تمهيد
كانت آخر مرحلة وصلنا إليها في مطافنا في تاريخ أرض الكنانة وحضارتها في الجزء السالف هي عصر «أمنحتب الثاني»، الذي يُعدُّ في نظر المؤرِّخين بحقٍّ آخِرَ أبطال فراعنة مصر الذين امتَشَقوا الحسام، ودوَّخوا الأمم المجاورة التي خرجتْ على الحكم المصري في النصف الأول من الأسرة الثامنة عشرة. من أجْل ذلك كانتْ مدة حُكمِه خاتمة عهد الحروب الطاحنة، التي بدأها «أحمس الأول» في آسيا وفاتحة عصر جديد في تاريخ مصر والشرق معًا. ولا نزاع في أن عهد خَلَفِه «تحتمس الرابع» كان باكورة مرحلة جديدة في حياة الشعب المصري وحضارته التي امتازت بطابع جديد لم يُعهَد من قبلُ في تاريخ الأمة المصرية منذ فَجْر تاريخِها. فقد أغمد فراعنتُها السيوفَ في قِرابِها، وسُرِّحت الجيوش إلى أوطانها، وبدءوا يَجنُون ثِمارَ تلك الانتصارات الساحقة والفتوح الشاسعة التي أحرزها آباؤهم الفاتحون، وعلى رأسهم «تحتمس الثالث» المؤسِّس الأعظم للإمبراطورية المصرية، أوَّل إمبراطورية في العالم.
فقد جعل هيبة مصر والفزع منها يَدِبُّ في قلوب ممالك الشرق القديم قاصيها ودانيها. وما لبثتْ بعد ذلك أن أخذتْ تلك الممالك المجاورة تَدِين للكنانة بالطاعة وتَحمِل إليها الهدايا تارة، والجِزْية تارة أخرى، كما أخذ جنود الحاميات المصرية الذين رابطوا في أمهات المدن والمعاقل في بلاد سوريا وفلسطين شمالًا، وبلاد النوبة و«كوش» جنوبًا يجلبون إلى بلادهم من خيرات تلك البلاد ما وصلتْ إليه أيديهم، وما قدَّره لهم سلطانهم وبطْشُهم. والواقع أنهم عرفوا بحبوحة الثراء الذي كان يفيض عليهم من هذه الأصقاع، ودبَّ في نفوسهم وأرواحهم الرخاوة التي تُسبِّبها الثروة الوفيرة، والأرزاق الكثيرة، والبطالة المضلِّلة، والفراغ المغري، حتى فسدت أخلاقُهم وذهبت عنهم ريحُ البطولة الحربية وحب الفتح والمغامرة. وقد ضرب لهم المثل الأعلى في ذلك ملوكُهم الذين يعيشون على مجْد أسلافهم العظام. غير أن هؤلاء الفراعنة مع ذلك لم تُعوِزْهم الحِيَل ولا السياسة في حفظ كيان إمبراطوريتهم العظيمة والرفع من شأنها وبقاء سلطانها كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا من غير أن يمتشقوا الحسام.
وقد كانت الأحوال مهيأة لهم وقتئذٍ، إذ كانت كل الممالك المجاورة لا تزال لَدْنة العُود لم تبلغ من القوة والبطش ما كانت عليه مصر وقتئذٍ. وقد انتهز ملوك مصر الذين كانوا لا يريدون الحرب ولا يميلون إليها هذه الفرصة، فأخذوا يعقدون مع هذه الأمم المحالفات، ويخطبون صداقتها بمختلف الطرق وشتى الأساليب المغرية؛ مما هيَّأ لمصر البقاء فترة طويلة حاملة لواء السيادة في العالم القديم قاطبة. ومن أهمِّ الأساليب المبتكرة التي انفرد بها فراعنة مصر وقتئذٍ لإحكام أواصر المصادقة والمهادنة رباط المصاهرة، ثم الذَّهَب البرَّاق الذي كانت تزخر به أرض مصر وممتلكاتها النوبية. وكان أول مَن اتَّبع هذه السياسة الفرعون «تحتمس الرابع»، الذي تزوج من أميرة متنية، وكان بذلك أول مَن ضرب بالتقاليد الفرعونية عرض الحائط، إذ كان على الفرعون منذ أقدم العهود أن يحتفظ بالدم الإلهي يجري في عروق أسرته وحدها، وأن يكون زواجه منحصرًا في دائرة البذرة الفرعونية الخالصة التي كانت على حسب الأساطير منحدرة من ظهر الإله «رع»، أول مَن حكم مصر بالعدل والإحسان، حتى إنه كان يُبيح لنفسه زواجه من أخته، بل ومن بنته أيضًا.
ومِن ثَمَّ نرى أن اختلاط مصر بالأمم المجاورة جعلها تتحرر من سياج التقاليد الموروثة التي ظلت حبيسة فيها عشرات القرون. ولقد كانت المغريات وطبائع الأحوال وسُنَن الرُّقِيِّ والتقدُّم تحتِّم على مصر وملوكها الخروج من هذا الحصار الذهبي الذي ضربتْه على نفسها في مصر إلى العالم الخارجي، الذي بسط أمامها صفحة جديدة لم يتمتع أهلها بمثلها منذ ظهروا على أفق التاريخ. وقد كانت هذه النهضة الجديدة لخير مصر في بادئ الأمر؛ إذ ازدهرت البلاد وعمَّها الخير من كل النواحي، وفي كل ميدان من ميادين التقدم العمراني الذي ينجم عادة من اختلاط أمم متحضرة بعضها ببعض؛ ومن أجل ذلك نرى أن كل ما كان في البلدان المجاورة من صناعات وفنون وعلوم وثقافات قد انتفعت بها مصر، مما أضفى على الحضارة المصرية القديمة ثوبًا جديدًا لم تلبسه من قبل. كما أن الأمم المجاورة من جهة أخرى أخذت عن مصر الشيء الكثير من ثقافتها وحضارتها؛ مما أنعش نفوس أقوامها ومهد لهم السبيل إلى السير في مدارج الرقي مما أيقظهم من رقدتهم وجعلهم يعملون على التحرر من الحكم المصري الذي لم يكن في مجموعه جائرًا إذا قيس بما نراه اليوم من عسف الأمم القوية وبطشها بالدويلات الصغيرة.
وقد ظل الحكم المصري على نهجه الجديد متخذًا سياسة المصاهرة والتحالف مع الأمم المجاورة خلال حكم «أمنحتب الثالث»، الذي ضرب المَثَل الأعلى في مصاهرته لملوك الدول العظيمة وبخاصة «بابل» و«خيتا» و«متني»، فسارتِ الأحوال في ظاهرها على ما يُرام، ولكن فاته أن هذه الأمم كانت تشبُّ وتنمو ويعظُم سلطانُها على مرِّ الأيام مسايرة لسُنَن الرقي، فتزداد أطماعها ويعظم جشعها، كما فاته أن الإمارات التي كانت خاضعة لمصر أخذ يَدِبُّ في نفوس أقوامها روح الاستقلال؛ لانصراف مصر وحكامها عنها من جهة، ومن جهة أخرى أخذت الإمارات القوية منها تُغِير على الضعيفة، وبخاصة عندما رأى أمراؤها أن مصر قد أصبحت متهاونة في أمر المحافظة عليها، وأن جيوش الفرعون أصبحت لا يُحفَل بقوتها ولا يُعتدُّ ببطْشها. وكان الفرعون من جانبه لا يهتم إلا بجمع الضرائب وإقامة العمائر في الديار المصرية، والمحافظة على صداقة الأمم المجاورة له ما استطاع لذلك سبيلًا دون أن يستلَّ سيفَه في وجه أي إمارة ثائرة.
والواقع أن في عهد «أمنحتب الثالث» كانت الإمبراطورية المصرية في ظاهرها صاحبة السيادة العالمية، تعيش على ماضيها المجيد بما تركه «تحتمس الثالث» من هيبة وخوف في نفوس الأمم المجاورة لبلاده، وفي الأقاليم التي فتحها بحدِّ السيف وحسن السياسة؛ غير أن عوامل الانحلال كانت تسري في دمها بسرعة مدهشة. وإذا كانت الأشياء تُقاس بأشباهها في عصرنا الحالي فإنه في استطاعتنا أن نشبِّه إمبراطورية «أمنحتب الثالث» بالإمبراطورية الإنجليزية الحالية من بعض الوجوه. فقد قامت دولة الإنجليز بما كان لها من سيادة بحرية، وبما أحرزه بحارتها العظام في أول أمرها على منافستها إسبانيا من فتوح ومدِّ سلطان عدَّة قرون، ولم يكن لينافسها في هذا المضمار أمة أخرى بعد ذلك، حتى أصبحت سيدة البحار، فعظمت مستعمراتها وهابتْها الدول الأخرى التي كانت أقلَّ منها نفوذًا وسلطانًا، ولكنها عندما شعرتْ بنمُوِّ الأمم التي تُنافِسها أخذت في العمل على استبقاء عظمتها بالمحالفات الودِّية والسياسة الحكيمة في حكم مستعمراتها. ولكن الزمن كان ولا يزال يسير بخطواته السريعة في رقي الدول ومبادئها الإنسانية القويمة وجعل الأمم الضعيفة تأخذ من أسباب القوة والأمم الناشئة تهيِّئ لنفسها مكانة تتفق مع شبابها، وما لها من آمال في المستقبل ومناهضة مَن يقف حجر عثرة في سبيل تقدُّمها، واتخاذ مكانة لائقة بها. ومِن ثَمَّ أخذت الدولة الإنجليزية تنحلُّ وتضعف أمام تيار المبادئ القوية التي تغمر العالَم، وهي بلا شك سائرة في طريقها المنحدرة إلى أن تتساوى بغيرها من الدول التي كانت صاحبة السيادة عليها كما حدث لمصر بعد عهد «إخناتون»؛ إذ قد أصبحت دولة ثانوية بالنسبة لجيرانها. على أنه لا يمكننا أن نجزم بالوقت الذي تنزل فيه هذه الدولة نهائيًّا من عليائها إلى المستوى الطبعي التي هي سائرة نحوه، مستوى الشيخوخة والَهَرم. ولو أُتيح لمصر فراعنة على غرار «تحتمس الرابع» و«أمنحتب الثالث» في تلك الفترة لامتدَّ بقاء سلطانها الاسمي وهيبتها الظاهرة مدةً أخرى من الزمن، ولكن شاءتِ الأقدار أن يتربَّع على عرشها بعد «أمنحتب الثالث» فتًى في مقتبل العمر وشَرْخ الشباب، لم تكن تُهمُّه السياسة كما يهمُّه أمْرُ مذهبه الديني الجديد. وتدلُّ شواهد الأحوال على أنه كان قد نُشِّئ تنشئة دينية خاصة ورث مبادئها عن والده وجدِّه. وكان لبُّها كُرْهَ كَهَنَة «آمون» الذين طغى سلطانُهم على البلاد، وعظمت ثروتهم حتى أصبحوا بما لهم من نفوذ مملكةً داخل مملكةٍ ليس للفرعون عليها سيطرة أو سلطان حقيقي. وقد حاول كلٌّ من الفرعونين السالِفَيِ الذكر الخضد من شوكة هؤلاء الكهنة والقضاء على نفوذهم فلم يستطيعا لذلك سبيلًا. فلما تولَّى «أمنحتب الرابع» عرش الملك ورث كراهية هذه الطائفة عن والده وجدِّه، وقد كان من رأيهما إحياء عهد الإله «رع» الذي يُعدُّ أول مَلِك حكم مصر بالقسطاس المستقيم لمناهضة «آمون» وشيعته، وبذلك بدأ على ما يَظهَر كهنة هذا الإله ينتعشون، كما أخذوا يمدون يد المساعدة للفرعون للقضاء على شيعة «آمون» وأنصاره.
وكان الجو العالَمي والوعي القومي مهيئين لهذه الفكرة بعض الشيء، وبخاصة أن المصري كان يعرف أن معنى ديانة «رع» العدالة والصدق في كل شيء. والواقع أن «أمنحتب» لما تسلَّم زمام الأمور في البلاد وجد أن والده وجدَّه كانا قد سارا نحو إعادة توحيد الإله «رع» في صُوَره المختلفة؛ ومن ثَمَّ نعرف أن الإصلاح الذي أخذ «إخناتون» على عاتقه القيام بإعلانه لم يأتِ فجأة، بل جاء على مهل وبخطوات وئيدة متزنة متلاحقة انتهت بوصوله للغاية التي كان ينشد تحقيقها. فقد رأى بثاقب عقله، كما رأى أسلافه من قبل، أن الإله المسيطر على العالَم أجمَعَ ويُشرِف عليه في كل البقاع هو الإله «رع»، الذي يتمثَّل في قرص الشمس (آتون). وكان هذا الإله يتخذ أشكالًا متعددة وأسماء مختلفة؛ فكان يُسمَّى «رع»، ويُسمَّى «رع حور الأفق»، ويُسمَّى «رع خبر» (أيْ إله الوجود)، كما كان يُصوَّر في صورة صقر وفي صورة إنسان برأس صقر وهكذا. وقد رأى «أمنحتب» في بادئ أمْرِه أن يُميِّز إلهَهُ على الآلهة الأخرى، فرمز له بصورة قُرْص الشمس الذي تتدلَّى منه أشعة بأيدٍ بشرية مانحة الخيرات، وجعله قوةً خَفِيَّة تَظهَر عظمتُها ومقدار نفوذها في هذا القرص المادي المجسَّم. وقد كان في بادئ الأمر يُدعَى «حور أختي» (حور الأفق) و«رع» بجانب اسمه «آتون». ثم تدرَّج بعد ذلك خطوة أخرى فسمَّاه «آتون» فقط، وأقام له المعابد في أنحاء البلاد، ولم يُعارِض في ذلك كهنة «آمون»؛ لأن إلهَهُم كان يُسمَّى «آمون رع» الذي يمثِّل إلهَ الشمس أيضًا، ولكنْ لم يلبثْ أنْ أخَذَ «أمنحتب» يُنكِر وجود الإله «آمون»؛ لأنه لا يتفق مع فكرة الوحدانية التي كان يمثِّلها إلهُه الخفي الذي كان يرمز له بقرص الشمس، هذا فضلًا عن أنه كان لا يُمثَّل في صورة صنم قط، فقام بحملة جبارة على آمون وأصنامه وعاداته وشعائره فمَحَاها من الوجود. وهشَّم تماثيلَه واسمَه أينما وُجد، ولذلك غيَّرَ اسمَه من أمنحتب إلى إخناتون (سرور آتون). وبعد ذلك حمل حملته الأخيرة الشاملة على جميع الآلهة الأخرى، فحرَّم عبادتَها وقضى على كل الشعائر التي كانت تُقام لها، ومَحَا لفظة «آلهة» أينما وُجدت في كل أنحاء إمبراطوريته. ولما كانتِ المقاومة على ما يَظهَر شديدة في «طيبة» هجرها وأقام لنفسه عاصمة جديدة وسماها «إختاتون»؛ أيْ أفق آتون (تل العمارنة الحالية)، وهناك أقام المعابد لإلهه الجديد الذي كان يرمز له بقرص الشمس، وجعل مبادئه «العدالة» و«الحق» و«الصدق»، كما حرَّم تصوير إلهه في أي صورة كانت. وأخذ في إقامة المعابد له في جميع أنحاء الدولة المصرية، ونشر فيها تعاليمه. وقد كان لهذه المبادئ أثرُها الظاهر في كل نواحي الحياة المصرية وبخاصة في الفن الذي أصبح يمثل الأشياء على حقيقتها، لا على حسب القواعد الجافة المتبعة منذ أقدم العهود. ويرجع السبب في ذلك إلى أن هذا الفرعون كان يريد أن يَسِير على منهاج الصدق والحقائق كما هي، لا يرى إلا إلهًا واحدًا خالقًا لكل شيء ولم يخلقه أحدٌ. ولسنا مبالِغِين إذا عددنا «إخناتون» أول شخصية في التاريخ أبرز فكرة التوحيد في معناه الحقيقي كما نفهمه، فقد كان يسير على أسس قوامها أن الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي برأ ما في السموات والأرض لا شريك له. وتدل كل الشواهد على أن هذه العقيدة قد انتقلت إلى آسيا وضربتْ بأعراقها فيها، وبخاصة أن «موسى» — عليه السلام — قد تعلَّم في مصر، فكان من الأنبياء المتعلِّمين الذين جاءوا بعد «إخناتون» وورثوا عنه فكرة التوحيد المُنزَّلة.
غير أن هذه التعاليم لم يَطُلْ أجلُها بعد موت «إخناتون»؛ إذ لم تكن قد تغلغلت في نفوس الشعب، وبخاصة أن معظم أتباعه لم يكونوا قد أُشرِبوا عقائدَه الحقَّة، بل كانوا قد اتَّبعوه لأنه الفرعون صاحب القول الفصْل وحسب، وأن رجال كهنة آمون كانوا لا يزالون متسلِّطين على عقول الشعب ومتعصِّبين لعقائدهم التي ساروا عليها منذ فجر التاريخ، ولذلك لما أظهر الملوك الذين خلفوا «إخناتون» ضعفَهم أمام كهنة آمون، وكثرت الخلافات حول مَن يتولَّى العرش بعد موت هذا العاهل، أَعطَى كلُّ ذلك الفرصة لكهنة «آمون» وأتباعه للتغلب على أتباع «آتون»، ومحو عبادته ثانية، وإعادة عبادة «آمون» كما كانت من قبل. وقد سهَّل الأمرَ لكهنة «آمون» فضلًا عما ذكرنا أن الأسرة المالِكة كانت قد انقرضتْ بموت «توت عنخ آمون»، وتولى زمام الأمور في مصر جنديٌّ عظيمٌ ممَّن كانوا يَنتَمون لعبادة «آمون» من قبل الانقلاب الذي أحدثه «إخناتون». وهذا الجندي هو «حور محب» الذي رجعت في عهده عبادة «آمون» إلى مكانتها الأولى، وكذلك أخذ الآلهة الآخرون مكانتهم السالفة.
وقد كان من جرَّاء انهماك «إخناتون» في بثِّ مبادئه الدينية التي تُعَدُّ بحقٍّ في نظرنا المبادئ الحقَّة التي يتمثل فيها كل صفات الوحدانية القويمة التي لا يتسرب إليها أي شك — وإن كانت في نظر المصري القديم تُعدُّ مبادئ الزيغ والكفر — أن ترك «إخناتون» أمر سياسة إمبراطوريته ظِهْريًّا فانتشرت فيها الثورات وتخطفتْها الدول الفتية التي كانت آخذة في الظهور حول بلاده، فانتقصتْها من أطرافها شيئًا فشيئًا خفية وبخاصة بلاد «خيتا» ونهرين، وبابل، التي كانت في بادئ الأمر على وُدٍّ وصفاء مع مصر، ولكن ما لبثت أن قلب بعضها ظَهْرَ المجنِّ للفرعون عندما آنس فيه الضعف وأخذ يُغِير على ممتلكاته جهارًا، فكان لبلاد «خيتا» نصيب الأسد. وقد وَضعتْ أمامنا الكشوف الأثرية التي ظهرت في مصر وفي بلاد «خيتا» صفحةً من أروع الصفحات في تاريخ الشرق القديم، وبخاصة في الأصقاع التي تشمل ما يُسمَّى الآن الوحدة العربية. ففي مصر كشفت خطابات «تل العمارنة» التي كتبت بالخط المسماري وهي التي تُبُودلت بين مصر وحكام سوريا وفلسطين وبلاد «نهرين» و«بابل» و«خيتا»، وفي بلدة «بوغاز كوي» (خاتوشا) عاصمة بلاد «خيتا» الواقعة في قلب آسيا الصغرى عثر على سجلات وزارة خارجية مملكة «خيتا»، وما دار بينها وبين مصر وأمم الشرق من مكاتبات. ومن الغريب المدهش أن هذه الوثائق كلها تقدم لنا صورة عن بلاد «خيتا» تكاد تشبه في كثير من الوجوه مركز مصر الممتاز بالنسبة لهذه الدول مما سيراه القارئ مفصَّلًا في مكانه.
ولقد حاولنا في تفصيل الحقائق السالفة الذكر أن نورد المصادر الأصلية التي اعتمدنا عليها بقدر ما سمحت به الأحوال، من الوثائق المصرية «وخطابات تل العمارنة» وسجلات «بوغازي كوى»، كما أننا أسهبنا في كثير من الموضوعات رغبة في أن نضع أمام القارئ الباحث صورة واضحة عن هذا العصر الذي يُعدُّ أزهى عصور تاريخ مصر من حيث علاقاتها الخارجية مع بلاد الشرق التي تسعى لتؤلِّف وحدة متماسكة تقاوم بها عدوان الدول الغربية القوية، كما أنه يُعدُّ الفترة التي ظهرت فيها فكرة التوحيد بمعناها الحق. هذا بالإضافة إلى أنه في هذا العصر أيضًا رأينا الفراعنة يقرِّبون أبناء الطبقة الدنيا من الشعب إليهم، ويتَّخِذون منهم أعوانًا وبطانة كما كانوا يتخذون منهم مربِّيات ووصيفات وخليلات، وقوَّادًا للجيش وضبَّاطًا بقصد مقاومة طبقة الموظَّفين الذين كانوا قد كوَّنوا لأنفسهم طائفة بيروقراطية قوية استحوذت على كل مرافق البلاد. وقد انتهى الأمر بأن زُحزحت هذه الطبقة شيئًا فشيئًا برجال الجيش الذين احتلُّوا كلَّ الوظائف الكبرى، وفي آخر المطاف تولَّى المُلْك واحدٌ منهم، وهو «آي» ثم خلَفَه «حور محب»، وهو جندي قوي ومُشرِّع كبير وضع للبلاد تشريعًا عظيمًا، أصبح فيما بعدُ مَضربَ الأمثال، وقبل وفاته أوْصَى بالُمْلك لقائد جيوشه «رعمسيس» الذي أسَّس الأسرة التاسعة عشرة، وهي التي أقالَتْ مصر من عثرتها على أيدي فراعنتها، واستردَّتِ الشيء الكثير من مجْدِها الغابر بفضل «سيتي» الأول و«رعمسيس الثاني» العظيم. وسيكون ذلك موضوع الجزء التالي، إن شاء الله.
شكر
وإني أتقدَّم هنا بعظيم شكري لصديقي الأستاذ محمد النجار ناظر مدرسة سمدون الأميرية؛ لما قام به من مراجعة أصول هذا الكتاب، وقراءة تجارِبِه بعناية بالغة، كما أتقدَّم بوافر الثناء على حضرة الأستاذ محمد نديم مدير مطبعة دار الكتب المصرية؛ لما بذله من جهد مشكور وعناية ملحوظة في إخراج هذا المؤلَّف، ولا يَسَعُني إلا أن أقدِّم شكري للأستاذ محمد إبراهيم نصر الذي أبدَى عناية في كتابة أصول هذا الكتاب وبذَلَ مجهودًا مشكورًا في قراءة تجاربه كلها وعمل الفهارس معي.
واللهَ أسأل أن يوفقني إلى ما فيه خير البلاد ومجدها.