ التي شغلتِ الخلفاءَ الأباطرة
والقادةَ الفاتحين.
وبالطبعِ، لا بُدَّ أنَّكَ تتمتَّعُ بقدرٍ من الحصافةِ يجعلُكَ لا تستغربُ كثيرًا إذا رأيْتَني لا أُبالي بالأمورِ التي شغلتِ الشعراءَ الأنبياء.
لا تستغربْ، إذن، إذا رأيْتَني لا أُبالي، فأنا أُدْرِكُ أنَّ كلَّ ما يَربطُني بهذا الكونِ خيطٌ رفيعٌ وَوَاهٍ معلَّقٌ في إصبعٍ رفيعةٍ وواهية.
إذن،
لا تستغربْ أبدًا
إذا رأيْتَني لا أُبَالي أبدًا.
٢٢ / ١٢/ ٢٠١٥م 

تعرية

منذ جِئْتُ إلى العالَمِ المكتظِّ بالعَوْرات
في بداياتِ النِّصفِ الثَّاني من القَرْنِ الماضي،
غَطُّوا جَسدي بخِرقٍ غريبة
ليُخْفُوا عَوْراتِه.
في عالمٍ يَكتظُّ بالعَوْراتِ،
بقيتْ روحي عاريةً ومشاعري،
لم يُفكِّرْ أحدٌ في تَغْطيتِها
ولم أفكِّر.
والآنَ أَتباهى بتَعْريةِ رُوحي
ومَشَاعرِي.
٢٢ / ١٢/ ٢٠١٥م 

سَكِينَة

خَلْفَ الظَّهْرِ جِدارٌ وأمامَ الصَّدْرِ جِدَار،
عنِ اليمينِ جِدَارٌ وعنِ اليسارِ جِدَار،
والقدمانِ راسختانِ في الوَحْل.
في تَناغُمٍ
تَندفعُ الجدرانُ باتِّجاهِ الجسد،
وفي تناغمٍ معها
تَندفعُ السَّماءُ باتِّجاهِ الدِّمَاغ.
لكنَّني أَبقَى في سَكِينَة
ليس استسلامًا
بل سَكِينَة،
نَفَسي منتظمٌ والقلبُ هادئ
مثل قلبِ رَضيعٍ على صدرِ أُمٍّ طَيَّبة
مثل قلبِ صوفيٍّ بين يدَي ربٍّ حنون
أو عبدٍ صالحٍ في بيتِ أبيه الذي في السَّماء
واثقًا من حِراسةِ الملائكة
واثقًا من عِنايةِ الرَّبِّ.
القدمانِ راسختانِ في الوَحْلِ
وأنا راسخٌ في السَّكِينَة
لكنَّ هذا لا يَعني أن الجدران لا تَندفعُ باتِّجاه الجَسد،
لا يَعني أنَّ السَّماءَ لا تَندفعُ باتِّجاه الدِّماغ،
لا يَعني أنَّ الوحلَ لا يَتشبَّثُ بالقدمين.
٢٥ / ١٢ / ٢٠١٥م

حصن

منذُ طفولتِكَ،
تَعرفُ أنَّ الموتَ نَذْلٌ وجبان،
لا يَتورَّعُ عن اختطافِ طفلٍ من على صدرِ أُمِّه،
لا يَتورَّعُ عن اختطافِ أختٍ في الثَّالثة
من جوارِ أخٍ في السَّادسة،
لا يَتورَّعُ عن اختطافِ حبيبٍ بين ذراعَي حبيبةٍ
لا يَتورَّع عن شيء.
منذُ زمنٍ
وأنتَ تَعرفُ أنَّ وجودَ الأُمِّ والأَبِ
ليس حمايةً كافيةً ضدَّ الموت
لكنَّكَ رغمَ المعرفة
كنْتَ تَشعرُ في حياةِ أُمِّكَ وأبيكَ
أنَّكَ في الحصن الحصين
وأنَّ الموتَ لن يقتربَ من بيتك.
تَعرفُ من طفولتِكَ
أنَّ الموتَ ينفُذ بِيُسْرٍ إلى أعتَى الحصون
لكنَّكَ رغمَ المعرفة
تَشعرُ منذ موتِ أُمِّكَ وأبيك
أنَّ سَقْفَ بيتِكَ مُنْهارٌ
أنَّ جدرانَ بيتِكَ مُنهارةٌ
وأنَّكَ عارٍ تمامًا
وأنَّ الموتَ لن يحتاجَ إلى أي جَهْدٍ
إلى أيِّ حيلةٍ
ليَقتحمَ عليكَ بيتَك.
٢٧ / ١٢/ ٢٠١٥م 

رحيل ٢٠١٥

ربَّما تَرحلُ حقًّا
ربَّما تَرحلُ من نتيجةِ الحائط
من الخرِيطة
من شاشةِ التِّليفزيونِ
من الصَّحيفة.
ربَّما تَرحلُ حقًّا
ربَّما تتخفَّى تحت اسمٍ آخر
خوفًا من ملاحقةِ العدالة
ربَّما يُصبحُ اسمُكَ، مثلًا، ٢٠١٦ بدلًا من ٢٠١٥.
ربَّما تَرحلُ حقًّا
كما يَودُّ الحالمون بعالَمٍ أفضل
لكنَّ الهُوَّتَينِ اللَّتينِ حفرْتَهما في الصَّدْرِ
سوف تَبقَيَان هنا إلى الأبد.
ربَّما تَرحلُ حقًّا
ربَّما تَنْسَى
لكنَّ هُوَّتَين عميقتينِ سوف تَبقَيَان في الصَّدْرِ
ولنْ أَنسَى إلى الأبد.
لنْ أَغفرَ لكَ أبدًا
أَنَّكَ حفرْتَ هُوَّةً في الصَّدْرِ
حين حلَّقتْ أُمِّي بعيدًا في شتائِكَ
إلى حيثُ لا أعرف.
لنْ أغفرَ لكَ أبدًا
أنَّكَ حفرْتَ هُوَّةً في الصَّدْرِ
حين حلَّقَ أبي بعيدًا في خريفِكَ
إلى حيثُ حلَّقتْ أُمِّي.
ربَّما تَرحلُ حقًّا
لكنَّ الهُوَّتَينِ سوف تَبقَيَان في الصَّدْرِ
ولن أنسى أبدًا
أنَّه كان هنا ذاتَ يومٍ عامٌ يَحملُ الرقم ٢٠١٥.
٣٠ / ١٢/ ٢٠١٥م 

زهد

من أجلِ حَفْنةٍ منَ الهدوء
دفعْتَ كلَّ شيء
وزهدْتَ في كلِّ شيء.
من أجلها
انعزلْتَ مثل كائنٍ خرافي.
انعزلْتَ وتَبقَى مطارَدًا
تُطاردُك الأحلامُ والأشباحُ
فتعجزَ عن القبضِ على حَفْنةٍ من الهدوء
حَفْنةٍ دفعْتَ منْ أجلِها كلَّ شَيء
وزهدْتَ في كلِّ شيء.
٤ / ١/ ٢٠١٦م 

فراشة

هذه الفَراشةُ،
بهيةً ورقيقةً دائمًا،
تُحلِّقُ برَشَاقةٍ.
هذه الفَراشةُ،
بهيةً ورقيقةً دائمًا،
تَندفعُ في المسارِ الخطأ.
لماذا تَندفعُ دائمًا
الفراشاتُ البهيَّةُ الرقيقة
في المسارِ الخطأ؟
٥ / ١/ ٢٠١٦م 

رغبة

لديه رغبةٌ في الكِتَابة
وليسَ لديه ما يَكتبُ.
رغبةٌ لا تُشبهُ رغبةً في طعامٍ أو شرابٍ
وبَيْتُه خاوٍ مما يُؤكَلُ أو يُشْرَبُ
حيثُ يُمكِنُ أنْ ينَزلَ إلى السُّوقِ
ويعودَ ببطْنٍ منتفخٍ.
رغبةٌ لا تُشبهُ رغبةً في الحُبِّ
وبيتُه خاوٍ منَ الأحبَّةِ
حيثُ يُمكِنُ أنْ يَتَسكَّعَ في الطُّرقَات
أو يَهيمَ على قلبِه في المقاهي والحَانَات
أو يَتَسلَّلَ إلى أقربِ ماخورٍ
حيثُ يَتركُ كينونتَه
ويعودُ ناسيًا كلَّ شيء.
رغبةٌ لا تُشْبِهُ رغبةً في الحُبِّ
وبيتُه خاوٍ منَ الأحبَّةِ
حيثُ يُمكِنُ أنْ يَتَطهَّرَ
ويرتدي ثوبًا أبيض
ويدسَّ بين أصابعِه مسبحةً طويلةً
ويَمْضِي إلى بيتٍ من بيوتِ اللهِ
أو بيتٍ من بيوتِ أوليائِه الصالحين
ويعودَ حالمًا بجنَّةٍ صغيرة
وناسيًا كلَّ شيء.
لكنَّ ما لديه رغبةٌ في الكِتَابة
وليسَ لديه ما يَكْتُبُ،
الأمر معقَّد حقًّا.
٦ / ١/ ٢٠١٦م 

غناء

لمْ يُحلِّقْ منذُ زمنْ،
يَسيرُ بالكَاد
مثل دجاجةٍ منزليَّةٍ
نَسِيتْ أنها طائر.
يَسيرُ مثل بطَّةٍ جاهزةٍ للذَّبْحِ،
مثل مواطنٍ منَ الشَّرق الأوسط.
لكنَّه في عُزْلتِه،
عاجزًا وحزينًا،
لا يكفُّ عنِ الغِنَاء.
٨ / ١/ ٢٠١٦م 

نهاية الرِّحلة

في نِهَايةِ الرِّحْلةِ،
سَقطَ الحِصانُ أمامَ الدَّارِ،
ربَّما ماتَ في مُنتصفِ المسافةِ
لكنَّه واصلَ السَّيْرَ
حتَّى بابِ الدَّارِ.
في الظَّلامِ اسْتلقَى صاحبُ الحِصانِ على السَّريرِ،
وجهًا لوجهٍ مع الموتِ،
كان موتُ الحِصانِ يَسْترخي على السَّريرِ،
ولمْ يكنِ الحِصانُ هناك.
بهدوءٍ
أدارَ صاحبُ الحِصانِ ظهرَه لموتِ الحِصانِ
ليجدَ موتًا آخرَ
يَسترخي على النَّاحيةِ الأخرى،
بودٍّ عانقَ موتَه،
ونامَ بعمقٍ.
١٠ / ١/ ٢٠١٦م 

كابوس ما

لمْ تَعرفِ الكوابيسُ يومًا
روحَ الدُّعَابةِ،
كانتْ رهيبةً باسْتمرار
تُفزِع الأنبياءَ والملوكَ والأبطال،
كانَ يَفرُّ من أمامِها فارسُ الفُرْسان
فيَخْذلُه جوادُه
وتَخْذلُه ساقاه
ليَسْتيقظَ غارقًا في الهَلَع،
اليومَ هاجمني،
في دعابةٍ سخيفةٍ،
كابوسٌ ما.
١٩ / ١/ ٢٠١٦م 

وهذا يكفي

كانَ بحرًا رائعًا وجفَّ،
جفَّ البحرُ وانكشفَ القَاع،
لم تكنْ هناكَ حورياتٌ أو جنِّيَّاتٌ فاتِنات
ولم تكنْ هناكَ لآلئ،
كلُّ ما هناكَ فَضَلاتٌ
وجثثٌ لكائناتٍ غريبةٍ وأحلامٍ مُتحلِّلة.
لكنْ يَبقَى على الشَّاطئِ
حَفنةٌ منَ الأصْدقاءِ والأَحِبَّة
وحَفنةٌ منَ الذِّكْرَيَات،
وهذا يَكفي.
١٣ / ٢/ ٢٠١٦م 

خيوط

كانتْ ضَنينَةً،
لكنْ
كانَ هناكَ حِضْنُ أمٍّ
وظَهْرُ أبٍ.
كانَ هناكَ رُكْنٌ يَأوِي إليه
يَتَأمَّلُ فيه ما تَراكمَ في الرَّأْسِ
وما تَسلَّلَ إلى القَلْب.
كانتْ هناكَ فرجة
يَنفذُ منها وقْتَما يَشاء
وكيفَما يَشاء.
كانَ هناك خيطٌ يربطُه بالحَياة
بالأَحِبَّةِ والأَصْدقَاء،
خيطٌ يربطه بالرَّيَّاح التَّوْفِيقِيِّ
والمَصَارِفِ الزاحفةِ بين حقولِ الأُرْز
خيطٌ يَربطُه بالجُمَّيْزِ،
بدودِ القَزِّ وأشْجارِ التُّوت،
خيطٌ يَربطُه بالحُلْمِ
ورائحةِ الكُتِبِ القَديمة.
والآن
ولم يَعدْ هناكَ أمٌّ
أو أبٌ،
ولم يَعدْ هناك ركنٌ يأوي إليه
أو فرجةٌ يَنفذُ منها.
الآن
وقدْ تَلاشتِ الخِيوطُ
وتَبخَّرتِ الأحلام،
لم يَعُدْ أمامَه إلَّا أنْ يَدُسَّ حَفْنةً منَ الأَوْراقِ
في حقيبتِه الصَّغِيرة
ويَحملَها على كَتِفِه اليُسرَى،
كما اعتاد دائمًا،
ويرحلَ بعيدًا،
ربَّما يَعثرُ في أرضٍ غريبةٍ
على ركنٍ غريب
ركنٍ لا يَمرُّ به أحد.
١٨ / ٢  / ٢٠١٦م

حُلم طائر عجوز

للطَّائرِ الصَّغيرِ أنْ يَحْلمَ
بجناحين قوِّيَين ويُحلِّقَ بعيدًا
له أنْ يَحْلمَ بِعُشٍّ تحتَ أيِّ سَمَاء.
وللطَّائرِ العجوزِ أن يَنْدمَ
أنْ يَأْسَى على ما بدَّدَ من أحلام،
وحينَ يَحلُمُ بجناحين يُحلِّقُ بِهَما بعيدًا
حينَ يَحلُمُ بِعُشٍّ تحتَ سَمَاءٍ بعيدة
يكونُ يائسًا أو مجنونًا.
للطَّائرِ العجوزِ حُلْمٌ وحيد،
أنْ تمرَّ أيَّامُه في هدوء
وسلام.
٢٣ / ٢/ ٢٠١٦م 

تفاصيل لم يذكرها الراوي

كانا،
رَجُلًا وامْرَأةً،
يَسيرانِ صَامِتَيْنِ،
مثلَ زَوجينِ قَدِيمَيْنِ،
عائِدَيْن من رِحْلةٍ بعيدةٍ،
كانَا يَسيرانِ بالكَادِ،
يَزْحَفانِ في شَارِعٍ ضَيِّقٍ،
حَارةٍ أو زُقَاقٍ،
كانتِ الشَّمْسُ غَائِبَةً
أوْ تَكَادُ،
كانتْ على وَشْكِ الغُروبِ،
أو ربَّما ضَجِرتْ من طُولِ النَّهَار.
مَرَّا،
رجلًا وامْرَأةً،
بِعَرَبةٍ بِدائيَّةٍ تَحملُ شَخْصَين،
بَعْدَ بِضْعِ خُطُواتٍ،
وحيدًا نَظَر الرَّجُلُ وراءَه،
رَأَى العَرَبةَ البدائيَّةَ في مَوضِعِها
تَحملُ شخصًا لا اثنينِ،
وبجوارِها رَأى قِطًّا بِوَجْهِ طِفلٍ،
قِطًّا حقيقيًّا يتلوَّى،
يتألَّمُ ألمًا حقيقًّا ولا يبكي،
وبجوارِها رأى جُثَّةً غارقةً في الدِّمَاء
يَقبعُ بجوارِها الشَّخصُ الآخَرُ،
وكانتِ المرأةُ بين الجُثَّةِ والشَّخْصِ الآخَرِ
تَعرضُ المُساعَدةَ عليه أو على الجُثَّةِ،
وربَّما اسْتوقَفَها شيءٌ آخَرُ.
تَقدَّمَ الرَّجُلُ بِضْعَ خُطُواتٍ،
وبِشْكلٍ سينمائيٍّ
تَبدَّلَ المَشْهدُ فجأةً،
شَقَّةٌ مألوفةٌ،
من الدَّاخلِ يَفتحُ البابَ الرَّجُلُ الذي كان برفقةِ المَرْأةِ،
وأمامَ البابِ الشَّخصُ الذي كان يَجلسُ في العَرَبَة،
ويَقبعُ بجوارِ الجُثَّةِ،
يبدو أنَّ الرَّجلَ، الذي كان في الدَّاخل، يَسألُ عن المرأةِ،
يَسألُ ذلك الذي كان أمامَ البَاب،
ويبدو أنَّ ذلك الذي كان أمامَ البابِ لا يَعرفُ،
عادَ إلى الداخلِ الرَّجلُ الذي كانَ مع المرْأة
وكانَ يَسألُ عنها،
فَهِمَ الرَّجلُ أنَّ المرأةَ في الحَمَّامِ
تَغتسلُ من آثارِ الجُثَّةِ
أو من شيءٍ آخر.
بَقيَ أنْ يقولَ الرَّاوي
كانتِ الشَّقَّةُ لأهلِ الرَّجُل
وكانت أمُّه هناك وكان أبوه،
كانتْ أُمُّه عفيةً وكان أبوه عفيًّا،
وكان وجودُهما طبيعيًّا
مع أنَّهما كانا منذ شهورٍ في الرِّحْلةِ الأبديَّة
الرِّحْلةِ التي لم يَعُدْ منها أحد،
لكنَّ وجودَهما كان طبيعيًّا تمامًا.
لا يَعلمُ الرَّجلُ منذ متى عادا
لكنَّه يَعلمُ أنَّهما عادا
وأنَّها عودةٌ أبديةٌ من رِحْلةٍ لا يَعودُ منها أحد.
ويَبقَى أيضًا
أن هناك تفاصيلَ كثيرةً
لم يذكرْها الرَّاوي.
٢٩ / ٣/ ٢٠١٦م 

لعبة

باقْتدارٍ
تَجرُّ شَيخًا إلى لُعبةٍ أُنثويَّةٍ،
وباقتدارٍ يَعرفُ الشَّيخُ
أنَّ الانْخراطَ في لُعبةٍ أُنثويةٍ هَزِيمتان،
لا يَنْجرُّ الشَّيخُ إلى اللُّعْبةِ،
يَتفرَّجُ عليها وكأنَّها في فيلمٍ قديم
ويَعرفُ أنَّها في النِّهايةِ تَهزمُ نفسَها هزيمتَيْن
وأنه ربَّما يكونُ الضَّحيَّة،
ويعرفُ أيضًا
أنَّهما قد يَموتانِ
قبل اكتمالِ اللُّعْبة.
١٢  / ٤/ ٢٠١٦م 

حِصَّتي من الحياة

يَعرفُ أنَّ كَلِماتِه،
كَلِماتِه التي تُعانقُ الكآبة،
قد لا تَروقُ لكم.
ويَعرفُ أنَّها،
رغم تَشبُّثِه بها،
قد لا تَروقُ له.
لكنه يردِّد باستمرار:
«كَلِماتي حِصَّتي منَ الحياة
وزادي في الطَّريق
ولا أَعرفُ كيف أكونُ بدونِها.»
١٢ / ٥/ ٢٠١٦م 

آلة ميتة

– منذُ زمنٍ
وَهْوَ يَغوصُ في الصَّمتِ،
أو يَغرَقُ فيه،
لا أحدَ يَدرِي.
– لكنَّه، سيِّدي، يبدو غارقًا في الموتِ.
– ربَّما تَكونُ مَيْتةً عارِضة.
– سيِّدي، إنِّه على هذه الحالِ منذُ زمن.
– ربَّما تَكونُ مَيْتةً أبديَّة.
– أوه، انظرْ، سيِّدي، إنَّه يَعملُ بِدأَبٍ غريب!
– إنِّه، يا بُني، يَعملُ مثل آلةٍ مَيِّتة.
١٦ / ٦/ ٢٠١٦م 

أمسِ كانَ حزينًا

أَمْسِ دَاهمَه حُزْنٌ
وقد ظنَّ أنَّه استهلكَ كلَّ الأحْزانِ
ولمْ يَعُدْ هناك حُزْن.
أمسِ لم يَفقدْ أحدًا
ولمْ يَهزمْه شيء
لكنَّه كانَ حزينًا.
أمسِ لم يكنْ هناكَ ما يَفقدُه
ولم يكنْ هناكَ ما يَهزمُه
لكنَّه كانَ حَزينًا.
٤ / ٧ / ٢٠١٦م

خِفَّة

تَرَاه خفيفًا،
وأَبُوحُ لكَ بالسِّر:
هذا الشَّيخُ خَلَّف وراءه السنواتِ والديارَ
والذكريات.
إنِّه أخفُّ مما تَظنُّ
تُغريه خِفَّتُه بالصُّعود
دونَ انتظارِ العَوْنِ من أحد
بِخِفَّتِه يُحلِّقُ تِلقائيًّا إلى السَّماء
ولنْ ينتظر طويلًا.
يُقالُ إنَّ للسَّماءِ أبوابًا كثيرةً
لكنَّه لنْ يَحتار
ولنْ يفكر،
يَفتحُ أوَّلَ بابٍ يُصادفُه
يُلقِي السَّلامَ على أهلِ السَّماء
ويَدخلُ مثل طائرٍ بَرِّي.
٦ / ١١/ ٢٠١٦م 

قِفوا نَبكِ

قِفُوا نَبْكِ،
قِفي، قِفْ، قِفَا، قِفْنَ، قِفُوا،
قِفُوا نَبْكِ
لتَقفِ النُّجومُ والأَقْمار
لتَقفِ الكواكب
ليَكُف كلُّ شيءٍ عنِ الدَّوَران
لتَقفِ المياهُ في المحيطاتِ البحارِ والأنْهار
ليَقفِ الهواء
ليَقفِ البَشرُ الطيِّبون
لتَقفِ الطِّيورُ الدَّاجنةُ والكَاسِرة
لتَقفِ الحيواناتُ الأليفةُ والمُتَوَحِّشة
في البرِّ والبحرِ والجو
لتَقفِ الحياة.
قِفُوا نَبْكِ
ذِكْرى الحبيبَين،
قِفُوا في شِمُوخ
ولا تَنْسَوا قبل أنْ نَنَصرف
قبلَ أنْ نُكفْكفَ الدَّمْعَ
لا تَنْسَوا أنْ نَنْحني في خِشوع
ونقول:
السَّلامُ عليكما يومَ وُلِدْتُما
السَّلامُ عليكما أيْنما عِشْتُما
السَّلامُ عليكما حيثُما تَسكُنان
السَّلامُ عليكما.
١٩ / ٢/ ٢٠١٧م 

وطن

حينَ لا يَكونُ لكَ وَطَن،
أو حينَ يَكونُ الوطنُ وَهْمًا،
في الطُّفولةِ والصِّبا
تَتَّخِذُ من أُمِّكَ وطنًا
ومن أَبيك،
وتَسْتقر.
وفي الشَّباب
تَتَّخذُ من شَبَابِكَ وأحْبابِكَ وطنًا،
تَضعُه على الخريطةِ حيثُما تَشاء،
وتَسْتقرُّ.
وفي الشَّيْخوخةِ،
وقدْ رَحَلتْ أُمُّكَ،
ورَحلَ أبوكَ،
ورحلَ الشَّبابُ والأحْبابُ،
لا يَكونُ أمامَكَ إلَّا الوهمُ تَسكنُه
ولا تَسْتقرُّ.
١٤ / ٦/ ٢٠١٧م 

ممالك

منذُ صِبَاي
وأنا أَزْدحمُ بمَمَالِكَ
تَفْتنُني وتَتَلاعبُ بي،
والآنَ في هذه الشَّيْخوخَة
أَبْتكرُ ممالكَ
أظنُّ أحيانًا أنَّها تَفْتنُني وتتلاعبُ بي
وأظنُّ العكسَ أحيانًا،
لكنَّني في النِّهايةِ
كُلَّما ابتكرْتُ مملكةً
أراها موصومةً بالنُّقْصان
حتَّى لو رآها أحِبائي الطيبونَ
مملكةً جميلةً.
لكنَّ الممالكَ التي لا أبتكرُها
تلكَ التي أؤجِّلُ ابتكارَها إلى الغدِ
وفي الغدِ أؤجِّلُ ابتكارَها إلى غدٍ آخرَ
حتَّى أنساها في غدٍ ما
أظنُّ أنَّها تُتوِّجُ الكَمال
في العالمِ الآخر.
١١ / ١/ ٢٠١٨م 

رُبَّما

– يَقفُ بعيدًا ووحيدًا.
– رُبَّما لم يَفهمِ اللُّعْبةَ.
– وربَّما فَهمَ اللُّعْبةَ جيدًا
وقرَّرَ أنْ يَبْتعد.
– لا يُهِمُّ،
إنَّه على أيِّ حالٍ
عجوزٌ يَقفُ بعيدًا ووحيدًا
وحينَ يَهزمُه التَّعب
ينامُ حيثُ يقف
بعيدًا ووحيدًا.
٨ / ٢/ ٢٠١٨م 

حفنتان

في حقيبةٍ سَوْداء
حَفْنتانِ من الذِّكْريات،
على طَاولةٍ في الحانةِ يَسكبُ الحَفْنَتَين
ويُحدِّق:
حَفْنةٌ مَيِّتةٌ منذُ زمنْ،
يَلفُّها في كَفنٍ يَليقُ بها
ويُشيِّعُها إلى مَثْواها،
حَفْنةٌ مُهْترئةٌ،
يُرتِّقُها بمهارةٍ ويَتركُها على الطَّاولة
ويُغادِرُ خَفيفًا.
٩ / ٢/ ٢٠١٨م 

واصطفاك

«رسالة»
القاهرة،
السَّادسةُ صباحَ السَّبْتِ، اليومِ الثَّالثِ منِ الشَّهْر الثَّالثِ منَ العامِ الثَّامن عَشْر بعد الألفينِ من ميلادِ المسيحِ ابنِ مَريمَ، مسيحِ «سلامٌ عليكَ يومَ ولدْتَ ويومَ تَموتُ ويومَ تُبعَثُ حيًّا».
السَّلامُ عليكِ أيْنما كُنْتِ
وأيْنما حَللْتِ،
السَّلامُ عليكِ يومَ ولدْتِ
ويومَ رَحلْتِ
ويومَ تُبعَثِين.
تَعْرفِين،
كلُّ ما لهُ بدايةٌ لا بُدَّ لهُ منْ نِهايةٍ،
كلُّ ما له مَنْبعٌ لا بُدَّ له منْ مَصبٍّ.
تَعْرفِين،
بَدأْتِ رحلتَكِ الأخيرةَ منذُ ثلاثةِ أعوامٍ، في السَّادسةِ صباحَ الثلاثاءِ، اليومِ الثَّالثِ من الشَّهرِ الثَّالث من العامِ الخامسَ عشرَ بعد الألفينِ من ميلادِ ابنِ مريمَ، مريمَ «إن اللهَ … اصطفاكِ على نساءِ العالمَينَ»، وتَعرفينَ أنَّ الرحلةَ لا تَسْتغرِقُ أكثرَ من أُسْبوعينِ، فلماذا إذنْ تَمتدُّ هذه المرةَ على غيرِ المألوفْ؟
السَّلامُ عليكِ
أُطَمْئِنُكِ
نحنُ بخيرٍ،
بخيرِكِ في العروقِ والجِيناتِ،
بخيرِكِ في الخَلايا،
أُطَمْئِنُكِ
خيرُكِ مُتَّصلٌ،
لحفيدتَيْكِ، الآنَ، طِفْلتانِ رَائعتان.
السَّلامُ عليكِ
تَعرفينَ،
قرَّرَ أبي اللحاقَ بكِ يومَ رحلْتِ، لكنَّه، رغمَ كلِّ شيءٍ، كان يَنتظرُ عودتَكِ، ورُبَّما لم تفارقيه قَط، لم يَكفَّ عنِ الحديثِ عنكِ، وذاتَ يومٍ أخذَ يُسهِبُ في شَقاوةِ الصِّبا، وتوهَّمْنا أنَّنا أخذناه بعيدًا عنْ شُجونِه، لكنَّه، في الخلاصة، كان يَحكِي عنْكِ، عن بدء الحياةِ مَعكِ.
تَعرفِينَ،
بعد أنْ رحلْتِ بثمانيةِ أشهرٍ وعشرةِ أيَّامٍ كنْتِ أمامَه، تَجلسينَ كالمعتادِ، وفجأةً لم تَعودي أمامَه، فسألَ أين ذهبْتِ، وحين أخبرْناه بأنَّكِ ذهبْتِ بعيدًا منذُ زمنٍ بعيدٍ، حين أخبرْناه بأنَّ النَّهرَ وصل إلى المصبِّ، لم يُصدِّقْ، وألحَّ في طلبِ الاتِّصالِ بكِ، وحين رأى أنَّنا تباطأْنا، وربَّما قرأَ في التباطؤِ شيئًا لا نَعرفُه، قرَّر اللحاقَ بكِ على الفورِ، ودخلَ في غيبوبةٍ استعدادًا للرِّحلةِ الأخيرةِ، وبدأ رحلتَه بعد أسبوعٍ، في السَّادسةِ صباحَ الجمعةِ، العشرين من الشَّهرِ الحادي عشر من العامِ الخامسَ عشرَ بعد الألفين من ميلادِ المسيحِ، مسيحِ «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلكِن شُبِّهَ لَهُمْ».
تَعرفينَ،
أنَّكُما نهرانِ اجتمعا في نهرٍ واحد،
نهرٍ ظلَّ يتدفَّقُ عقودًا وعقودًا،
وتَعرفينَ أيضًا
أنَّ كلَّ ما له منبعٌ لا بُدَّ له من مصبٍّ،
أو كما قُلْتِ: «كل اللي ليه بداية ليه نهاية»،
وقدْ بَلغَ النَّهرُ المصبَّ.
تَعرفينَ،
أننَّي على يقينٍ من أنَّكُما ستَنبعانِ من جديدٍ،
هذه المرةَ من نبعٍ واحدٍ،
وتَتدفَّقانِ في نَهرٍ واحدٍ منَ البِداية،
ستَنْبعانِ من العيونِ،
وهذه المرةَ لن تَصبَّا في البحرِ الكبير،
هذه المرةَ تَصبَّان في القلوب.
تَعرفينَ،
لسْتُما بطلَيْ أسطورةٍ،
ببساطةٍ لأنَّكُما وَاقعِي الوَحيد،
لأنَّكما تَاريخي الوَحيد،
لأنَّكما المنبعُ والنَّهرُ والمصب.
السَّلامُ عليكُما
أيْنما كنْتُما وأيْنما حللْتُما
السَّلامُ عليكُما
يومَ ولدْتُما ويومَ رحلْتُما ويومَ تُبعَثان.
٣ / ٣/ ٢٠١٨م 

راعيان

١

راعٍ يَتمدَّدُ في اسْترخَاء،
عنْ يَمينِه عصًا ساقَ بها الرِّيَاح،
وعنْ يَسارِه كَلْبٌ آنسَ وِحْدتَه،
وعلى صدرِه نايٌ روَّضَ الوحوش.
راعٍ يَتَمدُّدُ في اسْترخَاء،
يَتمدَّدُ غيرَ بعيدٍ عنِ الأرْضِ
وغيرَ بعيدٍ عنِ السَّماء.
راعٍ يَتأمَّلُ الأرْضَ
عاريةً إلَّا من الرَّمادِ والظَّمأ
ورُقْعةٍ نائيةٍ يَتَأرْجحُ عليها ما يُشْبِهُ المَاء
ويَتَمدَّدُ عليها ما يُشْبِهُ الظِّلال.
راعٍ يتأمَّل السماء
يراها عاريةً إلا من سحابة مغبرة
ونجمة ترتجف في الليل
وتختفي في النهار.
إنَّه راعٍ مُحنَّكٌ
لا يَخطو باتِّجَاه السَّرابِ،
ولا باتِّجَاه السَّماء،
يظلُّ يتَمدَّدُ في موضعِه
غيرَ بعيدٍ عنِ الأَرْض والسَّماء.
١٦ / ٣/ ٢٠١٧م 

٢

بَحْثًا عن مَرْعًى لعَنْزتَيْنِ
ضلَّ الرَّاعي،
وبعدَ أنْ أنْهكتْه البَوَادِي،
رَأَى نهرًا،
هَشَّ وسَارَ مع النَّهْرِ،
دَخلَ النَّهْرُ المَدِينةَ،
ومعَ النَّهْرِ دَخلَ الرَّاعي.
في مَدْخلِ المَدِينةِ
التصقتْ عَنْزتا الرَّاعي في جِدارٍ
وصَارتَا تِمْثالينِ منَ الملْحِ،
وأمامَ الكَائناتِ الغَرِيبةِ
تَلَعْثمَ الكَلْبُ قبلَ أنْ يَتَلاشَى.
في المَدِينةِ
لم يَبْقَ إلَّا النَّأي،
جَرَّبَ الرَّاعي حظَّه معَ النَّاي
وحينَ لم يَخرجْ منه صوتٌ
تَجمَّدَ الرَّاعي.
١٩ / ٣/ ٢٠١٨م 

نهرٌ عجوز

يفكِّر في تغييرِ مجراه
إنَّهُ نهرٌ عجوز
يَنبعُ من السُّحُبِ البعيدة
ويَتدفَّقُ بين الأحراشِ والغاباتِ
ليبدو مُسْتنقعًا وحشيًّا،
وحينَ يتحوَّلُ إلى نَهرٍ حقيقيٍّ
يَتدفَّقُ بين الصحاري
ويصبُّ في بَحرِ الظُّلُمات.
يَزعمُ الكَهَنةُ أنَّه غيَّر مجراه في سَنواتِ الصِّبَا
لكنَّه لا يتذكَّرُ شيئًا من مزاعمِ الكهنة،
إنَّه نَهرٌ عجوزٌ
يُفكِّرُ في تَغْيِيرِ مَجْرَاه.
هَكذا تَراه
شاحبًا ووحيدًا
قد تَظُنُّه فَيلسوفًا
تُعذِّبه مُشكلاتٌ كَوْنيَّةٌ
لكنَّه ليس إلا نَهْرًا عَجوزًا
يُفكِّرُ في تَغْيِيرِ مَجْرَاه.
٢٤ / ٣/ ٢٠١٨م 

وِدٌّ يُشبهُ الودَّ في دارٍ للمُسنِّين

ذاتَ يومٍ،
كانتْ تَزهو بالثِّمارِ والأوراقِ
وأعْشاشِ الطِّيُورِ،
كانتْ فَتيَّةً،
تَدفعُ بالجذورِ إلى الأعْماق،
وبالغُصُونِ إلى السَّماء،
في النَّهارِ تَزهو بجمالِها،
وفي اللَّيْلِ تَسترُ العاشقين.
ذاتَ يَومٍ،
شاختْ وتبدَّلَتِ الأحْوالُ
لكنَّها ظلَّتْ تَحملُ في القَلْبِ طُيورًا فَتيَّةً.
وذاتَ يَومٍ آخرَ
زهدتْ في قَلبِها الطُّيُورُ الفَتيَّةُ،
واتَّخذتْ أعشاشًا على أشجارٍ غريبةٍ،
وذاتَ يومٍ آخرَ شاختِ الطُّيُورُ الفَتيَّةُ
ولم تَعدْ تَطيرُ أو تُغنِّي،
لفظتْها الأشجارُ الغريبةُ
ودفعَها الحنينُ إلى أغصانِ ماضيها.
وذاتَ يَومٍ آخرَ
أقيمَ مهرجانٌ للحنين،
اسْتقبلَتِ العجوزُ الطُّيورَ بودٍّ،
يُشبِهُ الودَّ في دَارٍ للمسنين
وعانقتْها الطيور بودٍّ
يُشبِهُ الودَّ في دارٍ للمسنين،
ودٍّ يَخلقُ حالةً رومانسيةً فريدة.
٢٥ / ٣/ ٢٠١٨م 

ماضٍ بعيد

قد تَسْتيقظُ فَجأةً
لتَجدَ ماضيكَ البعيد
يُحلِّقُ في الأُفُق
يُطِلُّ من حيثُ لا تَدرِي
فتَنْتعشَ أو تَخْتَنق
وأنتَ تَسْتنشقُ ماضيَكَ البعيد
تَهتزُّ،
تَرْتجفُ أعضاؤكَ
وكأنَّ ما يُحلِّقُ في الأفق
زِلْزالٌ
وليس ماضيكَ البعيد.
٣ / ٦/ ٢٠١٨م 

بَوْحٌ

أمسِ
فيما يُشبهُ الحُلْمَ
اخْتلَى الرَّبُّ بِرُوحي
وكانتْ لا تَزالُ خَفيفَةً.
أمسِ لم يكنْ قدْ خلقَني الرَّبُّ
لكنَّه اخْتلَى بِرُوحي
وكانَا وحيدَينِ تمامًا.
أمسِ طَرَحَ الرَّبُّ على رُوحي أسْئلةً
عنِ البِلادِ والأحِبَّةِ والجَسد
ولم يكنْ لي جسدٌ بَعْدُ
فارْتبكتْ رُوحي.
أمسِ
باحَتِ الرُّوحُ للرَّبِّ،
واسْتمعَ الرَّبُّ للرُّوحِ.
واليومَ
فيما يُشبهُ كَابوسًا
كانتِ الرُّوحُ عالقةً في الفِراغِ
والجَسدُ ثَقيلًا على السرير.
١١ / ٧/ ٢٠١٨م 

حياتي الوحيدة

ربما كُنْتِ ما كُنْتِ
لكنَّكِ كُنْتِ حَيَاتي
كانَ فيكِ أُمٌّ وأَبٌ
كانَ فيكِ أصدقاء وأَحِبَّة
وكُنْتِ حياتي.
رُبَّما كُنْتِ رَثَّةً وعجوزًا
رُبَّما كُنْتِ حَمقاءَ
حتَّى وأنتِ تتشدَّقِين بالحِكْمةِ
لكنَّكِ كُنْتِ حياتي.
كُنْتِ حياتي لسنواتٍ
وأنا لا أتبرَّأُ من يومٍ منكِ.
كُنْتِ حياتي،
مهما كانتْ قسوتُكِ
لمْ أتطلَّعْ إلى غيركِ
لم أخنْكِ ولم أعرفْ غيركِ؛
ببساطةٍ
كنتِ حَياتي الوحيدة.
١ / ٨/ ٢٠١٨م 

المُشيِّعون

كلَّ يومٍ
إلى أطْرافِ المَدينةِ
يَمضِي المُشيِّعونَ بالموتى.
كلَّ يومٍ يَزدادُ الموتى
ويَقِلُّ المُشيِّعون.
يُفكِّرُ:
يَنبغي أنْ أمُوت
قبلَ أنْ يَنقرضَ المُشيِّعون.
يُفكِّرُ:
– ما فائدةُ المُشيِّعين؟
- يَمضونَ بالموتَى إلى أطرافِ المَدِينة.
- لماذا؟
- كي لا تفوحَ رَائحةُ المدينة.
يُفكِّرُ:
يَمضِي المُشيِّعون بالموتى
إلى أطرافِ المدينة؛
لأنَّهم يَخشَون الموتَى.
يُفكِّرُ:
يَنبغِي أنْ أَموت
قبلَ أنْ ينقرضَ المُشيِّعون.
يُفكِّرُ:
ما فائدةُ المُشيِّعين؟
حينَ أموتُ
لنْ يَفسدَ الهواءُ في المَدينة
ولنْ يَخشاني أحدْ.
حينَ أموتُ
لنْ يكونَ في المدينةِ هواء
ولنْ يكونَ فيها أحد
ولنْ تكونَ هناكَ مَدِينَة.
٣١ / ٨/ ٢٠١٨م 

ولن يشعرَ بي أحد

بِهِدوءٍ
وصَرْخةِ احْتجاجٍ
جِئْتُ،
وبهدوءٍ
قَادني الطَّريقُ حتى مُنتصفِ السُّلَّم
لم أرقصْ ولم أغنِّ،
لو رقصْتُ أو غنيْتُ
لالتفَّ حولي
الصاعدُ والهَابط.
في العَتَمةِ عشْتُ
ولمْ يَشعرْ بي أحدْ.
داسَ عليَّ الصَّاعدُ والهابط
ولمْ يشعرْ بي أحدْ.
بهدوءٍ
أنْصرفُ
ولن يَشعرَ بي أحدْ.
١٢ / ٩/ ٢٠١٨م 

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤