الملك آي

fig24
مما لا شك فيه أن «آي»١ لم يكن من الأسر العريقة في المجد التي كان يرث فيها الأبناء الوظائف الرفيعة أبًا عن جد؛ ولا أدل على ذلك من أنه قد أغفل والديه، وصمت عن ذكرهما في النقوش التي تركها لنا صمتًا تامًّا في كل مناسبة من المناسبات التي كان يحسن فيها التمدح بهما كما جرت العادة عند عامة المصريين الذين ينتسبون إلى أُسَر عريقة الأصل. أما عن الرتب التي وصل إليها فقد ذكر لنا في نقش على صندوق صغير يوجد الآن بمتحف «برلين» أنه كان يحمل لقب «فارس»، ومن ثم نعلم أنه كان في أول حياته قد انخرط في سلك الجندية، وأنه كان من الضباط الذين حاربوا في ميدان القتال وترقى حتى وصل إلى رتبة فارس. ولا شك في أنه قد نال هذه الرتبة بمكانة زوجه «تي» التي كانت المرضعة العظيمة للملكة «نفرتيتي».
ومما لا نزاع فيه أنه كان يخجل من إثبات ألقابه الحربية على الآثار عندما انخرط في سلك الإدارة الحكومية؛ يدل على ذلك أنه لم يذكر لنا رتبه الحربية في مقبرته «بتل العمارنة»، هذا إلى أنه قد وصل بما لزوجه «تي» من النفوذ والرابطة القوية في البلاط إلى نيل لقب آخر وهو لقب «والد الإله»، والظاهر أن هذا اللقب كان من الأهمية بمكان في عين «آي»، حتى إنه ضمه إلى اسمه في طغرائه عندما اعتلى عرش الملك، غير أن علماء الآثار لا يزالون عاجزين عن تفسير معنى هذا اللقب أو معرفة كنه هذه الوظيفة ومنشئها. فيرى بورخارت أن هذا اللقب يعني «صهر الملك» أي والد زوجته؛ وذلك لأن صهر الملك «أمنحتب الثالث» المسمى «يويا» يحمل هذا اللقب. غير أنه إذا صح القول بأن «نفرتيتي» كانت بنت «يويا» و«تي» فإن ذلك لا ينطبق على «آي» و«تي»؛ لأن «تي» هذه لم تكن أم «نفرتيتي» إلا من الرضاعة. ولذلك عندما تناول الأستاذ «إدوارد مير» هذا الموضوع في تاريخه، وقال إن هذا اللقب في هذه الحالة يُنسب إلى الرضاعة لم يحل المشكلة؛ لأننا لم نصادف إلى الآن في النقوش المصرية أن زوج مرضعة الملك يحمل لقبًا كهذا. على أننا من جهة أخرى يمكننا أن نقول بتحفظ إن هذا اللقب يعني أن «آي» كان والد امرأة ثانية للفرعون، لم تكن من نساء البلاط؛ أي من الوصيفات، وعلى هذا الزعم يحتمل أن «آي» كان له بنت في القصر الملكي، غير أننا بكل أسف لا نعرف له ابنة قط. على أن هذا اللقب «والد الإله» ليس في نظرنا من الألقاب الطنانة الجوفاء التي كانت تُمنح في كل عصور التاريخ المصري مثل لقب «حات عا» أي الأمير الوراثي أو «سمروعتي» أي السمير الوحيد، بل كانت له قيمة ذات وزن في ألقاب الدولة؛ ولا أدل على ذلك من أن «آي» عندما تولى العرش وأصبح ملكًا فعليًّا على البلاد وضع هذا اللقب في طغرائه الملكي، هكذا: والد الملك «آي».٢
أما عن نشاط «آي» ونفوذه في عهد «إخناتون» فإن ما لدينا من الآثار لا يشفي غليلًا؛ إذ قد صمتت صمتًا تامًّا، ولم يذكر هو نفسه أي شيء على وجه التحقيق، وقد أراد الأستاذ «برستد»٣ أن يستخلص من اللوحة المنشورة في مجلة المتحف المصري وهي الخاصة بعهد «إخناتون» أن الاسم المهشم الذي لم يبقَ منه إلا بقايا إشارات ضئيلة غامضة هو اسم «آي»؛ وقد لُقب على هذه اللوحة بلقب «مدير المباني»، غير أن الدكتور «أحمد فخري»٤ أكد لنا أن «آي» كان ابن رجل يُدعى رو … ولكن لا نعرف أن «آي» هذا هو نفس «آي» الذي أصبح فيما بعد ملكًا على البلاد. يُضاف إلى ذلك أن الملك «آي» لم يذكر لنا شيئًا عن أعمال في العمارة قبل أن يلي الملك، هذا ويظن البعض أن «خايا» الذي ذُكر في خطابات «تل العمارنة» هو «آي» الذي نحن بصدده الآن.٥ غير أن هذا الرأي مشكوك فيه جدًّا؛ إذ لا توجد وثائق تدعمه.
ولما اختفى «إخناتون» من مسرح الحياة المصرية الصاخب الذي خلفه حوله مدة حكمه لم يظهر أمامنا «آي» للعيان، وقد كان من أكبر أنصار مذهبه، غير أن الباحث في تاريخ هذا العصر ليبصر يد «آي» وهي تلعب دورها في الخفاء إبان هذه الفترة المضطربة المتزاحمة بالأحداث الخطيرة.٦

والواقع أن «آي» كان هو الموظف الوحيد من كبار الموظفين أصحاب النفوذ الذي بقي في عمله من بين كل رجال «إخناتون» عندما تولى الفتى «توت عنخ آمون» عرش الملك. والظاهر مما لدينا من الآثار أن ما تبقى من رجال «إخناتون» الذين اشتركوا معه في نشر مذهبه الديني قد اختفوا جملة من مسرح السياسة على الأقل؛ إذ لم نسمع عن واحد منهم قط، فكأنه قُضي عليهم سياسيًّا واجتماعيًّا بموت سيدهم.

وإذا ذكرنا الدور العظيم الذي لعبه «آي» في عهد «توت عنخ آمون» بما كان يملك من نفوذ عظيم وجدنا بلا شك أنه بمساعدة جنوده الذين كان ضلعهم مع الحزب الذي يعاضده في الأسرة المالكة قد حقق له النصر. إذ الواقع أنه قد دبَّ دبيب الخلاف والشقاق بين أفراد الأسرة المالكة بعد موت «إخناتون»، فنجد من جهة أن «سمنخكارع» الذي كان شريك «إخناتون» على العرش يناصره «آي» في تثبيت أركان ملكه، ومن جهة أخرى نشاهد «نفرتيتي» لا تعترف بالملك للفتى «سمنخكارع».٧
ولسنا نعلم إذا كان أولو الأمر قد ظلوا على نشر الإصلاح الذي وضع أساسه «إخناتون» أم لا؛ إذ قد خلت جميع الوثائق التي وصلت إلينا من الإشارة إلى ذلك مطلقًا. اللهم إلا إشارات عابرة سنذكرها في حينها، وقد بدأ النضال بين الحزبين عندما أراد «سمنخكارع» أن يقضي على «نفرتيتي»، ويدل على ذلك ما نشاهده من محو اسم «نفرتيتي» وصورها من قصر «مرو آتون» في «إختاتون»؛ حيث وضع بدلًا منها اسم الملكة «مرت آتون» زوج «سمنخكارع». وقد كان رد «نفرتيتي» على فعلة «سمنخكارع» هذه أن أرسلت خطابها المشهور إلى ملك أخيتا «شوبيليوليوما» تطلب منه أن يرسل إليها أحد الأمراء من أولاده ليكون بجانبها وليتولى عرش البلاد المصرية.٨

وفي خلال هذه الفترة أصبح من الواضح للملك «سمنخكارع» ضرورة إيجاد سند جديد ترتكز على معونته الأسرة المالكة، والظاهر كما تدل التطورات التي أعقبت ذلك أن «آي» هو صاحب هذه الفكرة. والواقع أن «إخناتون» كان قد قضى على أساس الحكم القديم في البلاد بالقضاء على طبقة الموظفين معتمدًا في ذلك على القوة. ولم يعد يدور بخلد أحد من القائمين بالأمر الرجوع إلى نظام الحكم الذي كان أساسه طبقة الموظفين البيروقراطيين؛ إذ كان معنى ذلك العودة إلى التسليم التام من جانب الحكومة. هذا فضلًا عن أن أهمية القواد الحربيين قد أصبحت معروفة، وأنهم لا يرضون أن يعودوا بحكومة البلاد إلى سيرتها الأولى.

وعلى ذلك لم يقم «آي» بتغيير أي شيء في نظام الحكم الذي اتخذه «إخناتون» وسيلة إلى تنفيذ فكرته الدينية، بل على العكس أراد أن يجعله نظامًا قائمًا لحكومة البلاد. وعلى ذلك كان من الواجب عليه أن يجعل قواد الجيش عمادًا ترتكز عليه الأسرة المالكة بضمهم إلى جانبها، ومعنى ذلك أن النفوذ القديم الذي كان في يد طبقة الموظفين ورجال الدين لن تقوم له قائمة كرَّة أخرى، وفي الوقت نفسه تكون إدارة الحكومة والأسرة معًا في يد القائد الحربي. وقد كان هذا الموقف يتطلب شجاعة سياسية من جانب الفرعون، وبخاصة بعد أن قضى على السياسة الخارجية التي كانت حتى الآن سياسة سلبية لا تميل إلى الحرب، وكان من الضروري لتنفيذ هذه السياسة وإرسال حملة حربية وكان يترتب عليها إبعاد جنود الجيش عن داخل البلاد وهم الذين كانوا حتى الآن كانوا يحافظون فيها على الأمن والسكينة. وقد كان من الواجب أن تسود البلاد حالة سلام واطمئنان إذا أُريد الاستغناء عن هؤلاء الجنود لقمع كل معارضة والقضاء على كل ثورة داخلية؛ لذلك كان من المحتم إلغاء كل القوانين الحربية التي سنَّها «إخناتون» ليتمكن من القيام بثورته الدينية، وقد كان يتطلب ذلك قبل كل شيء إعادة عبادة «آمون» وإعادة مرتبات المعاشات إلى أربابها. وإرجاع الكهنة إلى مناصبهم. ولقد كان الغرض من القضاء على الجزء الأساسي من إصلاح «إخناتون» أن تجد الأسرة المالكة والحكومة في الجيش عضدًا جديدًا يمكن الاعتماد عليه،٩ ولهذا السبب نجد أن عبادة «آمون» أُعيدت ثانية في عهد «سمنخكارع»،١٠ وقد جاء على أثر ذلك اضطهاد اسم «إخناتون»،١١ وقد أصبحت الحرب في الوقت نفسه جهارًا بين «آي» وبين حزب «نفرتيتي»، ومن الجائز أن المكاتبات التي دارت بينها وبين ملك «خيتا» «شوبيليوليوما» كانت قبل هذه الآونة. ويظهر أن كل أمل في مد يد المساعدة قد ضاع أدراج الرياح.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى نرى أنه مما يدعو إلى التساؤل والعجب أن «سمنخكارع» وزوجته «مريت آتون» قد اختفيا عن الأنظار فجاءة دون أن يتركا أي أثر ما فيما تبقى لدينا من الآثار حتى الآن. ومع ذلك لم يكن في مقدور «نفرتيتي» أن تنتصر وتغتصب مقاليد الحكم في يدها؛ والدليل على ذلك أن البرنامج الذي وُضع في عهد «سمنخكارع» قد ظل متبعًا مناهضًا للإصلاح الذي قام به «إخناتون» وأن واضعه وهو «آي» لم يبعد عن الحكم.

والظاهر أن قوة السلاح التي كانت تشد من أزر قائد الفرسان «آي» قد لعبت دورها هنا بضربة حاسمة. ولا نزاع في أنه قد حدثت في ذلك مأساة؛ لأن «آي» كان مضطرًّا أن يشهر السلاح في وجه المرأة التي كانت تربطه بها أوثق الروابط الشخصية والتي كان يدين لها بكل ما كسبه من رقي في مجال حياته. وعلى أثر ذلك وضع «آي» «توت عنخ آمون» على العرش بعد أن زوجه من ثالثة بنات «إخناتون» المسماة «عنخس-ن-با-آتون»، وقد بقي «آي» يستغل اسميهما لتنفيذ ما كان يرمي إليه من إصلاح. وبعد أن وضعت الحرب الدينية أوزارها قام بإعادة أملاك «آمون» إليه في السنة الأولى من حكم «توت عنخ آمون».١٢

وبعد ذلك غيَّر الفرعون اسمه من «توت عنخ آتون» إلى «توت عنخ آمون»، وكذلك غيَّرت الملكة اسمها من «عنخس-ن-با-آتون» إلى «عنخس-ن-آمون»، وأخيرًا عاد الملك مع مرشده إلى «طيبة» كما ذكرنا آنفًا.

ولعل أكبر دليل على أن الدافع إلى هذه الإجراءات هو اعتبارات سياسية؛ أن اسم «إخناتون» لم يُمحَ من جدران القصر الملكي، بل منعت الأسرة المالكة ارتكاب مثل هذا العمل من التخريب، وكذلك حمت ذكريات «سمنخكارع» الذي سارت البلاد على خطته السياسية التي رسمها أو بالأحرى التي رُسمت في أيامه على يد «آي»، فقد نُقلت جثته في السنة السادسة من عهد «توت عنخ آمون» من «إختاتون» إلى «طيبة»، وكذلك وُجدت في مقبرة «توت عنخ آمون» آثار من آثاره باسم «سمنخكارع»، وكذلك باسم زوجه «مريت آتون»، وحتى آثار من آثار «إخناتون».

وكل هذه لم تتناولها يد التدمير. وبعد ذلك دبر «آي» باسم «توت عنخ آمون» فكرة إبعاد رجال الجيش من مصر؛ وذلك بإعطاء الأوامر للجيش للقيام بتحقيق سياسة البلاد الخارجية، وكان غرضه من ذلك مزدوجًا؛ إذ أراد أولًا إعادة ما كان لمصر من مركز قوي في سوريا، وثانيًا — وهو الأهم — إفساح الطريق له لوضع أساس نظام الحكومة في داخل البلاد؛ ولذلك كان من الضروري أولًا أن يضع «آي» على رأس هذا الجيش رجلًا ممن عُرفوا بقوة الشكيمة، ويجمع إلى هذا إخلاصه للعرش والأسرة المالكة. وشاءت الظروف في هذه الآونة بعينها ألا يجد «آي» من بين أمراء البيت المالك أميرًا يضعه على رأس الجيش كما كانت العادة المتبعة في هذا العصر، ولكن المقادير ساقت له من جهة أخرى الرجل الذي يمكنه أن يقود الجيش بالمعنى الذي يقصده «آي»؛ إذ كان يريد رجلًا تجتمع فيه الصفات التي تؤهله لأن يقبض على إدارة دفة الحكم في البلاد مع الإخلاص والولاء للملك الفتى. ولقد عثر على ضالته المنشودة في موظف حربي يُسمَّى «حور محب»، وكان يشغل من قبل وظيفة كاتب المجندين كما ذكرنا، وعلى الرغم من أن الآثار لم تنطق صراحة بأن «آي» هو الذي نصب «حور محب» قائدًا أعلى للجيش فإن التطورات التي وقعت بعدُ تنبئ عن ذلك بجلاء. هذا إلى أن المصادر التي لدينا من قبل عهد «توت عنخ آمون»، وكذلك من عهد «إخناتون» لم تذكر لنا شيئًا مطلقًا عن هذا القائد. أما موضوع توحيده مع شخص يُدعى «حرى١٣ ساكت حور محب» بن «منمسو» الذي ذُكر مع شخص آخر يُدعى على لوحة «حنوت»؛ فإنه غير صحيح؛ إذ لا يمكن أن يكون قد انتقل من ضابط ميدان إلى كاتب مجندين، وكذلك ليس من المحتمل ما قاله الأستاذ «برستد» وما ردَّده «إدوارد مير» أن قائد «إخناتون» «با آتن م حب» المحال على المعاش هو نفس قائدنا الأعلى «حور محب».

وقد نصب «آي» بماله من بعد النظر «حور محب» في أعلى مرتبة في الجيش؛ إذ جعله القائد الأعلى لكل الجيوش، وبعد أن قضى على كل بذور طبقة الموظفين الذين كان في يدهم نفوذ عظيم في داخل البلاد عهد إلى «حور محب» بمنصب «المدير العظيم لبيت الفرعون» «توت عنخ آمون» كذلك، وجعل مقرَّه في «منف»، وكان قد اتخذها من قبل مقرًّا لمعسكرات جنوده.

يرى «فلوجر»١٤ في رسالته عن «حور محب» و«عصر العمارنة» (١٩٣٦) أن حوادث هذا العصر كانت قد جرت على نمط خلاف ذلك؛ إذ يرى أن «آي» كان مناصرًا لفكرة ثورة من الثورات الاجتماعية، وهي التي يقول عنها إنها ثورة الطبقة المتوسطة، وكان «حور محب» يقف في هذه الثورة على النقيض منه؛ إذ كان يعاضد الطبقة الأرستقراطية ويدافع عن مبادئها؛ ولذلك قام بينهما النزاع على السلطة. غير أن الأستاذ «ولف» عند مناقشته هذا الموضوع١٥ أشار إلى أنه لم تصلنا أية وثيقة من عهد الأسرة الثامنة عشرة تدل على أنه كانت توجد طبقة متوسطة أي من أصحاب الصناعات والحرف الذين يعملون لحسابهم ولا يعتمدون على أناس آخرين لكسب معاشهم، هذا إلى أنه كان لا يوجد في الوقت نفسه في هذه الآونة طبقة أرستقراطية. بل على العكس قد ظهرت مصر وقتئذٍ بأنها بلاد موظفين وحسب، وكان رجال الجيش وقتئذٍ يطمحون للاستيلاء على السلطة، هذا فضلًا عن أنه ليس لدينا أدلة على الدور الذي نُسب لكل من «آي» و«حور محب» فلسنا على تأكيد من أن «آي» كان قائد ثورة الطبقة الوسطى. حقًّا إنه نشأ من هذه الطبقة؛ لأنه صمت صمتًا تامًّا عن ذكر اسمَيْ والديه، بيد أن هذا هو نفس ما فعله «حور محب». والظاهر أن هذا الرأي يرجع إلى الاعتقاد بأن «آي» كان مناهضًا «لحور محب» من بداية الأمر، ولكن هذا الرأي لا أصل له، وليس لدينا من المبررات التاريخية ما يقيم لهذا الرأي وزنًا، وقد بينا فيما سبق أن وظيفة المدير العظيم للبيت الملكي في خلال الأسرة الثامنة عشرة كانت تزداد قوة على قوة بجانب الملك وبين الموظفين. ولم يكن إلا نهاية حكم «أمنحتب الثالث» حتى أخذ الفرعون يخفف من وطأة حامل هذه الوظيفة؛ وذلك لأن حاملها قبل ذلك الوقت كان يطغى في تصرفاته على طبقة الموظفين ونفوذهم؛ ولذلك لما تولى «أمنحتب الرابع» عرش الملك أخذ أمر سلطة هذا الموظف يشغل الأذهان؛ لأنه بموت «أمنحتب الثالث» اختفت معه هذه الوظيفة بطبيعة الحال؛ لأنها كانت وظيفة شخصية لكل ملك كما أسلفنا من قبل. والواقع أنه كان من الواجب أن يعين «أمنحتب الرابع» مدير بيت عظيم لأملاكه كما جرى العرف، ومع ذلك فلم يكن في إمكانه أن يضع في هذه الوظيفة موظفًا كما فعل أبوه من قبل، ففي المدة التي مكثها في «طيبة» لا نعلم شيئًا عن هذا الموضوع، أما في عهد «إخناتون» فالظاهر أنه وجد لنفسه مخرجًا للاستغناء عن هذه الوظيفة؛ والدليل على ذلك أننا لم نجد في «إخناتون» من يحمل هذا اللقب بين كبار رجال الدولة، أما ما كان يقوم به المدير العظيم للبيت بوصفه الفم الأعلى للبلاد كلها من الأمور السياسية فقد منحها «إخناتون» خادم حجرته الخاص «دودو»، وهو رجل سوري المنبت؛ وبذلك نرى أن أحد رجال البلاط من أحقر أصل قد شغل وظيفة هامة لأنه كان الوحيد الذي يظهر أمام الملك، وكان له به اتصال وثيق؛ وبهذه الطريقة كذلك يظهر أنه منح وظيفة «مدير كهنة الوجه القبلي والوجه البحري» أحد وصفائه؛ ومن ثمَّ لم يعد هناك موضوع للمعارضة بين الملك والفم الأعلى ولا بينهما وبين طبقة الموظفين.
ومنذ عهد «إخناتون» رُئي أنه لا يمكن الاعتماد على طبقة الموظفين؛ ولذلك كان لزامًا على الفرعون أن ينزع وظيفة «الفم الأعلى» من بين الوظائف ويضم عملها إليه ويقوي القائم بأعبائها بمنحه سلطة واسعة، ومن أجل ذلك ظهر «دودو»١٦ وهو سوري بوصفه خادم الحجرة الملكية لا بوصفه موظفًا في يده إدارة الأمور السياسية «لإخناتون»، ولكن «آي» رأى مع ذلك جريًا على سياسته التي كانت قائمة على أساس القضاء على إصلاح «إخناتون» الديني؛ أن يعيد وظيفة «المدير العظيم للبيت»، ويمنح حاملها كل ما كان له من سلطان فيما مضى، وأراد أن يستفيد من حاملها في وضع أسس نظام الحكومة. وقد كان يظن أنه في استطاعته أن يجعل البلاد وحكومتها متماسكة بتوحيد القوة في يده، وقد حدا به ذلك إلى تنصيب «حور محب» القائد الأعلى للجيش في هذه الوظيفة؛ وبذلك وضع في يده كل السلطة التي كان يصبو إليها حاملها فيما مضى.١٧

وعلى الرغم من أن الإصلاح الديني لم يُصِبْ هدفه فإن الفكرة السياسية التي دفعته لم تتراخَ، بل بقيت في سيرها. فقد رأينا فعلًا أن إخماد الإصلاح الديني قد مهد السبيل — كما أشرنا إلى ذلك من قبل — إلى تغيير نظم الحكم نهائيًّا؛ إذ انتقل الأمر من مجرد موظفين حكوميين مدنيين إلى نظام كان تسيير الأمور فيه في يد رجال الجيش، وكان كبارهم هم أصحاب الكلمة العليا والقول الفصل، ولكن فضل «آي» في تنفيذ هذا النظام يرجع إلى أنه كان ضابطًا قديمًا، وكان قد فهم مقدار القوة التي كانت في يد كل موظف من الموظفين المدنيين منذ عهد الإصلاح، وبخاصة تلك الوظائف التي وصل إليها حاملوها عن طريق الحسب والنسب أو عن طريق مركزه باعتباره قائد الفرسان أو نائبًا للجيش؛ ولذلك كان لا بد له من قوة السلاح لتشد أزره في تنفيذ غرضه. وقد جمع «حور محب» أعظم مقدار من القوة والسلطة في يده، فقد كان في قبضته أعظم قوة خارج الوظائف الإدارية (مدير البيت العظيم)، هذا بالإضافة إلى أنه كان يشغل أرقى رتبة في الجيش.

ومن الغريب أننا لا نعرف المركز الذي كان يشغله «آي» في عهد «توت عنخ آمون»، وتدل ظواهر الأمور على أنه كان قد قذف «بحور محب» إلى المكانة الأولى في الدولة عن قصد، وقنع هو في بادئ الأمر بمركز «أمين الفرعون» تعاضده في ذلك فرقة حامية فرسان العاصمة. هذا إلى أن الآثار التي تُنسب١٨ إلى هذا العصر لا تذكر أي لقب جديد «لآي»، ومن المؤكد أنه قد عُثر في١٩ «وادي الملوك» على صفائح من الذهب كتب عليها اسمه قبل تولي الملك، وكذلك وهو ملك، ومن بينها صفائح نُقش عليها ألقاب وزير دون أن يذكر اسمه، ويعزي بعضهم هذا اللقب إلى «آي».٢٠

ولكن لا يوجد دليل قاطع على صحة هذا الزعم، وبخاصة إذا علمنا أنه ليس هناك أي أثر يدل على وزارة «آي» في عهد «توت عنخ آمون»، ولهذا لا يمكننا الأخذ بما جاء على ورقة الذهب هذه بمثابة برهان حاسم.

حور محب قبل توليته العرش

لقد وُضع في يد «حور محب» عندما أُعلن تنصيبه المدير العظيم للبيت والقائد الأعلى للجيش؛ قوةٌ وسلطان لم ينلهما رجل في الأسرة الثامنة عشرة خارج الأسرة الملكية؛ فقد أصبح ممثل الملك الفعلي في كل مهام الأمور، ولذلك كان «ممثل الفرعون في الأرضين»، وقد عُبر بتعبير خاص في اللغة المصرية القديمة عن مركز النيابة الذي يشغله «حور محب» في حكومة البلاد فلُقب «ربعت»، وهذا اللقب قد خوَّلته له وظيفة «المدير العظيم للبيت» التي صار يشغلها الآن.٢١
وهذا اللقب الذي وصل إليه «حور محب» للمرة الأولى كان له مدلول حقيقي في الأزمان السحيقة في القدم؛ إذ كان يعني «أمير القبيلة» (فم الناس)، والظاهر أن معناه كان محمولًا على نشاطه من الناحية القضائية بوجه خاص، وقد وجدنا أن الإله «خنسو» (إله القمر) وابن «آمون رع» كان يقوم بوظيفة القاضي بين الآلهة في الأسرة الثامنة عشرة،٢٢ ولكنا نجد أن هذا اللقب أخذ يفقد مدلوله وأصبح مثل غيره من الألقاب القديمة قد هوى من مكانته العالية، وأصبح لقب شرف وحسب.
والواقع أن لقب «ربع حات عا» كان لقبًا يحتل المكانة الأولى بين ألقاب كل الموظفين؛ ولذلك كان يُوضع في مقدمة كل الألقاب التي يحملها أي موظف كبير. وقد وجدنا أن حامل لقب «ربعت» في ألقاب عيد «سد» (العيد الثلاثيني) كان يدل على معنى حقيقي بين الممثلين في هذا العيد،٢٣ ولكن نشاهد أن هذا اللقب قد أُعيد استعماله ثانية في آخر الأسرة الثامنة عشرة ليدل على الوصي على العرش الذي يقوم بإدارة سكان البلاد في المدة التي يكون فيها الملك قاصرًا، ولم يشترط أن يكون حامل هذا اللقب من البيت المالك. والظاهر أن الكلمة «ربعت» في هذا المقام يرجع استعمالها هنا للدلالة على الوصي تذكارًا لمدلولها الأصلي «فم الناس»، (ومن المحتمل أن عبارة «ربعت» من قبل الصل والعقاب أي الملك التي نجدها أُعطيت الوزير منتوحتب خلال الأسرة الثانية عشرة؛ يمكن تفسيرها على هذا الوجه (راجع.Cairo 20539).)
ولكن السلطة التي أصبحت رسمية في يد «حور محب» بوصفه «ربعت» أي وصيًّا؛ هي نفس السلطة التي كانت في يد المدير العظيم للبيت فيما مضى. ومن ثم نرى أن وظيفة «المدير العظيم للبيت» قد تطوَّرت إلى لقب «ربعت» أي الوصي الجديد. ولا نزاع في أن هذا كان بمثابة إقرار رسمي للسلطة التي كان يهيمن بها «المدير العظيم للبيت» في البلاد؛ ويدل على ذلك بوضوح تام موازنة العبارتين اللتين فاه بهما كل من «سنموت» و«حور محب» عندما أراد كل منهما أن يصف لنا عِظَم مركزه، فاستمع لما يقوله «سنموت»:٢٤ «لقد نصبني الملك «الفم الأعلى لقصره» لأجل أن أقضي في أمور البلاد كلها.» ثم استمع لما يقوله «حور محب»:٢٥ «لقد نصبني الفرعون «الفم الأعلى على الأرض» لأوجه قوانين البلاد بوصفي «ربعت» للأرض كلها.»
على أن ظهور «حور محب» حاملًا لقب الكاتب الملكي والوصي وقائد الجيش في نقوش قبر أحد رجال الكهنة٢٦ العظام في «منف» دليل على أن نفوذ وظيفة «المدير العظيم للبيت» قد ظهر في لقب «ربعت» أي الوصي. وعلى ذلك لم يمضِ طويل زمن حتى رأينا أن وظيفة «المدير العظيم للبيت» قد انحطت قيمتها؛ إذ انتقلت سلطتها إلى وظيفة «ربعت» (الوصي)، ومن ثم رجعت قيمة وظيفة «المدير العظيم للبيت» إلى سيرتها الأولى، فلم تعد سلطتها تتعدى «رئيس الضياع الملكية» وحسب.

على أنه مما يدعو إلى الدهشة أن «حور محب» لم يظهر اهتمامًا كبيرًا لاستعمال لقب «ربعت» مدة وصايته؛ إذ كان لا يُذكر بين ألقابه إلا نادرًا، وكذلك كانت الحال مع لقبه «المدير العظيم للبيت» فلم نصادفه إلا قليلًا. أما لقب «القائد الأعلى» فكان دائمًا يُذكر في طليعة ألقابه بكثرة؛ وربما يرجع السبب في ذلك إلى ارتباط الحقائق بعضها ببعض؛ لأن مدة وصايته كانت محددة بسنوات معدودات، وأن «آي» كان يفكر في أنه عند بلوغ «توت عنخ آمون» سن الرشد ستنتهي مدة وصاية «حور محب»، ولا يبقى له بعد ذلك من الوظائف إلا لقب «المدير العظيم للبيت» ولقب «القائد الأعلى للجيوش»، وعلى ذلك لم يكن موت «توت عنخ آمون» المفاجئ نذيرًا «لحور محب» بانتهاء مدة وصايته وحسب، بل كان نذيرًا بضياع مركز «المدير العظيم للبيت» من يده أيضًا؛ وذلك لأن بقاءه في إدارة هذا المنصب كان مرتبطًا بحياة الفرعون، ولما تولى «آي» الحكم لم يكن في يد «حور محب» من السلطة إلا القيادة العليا للجيش.

وعندما ثار «حور محب» على «آي» فيما بعد وخلعه من عرش الملك، كان في مقدوره أن يأتي من الأسباب ما يبرر شرعيته لتولي عرش الملك؛ فقد استغل «حور محب» وقتئذٍ لتبرير استيلائه على العرش وظيفته بوصفه وصيًّا على عرش الملك في عهد «توت عنخ آمون»، وقد دوَّن لنا على تمثاله المحفوظ الآن «بتورين»، وهو الذي نحته بعد تولي الملك، تاريخ حياته الرسمي؛ فوصف لنا فيه الحقائق التي تحتم على الإنسان أن يرى فيها أنه كان صاحب حق في وراثة الملك بعد «توت عنخ آمون»، فقد كان يضيف إلى حسن إرادة الآلهة لتوليته العرش وظيفة «وصايته على العرش» التي ذكرها مرارًا وتكرارًا، ويبرر لقبه «الوصي على العرش» في البلاد كلها للعيان. والواقع أنه لم يحمل هذا اللقب قط في صورته هذه قبل توليه عرش الملك؛ إذ لم نعثر عليه أبدًا في الآثار التي تركها قبل تنصيبه ملكًا. وعلى العكس من ذلك نجد أنه تجاهل لقب «القيادة العامة للجيش»، وهو اللقب الذي كفل له النجاح لاعتلاء أريكة الملك. وقد كان تفسيره لتبرير موقفه هذا هو أنه كان الوصي على العرش للملك القاصر «توت عنخ آمون»، وعلى ذلك أصبح بطبيعة الحال بعد موته أوَّل مستحق العرش، وبخاصة أنه لم يبقَ في الأسرة المالكة ذَكَرٌ يرث الملك؛ إذ كان قد انقرض منها نسل الذكور جميعًا.

على أن «آي» من جهة أخرى حينما اعتلى أريكة الملك كان يعتمد في ذلك على لقبه «والد الإله»؛ ولذلك وضعه داخل طغرائه الملكي عندما تولى الملك. والواقع أنه من الصعب علينا معرفة كنه هذا اللقب ولكن الظاهر أن له علاقة أسرية بالبيت المالك وأن وضع «آي» لهذا اللقب في طغرائه يؤكد لنا أن له صلة بالأسرة الحاكمة.٢٧
ولما كان «آي» يشعر أن لقب «والد الإله» قد لا يكون كافيًا لادعائه عرش الملك سعى من جهة أخرى أن يثبت استحقاقه للملك بالزواج من أرملة الملك «توت عنخ آمون»، وقد وُجد لهما فعلًا خاتم عليه اسماهما معًا.٢٨ على أنه ليس لدينا دليل على زواجه من «عنخس إن آمون» غير هذا النقش. وخلافًا لذلك نجد أن «آي» كان دائمًا مصوَّرًا على الآثار مع زوجه «تي» بوصفها ملكة، ومن المحتمل أن «حور محب» قد اعترف بشرعية «آي» على عرش الملك عندما تم الزواج بينه وبين «عنخس إن آمون»، وعلى ذلك نزل عن مركز وصايته.

ومن المحتمل أن ثورة «حور محب» التي خلع بها «آي» عن عرش الملك لم تحدث إلا بعد موت «عنخس إن آمون»؛ لأنه بموتها قطعت الرابطة التي كانت تربط «آي» بالأسرة المالكة. أما لقب «والد الإله» فكان لا يعترف به على ما يظهر؛ وعلى ذلك أصبح في مقدوره الآن أن يدعي لنفسه الملك بوصفه «الوصي على العرش»، غير أن هذه النظرية الخلابة ينقصها بكل أسف حتى الآن البراهين المحسة التي تبررها فعلًا.

وقد وضح لنا «حور محب» مدلول لقب «ربعت» (الوصي) عندما منحه لوزير ونائبه «بارعمسيس» هو الذي عينه خليفته على الملك من بعده. وقد كان أول تطور لاستعمال هذا اللقب ما نشاهده في لقب «ولي العهد» في عصر الرعامسة: أي ابن الملك ولي العهد وقائد الجيش. وقد حمل هذا اللقب فعلًا «سيتي الأول» بن «رعمسيس الأول» بوصفه ولي عهده؛ إذ نجد ذلك على لوحة أربعمائة السنة التي سبق شرحها (راجع الجزء ٤).

وكذلك كان يحمله ابنه «بارعمسيس» الذي كان سيخلف والده.٢٩
ومنذ هذا العهد أصبح هذا اللقب يُطلق على ولي العهد، هذا على الرغم من أنه كان على ما يظهر يعني في الأصل معنًى آخر؛ والدليل على ذلك أن «رعمسيس الثاني» قد فصل بوضوح مرة الفرق بين لقب «بكر أولاد الملك» وبين لقب «ربعت».٣٠

على أن «حور محب» وإن كان قد تمكن بمساعدة مركزه بوصفه وصيًّا من أن يسجل حقه في تولي العرش، إلا أنه كان مكبلًا بعلاقته مع سلفه، وقد كان من الواجب عليه بوجه خاص أن يعترف بالملك «توت عنخ آمون» الذي عيَّنه شرعًا وصيًّا على العرش. على أنه لو فعل ذلك لكان اعترافًا منه بتأييده لسياسة «آي» في الوقت نفسه. والواقع أن «آي» هو الذي كان يحمي ظهر «توت عنخ آمون» ويقوم له بتصريف مهام الدولة، وكان هذا مانعًا له فعلًا إذا أراد أن يسقط «آي» مباشرة ويتولى عرش الملك. ومن هذا النزاع نستخلص الحل التالي؛ وهو أننا نجد حقًّا على تمثال «تورين» ملكًا، وهذا الملك لا يمكن أن يكون إلا «توت عنخ آمون»، غير أن اسمه لم يُذكر، وهذا الخلاف أدَّى كذلك إلى أن «حور محب» عامَل آثار «توت عنخ آمون» معاملة تختلف عن معاملته لآثار الملك «آي»، فحافظ على آثار «توت عنخ آمون» وتركها ثابتة كما هي؛ لأنه كان يعد نفسه المؤسس لها. غير أنه محا طغراء «توت عنخ آمون» ووضع مكانه طغراءه هو، وبذلك لم يكن «حور محب» بعيدًا عن الحقيقة؛ لأنه هو الذي في مدة وصايته أعطى الأوامر بإقامة المباني والآثار كلها، والدليل على ذلك أنه لم يخرب مقبرته، وكذلك لم يضع اسمه على آثار «توت عنخ آمون» الخاصة. أما عن سلوكه مع «آي» فإنه قد أظهره بمظهر المغتصب للعرش الذي كان من حقه هو؛ لما كان لديه من الأسباب القوية التي تخول له هذا الحق.

ولذلك كان من الواجب في نظره القضاء على كل آثار «آي»، وعلى عكس المحافظة على آثار «توت عنخ آمون»؛ فهدم قبر «آي»، ومحا٣١ اسمه أينما عثر عليه. أما معبده الجنازي الذي اغتصبه «آي» من «توت عنخ آمون» فقد استولى عليه «حور محب»٣٢ بدوره لنفسه. ومع كلٍّ فإن كل ما قِيل عن كيفية تولي «حور محب» الملك وشرعيته لا يخرج عن الحدس والاستنباط؛ إذ الواقع أنه لا يمكن للمرء أن يستخلص نتيجة ما حاسمة عن موقف «آي» الحقيقي بالنسبة «لحور محب» قبل توليه العرش؛ فما لدينا من المعلومات إنما كان بعد إعلانه فرعونًا، هذا ويُلحظ أن اضطهاد آثار «آي» ليس له دخل بمناهضته الإصلاح الديني؛ لأن ذلك قد انتهى في السنة الأولى من عهد «توت عنخ آمون»؛ إذ الواقع أن ما لدينا هنا هي حرب أسرية، وليس لذلك أي دخل بعهد الكفر والزيغ الذي قام به «إخناتون» كما يسميه أتباع آمون لها، على أنه ليس هناك شك في أن هذه الاضطهادات كان لا يمكن حدوثها دون قيام ثورة «إخناتون» التي كان غرضها الإصلاح الديني. وعلى أية حال ليس لدينا حقائق ثابتة عن النشاط الذي قام به «حور محب» خلال مدة وصايته؛ إذ لم يقص علينا هو بنفسه في هذا الصدد شيئًا، اللهم إلا جُمَلًا صغيرة لا تشفي غليلًا.
أما عن نشاطه بوصفه قائدًا أعلى للجيش، فنجد في المناظر التي أبقتها يد المخربين على جدران قبره بعض صور تكاد تحكي قصتها بنفسها. والواقع أنه كما ذكرنا فيما سلف أن الحالة في الممتلكات المصرية الآسيوية كانت دائمًا مليئة بالمخاطر والثورات، وقد خابت كل المحاولات الضئيلة الهزيلة التي بُذلت لإعادة النظام والأمن في هذه الربوع إلى نصابه. وبسبب هذه الفوضى حانت الفرصة لمملكة «خيتا»، وبخاصة على إثر موت «إخناتون» للانقضاض على «عمقا» والاستيلاء عليها، والظاهر أن «حور محب» جهز حملة وساقها إلى بلاد سوريا لمنازلة «خيتا»، ولكن قد حال بينهم وبين متابعة الحرب مع الجيوش المصرية انتشار وباء عظيم في بلادهم وجيوشهم، وقد اختلف المؤرخون في القطع بأن المصريين هم الذين أرسلوا حملة على بلاد خيتا؛ إذ يظن الأستاذ «إدوارد مير» أن المصريين لم يرسلوا حملة على هؤلاء القوم، على أن الأستاذ «كيس» من جهة أخرى يقول إنه قد ذُكرت عبارة «حقول «خيتا» في منف»؛ مما يدل على أنه قد جيء برجالها من الحروب التي نشبت مع «خيتا» طبعًا (راجع Rec. Trav. 29, p. 162. Line 8). هذا فضلًا عن أننا نشاهد رسوم أسرى من «خيتا» في عهد «إخناتون»، وعلى أية حال فإننا نرى مناظر هذه الحروب في رسوم قبر «حور محب»؛ حيث نجد السوريين يطلبون من الفرعون أن يتدخل لحمايتهم من الغزاة، فاستمع إليهم وهم يقولون:

لقد طرد الذين في البلاد الأجنبية، غير أن غيرهم قد احتل مكانهم. وهم يفدون الآن … وقد أصبحت خالية، ومدنهم قد خربت وأُلقيت في النار (… يرجون) صاحب القوة والبطش إرسال سيفه الجبار؛ لأن … بلادهم تتضور جوعًا، وهم يعيشون كحيوان الصحراء وأطفالهم يموتون … ومن أجل ذلك أتوا قائلين: لقد أتى قوم لا يمكنهم أنفسهم أن يعيشوا ليطردونا من بلادنا، فأرسل جيشًا من جيوش الفرعون كما كان يفعل آباء آبائك منذ القدم.

على أن الغرض من تخليد هذه الشكاية كلها هو أن «حور محب» قام بحملة مظفرة على هذه القبائل التي انقضت على فلسطين فجاءة وهي قبائل «خبيري» بلفظة «عبرو» التي جاء ذكرها في لوحة «منف» الجديدة من عهد «أمنحتب الثاني» وفي خطابات «تل العمارنة» كما ذكرنا من قبل.٣٣
وكذلك قام «حور محب» بحملة على بلاد النوبة؛ إذ قد جاء وصف له على حجر من أحجار قبره بسقارة يقول: «لقد أرسل نائب عن الملك إلى نهاية ما يشرق عليه «آتون»٣٤ … ولذلك أقلع شمالًا، ثم ظهر جلالته على العرش الخاص بإحضار الجزية، وعلى ذلك أحضرت أسلاب الجنوب والشمال. ثم تقدم الوصي «حور محب» بالقرب من العرش …»
ونجد على حجر آخر رسمًا٣٥ عليه أسرى من الزنوج ذُكر فوقهم: «إحضار الجزية إلى مكانها وانتخاب حاملي المراوح من بينهم (… وأسرى الجيش قد ملئوا مخازن قربان الإله (…) وكانوا من السوريين).»
ومن المحتمل أن هذه الأسلاب العظيمة التي نجدها مصورة في مقبرة «حور محب» هي نفس الأسلاب التي قد رُسمت في مقبرة نائب الملك في كوش المسمى «حوى»٣٦ في عهد «توت عنخ آمون»، وتدل النقوش التي في المقبرة الأخيرة على أن عرض هذه الجزية كان في «طيبة».
أما عن حياة «حور محب» بعد تولي «آي» عرش الملك؛ أي بعد أن ذهبت عنه وظيفة الوصي، فلا نعلم شيئًا البتة، ومن المحتمل أنه اشترك في جنازة «توت٣٧ عنخ آمون» بوصفه قائدًا للجيش. وقد كان «آي» يتقدم هذه الجنازة بملابس الملك، والواقع أننا نشاهد على الجدار الشرقي لحجرة دفن الملك «توت عنخ آمون»، وهي التي رُسم عليها مشهد لجنازة أحد رجال البلاط بمفرده في مرتبة أعلى من مرتبة الوزير؛ ولا بد أن يكون هذا الرجل هو «حور محب»؛ وقد كان آي مرسومًا في هذا المنظر بملابس الفرعون. ومن هذا نرى أن ما قام به «آي» حيت تولى الملك لم يترك في نفس «حور محب» شيئًا من الحقد؛ هذا على حسب تفسير «آي» نفسه، أما ما حدث بعد ذلك فعلًا فقد أُسدل عليه ستار كثيف من الظلام الحالك، وكل ما نعلمه أن «آي» زار «منف»٣٨ في السنة الأولى الشهر الحادي عشر اليوم الثالث منه، وكانت وقتئذٍ مقر الجيش ومقر «حور محب»، أما آخر تاريخ عُرف للفرعون «آي» فهو السنة الخامسة الشهر الثاني عشر اليوم الأول منه.

ولا بد أنه قد قامت ثورة بعد هذا التاريخ مباشرة على «آي» انتهت بخلعه من عرش الملك، غير أن قصتها لا تزال مجهولة تمامًا حتى الآن، وكذلك لا نعلم شيئًا عن الأسباب التي أدَّت إلى قيام «حور محب» على الرجل الذي رفعه بنفسه إلى أسمى مناصب الدولة.

١  راجع: Davies, “El Amarna”, VI, p. 16–24, 28-29, 34-35, Pls. XII–XXIV, XXVIb–XLIV; Berlin Mus. No. 17555; Davies, “The Tomb of Harmhabi”, p. 128, 133; J. E. A. XVIII, p. 52; L. D. III, Pl. 113; D. T, III, 222.
٢  وآخر بحث كُتب في موضوع والد الإله هو ما كتبه الأستاذ جاردنر في سفره المسمى Gardiner, “Ancient Egyptian Onomastica”, I, p. 47–53.
وقد خرج بالخلاصة التالية:

وعلى ذلك رأينا أن عبارة «إت نتر» (والد الإله) أو «إت» «نتر مري نتر» (والد الإله ومحبوب الإله) أو إت نتر مريف (والد الإله ومحبوبه)؛ تُطلق على فرد ملكي وغير ملكي على السواء، والعامل المشترك في كل هذه التراكيب أن كلمة نتر في كل منها تعني الملك العائش الذي يكون حامل اللقب يعد بمثابة والده، سواء أكان ذلك حقيقة، أو عن طريق الزواج (أي المصاهرة)، أو لما له من منزلة سامية أو سن متقدمة أو حكمة ممتازة أو ما شاكل ذلك. ثم يقول: أما عن اللقب «والد الإله» في المعابد فإنه يحتمل أنه كان يُمنح أيَّ كاهن متقدم في السن يمكن أن يُعد الفرعون ابنًا له … إلخ.

٣  راجع: Breasted, A. R. II, §. 933.
٤  راجع: A. S., XXXVII, p. 32.
٥  راجع: Weber bei Knudtzon, p. 1030f.
٦  راجع: Newberry, J. E. A., XIV, p. 3–9; Wolf, A. Z., LXV, p. 100.
٧  راجع Frankfort and Pendebury, “The City of Akhenaton”.
٨  راجع: Sturm, “Rev. Hittite et Asiatique”, II, p. 161ff; Fiedrich, “Der Alt Orient”, XXIV, p. 13ff.
٩  راجع: Kees, “Gott Gelehrte Anzeig” (1928) No. 11 p. 529.
١٠  راجع: Gardiner, J. E. A., XIV, p. 10ff.
١١  وتدل الآثار على أن اسم «إخناتون» قد بدأ يُمحى في حياة «نفرتيتي» (راجع: “City of Akhenaton”, II, p. 64).
١٢  راجع: Carter, “The Tomb of Tutankhamon”, III, p. 175; Denkstein Berlin, No. 14197.
١٣  راجع: Wijngarden Oudheidk Mededael Rijksmus Leiden 1926, 1–3. & Breasted, A. R. III, § 22; Ed. Meyer, “Gesch.” II, I. p. 402.
١٤  راجع: Pfluger, “Harembeb und die Amarnazeit”, (1939).
١٥  راجع: Wolf, “Orientalistische Literaturzeitung”, (1937) Sp. 677-678.
١٦  راجع: Davies, “El Amarna”, VI, p. 7–14; Knudtzon, “El Amarna” Taflen, 158, 164, 167, (?), 169; Bisson, “Fouilles de Medomoud”, XIII, (1936) p. 24. Fig. 34.
١٧  وهذه الفكرة التي أُريد تسيير الحكومة بها وهي تركيز الحكومية في وظيفة واحدة مستقلة كان من المستطاع، بل من اليسير أن تكون خطرًا؛ إذ قد تُوضع في وقت معين في يد شخص موالٍ، ولكن ربما كانت لا تلبث أن تنتهي إلى يد شخص آخر غير موالٍ فيستغلها استغلالًا كبيرًا على حسب أطماعه. فقد وجدنا أن «حور محب» تخطى بما لديه من معارضة الملك إلى طبقة الموظفين؛ إذ نشاهد أنه جعل نائبه وخلفه «بارعمسيس» وزيرًا له في الوقت نفسه، وهذا نفس ما حدث في نهاية عهد الرعامسة عندما عين «نائب» «بانحسي» ضابطه «حرحور» رئيس كهنة لمعبد «الكرنك»، وفي كلتا الحالتين قفز كل منهما إلى عرش الملك.
١٨  راجع: “Rec. Trav.”, III, p. 127; “Davies, Tomb of Harmhabi”, p. 18.
١٩  راجع: Davies, Ibid. p. 133.
٢٠  راجع: Davies, Ibid; Newberry, J. E. A., XVIII, p. 52.
٢١  راجع: J. E. A., Vol. X, p. 1.
٢٢  راجع: Urk. IV, p. 1186.
٢٣  راجع: Newberry, “Beni Hasan”, I, p. 35; Urk IV, p. 404; Davies, “The Tomb of Kenamon”, Pl. XXV, H.
٢٤  راجع: Berlin Mus. Statue, Vs. line 25.
٢٥  راجع: Turin Mus. Statue, line 6.
٢٦  راجع: Louvre C 70.
٢٧  شرح الأستاذ جاردنر تطور هذا اللقب وما يمكن أن يُقصد منه، سواء أكان ذلك في معناه الفعلي أو معناه المجازي كما أسلفنا (راجع: Gardiner, “Onomastica”, I, p. 47ff).
٢٨  راجع: J. E. A., XVIII, p. 50.
٢٩  راجع: Petrie, “Gurob”, p. 20ff.
٣٠  راجع: Gauthier, “La Grande Inscription Dedicotoire d’Abydos”, line. 44، ولدينا مواضع أخرى ذُكر فيها هذا اللقب غير أنه لا يعني «وصي»، وكذلك لا يعني ولي عهد (راجع Gardiner, “Egyptian Hieràtic Texts”, p. 17. Pap. D’Orbiney, 19, 2, 6; Pap. Harris I, 42, 8; Pap. Turin, 17, 1, 102; 2, 9; V. Bissing, “Acta Orient”. VIII, p. 154; Pap. Hood, I, p. 12-13).
٣١  راجع: Borchardt, “Das Grabdenkmal des Konigs Sahu-re”, I, p. 121-2.
٣٢  راجع: Nelson and Holsher, “Oriental Institute Communications”, No. 18 (Work in Western Thebes”, 1931), p. 50, 51; (1931–1933) p. 106–1118.
٣٣  راجع: Leiden. Boeser, Ibid, IV, Pls. XXIII–XXIVb.
٣٤  راجع: Wiedemann, P. S. B. A., Vol. II, P. 424.
٣٥  راجع: Bologna V, Bissing, “Denkmaler” 81 A.
٣٦  راجع: Davies, “The Tomb of Huy”, Pl. XIX.
٣٧  راجع: A. S., XXXVIII, Pl. CXV.
٣٨  راجع: “Rec. Trav.” XVI, p. 123.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤