مقدمة

قد يبدو غريبًا لأول وهلة ما ذهبنا إليه من اتخاذ عهد حكم «تحتمس الرابع» بداية عصر جديد في سياسة النصف الثاني من حكم الأسرة الثامنة عشرة؛ ولكن لدينا من الأسباب والمبررات ما يعضد ما ذهبنا إليه ويجلو غرابته. فقد نوَّهنا في الجزء الرابع من هذا المؤلف أن «أمنحتب الثاني» كان آخر فرعون — على ما نعلم — حارب فلول الهكسوس الذين استوطنوا بلاد آسيا بعد أن أجلاهم «أحمس الأول» عن أرض الكنانة جملة. ولا نزاع في أن «أمنحتب الثاني» كان قد قضى على البقية الباقية من أمراء الأقطار الآسيوية المنتسبين لقوم الهكسوس؛ ولذلك لما تولى «تحتمس الرابع» لم يَجِد أمامَه عقبات قائمة تُذكَر في إخضاع مَن ثار من أمراء سوريا، بل وجد أمامَه أحوالًا مهيأة للسَّيْر على سنن سياسة جديدة رشيدة في معاملة مَن حوله من الأمم الفتية القوية التي كانت تحيط بإمبراطوريته. وقد كان قوام هذه السياسة المصادقة والمهادنة والود الذي مكنتْ أواصره ووثقت عُرَاه بالمصاهرة بينه وبين أقوى هذه الدول.

والواقع أن «تحتمس الرابع» كان أول فرعون خرج على تقاليد آبائه منذ القِدَم؛ إذ نراه يُناشِد ملك «متني» الود ويطلب إليه الزواج من ابنته. وقد كانت نتيجة هذا الزواج أن توثقت عُرَى المحبة والصداقة بين البلدين، وسنرى بعدُ أن هذه السياسة الحكيمة قد قَفَا أثرَها أخلافُ «تحتمس الرابع» مما أدَّى إلى بسط سلطان مصر ونفوذها بالطرق السلمية على جميع العالم المتمدين حتى أصبحت سيادة مصر سيادة عالمية لا يُنازِعها فيها منازع فترة طويلة من الزمان.

ومن جهة أخرى يدل ما لدينا من معلومات على أنه قد ظهر في عهد «تحتمس الرابع» علامات واتجاهات في الفكر لتيارات خفية تسير ببطء وعلى مهل، مبشرة بقيام انقلاب إصلاحي ديني سامٍ غرضه القضاء على الوثنية جملة، والاعتراف بإله واحد فرد صمد. وقد أخذت بذور هذه العقيدة تضرب بأعراقها في عقول أصحاب الفكر في مصر منذ عهد «تحتمس الرابع» حتى نضجتْ وآتتْ أُكُلَها في عهد «أمنحتب الرابع»، الذي تَسمَّى بإخناتون، كما سنفصل فيه القول في حينه.

هذه هي الأسباب والمبررات التي حَدَتْ بنا لاتخاذ عهد «تحتمس الرابع» فاتحة عصر جديد في سياسة مصر العالمية والدينية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤