المدينة في باكورة الأسرة الثامنة عشرة

(١) الإدارة

لقد كان لسقوط دولة الهكسوس أثرٌ فعَّال في توحيد كلمة البلاد جملة، وتأسيس أسرة جديدة عام ١٨٥٠ق.م، وبتولي فراعنة هذه الأسرة مقاليد الأمور بدأ عهد جديد في الثقافة العالمية؛ وذلك أنه لما انحطَّتْ دول آسيا العظمى في ذلك الوقت، وتدهورت إلى الحضيض، برزت مصر وقتئذٍ في تاريخ العالم كالزهرة النضرة وسط الأرض المجدبة، وقد كانت مصر على اتصال وثيق بجزيرة «كريت» فسارت معها جنبًا لجنب في سبيل الثقافة إلى أعلى مكانة من الرُّقِيِّ. هذا إلى أن المصري قد شعر بمكانته الممتازة وقتئذٍ بين تلك الدول الهاوية، وعلى الرغم من أن البيت الحاكم في البلاد قد بقي كما هو فإن تولِّي «أحمس» وهو أحد أفراده عرش الملك قد عُدَّ فاتحة أسرة جديدة أُطلِق عليها اسم «الأسرة الثامنة عشرة»، كما أُطلق على المدنية التي انتشرت في هذا العصر والعصور التي تلت اسم «مدنية الدولة الحديثة».

وفضلًا عما نالتْه البلاد من استقلال واتساع رقعة سلطانها في الخارج، فإنه كان من أهم واجبات الفرعون وأشقِّها وقتئذٍ إعادة نظام الملك الذي كان قد اختلَّ ميزانه بوضع أسس متينة تسير على نهجها البلاد. وقد رأينا مقدار المقاومة التي كان لا بد من التغلُّب عليها، والحرب التي شُنَّتْ على الهكسوس لم تَقُمْ بها الأمة عن بكرة أبيها لمناهضة السيادة الأجنبية، بل قام بها في الواقع ملوك «طيبة» الشجعان، وهم الذين قد هزتهم النخوة الوطنية والعزة القومية وآزرهم في ذلك أهل الجنوب، وبخاصة جنوده الذين اتصفوا بالشجاعة والإقدام وحب الكفاح.

بقايا الحكم الإقطاعي

وإذا قَرَنَّا حالة البلاد في تلك الفترة بما كانت عليه في عهد الأسرة الحادية عشرة أو في عهد «أمنمحات الأول» عندما هبَّ لجمع شتات كلمة الأمة وقت أن كانت مقسمة مقاطعات يحكم كل واحدة منها أمير وراثي مستقل — وقد ظلت كذلك حتى قَضَى على هذا النظام جملةً «سنوسرت الثالث» — لوجدنا أن الحالة في عهد الدولة الحديثة كانت تختلف كل الاختلاف؛ إذ لم نجد لنظام الإقطاع في البلاد أي أثر فعلي بالمعنى الذي عُرف به في العهد الإقطاعي الأول، اللهم إلا في المقاطعة الثالثة من مقاطعات الوجه القبلي التي اتخذ حكامُها مدينة «الكاب» عاصمة لهم، وقد كان أشرافها على ولاء تام واتصال وثيق بملوك «طيبة» في تلك الفترة، إذ نجد في الواقع كثيرًا من حكام «الكاب» كانوا يُجاهِدون وقتئذٍ في جيش الفرعون وفي أعمال الإدارة، ويرجع تاريخ نسبهم إلى الأمراء الذين كانوا يحكمون هذه المقاطعة منذ الأسرة الثالثة عشرة وما قبلها. وهؤلاء الأمراء كانوا لا يزالون يحملون لقب الإمارة، كما ظلوا ينحتون لأنفسهم مقابر ضخمة على غرار مقابر حكام العهد الإقطاعي الأول مُزيِّنين جدرانَها بتواريخ حياتهم وما قاموا به من أعمال عظيمة، كما كانوا يرسمون عليها مناظر توضح حياة القوم اليومية من زراعة وتجارة وصناعة. وكانت إدارة هؤلاء الأمراء تمتد إلى «إسنا» وما جاورها، فكانوا يشرفون على جباية الضرائب وخزنها في المخازن الحكومية كما كانوا يقومون بتعداد المواشي، والتفتيش على الحقول الملكية. والواقع أن حكم هؤلاء الأمراء كان إداريًّا لا وراثيًّا وقتئذٍ، وكانت سلطتهم تمتد من قرب «طيبة» (برحتحور) حتى «الكاب»، وهذا يدل على أن طبقة الأمراء الوراثيين، كانوا قد اختفوا من البلاد جملة، بعد أن كانوا في عهد الدولة الوسطى عماد نظام الحكم وركنه الركين.

القضاء النهائي على بقايا الحكم الإقطاعي

حقًّا إننا نجد بعض أفراد يحملون لقب الإمارة الذي كان يحمله أسلافهم في العهد الإقطاعي الأول، غير أنهم كانوا يقطنون «طيبة» وفيها دُفنوا، وكانت ألقابهم جوفاء — ألقاب شرف وحَسْب — ولم يَبقَ واحد في مقاطعته الأصلية غير أمير «الكاب»، ففي عهد «تحتمس الأول» نجد أنه قد وَكَل أمرَ تنشئة أحد أبنائه الذي مات في حداثة سِنِّه إلى أمير «الكاب» «باحري» (راجع الجزء ٤)، وبموت الأخير انتهى حكم آخر أمير مقاطعة في البلاد جملة. وكان الفضل في القضاء عليهم يرجع إلى «أحمس الأول»، وبذلك جمع السلطة كلها في يَدِه ووحَّد كلمة البلاد، وقد ساعده في الوصول إلى ذلك جيشه المدرَّب، وطبقة الموظفين الأَكْفَاء الذين جَمَعَهم حوله من طبقات الشعب الفقيرة.

نُظُم الحكم وما طرأ عليها من تغيير

وقد كانت الصورة التي اتخذها نظام الحكم والإدارة في عهد الأسرة الثامنة عشرة هي نفس الصورة التي كانت تحكم بمقتضاها البلاد منذ القِدَم بصرف النظر عن بعض التغيرات التي كانت تستلزمها الأحوال وتُحتِّمها نظرية النشوء والتطور والارتقاء. فنجد أن أرض الكنانة كانت مقسَّمة نظريًّا قسمين وهما القطران اللذان تتألف منهما البلاد منذ أقدم العهود — الوجه القبلي والوجه البحري — وبقي كل منهما يحمل لقبه الأصلي، ولكن في الواقع نجد الوجه القبلي الذي يُنسب إليه أمراء «طيبة» كان يمتد من «إلفنتين» حتى «أسيوط» و«القوصية»، وقد كان الفرعون «تاعا» وكذلك ابنه «كامس» يحكمان هذا الإقليم، وكان هذا الإقليم بعينه مقسمًا قسمين، شمالي «طيبة» وجنوبها، وقد كان الوزير وحاكم العاصمة هو المشرف على الإدارة فيهما. أما الجزء الشمالي من البلاد الذي كان يمتد من الأشمونين حتى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهو الجزء الذي كان يسيطر عليه الهكسوس، فكان تحت إدارة وزير آخر يقطن «منف» (راجع ج٤، رخ مي رع).

وهذا النظام الحكومي الذي اتخذتْه البلاد في عهد الدولة الحديثة كان في ظاهره غريبًا، فقد كانت عاصمة الملك تقع بعيدًا عن وسط المملكة على مسافة سبعمائة كيلومتر من «منف» التي تُعَدُّ نقطة الوسط، وعلى مسافة مائتي كيلومتر من «أسوان» من آخر حدود مصر الجنوبية عند الشلال الأول. وهذا الوضع يَظهَر لأول وهلة مخالفًا لما تقتضيه طبيعة البلاد، ولكن السبب الذي دعا إلى اتخاذ العاصمة في هذه الجهة، هو أن «طيبة» كانت مسقط رأس ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وعاصمة ملكهم منذ نشأتهم، ولذلك لم يغادروها عندما استولَوْا على البلاد جميعًا، ومن ثَمَّ نجد أمامنا من جديد عاملًا هامًّا في سير حوادث التاريخ المصري، وهو أن تتبع كل الحوادث السياسية التي كانت بمقتضاها تسير الأحوال في البلاد ويتوقف عليها تكييف النظام لمدة قرون، يضرب بأعراقه في الوجه القبلي. ولا أدل على ذلك من أن توحيد البلاد في بادئ الأمر، وضم الوجه القبلي إلى الوجه البحري كان من عمل الملوك الحوريين الذين نشئوا في «الكاب»، وأخلافهم الذين ترعرعوا في مقاطعة «طينة»، وعندما كان الملك «مينا» قد أتمَّ حصن «منف» الذي كان يُطلَق عليه «الجدار الأبيض» كان قبره وقبور رجال بلاطه مع ذلك في مقاطعة «طينة»، هذا فضلًا عن أن مقر ملكه كان في منطقة «العرابة»، ولم تصبح «منف» عاصمة الملك ومقر الحكم إلا في عهد الأسرة الثالثة، ومن ثم صار الملوك يُدفَنون في منطقتها. ولما سقطت الدولة القديمة لم يفلح ملوك «إهناسية المدينة» طويلًا في استمرار إبقاء عاصمة ملكهم في مصر الوسطى «إهناسية المدينة الحالية»؛ إذ بعد نضال طويل خضعوا لملوك الأسرة الحادية عشرة الذين كانوا يسيطرون على إقليم «طيبة» وما جاوره، وفي عهد الأسرة الثانية عشرة أصبح لمدينة «طيبة» وإلهها «آمون» مكانة عظيمة، غير أن ملوك هذه الأسرة قد اتخذوا عاصمة ملكهم في الشمال ثانية، فكان مقرهم أحيانًا في «اللشت» وأحيانًا في «الفيوم» (راجع ج٣). ولما تأسَّستِ الأسرة الثامنة عشرة نُقلت العاصمة إلى «طيبة»، وقد بقي مقر الحكم في هذه المرة في الوجه القبلي في هذه المدينة، وأصبح الإله «آمون» إله الدولة يغطي على كل الآلهة الكبرى. وقد كان إقليم الجنوب أو كما يُسمَّى «إقليم رأس الجنوب» من الوجهة الاقتصادية والزراعية في المؤخرة بالنسبة لإقليم مصر الوسطى، وبالنسبة لأرض «الدلتا» التي كانت ذات شهرة عظيمة من حيث الخصب والإنتاج، وفي الحق كانت هذه البقاع الأخيرة الزراعية مسكونة بقوم عاملين يعيشون عيشة هدوء لا يميلون للحروب، وكان في استطاعة كل حاكم قوي أن يسيطر عليهم دون مشقة أو مقاومة تذكر، في حين أن سكان الوجه القبلي كانوا قومًا ميَّالين للحروب أقوياء البنية مما أهَّلَهم لتحمُّل أعباء الحروب، ونخص بالذكر منهم أشراف مدينة «الكاب»، والدور الحاسم الذي قاموا به في محاربة أعداء البلاد. وقد كان يساعدهم في ذلك قبائل البدو النوبيون الذين اتخذهم الفراعنة حينئذٍ موردًا لتغذية جيشهم العامل، كما كان يُتَّخَذ منهم أحيانًا رجال الشرطة الذين يحافظون على الأمن في مشارف البلاد. ولقد كان السبب في بقاء النظام الذي سارت عليه البلاد في عهد الدولة الحديثة نحو مائتي عام يرجع إلى المحافظة على تنفيذ النُّظُم بِيَدٍ من حديد؛ مما لم يُعطِ مجالًا لقيام أي عصيان أو محاولة لنقض أسس الحكم.

الحكم في المقاطعات

ففي المقاطعات ظل نظام الحكم على ما كان عليه؛ إذ كان لكل مقاطعة عاصمة فيها مقر الحكم، كما كان لها معبدها الخاص وإلهها الذي كان يُعبد فيها منذ القِدَم. غير أنه بدلًا من الحكم الوراثي الذي كان يُسيطر على المقاطعة عَيَّن الفرعون لها حاكمًا من قِبَلِه له إدارة خاصة يُعاوِنه فيها كَتَبَتُه، كما كان لكل مقاطعة مجلس (قنبت) يُقِيم في العاصمة، وكذلك في الأقاليم، غير أن هذا المجلس لم يكن بمثابة مجلس محلي بل كان يتألَّف من الموظفين، وكذلك كانت توجد محكمة بمثابة سلطة إدارية١ (زازات)، وكان على رأس طائفة الموظفين والإدارة كلها الوزيران اللذان يتلقَّيان تعليماتهما مباشرة من الملك، وكانا هما المسئولين أمامه عن كل ما يحدث في البلاد.

مهامُّ الوزير

والواقع أن الوزير كان لا بد من أن يكون واقفًا على سير الأمور في البلاد؛ إذ كانت تصل إليه التقارير عن عمل كل الموظفين المسئولين أمامه، وهو الذي كان يفصل في الأمور الحكومية كلها، وعلى ذلك كان هو قاضي القضاة؛ إذ كانت تُرسَل إليه كل الأحكام التي كانت تُصدِرها المحاكم المحلية المختلفة، وكان يذهب كل يوم إلى مكتب وزارته ويتربع على كرسيه، ويجلس رجال مجلسه على كلا جانبيه وهم «عظماء الجنوب»، ثم يُؤتى أمامه بأصحاب المظالم والشكايات والمذنبين فيَفصِل في أمورهم، وكان يوجِّه عنايتَه التامة إلى موضوع الأملاك، وبخاصة حدود الحقول التي كانت في معظم الأحيان تَضِيع معالمُها بسبب فيضان النيل، هذا فضلًا عن حوادث التعدي التي كانت تحدث كثيرًا والمنازعات التي كانت تقوم بسبب الإرث، كما كان يرسل إلى المقاطعات رسلًا بمثابة عمال اتصال بين إدارة المقاطعات ومكتب الوزير، فكان عليهم أن يقدموا إليه ثلاثة تقارير كل سنة في اليوم الأول من الشهر الرابع من فصول السنة الثلاثة، وبهذه الاحتياطات الحكيمة تلافت الإدارة المركزية التي كانت في أيدي موظفين معينين من قِبَل الفرعون الوقوع في خطر العودة إلى الحكم الإقطاعي، وكذلك كانت كل الوصايا لا تنفذ إلا إذا أجازها الوزير ووقَّع عليها بخاتمه، وكان الوزير يسير في أحكامه على نهج الحِيَاد المطلق، كما كان رائده في كل أعماله تنفيذ الحق مع مراعاة مصلحة الفرعون في صغار الأمور وكبارها، وكان يُحلِّي جيدَه صورة إلهة العدل «ماعت» لتذكِّره دائمًا بواجبه٢ من حيث العدالة، وكان من حقه أن يستعمل العصا مع المجرمين لانتزاع الاعترافات منهم، هذا إلى حلف اليمين باسم الملك،٣ وكان كل مَن يحنث فيه يُعاقَب أشد عقاب.

وقد كان يعمل مع الوزير بصفة دائمة رئيسان للخزانة على ما يظهر كما كان يعمل تحت إدارتهما رؤساء عمال الخزانة والمخازن والمصانع التي كانت تجمع فيها الضرائب والمصنوعات من خمر وزيت وحيوان وملابس وآلات من كل الأنواع حتى أسلحة الحرب وعرباتها والقطع الفنية التي كان يُنتجها المفتنُّون والمجوهرات، هذا فضلًا عن إدارة أعمال الفرعون الخاصة كإقامة المباني وصناعة اللبِن والإشراف على مناجم قطع الأحجار وجلب الأخشاب وصناعتها (راجع مهام الوزير الجزء الرابع).

وقد كان يُخصَّص لكل معمل أو مصنع من هذه الإدارات جيش من العمال عظيم العدد، معظمهم من الرقيق وبعضهم من المصريين، وهؤلاء العبيد قد جلبهم الفرعون من البلاد التي فتحها بحدِّ السيف في حروبه، وكان يقوم على تشغيلهم والإشراف عليهم عدد عظيم من الموظفين من كل الدرجات كل على حسب العمل الذي يشرف عليه (راجع ج٤، رخ مي رع).

(٢) الحياة الاقتصادية

أما حياة مصر الاقتصادية فهي على النقيض منها في البلاد المجاورة مثل «بابل وآسيا الصغرى»، فقد كانت ثروة البلاد ثروة زراعية من قديم الزمان، واستمرت كذلك في عصور التاريخ المصري كلها في أساسها. حقًّا قد لعبت المعادن الثمينة في اقتصاد البلاد دورًا هامًا؛ إذ كانت تستعمل في صور حلقات من النحاس وغيره بمثابة عُمْلة، ومع ذلك فإنها لم تكن تستعمل في التجارة الحكومية ولا في المعاملات الخاصة، بل في الواقع بقيت تستعمل مثل سلعة أخرى، كالحبوب والماشية. وكانت الموارد الطبعية تستعمل منذ أقدم العهود في التعامل لتسيير الأداة الحكومية، وكذلك في المبادلات التجارية بسهولة، كما تستعمل العملة الذهبية الآن، فكانت المرتبات تُدفَع عينًا من المحصولات على حسب مراتب الموظفين، وعلى حسب عدد المُستخدَمين والخَدَم الذين تحت إدارة كل موظف كبير من هؤلاء الموظفين، بما في ذلك الملكة ووصيفات القصر وأولاد الفرعون العديدين ورجال الحاشية الذين كان يجب إطعامهم، وكانت تُصرف هذه المرتبات من الذخائر التي كنزت في مخازن الحكومة. وكان الضباط العظام وكبار الموظفين وعدد عظيم من المحظوظين يبذل لهم الفرعون العطايا من الأراضي والعبيد كما كان يُقيم المعابد للآلهة، ويجزل لها العطاء، ويحبس عليها الأوقاف العظيمة. والواقع أن كل أراضي الدولة في الأصل، إذا استثنينا ممتلكات الآلهة، كانت ملكًا للفرعون، وهو الذي كان يَهَب مَن يشاء ويَحرِم مَن يشاء، ولا أدل على ذلك من أن يوسف — عليه السلام — لما دخل مصر، واتصل بالفرعون كان أول ما طلب منه أن يجعله على خزائن الأرض، مما يدل على أنها كانت كلها في قبضة الفرعون، على أنه قد جاء في إحدى لوحات «تل العمارنة» ما يُشير إلى وجود أملاك خاصة، وذلك عندما أراد أن يُقيم الفرعون «إخناتون» مدينته الجديدة على مكان لا يَملِكه أحد فقال: تأملوا! إن الفرعون له الحياة والسعادة والصحة، قد وجد أنها ليست ملكًا لإله ولا لإلهة ولا لأمير ولا لأميرة، وأنه ليس لمخلوق أن يدَّعِي ملكيَّتَها (Davies, “El-Amarna”, Vol. V,p. 29). على أن كل ذلك إذا حدث كان بطبيعة الحال من هبة الملك.

والواقع أن نظام الحكومة المصرية كان يقتضي أن كل فرد في البلاد موظفًا أو غير موظف، كان يعيش من فيض الفرعون، وعلى ذلك كان كل فرد يسعى وراء كسب حظوته فينال الهبات التي كان هو وحده القادر على بذلها، وقد كانت الطريق لذلك سهلة أمام خُدَّامه الذين يخلصون في خدمته، كما كانت مفتوحة أمام جيش الموظفين الذين بهم تسير الأداة الحكومية التي يرتكز عليها كيان الدولة وبقاؤها، وقد كانت الطريق لشغل هذه الوظائف لا يفتح أبوابها إلا لأولئك الذين يتعلمون الكتابة والقراءة في المدارس. وقد كان التلميذ ينفق عمرًا طويلًا في التعلُّم كما كانت العصا أكبر وسيلة تستعمل لإتقان أسرار الكتابة ويستعملها المعلم بسخاء.

(٣) المدارس والتعليم

والظاهر أن المدارس في عهد الدولة الحديثة كانت على درجتين؛ فالأولى تُعادِل بوجه عام ما نُسمِّيه نحن «المدرسة» ويسميها المصريون «بيت الحياة»، وفيها كان يُعلَّم الأولاد الكتابة والأدب القديم، وقد استعملوا لكتابة تمارينهم كما ذكرنا قطعًا من الخزف وشظيات الحجر الجيري التي كانت لا تُكلِّف شيئًا بدلًا من صحائف البردي٤ الباهظة الثمن، وقد أسعدنا الحظ ببعض معلومات عن واحدة من هذه المدارس، وقد كانت تابعة للمعبد الذي بناه «رعمسيس الثاني» للإله «آمون» في الجهة الغربية من «طيبة» وهو الذي يُطلَق عليه الآن اسم «الرمسيوم»، وقد كانت ضمن المباني العظيمة الخاصة بالإدارات المحيطة بالمعبد من جهاته الثلاث، وقد عُثر في هذا المكان على عدد عظيم من «الاستراكا» يسترعي النظر، وبخاصة ما وجد منها على كومة صغيرة من الأوساخ، وتدل ظواهر الأمور على أن مدرسة المعبد كانت قائمة في هذا المكان ويبدو أن، التلاميذ عندما كانوا ينتهون من كتابة بعض هذه «الاستراكا» كانوا يُلقون بها في هذه البقعة. وبدَرْس هذه القِطَع التي كان ينسخها التلاميذ وجدنا أنها فوق احتوائها على بعض الموضوعات الإنشائية التي تنتمي لعصر الدولة الحديثة تتألَّف من ثلاثة كتب عُثر منها على مقتطفات عدَّة مكرَّرة. وهي تعاليم الملك «أمنمحات» وتعاليم «خيتي» بن «دواوف» وأنشودة النيل، وكلها تُنسب إلى عهد الدولة الوسطى. ومما يسترعي النظر أن هذه القطع الأدبية الثلاث عُثر عليها جميعًا على ورقتين من البردي تدل الظواهر على أنهما ترجعان إلى أصل «منفي»، ولا شك في أنهما كانتا تؤلِّفان الموضوع الرئيسي المعتاد لمنهاج المدرسة، وقد وُجدت مدوَّنة بأكملها على هاتين الورقتين. أما ما وُجد على قطع «الاستراكا» فكان يشتمل على مختارات قصيرة من هذه الموضوعات ومن كتابات أخرى لعظماء الكُتَّاب.

ومما يلفت النظر أننا نجد باستمرار في معظم الأحيان نفس المختارات مُعادة، ولا يبعد أنها كانت القِطَع المُنتَخَبة المقرَّرة التي كان لزامًا على كل فرد متعلم أن يحفظها. وحينما كان يتخطَّى التلميذ هذا الدور الابتدائي من التعليم كان يُقيَّد كاتبًا في إدارة ما، ثم يستمر في تحصيل العلم هناك على يد موظفين كبار. ويجوز أنهم كانوا رؤساءه المباشرين. وفي الدولة القديمة نجد أن الأب هو الذي كان يستمر في تلقين ابنه إذا كان من كبار الموظفين. ولا أدل على ذلك من أن «بتاح حتب» طلب إلى «الفرعون» أن يسمح له بأن يُعلِّم ابنَه ليخلفه في وظيفته. وكان على الطالب في أثناء تلقِّيه هذا التعليم العالي أن يستمر في كتابة نماذج إنشائية لا تقف عند نقل بعض سطور كما كان يفعل من قبلُ، بل تشمل قطعًا كبيرة. وقد وجدنا أن طالبًا قد كتب ثلاث صحائف في يوم واحد. وقد لوحظ أن خطأ التلميذ يُصحِّحه معلِّمه على هامش البردية، ولكن لسوء الحظ لم يكن يُعنَى المعلِّم كثيرًا بما كتبه الطالب من الألفاظ التي تُفسِد المعنى. بل جعل معظم عنايته بشكل الحروف. فكان درسه أقرب إلى تجويد الخط منه إلى دراسة اللغة وتحقيقها. وتدل معظم النسخ الخطية المدرسية بوضوح على الأغراض الحقيقية من التعليم عندهم. فكان الغرض منه أولًا: التربية، وثانيًا: المِرَان على الأعمال التجارية، وحسن الخط. والواقع أن موضوع الإملاء لم يكن بالأمر الهين كما ذكرنا؛ إذ إن نظام الكتابة الهيروغليفية أكثر استعدادًا لقبول الأغلاط ولا يَعدِله نظام آخر في العالم. من أجْل ذلك كانت العناية بهذا الموضوع عظيمة جدًّا. ولدينا كتاب يدلنا على عناية القوم وحرصهم على كتابة الكلمات الفردية كتابة صحيحة. ولا بد أن هذا الكتاب كان شائع الاستعمال في المدارس. وقد وضعه كاتب كتاب الإله في بيت الحياة («أمنموبي» بن «أمنموبي»)، وقد عُثر منه على ثلاث نسخ.

وقد اتخذ كاتب هذه الوثيقة لنفسه دور الكاتب الذي أراد أن يعلم التلميذ العلوم كافة. لذلك يحمل كتابه عنوانًا مطولًا، إذ يقول: «التعاليم التي تجعل الفرد أديبًا، وتعلم الجاهل عِلْمَ كل كائن، وكل ما صنعه «بتاح» وما سجله «تحوت»، والسماء ونجومها والأرض وما عليها، وما تخرجه الجبال، وما تجود به البحار، وما له علاقة بكل الأشياء التي تضيئها الشمس وكل ما ينمو على الأرض.» ولا جدال في أن هذا العنوان له رنة عظيمة في الآذان، إذ يجعل المستمع ينتظر معلومات ضخمة تكشف له الغطاء عن علوم هؤلاء القوم، غير أن الأمر أهون من ذلك، فالكِتَاب في حدِّ ذاته لا يخرج عن مجموعة كبيرة من أسماء وألقاب بعضُها متداول معروف، وبعضها نادر غير مألوف، وقد وُضعت بنظام مرتب ترتيبًا منطقيًّا لا بأس به، فيذكر لنا أولًا السماء وما فيها: السماء والشمس والقمر والنجوم والجوزاء، والدب الأكبر، والقرد، والمارد، والخنزيرة، والسحاب، والعاصفة، والفجر، والظلام والضح والفيء … وأشعة الشمس. ثم يتلو ذلك أشكال المياه الموجودة في الطبيعة والتربة. ثم يذكر في ست مجاميع الألفاظ التي تدل على الكائنات الحية. فيذكر العلوية منها أولًا وهي الآلهة والإلهات، والأرواح الذكور منها والإناث. ثم يُعدِّد لنا المخلوقات البشرية مرتبة على حسب مركزها في المجتمع. فنجد أولًا الملك ثم الملكة. ثم يذكر لنا بعد ذلك كبار الموظفين. فرؤساء رجال الدِّين والعلماء. ويلي ذلك السواد الأعظم من صغار الموظفين وأصحاب الحِرَف، وبعد ذلك يضع أمامنا التعابير التي يُعبَّر بها عن بني البشر والجنود وأسماء الشعوب الأجنبية والأماكن المختلفة، ثم ينتقل إلى ذكر أسماء ست وتسعين مدينة مصرية واثنين وأربعين اصطلاحًا للمباني وأجزائها. ومسميات للأراضي والحقول. ثم يُعدِّد لنا كل ما كان يأكله الإنسان أو يشربه. ويدخل في ذلك ثمانية وأربعون نوعًا من اللحم المطبوخ. وأربعة وعشرون نوعًا من الشراب، وثلاثة وثلاثون نوعًا من اللحم النِّيء. وفي الجزء الختامي الذي وُجد محطَّمًا كان قد كُتب عليه مسميات عن مختلفات الطيور وعدد عظيم من أسماء الماشية وغير ذلك من الأسماء التي جمعها «أمنموبي» بعناية ليضع أمام العالم صورة عن كل كائن، شاكرًا للإلهَيْن «بتاح» و«تحوت». ولا شك في أن غرضه من جميع تلك المسميات، وترتيبها تعليم تلاميذه كتابة المفردات كتابة صحيحة. وكما أسلفنا كانت كتابة الكلمات الأجنبية الكثيرة والأسماء الغريبة التي اندمجت بوفرة في اللغة المصرية الجديدة عقبة كئودًا حتى للطلبة المتقدمين ولذلك كانت تُبذل عناية خاصة لتعليمها. فمن ذلك أن تلميذًا من الأسرة الثامنة عشرة يضع كل همِّه في أن يكتب على لوحة أسماء في «كفيتو» (كريت)، وسنرى فيما بعد أن نماذج الخطابات التي أوردناها في هذا الكتاب هي من هذا النوع، فتشتمل على كلمات وأسماء ليتعلَّم منها التلميذ كتابة الكلمات الأجنبية كما كان يتعلم من وثيقة «أمنموبي».

والواقع أن قائمة «أمنموبي» هذه لا يمكن أن تُعدُّ فهرسًا لسرد أسماء وحسب. وإن كان هذا هو مدلولها العملي كما يَظهَر لنا من ترتيبها وتنسيقها، ولكن إذا أمْعَنَ الإنسان النظر إلى كُنْهِها بعين فاحصة وجد أنها الخطوة الأولى نحو فكرة تأليف قاموس؛ إذ نجد أن الترتيب الذي وُضعت به يَنِمُّ عن ترتيب منطقي مميز في داخل كل مجموعة. كما نلاحظ علاقة ظاهرة بين كل لفظة وما سبقتْها. وأعني بذلك أن الكاتب على الرغم من أنه لم يعطنا إيضاحًا عن تلك الألفاظ أكثر مما كنا نعرف، إلا أنه مكَّننا من أن نفهم علاقة الكلمة بسابقتها من مركزها في القائمة، فأهمية هذه الوثيقة لفهم اللغة المصرية عظيمة جدًّا لنا. ويظهر مقدار ذلك جليًّا إذا علمنا أن الفهارس بمعناها الحقيقي معدومة كلية في اللغة المصرية. حقًّا إن لدينا بعض قوائم لأنواع الكلمات على «الاستراكا» كما توجد في متون مشهورة مثل أسماء البلاد السورية التي ذكرها كاتب ورقة «أنستاسي» الأولى أو قوائم أسماء المدن التي استولى عليها فراعنة مصر في الدولة الحديثة، والتي نقشوها على جدران معبد الكرنك وغيره. وكذلك القوائم التي ذُكر فيها أسماء الأمم والأخشاب «والأشياء التي صُنعت منها على الاستراكا». على أن كل هذه القوائم، وحتى وثيقة «جلنشيف» التي نحن بصددها الآن، لا يمكن أن تُقاس بالفهارس الحقيقية البابلية.

وليس من الصعب أن يعرف الإنسان السبب في وجود هذه الفهارس في «بابل» وخلو مصر منها، وذلك أن المصري قد اخترع الكتابة بنفسه لنفسه ليعبر بها عن لغته. وقد نَمَوَا سويًّا في موطن واحد بَعِيدَيْن عن التأثر الخارجي. ولكن في بلاد النهرين أي «بابل» كان للسومريين كتابة خاصة بهم. غير أن قومًا من الساميين الذين لا يعرفون الكتابة غَزَوْا هذه البلاد. ولما أقاموا فيها رأَوا الفوائد التي تعود عليهم لو اقتبسوا منها نظام الكتابة، فأخذوه منها واستعملوه في التعبير عن لغتهم فنقلوا أولًا الكتابة السومرية الأصلية كما شاهدوها. ولكنهم قرءوها بما يُقابِلها في لغتهم «الأكادية»، وتعلَّموا بعد وقت أن يضعوا للكلمات السومرية ما يُقابِلها في لغتهم. ومن ذلك ألَّفوا لأنفسهم فهرسًا باللغتين. وقد دفعهم إلى هذا حاجتُهم المُلِحَّة للتَّفاهُم بينهم وبين القوم الذين غَزَوْهم. ولكن مصر لم تكن في يوم ما في حاجة إلى ذلك، وكذلك نجد أن اللغة الإغريقية التي تُعَدُّ من أعرق اللغات لم تأخذ في وضع قاموس للغتها إلا بعد انقضاء العصر «الكلاسيكي» فيها.

ومما سبق نعلم أن المصري كان يصنع مثل هذه القوائم ليتقن التلميذ فنَّ الإملاء، ولتبصرته بصفة عامة بكل ما يحيط به. وكان أعظم من كل ذلك عناية الأستاذ بتعليم تلميذه الأسلوب الصحيح، والتعابير المختارة لكتابة الرسائل.

من أجْل ذلك كان التلميذ ملزمًا بنقل نماذج رسائل من كل نوع حقيقية كانت أو إنشائية، ونقل النصائح والتحذيرات التي كانت تصلح لهذا النوع من التعليم، إذ كان يكتبها في شكل رسائل. ولذلك كان يُطلق على ما يُسطِّره التلميذ على ورق البردي اسم (تحرير الرسائل)، وفي غالب الأحيان كان يضع التلميذ اسمه في الخطابات الشخصية واسم معلمه كأنما هما يتراسلان، فنجد التلميذ يكتب لنفسه أنه كسلان وفاسق وعاهر وأنه يستحق مائة جلدة. ويدل ما لدينا من الوثائق على أن بعض الموظفين من مختلف الطبقات كانوا يستقلون بتعليم تلاميذهم، فنجد كاتب خزانة فرعون ورئيس سجلات الخزانة وكاتب مصنع فرعون وغيرهم لهم تلاميذ يتعلمون عليهم. ويرى القارئ في المنافسة الأدبية «ورقة أنستاسي الأولى» أن الموظف وإنْ كان في الإصطبل الملكي كان في قدرته أن يكون معلِّمًا ماهرًا.

ولقد كانت مهنة التدريس متغلغلة في نفوس الموظفين الذين يُحسنون الكتابة لدرجة أنهم كانوا يباشرونها في وسط أعمالهم؛ إذ نجد أن أحد الموظفين الذين كانوا يُشرفون على نحت قبر «رعمسيس التاسع» في صحراء وادي «أبواب الملوك» لم يُطِقْ صبرًا على ترك مهنة التعليم حتى في ذلك المكان المنعزل القفر، فكان يكتب مساعده أو تلميذه أشياء مختلفة بمثابة تمارين على شظيات كبيرة من الحجر الجيري المتخلفة من النحت، وقد عثرنا منها على نموذج خطاب وقصيدة قديمة «لرعمسيس الثاني» وصلوات جميلة لشخص اضطُهِد ظلمًا، فنرى يدَ المعلِّم قد تناولتْها بتصحيح بعض الأخطاء (راجع كتاب الأدب المصري القديم ج٢، ص١٤٢). وكان يوجد بجانب أولئك الموظفين الجيش ورجاله وما يتطلَّبه من نظام وعُدَّة وعتاد مما سنتكلم عنه فيما بعد.

(٤) سلطة الفرعون في داخل البلاد وخارجها

على أن قيام مثل هذا النظام الإداري والحربي وحسن سيره كان لا يتأتى إلا بالطريقة الفعَّالة والأنظمة الحكيمة التي يُقرِّرها الفرعون بنفسه، ولما كان الفرعون وبلاطه هو المصدر الوحيد الذي منه يَستَمِدُّ كلُّ الشعب حياته وسعادته، فإن كانه لزامًا عليه أن يكون قادرًا على صرف العطايا لكل هؤلاء الموظفين بطريقة منظمة لا يعتورها تقصير أو خلل، وبذلك يمكنه أن يضمن حسن سير رعيته ورغبتهم في خدمته. والواقع أن هذه كانت هي الحالة المتَّبعة في عهد الدولة الحديثة، وقد استمرت هكذا بصورة تدعو إلى الإعجاب والدهشة مدة تُربِي على قرن من الزمن، على الرغم مما كان ينتاب البلاد من وقت لآخر من اضطرابات أو ثورات داخلية. ولا شك في أن الدخل الذي كان ينفق منه الفرعون على مبانيه الضخمة وتماثيله الثمينة والآلات وأدوات الزينة، وكذلك على بلاطه وعلى المعابد لا ينفد معينُه، وكان الفرعون يعتمد على جزء هام من هذا الدخل من خراج أملاكه ومصانعه، ولكن الجزء الأعظم، كان يأتي إليه عن طريق نظام الجزية الدقيق الذي كانت تسير بمقتضاه البلاد، وأول أبواب هذه الجزية كان خراج الأطيان المنزرعة عدا أملاك الكهنة أو أملاك المعبد فقد كانت مُعفاة من الضرائب، والظاهر أنه كان يُجبَى من الأراضي عشرون في المائة من محصولها، كما ذُكر ذلك في تقارير بني إسرائيل عن الحالة المالية في عهد يوسف — عليه السلام — فقد أدخل يوسف — عليه السلام — قانون جباية الخُمْس بمثابة خراج على الأرض المنزرعة وهو ما كان يُعطاه الفرعون، وكانت أراضي الكهنة وحدهم هي التي لا تُعَدُّ من أملاكه (راجع Gen. 27, 26). وهذه الجزية الفاحشة لا يمكن الإنسان أن يتصوَّر فرضها إلا على أرض خصبة مثل الأراضي المصرية الغنية التربة، وعلى هذا النمط كانت تُضرب الضرائب على كل فرع من المحاصيل وعلى ما تُنتجه الصناعات، هذا فضلًا عن الضريبة التي كانت تُفرض على الماشية والأشجار، ولتنفيذ مشاريع المرافق العامة كحَفْر التُّرَع والمحافظة على صلاحيتها وغير ذلك من مرافق الحياة، والظاهر أنه كانت تُفرض ضريبة على الرءوس.

أما الحالة المدنية في البلاد وثروة كل أسرة فكانت تُوضع لها قوائم يُدوَّن فيها عدد أفرادها وحالتهم. ثم تأتي بعد ذلك أعمال السُّخْرة التي كانت تقتضيها الأحوال، وبخاصة لإقامة المباني العظيمة التي كانت تُقام في طول البلاد وعرضها، وقد كانت أعمال السخرة من الأعمال الأساسية. وعندما كانت تشتد الحاجة إلى الأيدي العاملة كان أولو الشأن يستخدمون أسرى الحرب والأفراد الذين كانوا يُجلَبون إلى البلاد بصفة جزية لإنجاز هذه الأعمال. ولقد كان من الضروري لحفظ كيان الحكومة المصرية فضلًا عن سياسة الحروب والفتح في الأقاليم المجاورة أن تُستَورَدَ منتجات البلاد الأجنبية، وبخاصة أخشاب بلاد «لبنان» اللازمة للبناء وصنع السفن المقدسة والأسطول، ومصنوعات بلاد «سوريا»، ومحاصيل مناجم بلاد «النوبة» «وشبه جزيرة سينا». أما أهم هذه المحاصيل وأعظمها لتسيير أمور الدولة فكان ما تُخرجه مناجم جبال بلاد النوبة من الذهب جزية سنوية تُدفع إلى مصر، إذ الواقع أن استيلاء الفرعون على هذا المعدن الثمين قد جعل له المنزلة الأولى التي لا تُجارَى بين كل ممالك العالم المتمدين وقتئذٍ، وبخاصة في العلاقات السياسية؛ إذ كان يُعَدُّ أمضى سلاح يَهزِم به أقوى أمة من البلاد المجاورة له، كما كان وسيلة حسنة لجمع القلوب حوله في مصر ذاتها. فقد كان الفرعون يبذل العطايا من الذهب على الدوام في هيئة حلقات وقلائد للشجعان من ضباطه وموظفيه المرة بعد المرة، ولا أدلَّ على ذلك من أمير البحر «أحمس بن أبانا» فقد نال ذهب الشجاعة سبع مرات. وكان الفرعون يكنز القناطير المقنطرة من هذا المعدن في خزائنه، وكانت محاصيل جبال بلاد النوبة لا ينضب معينُها في هذه الفترة من الزمن كما ذكرنا عند الكلام على غزوات ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وما كان يُدفع لهم من جزية من الذهب والفضة.

ولا نزاع في أن مَن نظر نظرة سطحية إلى نظام الحكم تحت سلطان ملوك طيبة يجد أنه لا يختلف عنه في عهد الأسرة الرابعة؛ أي إن الفرعون كان يسيطر على البلاد سيطرة مطلقة بوصفه إلهًا، وأن جيش الموظفين الذين كانوا يديرون دفة البلاد لا يختلفون عن نظرائهم في عهد الأسرة الرابعة، غير أن مَن فحص الأمور في عهد الأسرة الثامنة عشرة بعَينٍ ثاقبة يَجِدْ هناك فرقًا أساسيًّا بينها وبين الأسرة الرابعة؛ وذلك لأن الثقافة والحالة العالمية وطرق المعيشة قد تطورت تطورًا عظيمًا؛ إذ الواقع أن الدولة القديمة بالنسبة للدولة الحديثة كبلد محكوم حكمًا استبداديًّا مطلقًا ودولة محكومة حكمًا استبداديًّا مستنيرًا حتَّمتْه نظرية الرقيِّ والنشوء التي استلزمها مرور ما لا يقل عن ألف وخمسمائة سنة من الزمن في بلاد كانت تسير مع الزمن في تقلباته، فنجد أن الحالة الاقتصادية التي انتهتْ بالدولة القديمة إلى جعل البلاد مقسمة إقطاعات لا نجدها في عهد الدولة الحديثة، وعلى ذلك كانت السُّبُل مهيَّأة للدولة لا يعوقها أي عائق في تنفيذ أغراضها في الداخل والخارج على السواء. ومن ثَمَّ جاءت فكرة الدولة والسيطرة العالمية (أي الإمبراطورية)، ولقد كانت الفرصة سانحة؛ لأن المصريين عندما قهروا الهكسوس وطردوهم إلى «آسيا» فُتحت أمامهم الطريق لتأسيس إمبراطورية عظيمة فيها. وقد وجدنا هذه الفكرة مختمرة في رأس «أحمس الأول» عندما نَطَقَ بتصريحه عن سلطة الملكية ومدى نفوذها إنه إلهٌ وابن الإله، وليس في مقدور أحد أن يقاومه، وكل الشعوب رعاياه، وإنه يضع حدوده في نهاية العالم، على أننا نرى في الوثائق التي تركها لنا أخلافُه أنهم كانوا يُبالِغون أكثر منه في التعبير عن مدى اتساع ملكهم وسلطانهم، وعندما احتلَّتْ مصر هذه المكانة أصبحتْ خلال مدة المائة سنة التي تَلَتْ تأسيس الأسرة الثامنة عشرة، الدولة العظمى التي تقود ثقافة العالم، هذا إلى أنها في داخليتها قد خرجت بذلك من نطاق التقاليد القديمة التي كانت تحيط بوادي النيل؛ ومن ثَمَّ نضجت ثقافتُها وآتتْ أُكُلَها في كل النواحي، ومع ذلك بقيت في عظمتها وعزلتها في أحوالها الداخلية مثلًا لم يُسمَع به عن أي دولة أخرى في العالم.

(٥) سلطان الإله آمون

وعلى الرغم من ذلك كانت توجد قوة أخرى لها من الحقوق ما للفرعون، بل كان لها السيطرة عليه، وهذه هي قوة الآلهة الذين كانوا يسيطرون عليه ويَهَبونه النصر، وكلما كانت انتصارات أولئك الفراعنة عظيمة كان لزامًا عليهم أن يَزِيدوا من الهدايا وإقامة الأعياد لأولئك الآلهة الذين حَبَوْهم الفوز على الأعداء، وبهذه الوسيلة كانوا يضمنون معونتَهم في الأوقات الحرجة.

وقد كان على رأس أولئك الآلهة بطبيعة الحال الإله «آمون» رب «طيبة»، وهو الذي أصبح الآن إله الدولة الأول، وقد كان الاعتقاد فيه أنه يجمع القوة كلها في شخصه، وأنه موحَّد مع الإله «رع» المسيطر على العالم، وقد كانت هذه الفكرة متغلغلة في نفوس الملوك، حتى إنهم كانوا يعتقدون أنهم متصلون به اتصالًا روحيًّا مباشرًا، وأنه هو الذي أنجبهم بطريقة خَفِيَّة لا يَعلَم سرَّها إلا هو، وقد كان المعبد الذي بُني لهذا الإله في عهد الدولة الوسطى في «الكرنك» بسيطًا، غير أنه أخذ يَعظُم ويتَّسِع حجمُه في عهد «تحتمس الأول» الذي أقام له معبدًا عظيمًا، وقد زاد في هذا المعبد كل الفراعنة الذين خلفوه، وأمدُّوه بالمُؤَن والذخائر، وجمَّلوا أرجاءَه حتى أصبح بهجة العالم القديم والحديث، غير أن هذه المباني لا تمثِّل إلا جزءًا صغيرًا مما كان يتدفَّق على الإله من الخيرات التي لا ينقطع معينُها، ففي عهد «أحمس الأول» نرى لدينا قائمة هائلة بالأواني الفاخرة والقلائد والأكاليل وطرائف الحُلِي وأدوات العبادة التي صيغت كلها من الذهب النُّضَار والفضة والأحجار الكريمة وخشب الأرز من بلاد «لبنان»، وكل هذه مما أهداه الفرعون لوالده «آمون رع»، يُضاف إلى ذلك الأوقاف والعربات والعبيد، وأسرى الحرب مما أفاء به الإله عليه. وبذلك تكوَّنتْ في البلاد ملكية خاصة بالإله ذات نظام يشبه نظام الحكومة، فكان لها خزائنها ومخازنها ومصانعها، وموظفوها وإداراتها وعبيدها، وكانت منفصلة عن أملاك بيت الفرعون حتى جاء عهد «تحتمس الثالث» فوكل أمر الإشراف عليها لوزيره «رخ مي رع» الذي كان رئيس وزارة الوجه القبلي (راجع الجزء الرابع إلخ)، وكان للآلهة الآخرين بطبيعة الحال أملاك خاصة، مثل الإله «آتوم» صاحب «هليوبوليس»، والإله «بتاح» رب «منف»، والإله «تحوت» رب «الأشمونين»، والإله «أوزير» صاحب العرابة المدفونة، وقد كان لكل منهم أملاك في الدائرة التي تحيط به،٥ كما كان يقدِّم له الفرعونُ الهدايا مما يستولي عليه من فتوحه.

والواقع أن الاهتمام بالإكثار من المعابد الجديدة وإقامة الشعائر الدينية كان يسير على حسب ما في البلاد من ثراء ورخاء. وقد كان ازدياد المباني الدينية وانتشارها يدعو إلى ازدياد عدد الكهنة، وكانوا يحتلون بطبيعة الحال مكانة ممتازة ويعيشون من دخل أملاك المعبد الخاصة، والهِبَات التي كان يُغدِقها الفرعون عليه. وقد كان أولاد عِلْية القوم — ولم تكن بعدُ قد تكوَّنت طائفة كهانة وراثية — يَجِدُّون في البحث للانخراط في سلك كهنة المعبد، وقد كان أثر ذلك أنْ فُصلت كل ممتلكات المعابد عن أملاك الدولة، وأصبحت لا تَدفَع أية ضرائب، وكانت مع ذلك تُوضع تحت المراقبة الملكية كما ذكرنا آنفًا، كما كانت الترقيات بين رجال الكهانة من أدنى درجة — والد الإله ثم المطهر — حتى أعلى رتبة وهي «رئيس كهنة آمون» يقوم الفرعون بالتعيين فيها، فمثلُها في ذلك مثل الوظائف الأخرى في مصالح الدولة. ولكن حقيقة الأمر أن نظام الكهانة هذا قد أوجد حكومة داخل الحكومة المصرية كانت تسير على أسس متينة، وكان رجالها يُعَدُّون المنفِّذين لأوامر الإله مما جعلها تمتاز عن حكومة البلاد الدنيوية بما يُحيطها من السرية والرهبة التي لا يمكن انتهاك حرمتها. ولقد كان من جرَّاء ذلك أنْ أوْجد فراعنة الدولة الحديثة قوة عظيمة نَمَتْ وترعرعت فوق رءوسهم وهم في غفلة لا يدرون أنهم بذلك قد وضعوا بذورًا لإنبات قوة عظيمة في البلاد انتهتْ بما جمعت من سلطان وقوة إلى القبض على زمام الحكم في البلاد بقيام دولة الكهنة كما سنرى بعد.

١  والواقع أن ما وصل إلينا من المعلومات عن نظام الحكم في عهد الدولة الحديثة أقل بكثير مما وصلنا في عهد الدولة القديمة أو الدولة الوسطى، وذلك لأن نقوش المقابر التي وصلتْنا من عهد الدولة الحديثة عن الإدارات المحلية قليلة جدًّا، بل كل ما لدينا غير الأعمال الحربية التي قام بها بعض رجال الدولة في خدمتها، ضرب الضرائب وتسليم الجزية وما أشبه هذا، ذلك إلى ما كان يُغدِقه الفرعون على هؤلاء الرجال من الإنعامات.
ونجد في هذه النقوش التغير البارز الذي ظهر في هيئة الحكومة. وليس لدينا مثال خاص في هذا الموضوع. وقد جمع الأستاذ «أرمان» بعض معلومات مختصرة في هذا الصدد في كتابه «مصر» (“Aegypten und Aegyptischen Leban”, p. 114–145). أما المعلومات التي نجدها في العصور المتأخرة من عهد الدولة الحديثة، (مثل محاضر القواضي في عهد الأسرة العشرين) فيجب ألا نتخذها أساسًا للحكم على سير الأمور في العهد الذهبي للدولة الحديثة؛ وذلك لأن القوانين كانت قد تغيرت. والمصادر الأصلية لنظام الحكم في عهد الأسرة الثامنة عشرة هي النقوش التي نجدها في مقبرة الوزير «رخ مي رع» وما شاكلها من نقوش الوزراء الآخرين في ذلك العهد (راجع ج٤ Davies, “The Tomb of Rekh-mi-Ré”. PP. 84–94; “Newberry, The Life of Rekh-mara”, & Sethe, Urk. p. 1086ff. & Breasted, A. R. II, §ff).
ويظن الأستاذ «زيته» أن تنصيب الوزير يرجع عهده إلى الدولة الوسطى، كما سبق شرح ذلك (راجع مصر القديمة ج٣).
٢  (A. S. XL, p. 185).
٣  في عهد الفرس كان الحلف يعقد بالإله المحلي بدلًا من الفرعون. غير أننا لم نعرف بأي إله يعقد اليمين إذا كان المتخاصمان مختلفين في الديانة (S. Ber. Berl. Ak. 1911. p. 140).
٤  وقد أصدر الأستاذ «جاردنر» كتابًا خاصًّا شرح فيه ما جاء في هذه البردية وغيرها من هذا النوع وأطلق عليه اسم “Ancient Egyptian Onomastica” في ثلاثة مجلدات. وقد تناول البحث في كل كلمة وردت في القوائم الثلاثة الهامة التي من هذا النوع. ويقول عن محتوياتها إنها كانت الخطوة الأولى نحو تأليف دائرة معارف. وقد فسر لنا السبب في تسمية كتابه «أونوماستيكا» أي قوائم كلمات بقوله: «إن هذه الكلمة اليونانية تعني قوائم أسماء أشياء رُتِّبت تحت أنواعها، وإنها ليست سلسلة كلمات مرتبة على حسب الحروف الهجائية» (راجعIbid. Vol. I, 4-5).
٥  وما أشبه ملكيات هذه الآلهة واستقلالهم في إدارتها بالحكم الإقطاعي في عهد الدولة الوسطى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤