مقدمة الطبعة الثانية

عندما يصل هذا الكتاب إلى يديك، تكون قد مرَّت خمس وعشرون سنة على صدور طبعته الأولى، وعلى رحيل الفيلسوف مارتن هيدجر عن دنيانا (في يوم الأربعاء الموافق للسادس والعشرين من شهر مايو سنة ١٩٧٦م)، ولقد طوى القرن العشرون صفحاته ودفاتره، وأسلم ليد الذكرى أوراقه السوداء — التي امتلأت بثوراته وحروبه، وصراعاته وأيديولوجياته، ونكباته وأزماته ومواجعه — كما أودعها أوراقه المذهبة بأسماء عدد كبير من المفكرين والعلماء والأدباء والمصلحين والمبدعين الذين تزهو البشرية بإنجازاتهم في شتى الميادين. من يدري ماذا سيبقى في ذاكرة الأجيال القادمة من أعياد هذا القرن ومآتمه؟ ومن يدري إن كانت ثوراته التَّاريخيَّة وأحداثه السياسيَّة الكبرى لن تسقط في ليل الخواء والعدم، فلا يبقى لمن يَعبر نفقه بأجنحة الخيال والتذكر بعد عشرات السنين أو مئاتها، سوى نقاط خافتة الضوء، أشبه بالأنوار المرتعشة للمنارات البعيدة على شواطئ بحر لا متناهٍ، ترسلها عيون بعض الشخصيات التي عاشت في هذا القرن، وأضافت إلى رصيده كنوزًا ورموزًا باقية، من هذه الشَّخصيات ذات العيون المضيئة تُطل علينا النظرات الجادة الحزينة لهيدجر الذي عاش محنة القرن، وكان — بعد أفلاطون وأرسطو — واحدًا من أعمق مَن سأل السؤال الفلسفي عن الوجود.

لم تزل الحياة الفلسفية والثقافية منذ وفاة هيدجر وحتى يومنا الحاضر مشغولة بفكره، ولم تزل تقلب النظر في جوانبه المختلفة وإشكالاته التي تركها وراءه، وقد انتشرت أصداء هذا الفكر في آسيا — لا سيَّما اليابان — وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأخذ الناطقون بالإنجليزية يحتفون به، وينقلون نصوصه عن آخرها إلى لغتهم بعد أن أداروا له ظهورهم زمنًا طويلًا، ورفضوه بحجة غموضه الصوفي وصعوبة لغته، وتزايد الاهتمام الهائل به في فرنسا١ لدى أنصاره وخصومه على السواء، وعند الوجوديين والبنيويين والتفكيكيين والفلاسفة الجدد، بالإضافة إلى عدد كبير من الكُتَّاب والشعراء، على رأسهم صديقه رينيه شار، وتَطرَّق الدارسون إلى العديد من الموضوعات المتشعبة التي تتعلق بمدى أصالة فلسفته وتأثيرها (كعلاقتها بالماركسية عمومًا وتأثيرها على الماركسية الجديدة، أو الماركسية الهيجلية والوجودية كما تُسَمَّى أحيانًا عند أصحابها من رواد مدرسة فرانكفورت النقدية الاجتماعية، على الرغم من الهجوم الشرس الذي شنَّه عليه واحد منهم — وهو أدورنو — في كتيبه اللاذع عن «لغو الأصالة»)، كما تتعلق بقدرتها على الحياة في الحاضر والمستقبل بعد أن زادَت محنة العصر التقني التي طالما حذر الفيلسوف منها في أواخر حياته، وأصبحت قضية بقاء الأرض والجنس البشري أو اندثارهما — لا بقاء الحضارة الغربية العلمية والتقنية وحدها — همًّا كبيرًا ومشكلة مطروحة على ساحة البحث والمناقشة، وازدادت عزلة الناس عن بعضهم البعض وصدامهم العنيف أيضًا مع بعضهم، وعمت الشكوى من أخطار التلوث وأسلحة الدمار الشامل، وتخريب خضرة الأرض، والتعصب والإرهاب والإحساس العام بالاقتلاع من الجذور، والاغتراب عن النفس والمجتمع والعالم والوطن والسكن … بحيث تفاقمَت المحنة التي تحدَّثَ عنها فيلسوف زمن المحنة واتخذت أبعادًا مهلكة، وارتدت أردية مدمرة تذكرنا بالرداء المسموم الذي نسجته إليكترا المهجورة للزوج الغادر الذي خانها وتخلَّى عن أطفاله فانتقمَت منه بقتلهم أيضًا.
من أراد أن يفهم الشاعر، فليذهب إلى بلد الشاعر.
من أراد أن يفهم الشعر، فليذهب إلى بلد الشعر.
بهذين البيتين الشهيرين للشاعر «جوته» نبدأ محاولتنا لتقديم هيدجر والتعريف بالملامح الأساسية لفكره، ويجدر بنا قبل ذلك أن نستجيب لدعوة الشاعر الحكيم، ونزور البيئة التي نشأ على أرضها وحرص على العيش فيها طوال حياته، أي أن نعبر إليه من فوق العتبة الفلسفية الخلفية٢ فنلقاه وجهًا لوجه، ونتحدث إليه ونجلس معه، ونرى بأعيننا المكانَ الذي تعودت أن تراه عيناه، والفلاحين البسطاء الذين أحبهم وتعاطف معهم، ووجد متعته الحقيقية في الكلام معهم، وتدبر مشاغلهم ومشاكل حياتهم (إلى الحد الذي زعم فيه بعض خصومه الساخرين أن فلسفته هي فلسفة الأرض الريفية التي أحبها، وأن ميتافيزيقاه ليست سوى ميتافيزيقا بلدته الصغيرة الراقدة في حضن الغابة السوداء).

وُلد مارتن هيدجر سنة ١٨٨٩م في بلدة مسكيرش التي تقع بالمنطقة «الألمانية» من ولاية بادن-فيرتمبرج بجنوب ألمانيا، وتقع البلدة والمدينة والمنطقة في ظلال الغابة السوداء التي تنبسط في واديها المدينة الجامعية الهادئة «فرايبورج» وضواحيها وقراها الصغيرة المتناثرة، كما تزهو بجبالها الشامخة إلى ذرى عالية، من أهمها وأشهرها «الشاونزلاند» و«الفلدبرج» الذي بنى الفيلسوف على منحدره كوخه الشهير الذي أصبح خلوته ومزار المهتمين بفكره من كل أنحاء العالم، في هذا الكوخ في «توتناوبرج» دوَّنَ كتابه الأكبر «الوجود والزمان» (١٩٢٧م) في أسابيع معدودة، كما عكف بعد ذلك على معظم بحوثه ومحاضراته ورسائله؛ كوخ فقير مُتواضع ربما يذكرنا بصوامع الصُّوفيَّة وأكواخ حكماء الصِّين القدماء، أثاثه أبسط أثاث ممكن، كراسي وأرائك من خشب الغابة، وأسِرَّة «أسبرطية» البساطة والخشونة، وماء لا يجري في المواسير بل يحتاج لمن يجلبه من نبع مجاور، ما أكثر ما قضى الرجل في كوخه أسابيع طويلة في وحدة مطلقة، يعكف على عمله، ثم يجلس على أريكة موضوعة أمام الكوخ لنتأمَّل الجبال والوديان والسحب الخفيفة العابرة والثلوج البيضاء التي تنشر عليها أجنحتها في فصل الشِّتاء وتجذب إليها هواة التزحلق من كل أنحاء العالم الغربي (وقد كان هو نفسه في شبابه وكهولته من هواة هذه الرياضة الخطرة الممتعة).

وتتجمع الأفكار وتنضج، فيدخل كوخه ليستأنف عمله أو يذهب إلى المطعم الصغير القريب منه ليسترسل في حديث لا ينتهي مع الفلاحين الذين يحبونه ويجلونه ويتبسطون معه، وإن لم يخطر في الغالب على بال واحد منهم أن يحاول قراءة سطر واحد من لغته الغربية المعقدة، الصادرة عن فكر جاد وعسير، لا يفتأ يجترُّ نفسه ويمتح من نبعه الخاص العميق، مكتفيًا بوحدته، ومنكفئًا على نفسه المفطورة على الاكتئاب الذي يشع الأسى والكمد على قسمات وجهه وأخاديده الغائرة ونظراته المتشككة المتكبرة.

ولعل معرفته المبكرة والصادقة بطبيعة معدنه وغرابة النواة الكامنة في أعماق كيانه هي التي جعلته ينأى بنفسه عن الحياة العامة، ويمتنع عن بذل أدنى جهد للوصول لما يُسَمَّى بالرأي العام أو الاتصال به، فلم يكد يُشارك — إلا فيما ندر — في المؤتمرات الفلسفية التي تُعقَد في بلده أو خارجها، ولم يفكر أبدًا في شغل منصب مرموق في جامعة أخرى أشهر أو أعرق من جامعته (وقد رفض الدعوة التي وجهت إليه مرتين لشغل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة برلين الحرة)، ولم يسع لحظة واحدة من حياته للدخول في زحام السُّوق الثَّقافية ليبحث كغيره عن الرواج والشهرة والسلطة … لقد آمن طوال حياته بأن خطاب الفكر غير سلطوي بطبعه، وأن الفكر هو محنة المفكر الوحيد الذي هو أبعد الناس — أو ينبغي أن يكون أبعدهم! — عن التاجر النشط والواعظ اللبق والغوغائي الفظ، كما أنه تشكك على الدوام في إمكان تأثير الفلسفة بوجهٍ خاصٍّ على تغيير الواقع بطريقة مباشرة؛ لأن أقصى ما يملكانه هو أن يحولا القارئ والمتلقي من جذوره نحو الوجود والحقيقة.٣ والمرة الوحيدة التي توهم فيها أنه يمكن — بسلطة العقل والفكر وحدهما — أن يتزعم غيره أو يقوده قيادة روحية نحو انطلاقة جديدة أو بعث جديد، هذه المرة الوحيدة التي استسلم فيها لوهم النازية الزائف لعدة شهور لم تزد على العشرة — كما سوف نرى فيما بعد — كانت غلطة بشعة دفع ثمنها الغالي بقية حياته؛ فلزم الصمت المطلق وابتعد بنفسه كل الابتعاد عن شرور السياسة وزلاتها المدمرة؛ ولهذا قضى الشطر الأكبر من حياته مخلصًا لعمله الجامعي وتلاميذه ومريديه ووحدته النادرة في كوخه الشهير على منحدر الجبل الشاهق وسط الغابة السوداء.

يرى هيدجر أن الفكرة لا ينبغي أن تبقى مجردة ومكتفية بنفسها، بل ينبغي أن تتغلغل في نسيج كيان الإنسان وتدخل في صميم وجوده؛ بحيث تحوله بكليته وفي حياته الخاصة والعامة، لا شك أن هذه النظرة إلى الفكر قد أشعلت في أفكاره نيران اليقظة والعمق والجدية والحيوية إلى الحد الذي أوقعه — كما سبق القول وكما سيأتي بالتفصيل — في الوعي الزائف الذي صوَّرَ له أن فكرته — التي عرضها في الوجود والزمان — عن الصمود والتصميم البطولي في مواجهة الموت على تحقيق الوجود الذاتي الأصيل — يمكن أن تتحقق أو أن تكون قد تحققت بالفعل في الحركة القومية الاشتراكية التي عُرِفَت باسم النازية، وقد كَفَّر عن هذا الوهم الكاذب والوعي الزائف — كما سبق القول أيضًا — بالعزل من منصبه وإيقافه — من قِبَل السلطات الفرنسية التي احتلت الجنوب الألماني بعد الحرب — عن التدريس بالجامعة، فضلًا عن ملازمته للصمت المطبق عن حقيقة موقفه في دولة الرايخ الثالث، فلم ينطق بكلمة واحدة إلا بعد مرور أكثر من عشرين سنة على انتهاء الحرب، وذلك في حديث لمجلة معروفة أوصى بعدم نشره إلا بعد موته، وسوف تقرأ ملخَّصًا له في نهاية هذا التقديم.

بلغت فاعلية أفكار هيدجر وتأثيرها الجارف ذروتَيْن عاليتَيْن، ارتفعت الأولى في العشرينيات من القرن الماضي، والأخرى خلال السنوات الممتدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى رحيله في شهر مايو سنة ١٩٧٦م في بيته بمدينة فرايبورج.

أمَّا المرحلة الأولى — التي تجد ملخَّصًا وافيًا لأهم أفكارها في النصف الأوَّل من هذا الكتاب — فقد بلغت تلك الذروة مع صدور كتابه الأكبر «الوجود والزمان» — ومع أن الكتاب لم يظهر منه سوى جزئه الأول، وبقيَ الجزء المنتظر عن الزمان والوجود مجرد شذرات تمثَّلت في بحوث ورسائل عديدة متتالية؛ فقد وقع الكتاب على أرض الحياة الفلسفية وقوع الصاعقة الخاطفة، وبوأه مكانة مرموقة في الحياة الفلسفية.

وقد كان أهم ما اهتم به هيدجر في هذا الكتاب — كما سيرى القارئ بنفسه — هو إعادة الحياة إلى السؤال الأساسي عن الوجود، وهو السؤال الذي سبق أن قال عنه أفلاطون إنه خاض من أجله صراعًا يشبه الصراع مع العمالقة، لكن إحياء السؤال لم يكن معناه — كما حدث منذ أرسطو وحتى هيدجر نفسه — هو معالجته كمشكلة مجردة، ولا هو التحليل التقليدي للمقولات التي ينضوي تحتها الشيء أو الموجود، بل كان هو النظر في معنى الوجود من خلال علاقته بالإنسان وعلاقة الإنسان به وفهمه المسبق والمباشر له؛ لهذا تحتم على الفيلسوف أن يبدأ بالكلام عن أهمية طرح السؤال المنسيِّ، وعن فهم الإنسان له ووجود هذا الإنسان ومقولاته (أو لنقُل وجوداته!) الأولية فيما سَمَّاه بالأنطولوجيا الأساسية، وكان عليه أن يتحدَّث عن الموجود الإنساني الملقى به في العالم٤ (أو الدازاين) في حياته اليومية وتعامله مع الأشياء والأدوات، وسقوطه في اللغو والثرثرة والفضول التي تطغى على الحياة البشرية العادية.

وقد قابل الفيلسوف ذلك السقوط بإمكانية توصل الإنسان إلى ذاتيته الحميمة ووجوده الأصيل وحريته في الاختيار من خلال تجربة القلق الذي يستشعره ويعانيه في كل لحظة في مواجهة الموت والعدم المحتوم الذي لا يعرفه موعده؛ بذلك قدَّمَ تفسيره الوجودي للواقع والحاضر المتردي في حضيض بغير قرار، كما قدَّمَ تحليلًا عميقًا لزمانية الموجود الإنساني الذي «يشرع» نفسه أو يتجه على الدوام صوب المستقبل.

واصل هيدجر بعد «الوجود والزمان» معالجة فكرة الوجود في كتابات مختلفة، ومن زوايا متعددة، وانشغل بمشكلات منهجية طرحها في أعماله الثلاثة «ما الميتافيزيقا» و«رسالة عن النَّزعة الإنسانيَّة» و«الهوية والاختلاف» (الذي يدور حول الفارق الأساسي بين الوجود ذاته، وبين الموجودات المتنوعة) وتفرغ لدراسات عديدة في تاريخ الفلسفة (عن أنكسمندر، وبارمنيدز، وهيراقليطس، وأفلاطون، وأرسطو، وديكارت، وكانط، وهيجل، ونيتشه) كما شرح وأوَّلَ بعض القصائد لعدد من الشعراء الألمان (ومن أهمهم على الترتيب: هلدرلين، ورلكه، وستيفان، جئورجه، وتراكل، وجوتفريد بن) بجانب مشكلات أخرى عن اللغة والفن والتقنية (راجع الفصول الأخيرة من هذا الكتاب)، وأدرك هيدجر من كل هذه المحاولات أن التفكير الحقيقي في الوجود لن يتمَّ عن طريق التفكير في الإنسان، وأن العكس من ذلك هو الأصح؛ أي عدم التفكير في الوجود من جهة الإنسان، بل التفكير في الإنسان وفي الواقع المتناهي بأكمله من جهة الوجود، وتوصل في هذه الأثناء إلى الصيغة التي سنقف عندها على الصفحات التالية، وهي «رجعة» الفكر أو عودته للوجود نفسه. وقد راح يكافح طوال العقود الأخيرة من حياته لتوضيح هذه الفكرة دون أن تخرج في تعبيره عنها من ضباب الغموض الذي يقترب — في تقديري على الأقل — من غموض الغنوص أو نزعة الإشراق الصوفية، والمهم أن الأمر بعد التحوُّل إلى «الرجعة» لم يعد يتعلق بالإنسان، الذي زعزعه هيدجر عن موقعه الذي كان يحتله في الفلسفات الذاتية العقلانية والإرادية منذ ديكارت وحتى نيتشه والفلسفة الوجودية المعاصرة (عند سارتر وغيره) بل أصبح كل شيء يتعلق بالوجود.

فإذا سألناه أن يقول لنا شيئًا محددًا واضحًا عن هذا الوجود، وجدناه يعزف أنغامًا متنوعةً على أوتار الحيرة والالتباس، وربما اقتربنا قليلًا مما يقصده بالوجود لو سلكنا سبيل السلب والنفي — على طريقة ما يُسَمَّى باللاهوت السلبي — فقلنا إنه ليس هو «الله» ولا هو «أساس العالم» وإنه — أي الوجود — مختلف عن أي موجود، وإنه حدث متحقق وجامع لكل ما يتصف بأنه موجود، في هذا الحدث، أو هذا القدر التاريخي كما يصفه أحيانًا، يتكشف الوجود والإنسان؛ إذ هو «اللاتحجب» الذي يحدث أو يتحقق أو يتجلى في العالم بأشكال مختلفة، ومِنْ ثَمَّ يكون الوجود هو «الإنارة»، ويكون الشعر والفلسفة من أساليب إنارة الوجود-في-العالم أو على حدِّ تعبيره من «الأقدار» التي يقدرها تاريخ الوجود على لسان شاعر أو مفكر معين، وفي مجتمع أو عصر بعينه، وعلينا ألَّا ننسى في كل الأحوال أن هذه الإنارة أو ذلك التكشُّف للعالم من طوايا التحجُّب والكمون لا يحدث من جهة الإنسان، وإنما يتحقَّق بفضلٍ من نعمة الوجود ذاته.٥

ويتحدَّث هيدجر عن «تاريخ» للوجود الذي يتكشَّف من خلاله العالم والإنسان بصورٍ مختلفةٍ في عصور وحضارات ومجتمعات مختلفة عند الصينيين والإغريق، وفي العصر الوسيط، بَيْدَ أن تحقق إنارته لهؤلاء قد اختلف عن أسلوب تحققه بالنسبة للإنسان الغربي المعاصر؛ فهو يتجلَّى لهذا الأخير في صورةٍ شديدة العدمية والسَّلبيَّة، وذلك بقدر نسيانِه للوجود واغترابِه عنه، ونسيانِه حتى لنسيانه السُّؤال عنه، وتشبثه — لا سيَّما تحت طغيان النزعة التقنية الحديثة — بالموجودات والعلوم الجزئية، فلا عجب أن يظهر له الوجود نتيجة لذلك في صورة الاضطراب والزعزعة لكل ما هو موجود، وفي غربة الإنسان عن البيت والوطن والأرض، ولا عجب أيضًا أن يُسَمِّي هيدجر عصرَه بعصر النسيان للوجود والتخلي عن التفكير فيه، ومثل هذا العصر الذي يفتقر إلى الوجود لا بد بالضرورة أن يكون هو عصر الضلال والمحنة، وأن يكون التاريخ المقدر من الوجود نفسه على الإنسان الغربي هو تاريخ العدمية، أي فقدان كل القيم قيمتها كما عرفها نيتشه، وخاض معركتها اليائسة إلى حد الجنون.

أليس ثمة خلاص من هذا القدر؟ نعم، ولكن ليس عن طريق الإنسان ولا من خلال فعله، فمن الضروري أن يتوجه الوجود نفسه ومن تلقاء نفسه من جديد صوب الإنسان السادر في ليل الضلال، وأن تصبح تجربة الوجود مرة أخرى أمرًا ممكنًا، ذلك هو أمل هيدجر في المستقبل، أمَّا في الحاضر فلا يملك الإنسان في تقديره إلا أن «يرعى» الوجود وينصت لندائه ويساعده على أن «يقول»، وفي هذا تكمن — في رأيه — مهمة الإنسان وقيمته وكرامته … ويبقى أن الحديث عن هذا كله يفوق طاقة الفلسفة بمعناها التقليدي، وأن فكر المستقبل لن يكون فلسفة وإنما سيكون — على حد تعبير الفيلسوف وبلغته المنحوتة بأزاميل ثقيلة! — فكرًا في حالة الهبوط «في فقر ماهيته المؤقتة، وسوف يكون عليه أن يجمع اللغة في القول البسيط»، أمَّا الإنسان فلن يكون أمامه إلا أن يتعلم الصبر على الحياة «فيما لا اسم له»، وأن يعبر محنة نسيان الوجود بتعلُّم الإنصات للغته وانتظار تفتحه وتجليه وإنارته لكل من العالم والإنسان اللذين لا ينفصلان.٦

يختلف هيدجر من غيره من الفلاسفة، وقراءتنا له تحتم علينا أن تكون مختلفةً عن قراءتنا لهم، إنه ينتمي لذلك الجيل الطليعي والثوري الذي رأى النور في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وصمم على أن يشق لنفسه طريقًا جديدًا ويبدأ بنفسه ولنفسه بداية جديدة تحطم الأشكال التقليدية السائدة وتدعو لمراجعة ما مضى وإعادة النظر في كل ما وصل إليها، وإذا أردنا أن نبحث له عن شبيهٍ من جيلِه في ميادينَ أخرى للحياة العقلية والروحية، ألحَّ علينا تشبيهه بكافكا وجويس في الأدب القصصي والروائي، وبيكاسو في الرسم والتصوير، ورلكة وفاليري في الشعر، لقد أكدت جهود هيدجر كلها — ربما أكثر مما فعلته الفلسفة في مسارها الطويل — أن الفكر في جوهره «حدث يتحقق»، ولا بد للقارئ أن يحقِّقه في نفسِه وبعيد تحقيقه معه أو ضده إذا شاء؛ فالفكر طريق — كما علمنا أفلاطون من قبل — وهو بهذا المفهوم لا يريد التوصل إلى نتائج أو إجابات نهائية ولا حتى مؤقتة، وإنما هو — كما قلت — طريق يقطعه المفكر والقارئ الذي يفكر معه ويصر مثله على جدية السؤال، حتى لو كان سؤالًا واحدًا وكلفهما طرحه ومحاولة الإجابة عليه عمرهما كله.

من هنا يصبح أول ما يطالبنا به الفكر والمفكر هو أن «نتحول» لا أن نفكر وحسب، وأن تتحول كذلك علاقتنا بالوجود والحقيقة، لا أن نكتفي بترديد كلمات الفيلسوف واجترار لغته وعباراته ومصطلحاته المنحوتة الشائكة كما فعل أكثر الذين فسَّروه «من خارجه» ولم يكلفوا أنفسهم مشقة تحقيق فكره وتجربة أسئلته ومعايشة قضاياه قبل الاتفاق أو الاختلاف معه، ولعل مقالة هيدجر الرائعة التي تجدها في هذا الكتاب، وهي نظرية أفلاطون عن الحقيقة، أن تكون أوضح تعبير عن هذا التحول الذي ينبغي أن يصيب الإنسان بكليته عندما يسير على طريق الفكر ويتحقَّق به (راجع الهامش السابق عن التحول).

ربما أمكننا القول بأن طريق هيدجر قد توغَّل به في ثلاث مناطق أساسية بذل كل جهده في استيعابها قبل أن يبذل بعد ذلك غاية جهده في استبعادها أو الابتعاد عنها، فقد بدأ حياته بدراسة اللاهوت قبل أن يقطع دراسته له «وهو موجع للقلب» — كما سيعبِّر عن ذلك في مرحلةٍ متأخرةٍ من حياته! — ومع ذلك يبقى فكره في صميمه وفي أعمق أعماقِه فكرًا دينيًّا، لا سيَّما في مرحلة «الرجعة» إلى الوجود نفسه الذي سنقف عندها بعد قليل.

وهو قد استوعب فلسفة الظاهريات «الفينومينولوجيا» لأستاذه هسرل بعد أن جذبته إلى حد السحر بها، وتعلم منها المران على «رؤية الماهيات»، وقدرها قبل ذلك كفلسفة منطقية ومعرفية تريد أن تكون علمًا دقيقًا محكمًا، وقدم في كتابه الأكبر «الوجود والزمان» تحليلات ظاهراتية قيمة وباقية لأنطولوجيا الوجود الإنساني التي سَمَّاها بالأنطولوجيا (أي علم الوجود) الأساسية، الأمر الذي أساء أستاذه فهمه — كما هو معروف — بل أثار استياءه إلى حد القول بأن تلميذه قد حول الفينومينوجيا إلى أنثروبولوجيا، وأن الأنطولوجيا عنده منصبةٌ على منطقة التاريخ أو التاريخي وحدها، ولم يقدر الأستاذ أن تلك الأنطولوجيا الأساسية كانت مجرد معبر لتأسيس أنطولوجيا الوجود ذاته.

ومع أن هيدجر قد تخلى عن الظاهريات عندما أصبحت في مرحلته المتأخرة مثاليةً ذاتيةً متعاليةً، وأعلن ابتعاده القاطع عنها، إلا أنه ظل في الحقيقة ظاهراتيًّا في منهج بحثه وأسلوب طرحه «الفينومينولوجي» للسؤال بغير افتراضات مسبقة من أي نوع، وبغير اكتراث بسلطة التراث الفلسفي الذي سيطالب بعد ذلك بتحطيمه، أو بالأحرى تجاوزه (راجع اعترافه عن علاقته بالظاهريات في مقاله طريقي إلى الفينومينولوجيا ١٩٦٣م بالإضافة إلى الهامش السابق عن نهاية الفلسفة).

أمَّا عن المنطقة الثالثة والأخيرة التي استوعبها على أكمل وجهٍ وأندرِه فهي منطقة تاريخ الفلسفة الغربية (ولم يبلغ إلى علمي أنه شغل في أي وقت من حياته بالفلسفة الشرقية، ربما باستثناء واحد هو اطلاعه على الفلسفة البوذية لطائفة الزن تحت تأثير الأستاذ الياباني الذي دخل في حوار معه نشر في كتابه على الطريق إلى اللغة — وهكذا ظل هيدجر أوروبيًّا مركزيًّا في دراسته للفلسفة، وألمانيًّا خالصًا في اختياره للشعراء الذين قام بتفسيرهم أو تأويلهم لصالح فكره!) لقد أتاح له طريق حياته — كما يتبين من اللوحة المنشورة في نهاية هذا الكتاب — أن يتغلغل في دراسة هذا التاريخ قديمه ووسيطه وحديثه، وأن يقدِّم تفسيرات ربما يؤخذ عليها أنها «هيدجرية» محضة، وأنها لوت في معظم الأحيان أعناق النصوص وفتشت فيها وتحتها ووراءها — بعيون هيرمينوطيقية نافذة! — لكي تنطق بفلسفة هيدجر نفسه عن الوجود والحقيقة! ولكن لا شك في أن ظل مقيَّدًا بتاريخ الفلسفة وتاريخ الميتافيزيقا على الرغم من دعوته المتأخرة — كما رأينا — إلى تحطيم هذا التاريخ أو تجاوزه نحو التفكير في الوجود نفسه، وعلى الرغم من تأكيده المستمر بأن نيتشه — الذي وصفه بأنه أشد الأفلاطونيين تطرُّفًا! — يمثل مع ماركس فصل الختام في هذا التاريخ الذي بدأ بدايته الحقيقة — التي لم يتم التنبُّه لها أبدًا — مع الفلاسفة قبل سقراط، وربما لا نعدو الصواب إذا قلنا إنه هو نفسه — أي هيدجر — وليس ماركس ونيتشه فقط، إنما يعبر عن نهايته أو عن آخر فصوله وأشدها ثورية وعدمية.٧
لا شك في أن القارئ سيتأثَّر بتحليلات هيدجر للزمان والموت والقلق والهمِّ — التي لخصناها في الفصل الأوَّل من هذا الكتاب — تأثُّرًا وجدانيًّا لا أبالغ إذا وصفته بأنه «وجودي»، وأهمية هذه التحليلات لا تأتي فحسب من أصالة البحث في «وجودات» أو «مقولات» أنطولوجياه الأساسية، وإنما تأتي من تعبيرها الصريح عن تجربة هيدجر الشخصية القاتمة بالوجود، وتعبيرها المضمر في الوقت نفسه عن روح العصر الذي وضع فيه كتاب الوجود والزمان (١٩٢٧م)، ولعل هذه العلاقة التي تربط تحليلات هيدجر للزمان بروح العصر والتاريخ الواقعي الذي كتبت فيه أن تكون — كما يرى سيلفيو فييتا٨ — هي مفتاح القضية الشائكة عن هيدجر والسياسة وموقفه من دولة الرايخ الثالث النازية في الفترة الممتدة من سنة ١٩٣٣م إلى سنة ١٩٣٤م، وهي الفترة التي سقط فيها — كما سبق القول — ضحية الوعي الكاذب والوهم الزائف في تلك الدولة التي لم يعرف تاريخ البشرية مثيلًا لها في البربرية والهمجية والوحشية.

ومع أنني أبعد ما أكون عن تبرير هذه السقطة أو الاعتذار عنها بالضعف البشري أو بالوقوع في براثن الوهم والنقص والخطأ الذي لا يبرأ منه إنسان، فإنني أرى من الضروري أن توضع القضية الشائكة (التي ازداد حولها الجدل واللغط والتجني في السنوات الأخيرة إلى حد الخلط الظالم بين الشخص والنص في وقت يعلمنا فيه النقد الجديد أن نفصل بينهما حتى لو أدَّى بنا الحال — كما فعل بعضهم — إلى الصراخ بإعلان موت المؤلف والتاريخ ليخلص لنا العمل نقيًّا من كل شائبة) أقول: أرى من الضروري أن توضع القضية في حجمها الصحيح وفي السياق التاريخي — الذي يبدو أن الفيلسوف كان في غيبوبة عن الوعي به! — والذي يلقي عليها الضوء دون أن يسوغ الخطأ الجسيم أو يهون من فداحته.

لنقلِّب قليلًا في صفحات التاريخ حتى نصل إلى عام ١٩٢٨م الذي خلف فيه هيدجر أستاذه هسرل في شغل كرسي الفلسفة بجامعة فرايبورج، ففي الرابع والعشرين من شهر يوليو سنة ١٩٢٩م ألقى هيدجر محاضرته الافتتاحية في التدريس بالجامعة تحت عنوان «ما الميتافيزيقا؟»، وتزامنت هذه البداية لحياته العلمية مع بداية الأزمة الاقتصادية والسياسية الطاحنة التي بلغت ذروتها بعد انهيار البورصة في أكتوبر سنة ١٩٢٩م والتفاف حبل المشنقة على رقبة الاقتصاد الألماني: البطالة الشاملة، الانهيارات اليومية للبنوك والمؤسسات، التضخم النقدي الرهيب … وكان من الطبيعي أن يشعر هيدجر بالقلق والهمِّ اللذين يطوقان وجوده، وهو الفقير الذي عاش على المنح الكنسية ليتمكن من إكمال دراسته، ومن الطبيعي أيضًا أن تصطبغ تحليلاته الفلسفية قبل ذلك بسنتين اثنتين بالسواد الذي ليس بعده سواد.

واتفق أن تولى هيدجر منصب مدير الجامعة في نفس الوقت الذي استولى فيه هتلر على السلطة؛ إذ انتُخب مديرًا للجامعة في الثاني والعشرين من شهر أبريل سنة ١٩٣٣م، وألقى في السابع والعشرين من شهر مايو خطبته الشهيرة عن تأكيد الجامعة الألمانية لذاتها، ويبدو أن الظروف المحيطة قد نفثت فيه سموم الوهم الشيطاني بأنه هو «الفوهرر» (أي القائد) الروحي الأوحد للجامعة؛ فقد صدر في الواحد والعشرين من شهر أغسطس عن ولاية بادن التي تتبعها الجامعة قانون يجعل مدير الجامعة هو قائدها، كما يقلِّص من دور مجلسها بحيث يصبح مجرد دور استشاري، وتصور هيدجر في تلك الخطبة أن مجتمع الأساتذة والطلبة لا ينهض ولا يتقوَّى إلا بتجذرهما معًا في ماهية الجامعة الألمانية، لكن هذه الماهية لا تتضح ولا تبلغ مكانتها وقوتها إلا عندما يصبح القادة أنفسهم مقودين، والذي يقودهم هي «ضراوة تلك المهمة الروحية التي تطبع قدر الشعب الألماني بطابع تاريخه الملزم».

لغة غريبة لا تصدر عن فيلسوف عميق النظرة أو بعيدها، ولا نعدم فيها أصداء من لغة هتلر التحريضية الخشنة المتشنجة، أضف إليها بعض تصرفات هيدجر أثناء إدارته للجامعة بما يوحي بوقوعه في وهم القيادة الروحية للجامعات الألمانية بأسرها، بَيْدَ أن غرقه في هذا الوهم الفاسد لم يستغرق العام بأكمله؛ إذ سرعان ما أفاق من سحر مخدره المسموم بتقديم استقالته في الثالث والعشرين من شهر أبريل سنة ١٩٣٤م، وبذلك انتهت فترة النشاط السياسي الأسود والوحيد في حياته، وبعدها أسقطه النظام الإرهابي كذلك من حسابه، وإن واصل مضايقته ومراقبته له — كما سنرى بعد قليل في الحديث الذي أجرته معه مجلة شبيجل ونشرته بعد وفاته بخمسة أيام — كما لزم هو الصمت المطلق فلم تنبس شفتاه بحرفٍ واحدٍ عن حقيقة موقفه طوال ما يربو على الأربعين عامًا، إلا عندما أفضى في شهر سبتمبر من عام ١٩٦٦م بالحديث الذي أشرت الآن إليه.

وقبل أن نصل إلى هذا الحديث علينا أن نقف قليلًا عند تحليلاته التي سبقت الإشارة إليها في «الوجود والزمان»، والعجيب في هذه التحليلات أنها كشفت كشفًا أصيلًا عن زمانية الموجود الإنساني المتناهية باعتبار أنها هي أساس تاريخيته، والأعجب من ذلك أن طريقته المنهجية الصارمة في هذا التحليل — التي تأثَّرت بغير شك بمنهجية فلسفة الظاهرات غير التاريخية بطبيعتها، بجانب تأثُّرها أيضًا بمنهجية اللاهوت والعلوم الطبيعية والرياضية التي سبق له دراستها — لم تكشف له عن روح عصره التاريخي الذي عاش فيه، ومِنْ ثَمَّ تولد عند قارئه انطباعٌ بأنه يتحرك في عالمٍ شبيه كل الشبه بعالم كافكا المزدحم بالكوابيس الثقيلة المعتمة؛ ولهذا تجثَّم على قلبه فظاعة ذلك القلق الذي يصفه الفيلسوف بأنه «الأسلوب اليومي الخفي لحياة الإنسان في العالم»، وأنه يلح على الموجود الإنساني الملقى به فيه ويهدد ضياعه المنسي من جانبه، ويلقي به في الشعور بالذنب، بل يصل به الأمر إلى حد القول بأن «الموجود الإنساني» — الدازاين — هو من حيث هو كذلك كائن مذنب.

هل كان التحليل الأطولوجي الأساسي مبرِّرًا لكل هذه الفظاعة والقتامة؟ وهل يكفي هو وحده لتفسيرها؟ وما الذي جعل هذه اللغة المزدحمة بالمفاهيم اللاهوتية لا تذكر «الله» مرة واحدة، بل تعطي الإحساس — الخاطئ — بالإنكار والتجديف والإلقاء بالإنسان في عالم منسي ومحكوم عليه بالضياع؟ ولماذا يُكثر الفيلسوف من الكلام عن القلق والهم والذنب بوصفها «وجودات» أو مقولات أو مقومات وجودية أساسية ويحرمنا تمامًا من «وجودات» أخرى لا تقلُّ عنها تعبيرًا عن البناءات الأساسية في وجود الإنسان كالحب والأمل والفرح والثقة والمسئولية والانتماء «للآخر» المحبوب … إلخ بل ربما فاقتها في أهميتها وقدرتها على الكشف عن ماهية الإنسان الموجود في العالم ومع الناس والمتجاوز له أو المتعالي عليه في آن واحد؟

لعل التفسير الوحيد لذلك كله — وهو تفسير غير قاطع وغير ملزم — أن يكون كامنًا في روح العصر نفسه، فقد كان عصر القلق الشامل والهم المُطبَق الذي اتفق لصاحبنا أن يدون فيه كتابه الأساسي، هل نخلص في النهاية إلى أن «الوجود والزمان» ربما كان — عن غير وعي واضح من صاحبه! — مرآة عكست موقفًا تاريخيًّا ووجوديًّا عصيبًا حكمته محنة قاسية حاصرت ألمانيا وشعبها في الثلث الأوَّل من القرن العشرين بأسوارها الاجتماعية والاقتصادية والميتافيزيقية المخيفة؟

لننظر مرة أخرى إلى هذا الكتاب في سياق الأدب المعاصر له؛ بغية إلقاء المزيد من الضوء عليه، فمنذ عهد الرومانسية المبكرة حتى تفجر الحركة التعبيرية في الفن التشكيلي وفي الأدب مع بدايات القرن العشرين، أخذت أصوات «الحداثة» الأدبية والفنية في ذلك الحين تردد الكلام عن وحدة الإنسان في العالم وغياب المعنى، وعن القلق واليأس والاقتلاع من الجذور والاغتراب عن البيت والوطن … وراح التعبيريون يطلقون تهويماتهم وصيحاتهم ونداءاتهم «للإنسان الجديد» الذي أخذوا يترنمون في شعرهم ونثرهم باقتراب بعثه إلى الحياة وزحفه في مقدمة الصفوف: «أيها الإنسان الإنسان الإنسان، قف، وانهض على قدميك!» (الشاعر يوهانيس بيشر)، «أيها الإنسان حقِّق ماهيتك وكن إنسانًا» (الشاعر أرنست شتادلر)، «أين هو القائد الذي يمكن أن يقود خطانا؟ إننا نبحث عنه في النور!» (الكاتب المسرحي جورج كايزر).٩

في هذا المناخ الذي يترقب فيه الناس البعث ويتغنون بالتجدد ويتنادون باليقظة والنهوض؛ قدم هيدجر تحليلاته لبناء الوجود الإنساني، وألقى خطبته السابقة التي دعا فيها إلى التصميم الهادف لتحقيق جوهر الوجود، وحثَّ قُرَّاءَه على الإصرار على تحقيق الوجود الذاتي الأصيل، وحذرهم من السقوط في حضيض «الناس المجهولين» وأسلوب حياتهم المطبوع باللغو والفضول والمفتقد للحرية والاختيار، صحيح أن تحليلاته بقيت تحليلات أنطولوجية خالصة، وأن دعوتَه لتحقيق الوجود الأصيل لم تقترن بأي تعليمات أو نصائح عملية، بل بقيت بعيدةً كل البعد عن التهويمات المسيحانية (أو الخلاصية) التي أطلقها التعبيريون؛ غير أن بُعد المستقبل الذي ركز عليه الفيلسوف في تحليلاته للبنية الزمانية والتاريخية للموجود الإنساني ربما يكون قد أغراه بالوقوع في الوعي الزائف بأن استيلاء النازيين على السلطة يمكن أن يقترنَ بالبعث والتجدُّد الحيوي والتصميم البطولي على تحقيق الحياة الأصيلة في مواجهة الموت والخطر، وربما يكون قد أغراه كذلك — في فترة زمنية محددة — بأن يكون هو نفسه القائد الروحي والفلسفي لهذا «الفوهرر» المبشر بالبعث الجديد أو أحد قادته على أقل تقدير!

بَيْدَ أن الوهم والوعي الزائف لم يستمرَّا طويلًا كما قلت، فسرعان ما أفاق منهما الفيلسوف في ربيع سنة ١٩٣٤م، وأدرك عمق الهاوية التي سقط فيها عندما تصوَّر أنه يمكن أن يكون سندًا لنظام فاشي مرعب تجلت له بشاعة عدميته بأشكال مختلفة خلال العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، ما الذي فتح عينيه على هذه العدمية المتحكمة في النظام وفي روح العصر ومحنته؟ وما الذي ردَّ إليه الوعي التاريخي المفقود الذي طال غيابه عنه؟ إنها دراسته المتعمقة في تلك السنوات لعدمية نيتشه «آخر العدميين الأوروبيين» كما سمى نفسه بحق؛ فقد فسَّر نيتشه الميتافيزيقا والفلسفة الحديثة بأنها هي تاريخ الدوافع الخفية التي تهيمن عليها «إرادة القوة»، وتتمثَّل حقيقتها الأخيرة في «تجريد كل القيم من قيمتها»، أي في العدمية، وقد عكف هيدجر على دراسة نيتشه في الفترة الزمنية الممتدة من ١٩٣٦م إلى ١٩٤٠م عندما كتب مقاله الشهير عن كلمة نيتشه عن موت الإله (ونشر المقال في كتابه دروب مسدودة عام ١٩٥٠م) وانصرف إلى محاضراته عن نيتشه (التي جمعها في كتاب من جزأين صدر في عام ١٩٦١م)، ولكنه — بالمنطق الكامن في فلسفته! — سحب العدمية على تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا الغربية بأسره، وأخذ يكشف في رسائل وبحوث متوالية عن العدمية الكامنة فيه منذ أفلاطون حتى فلسفة نيتشه نفسه الذي عدَّه — بجانب ماركس كما سبق القول — خاتمة هذا التاريخ وآخر فصوله؛ إذ رأى أن نظرية نيتشه عن إرادة القوة بوصفها «جوهر كل ما هو واقع» وإرادة المزيد من الحياة، فقد بلغت بالميتافيزيقا الحديثة للذاتية غاية نهايتها وتمامها، بل لقد توسع في ذلك حتى ذهب إلى أن تاريخ الميتافيزيقا الغربية — أو العقلانية الغربية كما وصفها ماكس فيبر — هو في حقيقته تاريخ نسيان الوجود الذي يتمثل في عصرنا في سيطرة الفكر العقلاني والتقني والحسابي الحديث (وكلها أفكار شديدة التأثُّر بفلسفة الحياة عند دلتاي وبرجسون وزيميل وكيزيرلنج ولودفيج كلاجيس بوجه خاص). من هنا توصل هيدجر إلى فهم مغاير للفاشية التي حاولت أن تستر عدميتها أو تعوض عنها بالتنظيم المطلق لكل شيء؛ ففي بحث كتبه في أواخر الثلاثينيات ولم ينشر إلا في سنة ١٩٥٠م تحت عنوان «التخلي عن الوجود والضلال» نراه يُحلِّل مبدأ القيادة مع تحليله للحرب والأيديولوجية التي تقسم البشرية إلى بشرية فوقية وأخرى تحتية، وهو يُرجع هذا كله للفراغ الناجم عن التخلي عن الوجود وللعدمية المترتبة عليه، إن ظهور «الفوهرر» (بالجمع)، أي: القُوَّاد، هو النتيجة الضرورية لتحوُّل الوجود إلى شكل من أشكال الضَّياع الذي ينتشر فيه الفراغ والخواء. القواد في هذه الرؤية هم العمال المسلحون بكل الوسائل الكفيلة بصيانة الموجود في كل مظاهره ومناطقه، وكانوا هم الذين يلمون به ويحسبونه؛ ومِنْ ثَمَّ يسلمونه للفراغ والضياع والضلال، أمَّا الحرب فهي فرع لاستغلال الموجود واستهلاكه، وهي حرب مستمرة حتى في الأوقات التي تُسَمَّى بأوقات السلام، وهكذا تكون الحرب المتمثلة في استغلال الموجود مع كل الطبائع القيادية التي تُشرف عليها عملية يحركها ويحددها من داخلها ذلك الفراغ الكامل أو العدمية المطلقة الكامنة فيها، وهكذا أيضًا تُصبح الأرضُ هي بيئة الضلال، كما تصير من جهة تاريخ الوجود هي: «كوكب الضلال».

ذلك هو الخط الفكري الذي تابعه هيدجر بعد ذلك عندما اتجه لتفسير ماهية التقنية الحديثة في محاضرتيه عن التقنية وعن الرجعة (١٩٦٢م)؛ فالتقنية هي الشكل الشامل لاستغلال العالم واستهلاكه، وهي لا تجهل ما تفعله وحسب، وإنما تنحرف بغير تدبُّر نحو تحقيق الطموح الذي يتحدَّاها لتحويل العالم في مجموعه إلى موضوعٍ للاستهلاك والاستغلال.

بَيْدَ أن ماهية التقنية شيءٌ غير تقني على الإطلاق، كما أنها ليست مجرد فعل بشري، إنها تنبع من علاقة محددة وأساسية للإنسان مع الوجود في مجموعه، وهذه العلاقة قد تم الإعداد لها وبلغت أوج تمامها في الميتافيزيقا الغربية، وهذا الشكل المحدَّد لاقتحام الموجود والتعامل معه بصورة استهلاكية واستغلالية يسميه هيدجر بكلمة يصعب ترجمته وهي كلمة «الوضع» التي تعبِّر عن قهر الإنسان للواقع وشده إلى التعسُّف معه والتصرف فيه.١٠

وهذا الوضع — منظورًا إليه من جهة تاريخ الوجود — هو شكل من أشكال تكشف الموجود، بل هو أخطر هذه الأشكال جميعًا إن لم يكن هو الخطر الأكبر الذي يواجه تاريخ البشرية، لقد أصبح الإنسان على شفا السقوط في الهوَّة التي تجعله مجرد كائن أو عنصر بين كائنات وعناصر عديدة، ولكنه لا يفطن لهذا الخطر، وإنما يزهو بنفسه ويتصور أنه قد صار سيد الأرض (والغريب أن هيدجر الذي انطلق من هذا الفهم غير المألوف للتقنية قد استبصر في ذلك الوقت المبكر بالمشكلات الناجمة عن تقنيات الهندسة الوراثية والاستهلاك الزائد للطاقة والمواد الخام في المجتمع التقني الحديث وفقدان العلاقة الحميمة بالأرض إلى حد الاغتراب والإحساس باقتلاع الجذور).

كيف يجد الإنسان الإمكانية الوحيدة للتحرُّر من أسر العلم والتقنية؟ وهل تنطوي التقنية على «الإنقاذ» الذي سينمو من داخلها (مصداقًا للبيت الشهير لشاعره المفضل هلدرلين: حيثما يكُن الخطر، ينمُ المنقذ ويظهر) وكيف سيكون وجود الإنسان وتفكيره تحت وطأة هذا العالم، وهل سيكون له مستقبل؟ هذه الأسئلة كلها ترجع بنا إلى السؤال الأساسي الذي طرحه هيدجر في «الوجود والزَّمان» عن معنى الوجود ومدى قدرته على أن يشغل التَّفكير الفلسفي في حاضر الإنسان ومستقبله، وهو ينصب في الواقع على ماهية الإنسان أو حقيقته في غمار هذا العالم الذي يعيش فيه الإنسان الغربي (والإنسان غير الغربي الدائر في فلك الحضارة الصناعية)، هذا العالم الذي هيمنت عليه السيطرة العلمية والتقنية — كيف سيعيش الإنسان كإنسان في هذا العالم؟ أنقول إنه سيظل ينتج نفسه من خلال إنتاجه لشروط حياته عن طريق العقل العلمي والتقني الذي يحسب ويقنن؟

يبدو أن أسلوب وجود الإنسان في هذا العصر قد تحدد من خلال التفسير العلمي والتقني للعالم، واعتبار الأرض مصدر الطاقة والمواد الخام، ومن خلال تنظيم العمل وتقسيمه وتنظيم الجماهير العاملة لتكون في خدمته، ثم من خلال البيروقراطية والتشابك المعقد بين السياسة والاقتصاد والعلم والتقنية فيما نسمِّيه بالحضارة أو المدنية الحديثة، أم ترانا نقول إن الإنسان كإنسان هو الكائن الذي يخضع لقدر معين يفرض عليه أن يتحمَّل مسئوليته ويضع عبئه على كاهله؟

يبدو أن السؤال في صيغته الأخيرة قديمٌ قدم الفكر الغربي نفسه، وذلك منذ أن عُرِف هذا الفكر عند الإغريق أن الإنسان كائن فان، وأنه منفتح على الموت؛ ومِنْ ثَمَّ فهو — على حد تعبير هيراقليطس — مشارك بالضرورة وبسبب طبيعته الفانية في اللعبة الكونية الكبرى، ولعل تفكير هيدجر في ماهية الإنسان في عصرنا التقني الحديث ألَّا يكون بعيدًا عن هذا الأصل الفكري، وأن يكون نوعًا من التلقي ثم التحويل لتلك التجربة اليونانية المبكرة، فهو — أي الإنسان — ككائن منفتحٍ على الموت يحيا حياة مختلفة عن سائر الكائنات والموجودات؛ لأنَّه ينتمي «لآخر» مختلف عنها جميعًا، ولا يمكن أن يكون مجرد موجود مثلها، أعني أنه ينتمي للوجود ذاته، ثم إنَّ هذا الإنسان الفانيَ يملك ما يسمِّيه هيدجر ﺑ «الفارق الأنطولوجي»، ويقيم فيه أيضًا، وهذا الفارق — الذي ذكرناه من قبل — ليس مجرد تمييز للوجود نفسه عن الموجودات، وإنما هو في صميمه «حدث» ينكشف من خلاله أن كل موجود على هذا النحو أو ذاك إنما يوجد «بفضل» الوجود، أضف إلى هذا أن أسلوب «حدوث» الوجود أسلوب فريد؛ فهو يهب نفسه للموجود في الوقت الذي فيه يمتنع عليه أو يحتجب عنه، ووجود الإنسان — المنفتح دائمًا على الوجود أو المتعالي والمتجاوز نحوه باستمرار — هو «الموضع» الذي تحدث فيه «إنارة» الوجود وتحجبه، أو هو «موضع السر» لكل ما هو موجود أو يمكن أن يوجد؛ لهذا فإن وجود الإنسان يتحدَّد بهذا «الحدث» أو هذا «القدر»، وهو قدر لا يملك الإنسان التصرف فيه، وكل ما عليه هو أن يخضع له، وينضوي تحته ويستجيب ويتسق معه.١١

ونرجع مرة أخرى إلى عصرنا العلمي والتقني وماهية الإنسان الذي يعيش فيه، فالقدر الذي وصفناه ليس حاضرًا فيه، وإنما هو ممتنع على الإنسان أو محتجب عنه، والمشكلة أن الإنسان الذي نسي الوجود أو ضلَّ عنه أو أضاعه — كما رأينا من قبل — لا يحس بهذا الامتناع والتحجب؛ إذ لو أحسَّ به لبقيَ على علاقة به مهما تكن علاقة سلبية، ما السبب في هذا؟ الجواب أن الإنسان والعالم الذي يعيشه فيه منبتَّان عن هذا القدر؛ لأنَّ الإنسان يوجد — كما سبق القول — ككائن ينتج نفسه وشروط حياته بسبب تحكم العقل العلمي والتقني في أسلوب وجوده، وبالتالي بسبب تشويهه لوجوده وقدره جميعًا.

ماذا تكون مُهمَّة الفكر في هذه الحالة؟ مُهمَّته هي الاستجابة للقدر الممتنع الذي لا ينفك مع ذلك حاضرًا على الدوام، وتهيئة نفسه بالاستعداد المستمر للحدوث الممكن لذلك القدر، وكأن هذا الفكر المؤقت — كما يسميه الفيلسوف — يمثل معالم الظل الذي يُلقيه الحضور أو الحدث الممكن في المستقبل لذلك القدر، بأي معنى إذًا يكون هذا الفكر حاضرًا ومستقبلًا؟ بمعنى التفكير المتواصل في العالم العلمي والتقني وأصوله الميتافيزيقية الأولى، وبمعنى الاستعداد والإعداد الفكري للقدر في حدوثه الممكن، وعندما تتم هذه الرجعة للأصل والأساس الأوَّل، ويتم التهيؤ والتنبه والاستعداد والإعداد، فربما يحدث شيء حاسم يغير الفكر نفسه ويعيد العالم العلمي التقني إلى أساسه المنسي.

قد يقول قائل في النهاية: إنَّ هيدجر يقف من العلم والتقنية الحديثين موقفًا يسهل وصفه بالرجعيَّة أو التَّزَمُّت إذا قيس بالحلم الذي ساد الحياة العقلية ابتداءً من فلسفة التنوير وحتى ماركس ودعاة التنمية التقنية والعلمية المعاصرين، وأقصد به الحلم بتحرير الإنسان من «الضرورة» عن طريق العلم وتطبيقاته الصناعية. والرد على هذا القول بسيط؛ فهيدجر لم يؤمن قط بهذا الحلم، وإنما آمن بضرورة الرجوع إلى التفكير في قدر الوجود نفسه، وسط عالم يتزايد اغترابه على الدوام، وذلك لكي يجد الإنسان الإمكانية الوحيدة للتحرُّر من أسر العلم والتقنية، ويهتدي للإنقاذ الذي سيأتي من داخلهما عندما يتم رجوعهما إلى أصلهما وأساسهما الأوَّل الذي طال نسيانه والتخلي عنه والتنكر له.

من خلال هذه الآفاق التأويلية الرحبة استطاع هيدجر أثناء سنوات الحرب أن يفهم ما يعنيه العلم والتقنية واستهلاك العالم وأشكال القيادة والتنظيم والإدارة ﻟ «عجلة العدمية» في الصناعة والحرب والعالم الذي تم «وضعه» والهيمنة عليه، ثم أمكنه أن يتوسع في فهمه لتاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية، وأن يستقرَّ عليه بوصفه تاريخًا لنسيان الوجود، وأن يحقِّق بذلك تلك المرحلة المتأخرة على طريقه الفكري، وهي مرحلة «الرجعة» إلى الوجود ذاته، ولقد مهدت كذلك لهذه الرجعة تفسيراته لشعر هلدولين، وتأملاته العديدة في مشكلة الحقيقة التي سبق أن بدأها — في الفقرة الثانية والأربعين من «الوجود والزمان» — عندما أرجع المفهوم التقليدي للحقيقة أو للصدق — وهو تطابق العبارة مع الشيء والفكر مع الموضوع — إلى الظاهرة الأصلية للحقيقة (راجع ماهية الحقيقة وأليثيا في هذا الكتاب)، وقد تبيَّن له من خلال هذه البحوث والرسائل ضرورة انتقال الموجود من التحجب إلى اللاتحجب والظهور حتى يمكن الحديث عن مسألة الحقيقة، ومنذ ذلك الحين أصبح «اللاتحجب» (أي التكشف والظهور من طوايا الحجب والخفاء) هو الترجمة التي صكها هيدجر لمصطلح الحقيقة في منطوقه اليوناني (وهو أليثيا)، بل أصبح هو الافتراض الأساسي الذي لم تتدبره الميتافيزيقا الغربية في تاريخها الطويل، ولم تفكر في أنه الشرط الأولي الذي تقوم عليه كل التفسيرات الممكنة لحقيقة الوجود، بما يترتَّب على ذلك من تحول من التركيز على الإنسان — كما حلَّل «أنطولوجياه» في الوجود والزمان — إلى فهم الإنسان والعالم من جهة الوجود والحقيقة، كما أشرنا لذلك أكثر من مرة.

لقد كان الشرط الأساسي لهذا التحول أو لهذه الرجعة هو «التغلب» على تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية أو تجاوزهما «بالرجعة» إلى أساسهما الأوَّل، وهو التفكير في الوجود نفسه لا في مجموع الموجودات أو في موجود منها بعينه مهما يكن أسمى الموجودات، هل انتهَت الفلسفة لكي تفتح الطريق لفكر الوجود؟ لقد تحدثنا من قبل عن نهاية الفلسفة وبداية فكر آخر يتجه صوب الوجود نفسه، وسوف تظل هذه البداية، وتلك النهاية من الأسئلة المطروحة على بساط البحث في تفكير هذا الفيلسوف، وهو تفكير يريد في نهاية المطاف أن يرعى ويصون، وأن يفهم من جهة الحقيقة والوجود لا أن تفهم الحقيقة والوجود من جهته.

هل مهد لهذه الرجعة تاريخ سابق داخل تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا الغربية ذاتها التي أعلن هيدجر عن نهايتها أو موتها؟ لا شك عندي أنَّ «التَّنوير الآخر» (الذي يُوصَف به تفكير عدد من الفلاسفة والكُتَّاب مثل: باسكال، وشافتسبري، وفيكو، وهيردر، وهامان، وياكوبي، وفلاسفة وشعراء الرومانسية المبكرة الذين انتقدوا مفهوم العقل والفلسفة المذهبية في عصر التنوير) أقول: لا شك في أن هذا «التنوير الآخر»، بالإضافة إلى عناصر من فلسفة الحياة وأفكار من الشعراء الذين اهتم هيدجر بشرح قصائد من شعرهم وسبق ذكر أسمائهم، قد مَهَّدَت كلها لهذه الرجعة إلى «الأصل» و«الباطن» والتحقق المباشر بالحقيقة والوجود وانتظار حضورهما أو حدوثهما، وتجاوز تراث فلسفة الوعي الذاتية والإرادية والعقلانية التي طبعت العصر الحديث منذ ديكارت حتى هيجل وهسرل، ولا بد أن ينظر إلى «رجعة» هيدجر في سياق تراث ذلك التنوير الآخر، وإن كان من واجبنا القول بأن الفيلسوف قد تجاوز هذا التراث بدوره وتوسع فيه من خلال نقد العقل والوعي والذاتية في تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية منذ أفلاطون حتى ماركس ونيتشه، وذلك بالصورة الحاسمة التي عرفناها وبلغت عند بعض الشراح حد القول بموت الفلسفة وبداية فكر الوجود، هل نفسر هذه الرجعة أيضًا بدخول عناصر صوفية ورومانسية في تفكير هيدجر المتأخر كما فعلنا من قبل؟ ألم تكن هذه العناصر كامنةً في تفكيره ولم تظهر ظلالها الغامضة إلا مع التقدم في العمر؟ وهل يكون الحنين القديم إلى الدين و«الإشراق» الباطني قد فرض نفسه — بعد أن طال أسره وكبته بالعناد المنهجي الصارم! — في هذه المرحلة؟ إنها كما ترى أسئلة تدور في أفق الظن والاحتمال والاختبار، ولعلها ستبقى إلى أمدٍ طويل موضع الجدل والأخذ والرد والحوار بين المؤيدين والمعارضين.

اختلفت الرؤى والآراء حول شخصية هيدجر وفلسفته وما تزال مختلفة، فهناك من يرفع من شأنه ويُبالغ في ذلك إلى حد القول بأنه هو أعظم فلاسفة القرن العشرين، وأعمق من سأل السؤال الفلسفي عن الوجود بعد أفلاطون وأرسطو، وأنه قد عكف على تراثه الفلسفي قديمه ووسيطه وحديثه وتمكَّن منه إلى الحد الذي يندر أن نجد له نظيرًا (وتشهد على هذا مجموعة أعماله التي زادت على الستين مجلَّدًا!) وأنه هو «فيلسوف المحنة» الذي ظل يلح على سببها الرئيسي — وهو نسيان الوجود وتنكب الطريق الوحيد المنقذ وهو الرجوع للأصل الأوَّل — كما تجسدت له محنة العالم والحضارة الحديثة في هيمنته التقنية على الأرض والإنسان، وهناك من «خسف به الأرض» وأنكر أن يكون أعظم فلاسفة القرن الذي عرف عددًا كبيرًا من الفلاسفة العظام (مثل: راسل ووايتهيد وتوينبي وفتجنشتين وبوبر وبرجسون وسارتر وغيرهم)، وجرده من العمق تمامًا بحجة أن هذا العمق المزعوم ليس سوى وهم ملتف في ضباب الغموض الفكري واللغوي، كما اتهمه — فوق اتهامه بالاستسلام للوعي النازي الزائف ولو لفترة محدودة — بأنه ظل يقوم بدور القائد الروحي والدليل العابس المتجهم في متاهات القلق والهمِّ والموت، وأنه سحر شباب بلاده بمشكلات عقيمة وعبارات ملتوية وشائكة أشبه بأقوال العرافين والمتنبئين، وأن ما يسميه فكر الوجود شيء غير واقعي ولا علمي ولا مثمر ولا مؤثر، فضلًا عن فقره وافتقارِه لأي وعي تاريخي بالحاضر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وخلوه من أي إشارة للدور الذي يمكن أن يقوم به العلماء والهيئات والمؤسسات العالمية والعلمية والجهات المعنية «بإنقاذ» الأرض (كأحزاب الخضر مثلًا)، بل إنه ليؤكد أن هذا الفكر كله لا يخرج عن كونه مناجاة أو مونولوجًا «أنا وحديًّا» أخذ يجترُّه شخص عصابي ومنطوٍ على نفسه طوال ما يربو على الستين عامًا دون أن يتمخَّض عن شبكته العنكبوتية خيط واحد موجه ولا أي نتيجة واضحة أو ملزمة للإنسان الفرد أو للجماعة المحلية أو الإنسانية، هذا فضلًا عن أن الفكر الجديد الذي أهاب به في سنواتِه الأخيرة لا هو بالجديد ولا هو بالفكر الواضح المعالم.

ومع ذلك فهناك فريق ثالث حاول وما يزال يحاول أن ينقدَه نقدًا علميًّا وموضوعيًّا «من داخله» بعيدًا عن مزالق الاتهام والإدانة والتشهير الغوغائي سيئ النية، فمنهم من يوجه أسئلة لا تخلو من بعض الشكوك والانتقادات، ومنهم من يدرس علاقة التأثير أو التأثُّر بين فلسفته والفلسفات الأخرى، كالماركسية التقليدية والجديدة (وبالأخص مدرسة فرانكفورت)، وفلسفة الحياة من نيتشه إلى دلتاي التي رأينا كيف دخلت عناصر منها في تفكيره المبكر والمتأخر، والكانطية الجديدة التي نبهته — تحت تأثير أستاذه ركرت — إلى الاهتمام الملحوظ بكانط، والظاهراتية التي بيَّن هو نفسه — في مقال مشهور — كيف كافح في شبابه لفهمها — لا سيَّما من خلال كتاب البحوث المنطقية لأستاذه هسرل، وألَّف رسالتيه الأولى والثانية للدكتوراه — عن نظرية الحكم في النزعة النفسانية ونظرية المقولات والمعنى عند دنس سكوتوس — بوحي منها وتحت تأثيرها قبل أن يبتعد بنفسه عن مرحلتها الذاتية المتعالية والشديدة المثالية — ثم تأثيره الذي لا يُنكَر على مسيرة فلسفة التأويل «الهيرمينوطيقا» التي أعطاها — بعد شلاير ماخر — أقوى دفعة ممكنة، بحيث تعلم التفكيكيون المعاصرون والنقاد الجدد على وجه العموم من قراءاته للنصوص الفلسفية والشعرية كيف يقرءون النصوص من داخلها ومن حولها ومن تحتها.١٢ وكيف يكشفون عن قصد المفكر أو الشاعر «من خلال ذلك الذي لم يقله في ثنايا قوله»، ومن الأسئلة المثارة على فكر هيدجر — وما أكثرها! — أسئلة من هذا النوع:

عُرِفَ عن هيدجر شغفه الشديد بالرجوع إلى الفلاسفة قبل سقراط، ولا سيَّما أنكسمندر وبارمنيدز وهيراقليطس، ليلتمس عندهم العلاقة الأصلية المباشرة بين الفكر والوجود (لا سيَّما في عبارة بارمنيدز) والإنارة من طوايا التحجب (في مقالته عن الأليثيا)، ولكن هل ساعدته هذه الرجعة لآباء الفلسفة الغربية والنزعة الإنسانية المبكرة على العثور على الأساس و«الأصل» الذي بحث عنه؟ وهل تتسق تلك العودة للآباء مع مطالبته «بالتغلب» على تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة أو تحطيمه وتجاوزه؟ ألم يكن من الأوفق الرجوع لأفكار وأساطير وحكايات عصور أسبق، في الحضارة الكريتية والمينوية أو في حضارات الشرقين الأدنى والأقصى القديمة؟

دعا هيدجر — كما سمعنا حتى الآن أكثر من مرة — إلى تجاوز تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا «الغربية»، بل أكد نهايتهما على الرغم من أنه بقي بطبيعة الحال مقيَّدًا بهما ولا يمكن فهم تفكيره المبكر ولا المتأخر إلا في سياقها، ولكن ألم يكن فهمُه لهذا التاريخ فهمًا ضيِّقًا محدودًا؟ وهجومه المتواصل على فلسفة الوعي والذاتية الحديثة — من ديكارت إلى نيتشه — ألم يكن هجومًا أحاديًّا متسرِّعًا؟ ثم ألم تكن أرض هذا التاريخ المترامي هي التي نمت منها أشجار المعرفة النظرية والعلمية، ومروج الفلسفة والتصوف المسيحي، وبدائع فلسفة النهضة والتنوير، وروائع الفن والأدب والتقدم والاستنارة والإنسانية المتنوعة الأزهار والثمار والأوراق؟ وحتى إذا صحَّ أن هذا التاريخَ هو في صميمه تاريخ العدمية المتنامية، وبخاصة في القرن العشرين الذي أوصلت كوارثه وآلامه وفظائعه الإنسان الأوروبي الحديث — والإنسان الدائر في فلك مدنيته الصناعية — إلى مهاوي القلق والهمِّ واليأس والاغتراب، فهل يصحُّ أن ننسى أن هذه العدمية نفسها قد تولَّدت عنها ثروة هائلة من الإبداعات والرؤى والأفكار والاجتهادات التي لا يمكن أن نصفها بأنها عدم؟ وهل خلت الساحة المضطربة بالضحايا والأشلاء والأطلال من أصواتٍ تدعو إلى الحبِّ والشجاعة والكبرياء والمسئولية والأمل وتمجيد الحياة؟ وحتى ذلك الحديث القاتم عن القلق والهمِّ وبقية العائلة المشئومة، ألم يقدم لنا حصادًا وافرًا من الأعمال والإنجازات الفكرية الخصبة التي تستحقُّ الحرص عليها، ومنها فلسفة هيدجر نفسه؟!

مع ذلك كله، فهل كان هيدجر هو أول من قال بنهاية الفلسفة ودعا أو بشَّر بفكر جديد بديل عنها؟! ألم يفعل ذلك قبله كلٌّ من هيجل وفويرياخ وماركس الذين «رفعوا» (بالمعنى الهيجلي) تاريخ الفلسفة كل على طريقته — سواء بأن تصبح الفلسفة علمًا وتخلع عنها التسمية القديمة وهي محبة الحقيقة، كما قال هيجل في مقدمة ظاهريات الروح، أو بأن تتحوَّل عن فوير بلخ من تاريخٍ للاهوت إلى تاريخ لفلسفة إنسانية شاملة، وعند ماركس من تفسير للوجود والعالم إلى تغيير جذري يبتدئ به عصر جديد وإنسانية جديدة بريئة من الاغتراب والاستغلال والظلم الرأسمالي؟ وإذا كان يُحمد لهيدجر أنه دعا إلى فكر جديد يرجع إلى الوجود نفسه، وأصداء الدعوة لفكر إنساني جديد لا تفتأ تتردد بقوة في السنوات الأخيرة، أفلا يمكن القول أيضًا بأن هذا الفكر يحفُّ به الغموض من كل ناحية، وأنه إذا كان قد نجح إلى حد كبير في نقد التاريخ السابق فقد جانَبَه التوفيق في تقديم صورةٍ واضحة المعالم للمستقبل؟ ثم ماذا يمكن أن يطوف بأذهان قرائه من العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؟ ألا نعذرهم إذا اتهموه بأنه أكثر المركزيين الأوروبيين غلوًّا في المركزية، وأنه يسقط من حسابه كل ما ليس أوروبيًّا إلا إذا خضع للسيطرة العلمية والتقنية الأوروبية-الأمريكية؟ وهل يُلام أحدٌ منهم إذا افتقد لديه الوعي بالتاريخ والقوى الواقعية المحركة له، وتجاهل الواقع «الكوكبي» الملموس الذي هو حصيلة تراثٍ ممتد لحضارات عريقة وعديدة عبر آلاف السنين، والذي لا يمكن أن نفهم يومه ولحظته الحاضرة بغير الأمس وما قبل الأمس إلى آلاف أخرى من السنين؟ هل يقبل هذا من فيلسوف «الرجعة» الذي لم يرجع إلا إلى أصله الإغريقي وتجاهل أصول هذا الأصل وجذوره التي يستحيل فهمه بدونها؟!

وإذا كان هيدجر يأخذ على التراث الفلسفي — الغربي — أنه تصور الوجود كما لو كان «موجودًا» من الموجودات ولم يتركه أبدًا ليعبر عن نفسه كوجود — ألا يمكن أن نأخذ عليه هو نفسه أنه قد ثبَّت نظره على «الوجود» بحيث طبع هذا فكره بطابع أحادي، وربما سكوني وقدري أيضًا! وملأ كأسه — حتى فاض على الحافة — بسأم التكرار الفظيع لتلك الكلمة التي كادت أن تصبح تعويذة سحرية مملَّة؟ لقد تشكك الكثيرون في صلاحية هذه الكلمة المتعددة والملتبسة المعاني لخدمة قضيته، كما تشككوا في إمكان أو جدوى الفصل بين الوجود والموجود في أي حديث عن الوجود، حتى لقد تساءل البعض عمَّا إذا كان التثبُّت عند الكلمة قد جعله دائمَ التأرجح بين «التعزيم» السحري والكتمان الصوفي إلى حدِّ التلعثم أو الخرس، ثُم مَن قال إن التراث الفلسفي لم ينشغل إلا بمشكلة الوجود والسؤال عنه؟ ومن قال إن نقد الذاتية الحديثة يمكن أن يتم على أساس المعايير المستمدَّة من الفكر اليوناني السابق على سقراط؟ ألا يقدم هذا كله دليلًا آخر على بعدِه عن حاضرِه، وافتقاده للوعي التاريخي، وهروبِه لأعماق الماضي الإغريقي في محاولةٍ مشكوكٍ فيها لتفسيرِ التاريخِ العلميِّ والتقنيِّ الحاضرِ بالإضافة للتمهيد لفكر الوجود المنتظر أن يرفرف بأجنحته في سماء مستقبل غامض؟

تلك كانت بعض الأسئلة القليلة التي لا تنفك توجه بصيغ مختلفة لفكر هيدجر ويستحق كل منها بحثًا مستقلًّا لا تتسع له هذه المقدمة، لا شك أن القُرَّاء سيمكنهم توجيه أسئلة أخرى أو طرح نفس الأسئلة بأساليب وأشكال متنوعة، والمهم أن آية هذا الفكر «الهيدجري» وفضيلته الكبرى تكمن في إثارة السؤال والإصرار عليه، لا في محاكاته وتقليده واجتراره كما فعل أكثر ضحاياه، ولقد كان هدفي من هذه المقدمة الجديدة، ومن الكتاب كله في واقع الأمر؛ هو أن نتعاطف مع هيدجر أو مع غيره ونتحرر منهم بنفس القدر وبنفس الصدق، أي أن نفكر مع هيدجر — على نحو ما عبر هابرماس — ونفكر ضده أيضًا كلما اقتضى الأمر.١٣ وأهم شيء في تقديري المتواضع، بعد أن نمر بمرحلة فهمه والتعلم من دقته وإحكام منهجه وإخلاصه وزهده وتفانيه، ومعرفة أسرار قوله وصمته معًا؛ أهم شيء هو أن نتعلَّم منه أيضًا جدية التفكير فيما يستحق التفكير من وجهة نظرنا ومن داخل فكرنا واعتمادًا على منابعنا نحن وعلى لغتنا وتاريخنا وتراثنا نحن، ولست أشكُّ لحظة واحدة في أن القلة المخلصة من شبابنا المتفلسف — لا الذين يتاجرون بالفلسفة ويدوسون بقولهم وفعلهم على قيمها! — سوف تتعلم الكثير من قراءتها المتأنية لنصوص هيدجر، وسوف تفكر ضده أيضًا وتوجه له أسئلة جديدة من زوايا جديدة.

(١) ملحق أخير: حوار مع هيدجر

لم يكد يجف قبر هيدجر حتى انهال عليه بعض الناس بحجارة أسئلة من هذا النوع: هل كان معاديًا للسامية؟ هل كان يُلقي محاضراته وهو يرتدي البزة العسكرية النازية ويضع على كتفه علامة الصليب المعقوف؟ وهل بلغ به الأمر حد اضطهاد أستاذه هسرل ومنعه من أن يطأ بقدمه أرض الجامعة؟ ومع أنها أسئلة كذَّبها الواقع وأجاب عليها الفيلسوف بالنفي القاطع، فقد نجحت في إيذاء شخصه وتشويه سمعته وبلبلة الرأي العام والرأي الفلسفي وإلقاء ستارٍ من التجاهل والنسيان على أسئلته الفلسفية الحقيقية، ومن بينها السؤال نفسه عن موقفه من السياسة، وقد لزم هيدجر الصمت عن حقيقة علاقته بالنازية على مدى اثنين وثلاثين عامًا، إلى أن أجرت معه مجلة دير شبيجل (أي المرأة) المشهورة حوارًا شاملًا في الثالث والعشرين من شهر سبتمبر سنة ١٩٦٦م، وأوصى الفيلسوف مندوبي المجلة ألا يُنشر الحوار إلا بعد وفاته، وقد برَّت المجلة بوعدها ونُشر الحديث في اليوم الواحد والثلاثين من شهر مايو سنة ١٩٧٦م، أي بعد رحيله بخمسة أعوام.

طلب منه المحرِّران في البداية أن يوضح للرأي العام مواقفَه قبل استيلاء النازي على الحكم وبعده، وسألاه عن مدى إمكان تأثير الفلسفة على الواقع وغير ذلك من القضايا التي تحتاج لإلقاء الضوء عليها وعلى التهم التي طالما وجهت إليه وألقت ظلالها السوداء، لا على شخصه فقط، بل وكذلك على فكره.

وبدأ الفيلسوف بتقرير بُعده التام عن العمل السياسي قبل توليه منصب مدير جامعة فرايبورج، ثم أخذ يروي الظروف التي تم فيها اختيار جاره مولندورف أستاذ علم التشريح في شهر ديسمبر سنة ١٩٣٢م لمنصب مدير الجامعة الذي كان من المفروض أن يبدأ تقلُّده الرسمي له في شهر أبريل، كان بطبيعة الحال يُتابع مجريات الأمور، وكان من رأيه أن التطورَ المنشودَ في الجامعة والمجتمع يمكن أن يتحقَّق على أيدي القوى القادرة على البناء.

ولكنه كان مشغولًا في ذلك الوقت بالتفسير الشامل للفكر اليوناني قبل سقراط، وفوجئ مع غيره من الزملاء بأن وزارة الثقافة في ولاية بادن-فيرتمبرج التي تتبعها الجامعة قد أقالت المدير الجديد الذي لم يمضِ على شغل منصبه (بعد السادس عشر من أبريل) أكثر من أسبوعين اثنين، وفسَّر الفيلسوف ذلك بأن المدير المنتخب حال بين الطلاب النازيين وبين تعليق لوحة تشنم اليهود وتؤلب عليهم بقية الطلاب في مدخل الجامعة، وتوسل إليه المدير المعزول أن يقبل المنصب حتى لا يشغلَه أحد عملاء السلطة، وبقيَ هيدجر متردِّدًا عن اتخاذ هذه الخطوة على الرغم من إلحاح زملائه وتلامذته عليه، وظل على تردُّده بحجة افتقاره إلى الخبرة بالعمل الإداري حتى صباح يوم الانتخاب في مجلس الجامعة، أي حتى اضطراره لقبول المنصب مراعاةً لمصلحة الجامعة قبل كل شيء.

وفي اليوم التالي لتوليه المنصب حضر إليه زعيم الطلاب النازيين مع زميلين آخرين وطلبوا منه الموافقةَ على تعليق اللوحة المشبوهة، رفض هيدجر طلبهما وأصرَّ على رفضه حتَّى بعد اتصال مسئول الطلاب في الحزب وتهديده له بالعزل، بل إغلاق الجامعة نفسها، ثم بقيَ مصرًّا على رفضه حتى بعد أن تبين له عجز وزير الثقافة في ولاية بادن عن الوقوف بجانبه.

واستطرد الفيلسوف قائلًا إن الدافع الذي جعله يقبل تولي إدارة الجامعة قد عبَّرَ عنه في محاضرته التي بدأ بها أستاذيته بالجامعة — خلفًا لهسرل — في سنة ١٩٢٩م، وهي محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا؟» ولم يكن هذا الدافع سوى توحيد المجالات والأنظمة العلمية التي تناثرت وتفرَّعت وابتعدت — إلى حدِّ الضمور المميت — عن التجذر في أساسها الجوهري.

أخذ المحاور الصحفي الكلمة وأصرَّ على أن الفيلسوف قد عزف نغمة أخرى في الخطبة التي ألقاها بمناسبة توليه إدارة الجامعة وبعد اغتصاب هتلر للسلطة، وتعيينه مستشارًا لدولة الرايخ الثالث بأربعة شهور، وقال الصحفي إنه قد وردت في تلك الخطبة عبارة عن عظمة وروعة البعث الجديد.

لم يُنكر الفيلسوف أنه كان مقتنعًا بضرورة تلك الانطلاقة وبحتمية ذلك البعث الذي لم يكن ثمة بديل عنه مع اضطراب الآراء وحيرة الاتجاهات السياسية لاثنين وعشرين حزبًا سياسيًّا، وأن البلبلة العامة كانت تقتضي توحيد المواقف الوطنية والاجتماعية، ولم يكن ذلك رأيه هو وحده، بل اتفق عليه عدد كبير من ساسة العصر ومفكريه وأدبائه (مثل فريدريش ناومان وإدوارد شبرانجر وإرنست يونجر وغيرهم)، فضلًا عن أنه كان في ذلك الوقت مشغولًا بقضايا فسلفية عبرت عنها كتاباته ومحاضراته التي أعقبت ظهور «الوجود والزمان» (سنة ١٩٢٧م) كما انشغل بحكم عمله في التدريس برسالة الجامعة ومعنى العلم والبحث العلمي وغيرها من المسائل التي تتصل بصورةٍ غير مباشرة بقضايا الوطن والمجتمع، الأمر الذي انعكس على العنوان الذي أعطاه للخطبة السابقة الذكر مع توليه إدارة الجامعة، وهو التأكيد الذاتي للجامعة الألمانية: ولكن مَنْ مِنَ الذين يتجادلون حول هذه الخطبة قد كلَّف نفسه مشقة قراءتها والتفكير المتعمق فيها، وتفسير كلماتها من خلال الظروف السائدة في ذلك الحين؟ إن تلك الخطبة كانت أبعد ما تكون عن «تسييس» العلم أو قصر قيمته ومعناه على فائدته للمجتمع كما تصور الطلاب والدعاة النازيون، لقد وقف توجهها الأساسي ضد استفحال التنظيم التقني للجامعة وفي صف إعادة النظر في مهمة الجامعة بمعنى جديد مرتبط بالتدبُّر في عَلاقتها بالتراث الثقافي الغربي في مجموعه، وبتجديد نفسها بنفسها في مواجهة التيار السائد لتسييس العلم.

ولكن المحاور الصحفي ذكره بعبارةٍ قالها في خريف سنة ١٩٣٣م ورددها معظم الذين شجبوا علاقته بالنازي: «ليست المبادئ والأفكار هي القواعد التي يرتكز عليها وجودكم، وإنما الفوهرر نفسه (أي القائد، والمقصود به هو هتلر)، وهو وحده، هو الواقع الألماني وقانونه في الحاضر والمستقبل».

وأنكر هيدجر أن تكون هذه العبارة قد وردت في خطبة توليه إدارة الجامعة؛ لأنها ظهرت في الجريدة المحلية للطلاب، وكانت نوعًا من التنازل الذي اضطر إليه رغبة منه في تسيير أمور الجامعة، وأكَّد أنه يتبرَّأ اليوم من تلك العبارة التي لم ينطق بمثلها قط منذ قدم استقالته من منصبه في فبراير سنة ١٩٣٤م وإن لم تقبل إلا في شهر أبريل.

وردًّا على التهمة الموجهة إليه بالتعاون مع الحزب النازي وسياسته المعادية للسامية أكَّدَ بكل حزم أنه لم يسمح للطلاب بإقامة «حريق الكتب» أمام المبنى الرئيسي للجامعة، وأنه لم يستبعد كتب المؤلفين اليهود لا من المكتبة العامة للجامعة ولا من مكتبة القسم، وأن علاقته بتلاميذِه اليهود بقيَت على ما كانت عليه من المودة والتعاطف، كما أن الود بينه وبين ياسبرز لم يعكره شيءٌ طوال السنوات السابقة لاندلاع الحرب على الرغم من الإشاعات المغرضة بأنه قاطعه بسبب زوجته اليهودية، وأمَّا عن علاقته بأستاذه هسرل فقد ظلت هي علاقة الاحترام والعرفان بين التلميذ والمعلم؛ بدليل أنه حافظ على الإهداء الذي كرَّسه له في كتاب الوجود والزمان في طبعاته المختلفة حتى الطبعة الرابعة التي ظهرت في سنة ١٩٣٥م، ثم اضطر إلى الموافقة على حذفه في الطبعة الخامسة لسنة ١٩٤١م لخوف الناشر من مصادرة الكتاب إذا أبقى عليه، ثم إنه لم يُبدِ موافقته إلا بشرط المحافظة على الملاحظة التي يشهد فيها على الصفحة الثامنة والثلاثين من الكتاب بفضل أستاذه عليه ورعايته له، ولم ينشأ الخلاف بين الأستاذ وتلميذه إلا لأسبابٍ موضوعيةٍ جعلت هسرل نفسه يعلن تبرُّؤَه العلني منه ومن تلميذه الآخر ماكس شيلر (١٨٧٤–١٩٢٨م) مُتَّهِمًا إياهما بأنهما حولا فلسفته الظاهراتية الخالصة إلى أنثروبولوجيا متمركزة حول الإنسان، وأمَّا عن الشائعات التي روجت عنه أنه منع أستاذه هسرل من أن يطأ بقدمه أرض الجامعة أو أن يستعير كتابًا من مكتباتها، فقد أكَّد بكل قوة أنها شائعات عبثية مغرضة لم يقصد من ورائها إلا التشهير به، والدليل على ذلك أنه خلال إدارته للجامعة صمم — على غير رغبة الوزارة المختصة — على الحفاظ على أستاذين من أصل يهودي (كان أولهما تانهاوزر مديرًا لمستشفى الجامعة، وكان الآخر وهو فون هيفيسي أستاذًا للكيمياء الطبيعية)، فكيف يُعقَل أن يتصرف مثل ذلك التصرف مع أستاذه وصاحب الأفضال العلمية والإنسانية عليه؟ صحيح أن أستاذَه وزوجته قد بدآ بمقاطعته هو وعائلته، وأنه قصَّر من الناحية الإنسانية فلم يقم بزيارة أستاذه في مرضه الأخير ولم يحضر جنازته في شهر أبريل لسنة ١٩٣٨م، ولكنه كتب رسالة لأرملة أستاذه معتذرًا فيها عن هذا التقصير.

واستطرد هيدجر في الحديث عن توتر العلاقة بينه وبين السلطة النازية التي رفضت اقتراحاته بإصلاح الجامعة وتجديدها بالقوى الشابة المتميزة، مما اضطره، بعد عشرة شهور فقط من توليه منصبه، إلى تقديم استقالته، والغريب في رأيه أن الذين شوَّهوا صورتَه عند قبوله للمنصب لم يُعلِّقوا بكلمة واحدة على انسحابه منه وتعيين أول مدير نازي في مكانه.

وتفرغ الرجل لدراساته ومحاضراته، وبدأ منذ سنة ١٩٣٥م محاضراته عن شعر هلدرين ثم عن فلسفة نيتشه، كما بدأ الحزب النازي في مراقبته والتجسس عليه واضطهاده بأشكال مختلفة، ومن أغرب ما يرويه الفيلسوف أن الجهاز الخاص للحزب سلط عليه أحد تلاميذه الذين «تدكتروا» على يديه، ولما رأى التلميذ (وكان اسمه هانكه) بعينيه وسمع بأذنيه أوجعه ضميره فاعترف لأستاذه ذات يوم بأنه أرسل إلى الجامعة لمراقبته وتسقُّط أخباره، وأنه يبوح له بذلك ليزيح العبء الفادح عن كاهله.

لم يكفَّ الحزب عن مضايقاته له، فلم يسمح بمناقشة كتبه (ومنها نظرية أفلاطون عن الحقيقة)، وهاجمت صحيفته الرسمية «الإرادة والقوة» محاضرةً ألقاها عن هلدرلين في روما، ومنع مشاركته في المؤتمر الدولي للفلسفة الذي انعقد سنة ١٩٣٤م في براغ، ولم يأذن له كذلك بحضور مؤتمر ديكارت الدولي سنة ١٩٣٧م في باريس؛ مما جعل الأستاذ برييه — رئيس ذلك المؤتمر ومؤرخ الفلسفة المعروف — يستفسر منه عن سبب تأخيره. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل منع الحزب نشر خطبته التي ألقاها عند توليه إدارةَ الجامعة، وأمر بأن يوزع كتاباه عن ماهية الحقيقة وما الميتافيزيقا بعد نزع أغلفتهما، ووصل الأمر إلى حد رفض الحزب إعفاءه من الخدمة العسكرية في آخر سنوات الحرب، على الرغم من إعفائه خمسمائة غيره من العلماء والفنانين، وكان أن كلفه بالاشتراك في أعمال السخرة في إقامة التحصينات والاستحكامات على ضفاف الراين، ثم ختم ذلك كله بإعلان الاستغناء عن خدماته مع زميله المؤرخ جرهارد ريتَر، وأخيرًا «تَوَّجَ» اضطهاده له بتجنيده في فرق العاصفة مع عددٍ كبيرٍ من أعضاء هيئة التدريس الذين كانوا جميعًا يصغرونه في السن.

ويتطرق الحوار بين هيدجر ومندوبي المجلة إلى مشكلة التقنية التي لا يستطيع الإنسان — بحكم طبيعتها وماهيتها — أن يتحكَّم فيها، وإلى حيرته وتشكُّكِه في النظام السياسي الذي يمكن أن يكون ملائمًا لعصر التقنية الكوكبية الذي يواجه الإنسان بأخطر المخاطر التي تهدِّد حياته ومصيره أكثر بكثيرٍ من كل ما واجهَه طوال تجربتِه التاريخية، وهو خطر اجتثاث جذوره من الأرض والسكن والوطن والبيت والتراث والوجود والحقيقة … «ولن يجدي الإنسان أمام الموت والنهاية المتوقعة سوى الرجوع إلى الشعر والفكر، أي إلى القوى التي تستغني عن استخدام القوة».

ويسأله الصحفي: إزاء الدولة التقنية المطلقة التي أكدَت نفسَها بالفعل أو هي بسبيلها إلى تأكيد نفسها (هل كان يتنبَّأ بالدور الأحادي الذي تقوم به أمريكا في الوقت الحاضر؟!) ماذا يبقى للفرد أن يفعل وهو يواجه هذا القهر؟ وهل في وسع الفلسفة أن تؤيِّدَه في اختيارِه وفعلِه، هل في وسعِها أن تؤثِّر — كما فعلت على الدوام — بطريقتها غير المباشرة؟

ويرد الفيلسوف بأن الفلسفة لن تستطيع أن تغيِّرَ أوضاع العالم الراهنة تغييرًا مُباشِرًا، ولا يَسْري هذا على الفلسفة وحدها، وإنما يصدق على كل تفكير ومسعى بشري، هنا لن يعيننا إلا الله، وكل ما علينا هو الاستعداد وتهيئة أنفسنا لكي ينقذنا من الهاوية التي نوشك على التردي فيها، والأمر يتوقَّف في النهاية على الوعي بأن الوجود يحتاج للإنسان لكي يتجلَّى له فيَرْعاه ويصونه ويشكله ويشكل حياته استجابة له، ذلك هو ما يمكن أن يساعد به الفكر «الآخر» بطريقته غير المباشرة في التأثير والتغيير، أما الفلسفة التقليدية فقد بلغت في رأيه نهايتها وأصبحت عاجزة عن أي تأثير؛ لأن العلوم المختلفة — وبالأخص السيبرنيطيقا — قد تولَّت عنها القيام بهذا الدور.

لم يبقَ إذًا إلا الرجعة ﻟ «فكر الوجود» — هذا المراوغ المتعدِّد المعاني الذي يجب ألَّا نفهمه على معنى الموجود أيًّا كانت طبيعة هذا الموجود — مثل هذا الفكر لا يملك إلَّا أن يسأل وينفتح ويتحاور ويطرح الأسئلة التي لم تطرح من قبل ولا تلائمها الإجابات السابقة، وإذا استطاع هذا الفكر أن يغير شيئًا فهو التغيير غير المباشر الذي يتطلَّب السير المتأنيَ على دروب الصبر والخشوع والانتظار والإعداد والاستعداد … وإذا استطاع أخيرًا أن يوقظ هذه «القيم»، بعيدًا عن رتابة المواعظ وحذلقة المتفيهقين وفظاظة الغوغائيين، فهذا وحده يكفيه، ويتواصل الحديث عن التقنية الكوكبية، وعن عجز النازية، فضلًا عن عجز النفعية أو البرجماتية الأمريكية، عن سَبْر ماهيتها، وعن احتمال أن يصل الروس أو الصينيون ذات يوم — بفضل ما لديهم من فكر تراثي عريق — إلى إتاحة تكوين العلاقة الحرة والأصيلة بين الإنسان وبين عالم التقنية.

ثم يتجه الفيلسوف على عجلٍ إلى الكلام عن هلدرلين الذي يعتقد أنه هو الشاعر الذي يدل على المستقبل، ويحيا وينظم شعره على أمل الإنقاذ الذي سيأتي — في رأيه — من السماويين والأرضيين، والذي يهيب به غيره من الشعراءِ الأصلاءِ الذين «يؤسِّسون ما يبقى».

ويستطرد الحديث بعد ذلك عن هلدرلين ونيتشه فيذكر له المحاور الصحفي عبارةً وردت في إحدى محاضراته عن نيتشه التي ألقاها بين سنتي ١٩٣٥م، ١٩٣٧م عن أن الصراع المعروف بين الديونيسي (أي التوهج الانفعالي والنشوة المقدسة) والأبوللوني (أي التوجه العاقل المنظم المستنير) كما عاشه كلا المفكرين الشاعرين قد وضع أمام الألمان علامة استفهام كبرى على الطريق لمعرفة حقيقتهم القدرية والاهتداء لماهيتهم و«قدرهم» التاريخي — فما هو رأي الفيلسوف في ذلك؟

ويجيب هيدجر بأنه على اقتناع تام بأن المكان الذي نشأ فيه العالم التقني الحديث هو نفسه المكان الذي يمكن أن تنبثق منه الرجعة (أو الهداية والإنقاذ) بحيث لا يمكن أن تأتيَ من بوذية الزن ولا من أي تجربة شرقية أخرى بالوجود، وتحقيق هذه الرجعة أو هذا التحول في التفكير يحتاج لاستيعاب التراث الأوروبي من جديد ومراجعته، فالفكر لا يتحوَّل إلا بالفكر الذي يعرف أصله ومصيره، أي أن العالم التقني لا يحتاج لأن يستبعد أو ينفى؛ لأن ذلك محال، وإنما هو بحاجة لأن يرفع — بالمعنى الهيجلي للكلمة — إلى مستوى آخر أعلى وأكثر خصوبة، وإن لم يكن من الممكن أن يتم هذا الرفع بواسطة الإنسان وحده.

– ولكن هل تسند للألمان دورًا في هذا التحول؟

– أجل، بالمعنى الذي يبينه حديثي عن هلدرلين.

– وهل يملك الألمان مقومات هذا التحول أو هذه الرجعة؟

– نعم، بفضل القرابة الوثيقة بين اللغة الألمانية واللغة والفكر اليوناني. ولعل الفرنسيين هم أقدر الأوروبيين على إتمام هذا التحول، هذا إذا تنحَّوْا عن تراثهم العقلاني العظيم وبدءوا يفكرون تفكيرًا ألمانيًّا.١٤

وينتقل الصحفي إلى الأزمة الديموقراطية والبرلمانية التي كانت تمرُّ بها ألمانيا في ذلك الوقت (من أواخر عام ١٩٦٦م) ويسأل: هل يُنتظر من الفيلسوف أن يشارك بالرأي أو أن يشير على الأقل بطريقةٍ غير مباشرةٍ إلى سبيل الخروج من الأزمة: هل هو نظام بديل أم إصلاح للنظام القائم؟ وعلى أي نحو يمكن أن يتم الإصلاح؟ ألَّا يصح أن ينتظر الرجل العادي من الفيلسوف أن يمدَّه بأفكار تعينه على الحياة وسط العالم التقني الذي قهره وضيَّق عليه الخناق؟ ألا يكون الفيلسوف قد تخلَّى عن جزء ولو قليلًا من مهمته وواجبات مهنته إن لم يتواصل مع الرجل العادي؟

ويقول الفيلسوف بعد صمت مفعم: بقدر ما أرى، ليس في إمكان مفكرٍ واحد أن يتبصر بأحوال العالم في مجموعه بحيث يقدم تعليمات عملية، وبالأخص فيما يتعلق بإيجاد أساس للفكر نفسه — إننا نطالِب الفكر الذي يأخذُ نفسه مأخذًا جادًّا بالنسبة للتراث الضخم الذي يحمله، نطالب هذا الفكر بما يفوق قدرته لو طالبناه بأن يقدم هنا نصائح أو تعاليم عملية.

لا يوجد خطاب سلطوي في مجال الفكر، والمعيار الوحيد للفكر مستمدٌّ من الموضوع الذي يفكر فيه، وهذا الموضوع نفسه هو أكثر الأمور مدعاة للشك والسؤال، ولتوضيح هذا ينبغي إلقاء الضوء على العلاقة بين الفلسفة والعلوم التي أدى نجاحها العلمي والتقني إلى جعل الفكر الفلسفي أمرًا سطحيًّا لا ضرورة له، هذا هو الوضع الحرج الذي يجد فيه الفكر نفسه وينظر فيه إلى مهمته، يقابله نوع من الاستغراب أو الإشفاق — الذي تغذيه القوة المتنامية للعلوم — من عجز الفكر عن الإشارة برأي في القضايا العملية والسياسية.

وينتهي الحوار باستطراد قصير عن أحوال الأدب والفن والحديث الذي سبق لهيدجر أن وصفها بأنها مدمرة، ويرد عليه محاوره مدافعًا عنهما بأنهما يجربان ويقدمان محاولات يُخطئ معظمها ويصيب أقلها، وأن الفنان والأديب لا يمكن أن يلتزم بما كان يلتزم به سلفه قبل ثلاثمائة عام ولا حتى قبل ثلاثين عامًا.

ويعبر الفيلسوف عن رغبته في الاستفادة من محدِّثه فيسأله: أين يقف الفن اليوم؟

ويرد عليه الصحفي بأنه يطالب الفن بما لا يطالب به الفكر، ويؤكد الفيلسوف أنه لا يعرف في الحقيقة ما هو الهدف الذي يتوجَّه إليه الفن الحديث، وأن الغموضَ ما يزال يكتنف رؤيته لما هو فني.

ويقول محدثه: إنَّ الفنان والشاعر والكاتب يجدون أنفسهم اليوم في نفس الموقف الذي يجد فيه المفكر نفسه، ويقول الفيلسوف في النهاية: لو نَظَرْنا للأمر من منظور «النشاط الثقافي» لأمكننا وضع الفن والشعر والفلسفة على نفس المستوى وفي نفس الإطار، لكن مجرد الشك في هذا النشاط وفي معنى الثقافة نفسها يجعلهما من موضوعات الفكر ومن المهام التي يواجهها هذا الفكر الذي يصعب علينا تصور محنته، والمحنة الكبرى للفكر — بقدر ما تُسعفني الرؤية — تكمن في أنه لا يوجد اليوم مفكرٌ عظيم بمعنى الكلمة يمكنه أن يجعل الفكر يواجه موضوعه مواجهةً مباشرةً بحيث يدفعه للسير في الطريق الخاص به، إن عظمةَ ما ينبغي التفكير فيه اليوم لأعظم مما نتصور أو نقدر، والشيء الوحيد الذي يمكننا فعله ربما يكون هو البحث عن دروب ضيقة وصغيرة يمكن أن تساعدنا على بناء معبر مؤقت يصلح للسير عليه.

وأمام هذه الحيرة وهذا العجز — الذي يفيض بالصدق والأمانة — إزاء محنة العصر ومحنة الفيلسوف يتوقف الحوار ويقدم المندوبان الصحفيان شكرهما للفيلسوف.

مدينة نصر، يونيو ٢٠٠٠م
عبد الغفار مكاوي
١  يظل الاهتمام الهائل بهيدجر في فرنسا سواء في حياته أو بعد موته أمرًا مُحيِّرًا ولافتًا للنظر، فعلى الرغم من أن هيدجر يبتعد تمامًا عن تراث الكوجيتو الديكارتي ويفضل الانطلاق من الإنسان الموجود في العالم ومن حضوره منذ البداية مع الأشياء والأدوات والناس من حوله، وبالرغم من لغته «الجرمانية» المثقلة بالغموض والجهامة والصعوبة إلى حد الاستحالة والقرب من الصمت، فقد وجد أكبر قدر من الاهتمام يمكن تصوره في بلد الوعي الديكارتي ونصوع التفكير والتعبير، ولا شك أن التأثر به لم يمنع أحدًا من الاحتفاظ بشخصيته وطابعه الخاص؛ يكفي أن نقارن مقارنة سريعة بين كتاب سارتر — أهم من تأثر به من الوجوديين — عن الوجودية نزعة إنسانية، ورسالة هيدجر عن النزعة الإنسانية (١٩٤٧م) التي كتبها ردًّا على أسئلة المفكر الفرنسي جان بوفريه؛ لنلاحظ الهاوية الفاصلة بين الاثنين إلى حد تبرؤ هيدجر من كلمة الوجودية وصفتها. ويصدق هذا على غير سارتر من الوجوديين والبنيويين والفلاسفة الجدد والتفكيكيين؛ راجع لهنري بيرو مقاله عن هيدجر وفرنسا: تأملات عن علاقة قديمة في كتاب هيدجر، أسئلة مطروحة على فكره، ١٩٧٧م.
Birault, Henri; Heidegger und Frankreich. berlegungen Zu einersalten Verbindung.
In: M. Heidegger, Fragen an sein Denken, Stuttgart, Reclam, 1977.
٢  وذلك على حد تعبير أستاذنا فيلهلم فيشيديل في كتابه البديع «العتبة الفلسفية الخلفية» الذي قدم فيه بحب وفهم وتعاطف أكثر من ثلاثين من كبار فلاسفة الغرب ومنهم هيدجر بطبيعة الحال.
Weischedel, Wilhelm; Die Philosophische Hintertreppe. 34 grosse Philosophen in Alltag und Denken S. 329–339.
٣  وهذا التحول الأساسي في اتجاه الإنسان بكليته وفي ماهيته وجوهره — نتيجة معرفته بحقيقة الوجود — هو الذي سماه أفلاطون بالبايدايا (التربية) وهو الذي يلقي عليه هيدجر الأضواء في مقاله عن نظرية أفلاطون عن الحقيقة. راجع كذلك — في هذا الكتاب — آخر سطور رسالته عن ماهية الحقيقة.
٤  أو الآنية كما اقترح أستاذنا الكبير عبد الرحمن بدوي ترجمة هذا المصطلح العسير، وقد جاريته في استعماله في الطبعة الأولى، ثم تخلَّيْتُ عنه في هذه الطبعة الثانية؛ تجنُّبًا لصعوبتِه وغرابة وقعه على السمع والذهن، وذلك على الرغم من اقتناعي بصحته في الدلالة على الموجود العيني المتحقق أو المتشخص وهو الإنسان.
٥  ربما يسأل القارئ نفسه — كما سأل كثير من القراء — عما يمنع هيدجر من أن يستبدل بكلمة الوجود بمعانيها المتعددة وظلالها المراوغة كلمة «الله» ذات التأثير والتراث العريق، والجواب أن هيدجر يسأل عن الوجود ومعناه ولا يسأل عن الله لأنه سؤال لاهوتي لا أنطولوجي كما يريد، وعلى الرغم من أننا نحس بتأثر هيدجر تأثُّرًا لا شك فيه بالفكر الصوفي ليعقوب بوهمه (١٥٧٥–١٦٢٤م) وبفلسفة شيلنج المثالية والصوفية في مرحلته المتأخرة بسبب إلحاحهما على العودة للأصل والأساس الأول للوجود، وعلى الرغم من أن فلسفة هيدجر نفسَه تنتهي في مرحلتها المتأخِّرة بأملٍ ديني وصوفي يعبِّر عنه بقوله: «لن يستطيع أن ينقذنا سوى إله»؛ فإننا نستطيع كذلك أن نقول إنه لم يكن متديِّنًا ولا كان ضد الدين، وإنما كان يحاول جهده أن يهيئ مجال «المقدس» الذي يجعل ثمة معنى للحديث عن الله وعن الدين، ونستطيع كذلك أن نقول — كما اعترف هو نفسه أكثر من مرة: إن لغته عاجزة عن الحديث سواء عن الوجود نفسه أو عن الله حديثًا يليق به جلَّ شأنه، لأنه هو وحده — في رأيه أيضًا — هو الموضوع الجدير حقًّا بالتفكير فيه والحديث عنه واحترامه غاية الاحترام، ومن العجيب أن الكثيرَ من الكتابات العربية يدمغ هيدجر بالإلحاد ويصفه — عن جهل وتسرُّع وتهجم بلا علم ولا حياء — بأنه رأس الجناح الملحد للوجودية! راجع مقالًا لإيبرهارد يونجل عن اللاهوت في جوار فكر هيدجر في أسئلة مطروحة على فكره، ص٤٦–٥٣.
Jungel, Eberhard; Gott entsprechendes Schweigen? Theologie in der Nachbarschaft des Denkens von in: M. Heidegger, Fragen an sein Denken, S. 46–53. M. Heidegger.
٦  من المعروف أن هيدجر قد تكلم عن نهاية الفلسفة وعن عجز اللغة التقليدية للفلسفة والميتافيزيقا عن تحديد الوجود أو وصفه؛ ولهذا وجب في رأيه «تحطيم» الفلسفة والميتافيزيقا أو التغلب عليهما وتجاوزهما إلى فكر بديل وقريب كل القرب من الشعر، وهذا الفكر الجديد وحده هو الذي يمكنه أن يفتح لنا أفق الوجود، ونموذجه قائم — في رأي هيدجر — في فكر الفلاسفة قبل سقراط وفي شعر هلدرين، وقد تعرض هيدجر لهذا الموضوع (أي نهاية الفلسفة) في نصين له هما: نهاية الفلسفة ومهمة الفكر، وما هو التفكير (١٩٥٤م). والمقصود عنده بنهاية الفلسفة:
  • (١)

    هو بلوغ الميتافيزيقا — الأفلاطونية الغربية! — مرحلة تمامها وأقصى إمكاناتها في أواخر القرن التاسع عشر على يد كلٍّ من ماركس ونيتشه؛ بمعنى أن العالم الحقيقي — أي عالم المثل الأفلاطونية — إما أن يكون قد استوعب تمامًا في عالم الظاهر؛ أي في مادية فويرباخ وماركس، وإمَّا أن يكون قد أعلن غيابه وافتقاده التام عند نيتشه في تنبؤه بالعدمية، ومعنى هذا فيما يرى هيدجر أن كل محاولة للتفلسف على الطريقة التقليدية السابقة (على هيدجر نفسه بطبيعة الحال!) لن تكون سوى تكرار عقيم، ولا بد من الإعداد للتفكير بطريقة أخرى في الموضوع الغامض المعالم الذي سيكون حضوره أمرًا غير يقيني ألبتة (أي في الوجود نفسه).

  • (٢)

    والمقصود كذلك بنهاية الفلسفة هو انتصار السيطرة التقنية والعلمية على العالم الحديث، أو انتصار السيبرنطيقا! مع النظام الاجتماعي والإنساني الملائم لها أو المتسق معها، وذلك بعد اكتمال تطور العلوم التي استقلَّت عن الفلسفة وبداية حضارة عالمية مبنية على الفكر الغربي، وسوف تؤدي حتمًا إلى العدمية الماحقة، إن لم ينقذها فكر جديد يرجع للأصل الأول والحاضر باستمرار. راجع مقالًا لبيتر بلوم عن: هيدجر ورورتي في نهاية الفلسفة، في مجلة ما بعد الفلسفة. المجلد ٢١، العدد الثالث، مايو ١٩٩٠م.

    Peter Blum; Heidegger and Rorty on The end of Philosophy in: Metaphilosophy, vol. 21. No. 3 July 1990.
٧  شيء مذهل أن يرى الواحد منَّا مدى تمكن هيدجر من تراثه الفلسفي الغربي؛ فقد تأثر على الأخص بدنس سكوتوس، وكيركجار، وكانط وشيلنج وهيجل والكانطيين الجدد — لا سيما ريكرت وفلسفة الحياة — وبالأخص دلتاي وفكرته عن الفهم والتأويل — إلى جانب تأثُّره بهسرل وبعدد من الشعراء الذين ذكرنا أسماءهم من قبل، ويكفي أن نتأمل عناوين بعض محاضراته التي كان يُلقيها أثناء عمله في جامعة فرايبورج (من سنة ١٩٢٢م إلى سنة ١٩٢٨م) والتي لم يُنشَر بعضها إلا في أواخر حياته إلى أن تم نشرها في مجموعة أعماله الكاملة التي زادت على الستين مجلَّدًا: بداية الفلسفة الحديثة، الخطابة لأرسطو، محاورة السفسطائي لأفلاطون، تاريخ مفهوم الزمن، المنطق، السؤال عن الحقيقة، المفاهيم الأساسية للفلسفة القديمة، تاريخ الفلسفة من توماس الأكويني حتى كانط، المشكلات الأساسية لفلسفة الظاهريات، فلسفة ليبنتز، نقد العقل الخالص لكانط (ويحتوي على تفسيره الطريف لملكة التخيل عند كانط من وجهة النظر الفينومينولوجية ورؤيتها الحسية والمقولاتية التي تمثل حلقة الوصل بين تلك الملكة وملكة الفهم) وفي تلك المحاضرات تجلى على وجه الخصوص رفضه للبدايات الديكارتية — والهسرلية فيما بعد! — من الوعي الخالص وبدأه، كما أشرنا في هامش سابق، من الوجود العيني للإنسان في حياته اليومية، وغنيٌّ عن الذكر أنه لا يمكن تصور فلسفة هيدجر بغير أن نتصور تأثرها بمحاولات البدء الخالص من جديد سواء عند هسرل، أو عند ديكارت، كما لا يمكن إنكار دينه العظيم نحو المفكرين «الوجوديين» عبر تاريخ الفلسفة من كيركجار ودلتاي، والفلسفة اللاهوتية عند لوثر وعند معاصره وصديقه البروتستنتي الجدلي رودلف بولتمان.
٨  راجع مقالته عن هيدجر في معجم ميتسلر للفلاسفة، شتوتجارت، ١٩٨٩م. ص٣٣١.
Vietta, Silvio, Heidegger. In: Metzler Philosophen-Lexikon. Stuttgart, 1989, S. 331.
٩  راجع المزيد من التفصيل في كتابي عن التعبيرية، صرخة احتجاج في الشعر والقصة والمسرح — القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، المكتبة الثقافية، ١٩٧٠م.
١٠  الكلمة الأصلية هي Das Ge-Stell أي تحويل العالم إلى موضوعٍ يُسيطر عليه الإنسان ويسخره لطموحاته العلمية والتقنية.
١١  انظر لكارل — هينس فولكمان — شلوك: العالم التقني والقدر، في كتاب مارتن هيدجر، أسئلة مطروحة على فكرة — شتوتجارت، ركلام، ١٩٧٧م، ص٣٣.
Karl—Heinz, Volkmann—Schluck; Die technische Welt und das Geschick in: M, Heideggar, Fragen an sein Denken, S. 33–37.
١٢  راجع على سبيل المثال الفقرة ٣٢ من «الوجود والزمان» عن الفهم والتفسير و«الدائرة الهيرمينويطيقية» التي اكتسبَت أهمية شديدة عند تلميذه هانز — جورج — جادامر، وكذلك الفقرة الأولى من كتابه نظرية أفلاطون عن الحقيقة بجانب شروحه لشعر هلدرين، في بحثه الذي ترجمه المرحوم فؤاد كامل عن هلدرين وماهية الشعر وفي القصائد من شعر جئورجه وتراكل في هذا الكتاب.
١٣  وهذا هو عنوان مقالة مشهورة نشرها «هابرماس» في الخامس والعشرين من شهر يوليو سنة ١٩٥٣م في جريدة فرانكفورت العامة وناقش فيها محاضرات هيدجر التي ترجع لسنة ١٩٣٥م.
١٤  أخشى أن الفيلسوف أراد أن يقول تفكيرًا هيدجريًّا يفسر اهتمامهم الكبير به! — لاحظ ما سبق أن ذكرته من تمكن المركزية الأوروبية منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤