هذه المسرحية

بقلم  أنيس منصور

بعض الخبثاء يقول: إن المرأة كالقمر، لها وجه آخر لم يرَه أحد بعد.

والحقيقة أن المرأة لها وجوه عديدة. والذين رأوا وجوه حواء من العلماء والفنانين عددهم قليل جدًّا، ولم تكن رؤيتهم واضحة. أمَّا الذين رأَوها بوضوح فهم كثيرون جدًّا وكان ذلك على فراش الموت. ومع الأسف لم يتمكَّنوا من النُّطق بشيء، ومَضَوا في سلام.

وكان تولستوي يقول إن الرجل لا يستطيع أن يقول رأيه في زوجته إلا بعد أن يتأكَّد أنهم أغلقوا عليه باب القبر بإحكام تام.

وكان شوبنهور يقول: كلما سَمِعْتُ رجلًا يتحدَّث عن امرأة بصراحة تامَّة، أعرف أنها ماتت أو أنه يريد أن يقتلها.

ولكن الفنانين الكبار استطاعوا أن يقولوا كلمتهم وهم أحياء. وبعد موتهم بَقِيَت هذه الكلمات. بقِيت هذه الوجوه العديدة التي رأوها لحواء تُطِلُّ علينا، وتضيء لنا، لا كالقمر الذي له وجه واحد ثابت، ولكن كالنجوم التي تتلألأ؛ أي تُطِلُّ علينا بألوف الوجوه.

وأشهر هذه الوجوه جميعًا وأروَعُها ثلاثة:

وجه الزوجة التي تدخل الحياة الزوجية ومعها «أثاث» لم يرَه الزوج. هذا الأثاث صنَعَتْه من أحلامها ومن أوهامها، من شبابها اللامع، وانتظرت زوجها. انتظرت فتى أحلامها، فجاء الفتى وفوجئت بأنَّه لا أحلام هناك، بل ولا فتى، أو أنَّ الفتى جاء، ثم اشترط أن تَصحُوَ هي من أحلامها. إنه لم يترفق بها وهي تحلم. إنه هزَّها بِعُنف. اقتلع النوم من عينيها، ثم اقتلع عينيها حتى لا ترى شيئًا، حتَّى تسمعه هو، ولا تراه ولا ترى نفسها، وتظلُّ كحواء قبل أن تَأْكل من شجرة المعرفة، وقبل أن تَعرِف أنها عارية وأن آدم عريان، وقبل أن تمُدَّ يدها إلى ورقة التوت تغطِّي نفسها. إن هذه المرأة انتظرت فتى أحلامها، انتظرت الذي يملك خاتم سليمان، ومصباح علاء الدين، وبساط الريح ويقول لكلِّ شيء كن فيكون. وجاء الرجل وفتح عينيه، ولكنه لم يرَها، وفتح أُذنَيه، ولكنَّه لم يسمعها، ونشر ذِراعيه، واحتضن شيئًا آخر. وفوجئت الزوجة بأن زوجها يعلِّق صورة لقطار السكة الحديدية على الحائط، ماذا يريد؟! إن القطار هو مثله الأعلى. إنَّه يريد من زوجته أن تمشي كالقطار، تمشي على شريط في مواعيد محدَّدة، لا تتعب، لا تمرض، لا تخطئ. واكتشفت الزوجة أن زوجها يريدها أن تكون كالكرسي، كالنَّضد. إنَّها شيء يُلقيه على الأرض ثم يَجِدُه في اليوم التالي، في نفس المكان، ولم يزد عليه إلا بعض التراب. وطبعًا تكون مفاجأة كُبرى للزوج عندما يَجد الكرسي تحرَّك، وله رجلان لا أربع، وله شعورٌ، وله رأيٌ، وله مَوقِف، وفي لسانه كلام، وفي كلامه قرار. وتمتَدُّ يدُ الكرسي الناطق وتُعلِّق صورة لحمارٍ على الحائط أو أيِّ حيوان آخر. ماذا تريد الزوجة؟! إنها تريد أن تُعلن رأيها في زوجها بصراحة، وترى الزوجة أن زوجها قد زوَّر في عقد الزواج، فالعَقد قد نصَّ على أنها تزوَّجت إنسانًا لا حيوانًا؛ ولذلك يجب أن تخرج من البيت؛ لأن هذا الزوج قد حوَّل زوجته من إنسانٍ إلى حيوان إلى جماد. وهذه الزوجة لا تريد أن تتخلَّص من «آدم» إلى الأبد؛ إنها تريد أن تتخلَّص من هذا «الآدم» فقط؛ لأن حواء لآدم إلى الأبد، وزوجها يُريد منها أن تكون له إلى الأبد، وبأيِّ شرط.

هذه المشكلة الحقيقية التي صوَّرها كاتب النرويج العظيم «هنريك إبسن» في مسرحيته الخالدة «بيت الدمية». ففي نهاية المسرحية نرى الزوجة «نورا» تخرج بملابسها، تخرج بأثاثها الذي دخلت به، بأثاثها الورديِّ الذي صنعَته بنفسها، وبقلبها وبحرمانها، ثم تقفل الباب في وجه زوجها، وفي وجه جمهور المتفرجين، وفي وجه كلِّ أبناء القرن التاسع عشر. وكان صوت الباب صَفعةً على وجه الزوج، وكلِّ زوج، أو كأنَّه الدَّقَّات التقليدية التي تُعلن بداية القرن العشرين، بداية المساواة والحريَّة الفردية للرجل والمرأة.

و«نورا» هذه صاحبة مبدأ، صاحبة فلسفة. أمَّا الوجه الثاني فهو وجه الزوجة التي أحبت، ولكن ليس المحبوب هو الذي يَشغلُها وإنَّما الحبُّ نفسه، فهي تحب الحب؛ لأن الحياة جوهرها الحبُّ. وهي تريد أن تعيش. والحبُّ لذيذ مُمتع، كأيِّ «فيلم»، كأيَّة حفلة، والحبُّ حفلة ترقص فيها وتغَنِّي وتشرب. وفي نهاية هذه الحفلة تُعانِق صاحِبَ الدَّعوة أو أصحاب الدعوة، وترجو منهم أن يُكَرِّرُوا هذه الحفلات. والزواج عِندها معناه أنها أحبَّت رجلًا بكامل حُرِّيَّتها. أليس معنى الزواج أن «يصادر» الزوج قلبها أو عقلها أو تصبح حياتها موقوفة عليه هو؟ والزواج معناه أنها أعطت أعزَّ ما تملك لأعزِّ من تُحبُّ. وأعز ما تملِكه المرأة هو جسمها؛ فهو مَمْلَكَتُها.

وعندما يسألها الزوج: أريد أن أعرف من أنت؟

تقول له: أنا عمري، أنا شبابي، أنا عشرون ربيعًا، أنا شبابي، هذا هو أنا، وكلُّ فتاة مِثلي هي كذلك.

هذه الزوجة تُريد من زوجِها أن يقوم بِدَور شهرزاد في «ألف ليلة وليلة»؛ كل ليلة ليلة جديدة، وقصة جديدة، ومغامرة جديدة. فإذا انتهت الحكايات اتَّجَهت الزوجة إلى مُؤلِّف آخر؛ فالحبُّ في قلبها طِفل صغير تُهدهِده الحكايات فينام. وعندما اتَّجهت الزوجة إلى مؤلف آخر، إلى صاحب حكايات أخرى كان أخَا زوجها. لقد تَعِبَت الزوجة من حكايات الأخ الأكبر، فاتَّجهت إلى الأخ الأصغر، ثمَّ تَعِبت من الأصغر فخرجت من البيت خروج الغُزَاة الفاتحين وتحت قدميها دِمَاء زَوجِها وأخيه.

هذا الوجه أبدعه كاتب فرنسا «أرمان سالكرو» في مسرحية «امرأة حرَّة». هذه المرأة الحرَّة اسمها «لوسي»، ولم تكن لوسي صاحبة مبدأ أو فلسفة، وإنما هي تريد أن تعيش، أن تعيش حياتها هي، حياة غير مشروطة بأي شرط، ولا يهمُّها ماذا يقول عنها المُؤرِّخون أو نقَّاد الأدب. إنها تمرُّ بالتجربة، وعليهم هم أن يختاروا لتجاربها الأسماء.

والوجه الثالث نَجِده في هذه المسرحية، مسرحية «زوجة كريج». والمسرَحيَّة تَمضي حوادثها في بضع ساعات، ولكننا نشعر في أول الأمر أنها طويلة. ويبدو أن المؤلف تعَمَّد الإطالة حتى يرسُم لنا ملامح شخصياتها بوضوح، وبعد ذلك يترك لهم المسرح. وعلينا نحن أن نتَتَبَّع ما يجري في هذا المنزل، ولا أقول «البيت»؛ فهناك فارق كبير بين الاثنين. وهذه المسرحية توضِّح لنا الفارِق الكبير جدًّا؛ فالزوج يريد أن يكون منزله بيتًا، والزوجة تريد أن تُحِيل البيت إلى منزل. هو يريد أن يُضِيف إلى المنزل الدِّفء والأمان وبذلك يُصبِح بيتًا، والزوجة تُريد أن تُجرِّد البيت من هذا الدِّفءِ ومن النَّاس فيصبح منزلًا مليئًا بالأثاث. ومن ضِمن قِطَع الأثاث: زوجها!

وزوجة كريج لها رأي في الزواج، ولها رأي في الزوج. من رَأْيِها أن الزوج «مُمَوِّل» لمشروع. أمَّا هذا المشروع فهو بيتُها، وبيتها هوَ حياتها مع زوجها، وبعد زوجها، أي بعد وفاة الزوج؛ فهذه مسألة هامة جدًّا. وقد عاشت زوجة كريج تجربة رهيبة قبل ذلك. رأت أمَّها وكيف أحبت أباها، وكيف أن أباها كان يبيع أُمَّهَا وما تَملِك من أجل نساء أخريات. ومن رَأْيِ زوجة كريج أن الزواج صفقَةٌ تِجارية بين البائع والمشتري. هي أعطت حُرِّيَّتها لزوجها، وزوجها أعطاها مَاله والطمأنينة والاستقرار. كلاهما كسبان، وكلاهما خسران. وإذا كان الزَّوج يتعَبُ في عمله، فهي أيضًا تتعَبُ في البيت. والزوجة ترى أن البيت مكانها الطبيعي، وأن زوجها ليس هو كل شيء، وأنها عندما تَحرِص على زوجها، هي في الواقع تَحرص على نفسِها، على سلامَتِها، على استقرارها، أو بعبارة أدق: إنها تحرص على الرجل الذي يَحرُس لها بيتَها وأثاث بيتها. ولكَي تضمَن هذا الاستقرار وهذا الأثاث، عاشت في عزلة، اعتزلت الناس، وشجَّعَت الناس على أن يَبْقَوا بعيدِين عن زوجها وعن بيتها، ثمَّ أخرجت أصدقاء الزوج واحدًا واحدًا. أرادت أن تُبعِدَ الناس عنها، فأبعدُوها عنهم.

وكانت النتيجة أن تركت البيت عمَّة زوجها؛ لأن من الصعب أن تعيش في بيتٍ تهتمُّ فيه امرأتان برجل واحد — أي هي وزوجة كريج — وابنة أختها تركت البيت، وخادمتان الواحدة بعدَ الأخرى، ثمَّ جاء دور الزوج فترك البيت. وبقيت زوجة كريج وحدها مع أثاثها، ولا ينقصها إلا المُمَوِّل!

ولزوجة كريج عبارة تُلَخِّصُ فلسفتها في الحياة والزواج: إن حبَّ الرجل لا يُفيد كثيرًا في تدبير العيش، وتقول: إنَّني حرَصْت على أن يكون زواجي سبيلًا إلى تحرري.

وكلُّ خلاف بينها وبين زوجها كان يُشبه البرق الذي يكشِفُ كل شيء في لحظة واحدة، يكشِف الفارق بين الرجل وزوجته، بين المرأة التي يَحرص عليها وبين المرأة التي تَحرِص على البيت؛ ولذلك تحرص على حامي حمى البيت.

ويكفي أن يدور هذا الحوار بين الرجل وزوجته لتعرف أي خلافٍ بينهما.

هي : سترى أوراق الأزهار متناثرة في أرجاء المكان … هذا فظيع.
هو : بل سيكون ذلك أروع.
هي : لا أعتقد أن هذا رأيك لو كانَ عليك كَنسُ هذه الأوراق.
هو : ولماذا أكنُسها؟ إنني أحبها هكذا، ولا شيء أجمل من أوراق الأزهار مُبعثَرَة على حشائش البستان.

وفي نهاية هذه المسرحيَّة تتساقط أوراق الأزهار على الأرض، عندما يتساقط ستار المسرح. ولا يعيب هذه الأزهار وهي تَسقُط إلا عَينَا امرأةٍ تنظران إليها باستنكارٍ نظرةَ مَنْ يُريد أن يكنسها، لا أن ينظر إليها بارتياح. إنها ليست نظرة الفنانة، وإنما هي نظرة «أمينة المُتحف»، أو نظرة «صاحبة البيت»، لا «ست البيت»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤