تمهيد

ما الحقيقة؟

أين نجدها وكيف نعرفها؟

بأي سهم نريش طائرها الأبيض المستحيل، أي قفص لغوي يتسع لآفاقها البعيدة وأسفارها العديدة في البلاد والأجيال؟ ما معانيها المختلفة باختلاف المذاهب والمدارس، عند القدماء والمحدثين، والمثاليين والواقعيين، في المنطق ونظرية المعرفة، بمدلولها الوجودي (أو الأنطولوجي)، والعملي أو النفعي؟ أهناك حقيقة مطلقة أم حقائق نسبية؟ أهي الحقيقة الأصلية التي نتطلع إلى نورها، ونحاول أن نندمج فيها ونتحقق بها ونقف منها موقف التسليم والخشوع، أم الحقيقة الفعلية التي نغزوها وننتزعها انتزاعًا كما يقول أبو البركات البغدادي في المعتبر في الحكمة وجوته في فاوست١ وهيدجر في بعض نصوصه؟ أنشارك نحن البشر في صنعها وخلقها؟ أم ليس علينا إلا أن نطهر بيتنا ليكون أهلًا لزيارتها، ونهيئ مصباحنا لكي تلمس فتيله بشرارتها؟ أنتقدَّم نحوها بجهدِنا وجهادِنا خطوة خطوة، أم ننفتح عليها ونتركها تكون وتنير؟ ألكل حقيقته، كما يقول بيراندللو في عنوان إحدى مسرحياته أو كما يفهم من عبارة بروتاجوراس: للشاعر والفنان، والعالم والفيلسوف، والعامل والفلاح، والمفكر ورجل الشارع؟ أم أن الحقيقة قيمة نظرية ومثال معرفي يسمو على التغير والتطور، ويرتفع فوق الزمان؟ أهي كيف وصفة أم علاقة بين ذات وموضوع ووعي ووجود؟ أنلتمسها في اتساق الفكر مع نفسه، أم في تطابق العقل مع الأشياء أو الأشياء مع العقل؟

أهي وسيلة أم غاية، طريق أم هدف، فكر أم فعل، خلق وكشف أم إنجاز وتحقيق عملي، انعكاس للواقع على الشعور أم فعل محض لهذا الشعور؟ ألها مقاييس موضوعية تُحدِّد شروطها وتجنبها الزيف والخطأ، أم هي كامنة في صميم الذات الحميمة الممتنعة على العلم والموضوعية والقياس والتحديد؟ أنصل إليها حين تتحقق الفكرة العينية الكلية ويكتمل وعي المطلق بذاته، أم نغزل بساطها اللانهائي خيطًا خيطًا مع كل كشف علمي جديد، وكل فعل بشري يسجل صراعنا مع الطبيعة والواقع وتعبنا وكفاحنا عبر التاريخ؟ متى تكون الحقيقة حيةً أو ميتةً، خصبةً أو عقيمةً؟ متى تكون نوعًا من الخطأ لا يستطيع نوع معين من الأحياء أن يعيشَ بدونه، كما يقول نيتشه، وكيف يكون الخطأ — لا الإصرار عليه! — خطوةً على الطريق إليها؟ إلى أي حد تتفق ماهيتها مع مفهوم الإغريق عن «الأليثيا» من أنها فعل الكشف الذي يخرجها من طوايا الخفاء والاحتجاب؟ أهي في النهاية قضية مُعرَّفة بما هو موجود والتعبير عنه بالحكم، مصداقًا لعبارة أرسطو المشهورة من أن الحكم الصادق هو الذي يقول عن الموجود إنه موجود، وعن غير الموجود إنه غير موجود، أم تتصل إلى جانب ذلك بمجال الدين والوحي، والشعور والفن، والسلوك والأخلاق؟

أسئلة لا آخر لها، صحبت الإنسان منذ أن بدأ يعي ويعبِّر باللغة، وستبقى ما بقيَ العالم والإنسان، وضعت عنها مئات الكتب والبحوث، واختلفت حولها المذاهب والعقول والقلوب، وستظلُّ مختلفة ما دامت تواجه الألغاز في الباطن والظاهر، والداخل والخارج. ولقد عشت معها في الفترة الأخيرة من حياتي، وحيَّرتني كما حيَّرَت غيري، ثم دلَّتني رحلتي الطويلة مع «هيدجر» إلى اختيار درب واحد من متاهتها، والاكتفاء بخيط واحد من عقدتها المتشابكة، وعكفت على نقل النصوص الثلاثة التي تجدها بين يديك، ثم حاولت أن أقدم لها بمقدمة عن مشكلة الحقيقة، فوجدت أن الموضوع أضخم من كل المقدمات، وأن هناك مَنْ وفَّاه حقَّه في لغتنا العربية أو كاد، وأقصد به الدكتور فؤاد زكريا الذي خصَّص له رسالته في الدكتوراه (وإن لم يتكرم بنشرها بعد!) والذي يُشرِّفني أن أهدي إليه هذا الكتاب، ثُمَّ فكرت في أن أمهد للكتاب بصفحات عن فلسفة هيدجر، وإذا بالتمهيد ينمو ويتسع على هذه الصورة التي أرجو أن تكون وافية بقدر الطاقة، وإذا به هو نفسه يحتاج إلى تمهيد أوجزه في هذه الملاحظات:
  • (١)

    لن تجد مثقَّفًا في عالمنا الحديث لم يعرف شيئًا قليلًا أو كثيرًا عن هيدجر، أو لم يقرأ له أو عنه في مجال تخصصه واهتمامه، أو لم يسمع باسمه في محاضرة تتناول شئون الفلسفة والتراث الفلسفي، أو تتطرق للحديث عن محنة العالم المعاصر ومظاهرها المخيفة من حروب وصراعات وتلوث بيئة ومشكلات تقنية وأخطار دمار شامل … والواقع أن أهميته لا ترجع إلى كونه «فيلسوفًا» بالمعنى التقليدي المفهوم عن هذه الكلمة، بل إلى أنه يمثل تحوُّلًا بارزًا في الفكر المعاصر، ودعوة للإنسان إلى فكر جديد، ولهذا نلمس تأثيره على دراسة الفلسفة بمعناها الضيق، كما تتبينه على مختلف الميادين من شعر وفن ونقد أدبي، إلى علوم طبيعية ونفسية وطبية وإنسانية، كما يتجلَّى أيضًا في موجة التحمس الشديد له أو تيار السخط البالغ عليه، وتنظر في ناحية فتبهرك حالة السحر التي تحيط به، أو يفاجئك سيل الشتائم الذي يقذفه بها خصومه، وبين الطرفين مئات البحوث والدراسات، التي تكتب عنه وتحاول أن تقيمه من هذا الجانب أو ذاك، ويتعذر عليك أن تتخذ موقفًا موضوعيًّا منصفًا لعل ساعته التاريخية لم تأت بعد، ولكنك ستعرف على كل حال أنه الحفيد الشرعي لبعض أجداده من أصحاب الطموح الرائع: كانط وهيجل ونيتشه، وأن هذا هو قدر كل فكر يريد به صاحبه أن يُحدث تغييرًا شاملًا ويحول التيار التقليدي في اتجاه جديد، فإما أن ترفضه كله أو تقبله كله؛ لأنه ينطوي على محاولة جبارة لنسخ كل ما سبقه أو على الأقل لإعادة النظر فيه، وهو لهذا لا يمكن أن يخلو من الشطط والإسراف، وستجد نفسك — كما يقول المناطق — بين قرني الإحراج: فإما أن تتبنى وجهة النظر الجديدة فتجرفك وتستولي عليك بحيث يصبح كل ما سبقها في ذمة التاريخ، أو تحكم عليها من وجهة نظر ثابتة آمنت بها أو اعتدت عليها، فتبدو لك كل فلسفة هيدجر طلاءً لفظيًّا ونقشًا مُعقَّدًا بغير جدار يستند إليه، أو مجرد محاولة للتعبير عن «اللامعقولية» بأسلوبٍ معقول بل مُضنٍ للعقل! فإذا حاولت أن ترتفع فوق كلا الطرفين اللذين أضرَّا بهذه الفلسفة بدرجة متساوية، وجدت صعوبة في اكتشاف الجوانب الإيجابية التي سلمت من مبالغات الأصدقاء والأعداء، ولا يبقى لك إلا أن تدخل بنفسك عالم الفيلسوف لتحاول أن تجرب تجربته «من الداخل» قبل إصدار حكم نقدي مستقل عليها أو الانتهاء إلى حكم موضوعي أخير ربما يطول انتظارنا له، وربما يكون مستحيلًا في حياة الفيلسوف نفسه!

  • (٢)

    إذا كان من المعتاد أن نسأل: بمن تأثَّر الفيلسوف؟ فإن الجواب في حالتنا هذه عسير إلى أبعد حد؛ فالفيلسوف الأصيل، كالأديب الأصيل، يلتقط غذاءه الفكري من مختلف الموائد، فيسيغه ويحوله إلى دم يصعب أن نحلله لنقول: هذه الكرات الحمراء من فلان، وهذه البيضاء من علان! وقارئ هيدجر يراه يدخل في حوار مع أعلام التراث الفلسفي، ويذهل لعلمه الواسع بينابيعه القديمة والوسيطة والحديثة، ولكنه يلاحظ أيضًا أن معظم حواره يدور مع فلاسفة وشعراء في مقدمتهم: هسرل، وماكس شيلر، ودلتاي وبرجسون وفلاسفة الحياة، الكانطيون الجدد، وكيركجور، وهلدرلين، ورلكه، وتراكل، وقبل هؤلاء ليبنتز، وكانط وهيجل ونيتشه، وأوغسطين ودونس سكوتس وتوماس الأكويني، وأرسطو وأفلاطون، ومن قبلهم جميعًا المفكرون قبل سقراط، وخاصة أنكسمندروس وبارمنيدز وهيراقليطس! ومع ذلك يمكن القول بأن أكثر من أثَّرَ عليه هما: دلتاي، الذي أخذ عنه وجهة النظر «المباطنة» أو الكامنة التي لا تستعين بأي حقيقة مجاوزة للعالم، ومنهجه في تفسير الوجود الإنساني من داخله دون افتراض أي مبدأ عال، ونزعته التاريخية القائمة على التفهُّم والتجربة الحية، وكذلك كيركجور، الذي لا يميل كثيرًا إلى الاعتراف بتأثيره عليه أو يقلل من شأنه على أقل تقدير! وقد أخذ عنه الجو الروحي والوجودي القاتم المعذب، والإحساس المفجع بالتوحد والغربة والقلق والهم والذنب.

    ولا شك أيضًا أنه تأثر إلى أقوى حد بتأملات أوغسطين عن الزمان وفكرته عن «اللحظة» بوجه خاص باعتبارها «توتر النفس» الذي فيه تستجمع الماضي وتتهيأ للمستقبل، كما أخذ عن أرسطو إثارة مشكلة الوجود بأسرها، وفسَّر كانط تفسيرًا لا يرضي الكثيرين.

    مهما يكن من شيءٍ فليس من الإنصاف أن نجعل من فكر هيدجر بناءً تلفيقيًّا نرد كل حجر فيه إلى أصحابه! ففيه إلى جانب التأثر الحتمي بالتراث مركب جديد فريد، وخاتمه الخاص يلون كل أجزائه بل كل عبارة فيه، ولا يزال هذا الفكر أشبه بجبل شامخ لم تطرق كل شعابه ومسالكه، أو كنز غني لم تفرض كل ثرواته، وفيه نقط انطلاق للبحث لم تمس خيوطها بعد، ومشكلات لم تجد الحل الأخير، ولعل السنين المقبلة أن تقدم النظرة الموضوعية الصالحة للحكم له أو عليه، بعد أن يتغير الزمان والجو الذي نعيش فيه ولا يعود هيدجر مجرد فيلسوف «أزمة» يتحدث للإنسان في «محنة الوجود»، عندئذٍ يمكن أن تخبوَ هالة السحر التي تشع من جبينه، كما تخفت أصوات لعنات السخط التي تتعالى حوله، عندئذٍ يوضع في ميزان العقل الصحيح!

  • (٣)

    لا شك أن قارئ هيدجر يشعر بجو قاتم مفجع، ترفرف عليه أجنحة الموت والمأساة، ولكننا نخطئ لو أسأنا فهمه وتصورناه داعية اليأس والتشاؤم والعدمية واللامعقولية كما نعته الكثيرون؛ فتفكيره في محنة العصر لا يجعله نذير خراب، وحسه الجاد العميق لا يصبغه بسواد التشاؤم، صحيح أن فكرة العلو — أو الترانسندنس — تقوم عنده بدور هام، ولكنه علو مرتبط بطابع الإمكان الذي يعبِّر عن صميم ماهية الإنسان الذي لا يبلغ النهاية أو التمام أبدًا، بل يحيا دائمًا حياة كائن «لم يكن بعد»؛ لأنه يسعى إلى تحقيق إمكاناته، ولا بد أن يعلو فوق وضعه الحاضر باستمرار.

    هذا العلو قانون أساسي من قوانين وجوده المرتبط بالمستقبل على نحو ما سنرى بعد، ومع هذا فنحن نفتقد لديه العلو ذا «البعد الرأسي» إن صح هذا التعبير، الذي نجده عند أفلوطين أو عند فيلسوف معاصر مثل ياسبرز أو عند تلميذه — أقصد هيدجر — وهو فلفجانج شتروفه.٢

    وأعتقد — إن لم أكن مخطئًا — أن هذا «العلو الرأسي» الذي يتجه بالإنسان إلى الحقيقة العالية كان خليقًا بأن يخفِّف من وطأة القتامة والجهامة والمأساوية التي تشيع في عالمه.

    أضف إلى هذا أننا نظلمه من ناحيتين: إذا وصفناه بأنه ممثل الجناح «الملحد» من فلسفة الوجود، كما هي العادة في معظم ما يكتب عنه في العربية، وإذا دمغنا فلسفته بالإستاتيكية أو السكون والسلبية، كما يذهب أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي مثلًا،٣ فهيدجر نفسه يرفض أن توصف فلسفته بالإلحاد، وينكر هذه الكلمة الفظيعة كل الإنكار، بل إنه ليصرِّح في بعض أحاديثه بأن فكره يهيئ «بعد القداسة» الذي يجب أن يسبق كل حديث عن الله أو عن الدين، والمتأمل لفلسفته لن يخطئ فيها تأثير الأفلاطونية الحديثة وأوغسطين والعصر الوسيط وباسكال وهامان وهيردر وكيركجور، وإذا كان قد حرص دائمًا على البُعد عن الدين، فإنه لم يغلق باب الحوار بينه وبين رجال اللاهوت المسيحي — لا سيَّما البروستنتيين منهم — الذين أفادوا من كثير من جوانب فلسفته، ولو أمعنت النظر في فلسفة الوجود عنده وعند غيره لَلمست تأثيرَ التصورات الدينية عليها بصورةٍ لا يمكن أن تُخطئَها العين، ألا يُذكِّرك وصفُه الإنسان بأنه الموجود الذي يهتم بوجوده وكلامه عن الهمِّ والقلق وحرصه على تحقيق الوجود الأصيل؛ بما تسعى إليه الأديان من الخلاص والنجاة؟ ألا تلمس في تحليلاته للذنب والضمير أصداء بعيدة من الخطيئة الأولى؟ صحيح أنها قد اجتثت من جذورها الدينية الأصلية ودخلت في سياق التفسير «المباطن» البعيد عن كل حقيقة عالية، ولكنها لا تزال مع ذلك تفوح برائحة العاطفة الدينية الحارة، وإن تكن عاطفة متدين عنيد!
  • (٤)

    لا شك بأننا نميل بطبعنا إلى تصنيف الناس ووضعهم في «خانات»، وهذا يُريحنا منهم إلى حد كبير! فإذا عرفت أن هذا الرجل «ماركسي» أو «وجودي» أو «تقدمي» أو «رجعي» أو «عدمي» أو «واقعي» أو «رومانتيكي» أمكنك بعد ذلك أن تحبسه في سجن محدد لا يخرج منه أبدًا! هذا — كما تعلم — هو الاتجاه الغالب عندنا على صغار النقاد والكتاب الذين يملئون حياتنا صياحًا وثرثرةً وشوشرةً، ويقذفون الناس بأحجار الشعارات والمصطلحات التي لم يحاولوا تمثُّلها والتساؤل عن أساسها ومصدرها وسياقها في تاريخ الأدب والفكر والحياة، ولن تعدم أيضًا أمثال هؤلاء في الغرب، وإن كانوا بطبيعة الحال أكثر علمًا ووعيًا وأشدَّ بُعدًا عن التظاهر والضجيج والدجل، فكم من ناقد أو شارح اتهم هيدجر بالعدمية واللامعقولية، بل اتهمه بالرجعية وبتأييد الإمبريالية والرأسمالية، وحمَّله مسئولية أي حرب ذرية مقبلة ستحقق الموت والعدم الذي طالما تغنى به!

    وقد تسأل — إن كنت من المغرمين بالتصنيفات — ألم يكن الأولى بهيدجر أن يُطلِق على بحثه في الوجود الإنساني اسم «الأنثروبولوجيا» بدلًا من «الأنطولوجيا الأساسية»، ما دام يبدؤه في كتابه الأكبر «الوجود والزمان» من الإنسان، ولا يتجاوز دائرتَه «على الأقل في المرحلة الأولى من تفكيره»، وما دام يُعرِّف الإنسان بأنه هو الموجود الذي يهتم بوجوده، أو بالأحرى بإمكان وجوده؟ ولكنك في هذه الحالة تنسى السؤال الأساسي الذي انطلق منه وهو السؤال عن معنى الوجود، وتنسى أن بحثه في الوجود الإنساني وبنيته وأحواله ومسلكه من العالم المحيط به لم يكن سوى معبر إلى ذلك السؤال، لم يكن الإنسان بما هو إنسان — كما هو الحال في الأنثروبولوجيا — هو موضوع هذا البحث، بل كان وسيلة للوصول إلى تصورٍ وافٍ عن الوجود؛ ولهذا كان سؤاله: هل هناك طريق يؤدِّي من تناهي الإنسان إلى الوجود؟ وظل موقف هيدجر من هذه المشكلة موقفًا نظريًّا، على العكس من باسبرز الذي أكَّدَ أهمية الجانب العملي في الوصول إلى تحقيق الوجود الذاتي، بينما تركه هيدجر مسألة خاصة بالإنسان الفرد نفسه يحدِّده بنفسه في المواقف التي تواجهه.

    وقد تسأل أيضًا: إذا كانت فلسفة هيدجر قد تناولت عددًا كبيرًا من الظواهر والوقائع «اللامعقولة» التي لم تنتبه إليها الميتافيزيقا التقليدية، وعبَّرَ عنها كيركجور كما عبَّرت عنها فلسفة الحياة في صورةٍ تتَّسم بالمفارقة التي ما لبثت أن رُفضت بدعوى أنها غير علمية — إذا كانت قد تناولت هذه الوقائع وأضفت عليها الطابع الأنطولوجي والظاهراتي، فهل تكون فلسفته عقلانية أم لاعقلانية (صوفية)؟ والجواب على هذا أنه يشجب كلا الموقفين الأحاديين؛ فالعقلانية في رأيه «بلا قوة» والصوفية «بلا هدف»، ولهذا فمن التجني عليه أن تُسَمِّي فلسفته عقلانية أو لاعقلانية لأنها تنفذ إلى طبقات أعمق لا تعرف عنها هذه المواقف الأحادية شيئًا؛ ولهذا أيضًا نجد لديه هذه العبارة الجديرة بالالتفات: «إن النزعة اللاعقلانية — بوصفها الطرف المقابل للعقلانية — لا تتحدَّث إلا كحديث الأحول عما تعمى عنه النزعة العقلانية!».٤ ولن يمكنك أن تتابع تحليلاته للهم — أو للإنسان الذي يهتم بوجوده — حتى تتخلَّص من كثيرٍ جِدًّا من التصنيفات المألوفة والمفاهيم التقليدية، ولعل هذا أن يكون من أسباب صعوبته وما يبدو لديه من تعسف للكلمات والنصوص ولي أعناقها! ومن لم يتعود على هذه الرؤية الجديدة فسيظل يتخبَّط في فلسفته كما يتخبط المكفوف بين الألوان التي تحاول عبثًا أن تشرحها له! ولو قرأته بإمعان وصبر وبغير أفكار مسبقة، كما يتطلب المنهج الظاهراتي الدقيق، فلن تجد لديه عدمية ولا سلبية ولا قدرية، بل تصميمًا وسعيًا متصلًا إلى تحقيق الوجود الأصيل، إنه فيلسوف وجود قبل كل شيء، بعيد عن أي تقويم أخلاقي، وكل هدفه من تحليلاته الأنطولوجية الخالصة أن يصل إلى معنى الوجود العام أو يجد طريقًا يوصل إليه، ولهذا لم يخطئ الذين سموه أرسطو العصر الحديث، ولا أخطأ الذين قالوا: إننا نتعلَّم منه شيئًا لا نتعلَّمه إلا من كبار الفلاسفة منذ أفلاطون إلى كانط وهيجل؛ ذلك هو القدرة على التفلسف وطرح السؤال وإثارة الفكر. وهذا هو الذي يبقى مما يؤسِّسه الفلاسفة، إن جاز لنا أن نتصرف في عبارة هلدرلين عن الشعراء! والمهم بعد كل شيء أن نتعلم منه كيف نفكر، لا أن نتركه يفكر لنا، وأن نفكر معه وضده إذا اقتضى الأمر لا أن نفكر مثله، ونحن بالذات أحوج ما نكون إلى معرفة هذا.
  • (٥)

    سيلاحظ القارئ أن هيدجر ينطلق في تحليلاته الأنطولوجية للوجود الإنساني من الحياة اليومية أو «الموقف الطبيعي» الذي نحياه جميعًا، مبتعدًا بذلك كل البُعد عن المنطلق العقلاني-الديكارتي من الوعي أو الفكر أو المعرفة أو العقل، وهذه التحليلات للوجود — في العالم والوجود — بالقرب من الأشياء والمعية والأداتية … إلخ؛ تُعَدُّ من أثمن ما قدمه هيدجر للحياة الفلسفية، ولكننا سنلاحظ مع ذلك أنه يُسرف في الكلام عن ألوان «السقوط» في هذه الحياة اليومية المبتذلة، و«الضياع» وسط «الناس»، إلى جانب عدم التزام الدقة في تحديد الكلمات اليومية الغامضة تحديدًا منطقيًّا محكَمًا.

    هل معنى هذا أنه خرج عن تحليلاته الوجودية الخالصة؟ وهل أصدر أحكامًا تقويمية على «الناس» على العكس مما صرح به دائمًا من أن بحوثه الأنطولوجية لا علاقة لها بأي نوع من التقييم أو التقويم؟ ربما وجدت أنني تجاوزت هذه التحليلات إلى شيءٍ من التقويم الذي أعترف أنني اندفعت إليه تحت تأثير الظروف العامة أو الخاصة التي أعيش فيها، وربما يكون هذا تعبيرًا عن سعيي إلى «الوجود الأصيل» وإيماني بأن مهمة الفلسفة الكبرى والفكر بوجه عامٍّ أن تهدينا إليه، لا شك أنني تخطيتُ الحد الذي وضعه هيدجر، ولكن ألم يتجاوزه هو نفسه بتحليلاته لهذا السقوط؟ أيمكن أن يفصل الوجود عن القيمة، والأنطولوجيا عن الأخلاق؟ إنَّ السُّؤال ما يزال مطروحًا على كل حال، ويؤيد ظني ما نجده في كتابات هيدجر المتأخرة من هجوم عنيف على الحس السليم وإصرار على أن التفلسفَ لا يبدأ إلا بالتخلص منه وإعلان الحرب عليه!

  • (٦)

    يوشك هيدجر أن يكرر كلمة «الوجود» في كل سطر يكتبه! ولهذا لا بد أن نحاولَ إلقاء الضوء على هذه الكلمة، ويمكن أن نلاحظَ بوجه عام أنه يستخدم الكلمة بمعناها الكلي الأفلاطوني؛ أي بمعنى وجود الموجود دون معناها عند أرسطو وهو الموجود بما هو موجود، والواقع أنَّه يمضي في الكلام عن الوجود دون تحديدٍ منطقيٍّ له؛ إذ إن الكلام عن الوجود بهذا الأسلوب الأفلاطوني على أنه موضوع يفترض وجودًا سابقًا عليه؛ هو وجود الوجود وهكذا إلى ما لا نهاية كما بيَّن فرانز يرنتانو بحق، أضِف إلى هذا أنه لا يميز بين المعاني المختلفة التي تستخدم كلمة «يوجد» أو «يكون» في عباراتنا اليومية، فهي أحيانًا تكون رابطة كما في قولنا مثلًا: «السماء «تكون» زرقاء»، وأحيانًا تشير إلى العضوية في فئة معينة كأن نقول مثلًا: «طه حسين أديب» أو «الأسد حيوان صحراوي» إلى غير ذلك من الاستخدامات التي يرمز لها المنطق الرياضي بعلاقات الهوية والتضمُّن والعضوية في الفئة إلى جانب استخدام الكينونة من ناحية الجهة كالإمكان والضرورة … إلخ، وغير ذلك من الحالات التي لم يعن هيدجر بتمييزها بوضوح قبل الشروع في بحوثه الأنطولوجية.

    هذا إلى استخدامه لكلمة العدم، خصوصًا في محاضرته عن الميتافيزيقا، وكأن العدم موضوع أو اسم، على الرغم مما ينطوي عليه هذا من مشكلاتٍ منطقيةٍ عديدةٍ تنجم عن استعمال اللغة اليومية الغامضة ونحوها غير الدقيق، أو عن استخدام نفس الكلمة بمعنى واحد في المجالين العلمي والعادي معًا دون تمييز، أو إضفاء شحنات عاطفية على كلمات لا تحتملها أو بمعنى مختلف تمام الاختلاف عن معناها المألوف في التراث، في الوقت الذي كان من الممكن أن ينحت لها كلمة جديدة … إلخ.٥

    ولو نظرنا من الناحية التاريخية لرأينا أن وجود الإنسان الذي يقصده هيدجر؛ بعيد عن تصور فلسفة الحياة له أو تصور الشخصانية «عند شيلر مثلًا» أو المثالية الهيجلية، فليس هذا الوجود منبعًا خلاقًا للحياة ولا روحًا مُطلَقًا، ولا حياةً شاملةً أو عقلًا كونيًّا يمكن أن يحتضن الإنسان ويطويه ويؤمِّنه من الخطر؛ ذلك لأن الوجود الذي يقصده هيدجر هو من ناحية «إمكان» على الإنسان أن يحققه بالتصميم والتجمع، أو يخطئه بالتراخي والنسيان والضياع وسط الناس، وهو من ناحية أخرى شيء بسيط، غير محدد وفارغ من كل مضمون، وعلى الإنسان دائمًا أن يقفزَ القفزةَ التي تنقلُه من الوجود غير الأصيل — الذي يحيا فيه معظم حياته من مولده إلى مماته — إلى الوجود الأصيل، والشيء الذي يحتاجه للقيام بهذه القفزة لا يتصل بالقيم السلوكية ولا بتصعيد القوة الحيوية، كما عند نيتشه؛ إذ هو في صميمه تحول كامل يؤدي بالذات إلى انتشال نفسها من السقوط في ابتذال الحياة اليومية والضياع بين الناس.

  • (٧)

    ما هو الوجود؟ كيف نعرفه؟ ولكن السؤال خاطئ، فقد تعودنا على تصور أن الموجود هو وحده «الواقعي»، وأن ما لا نتثبت من وجوده فهو غير واقعي، غير أن الوجود ليس هو الموجود (وهذا هو الاختلاف أو الفارق الأنطولوجي الأساسي بينهما)، وهو كذلك ليس «موضوعًا»، ولا يمكن تصوره كما نتصور الموضوع (لهذا استطاع هيدجر في محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا؟» أن يتكلم عن العدم دون أن يخطر بباله أن يدعو للعدمية كما تصور الكثيرون ممن أساءوا فهمه؛ لأنه أراد به ما يُعَد غير موجود إذا نظرنا إليه من وجهة نظر الموجودات، وإن كان هو الذي يؤدي بنا إلى «الآخر» بالقياس إلى كل موجود، ونقصد به الوجود نفسه).

    ونعود فنسأل: كيف يمكننا التفكير في هذا الوجود؟ كيف يمكن تصوره؟

    إن مشكلة الوجود قائمة وستظل قائمة، والمهم عند هيدجر هو التفكير فيها. وهذا هو الذي وضعه نُصب عينيه منذ أن بدأ تفلسفه، وكان من الطبيعي أن تحتل مشكلة الميتافيزيقا النصيبَ الأوفى من اهتمامه؛ فقد كانت مشكلة الوجود هي الشغل الشاغل للميتافيزيقا؛ لأنها بحسب تعريفها تتجاوز الموجود بالفكر، أي إلى ما يجعل الموجود موجودًا، وقد تحقق هذا في فلسفة أرسطو بصورة ملزمة لمن جاءوا بعده، فقد سُئل عن الموجود من حيث هو موجود، وكانت إجابتُه هي الموجود الأسمى أو الله، ولهذا بيَّن هيدجر الطابع الأنطولوجي-اللاهوتي لفلسفة أرسطو بكل وضوح، وهو طابع يميز أسلوب الميتافيزيقا كلها التي ظلَّت تبحث عن الوجود بينما هي تعني به الموجود، وهيدجر يريد لهذا السبب أن يعلو فوق الميتافيزيقا أو «يقهرها» ويتخطاها بحيث لا نعود نفكر تفكيرًا ميتافيزيقيًّا، ولكن هل يريد أن يعلو فوقها على نحو ما أراد «فشته» مثلًا أن يتجاوز الإشكال الكانطي بتجاوز ما ذهب إليه من عدم إمكان معرفة الشيء في ذاته؟ ليس هذا هو ما يريده، وهو لا يضع موجودًا أسمى مكان آخر، وإنما يريد أن يُحدث تحوُّلًا في التفكير، هذا التحول عسير؛ لأن من الصعب التعبيرَ عنه بلغة الميتافيزيقا؛ ولهذا نجده يضع مشروعًا لم يختره اتفاقًا، وإنما وجده في بداية الفكر الغربي قبل نشأة الميتافيزيقا على يدي أفلاطون وأرسطو، ومن هنا كانت عنايته بالمفكرين قبل سقراط، هؤلاء الذين علَّمونا — في رأيه — كيف ننصت لصوت الوجود وننتبه إلى ندائه. وحبه لهيراقليطس، كما تعبر عنه إحدى الدراسات المنشورة مع النصوص، شاهدٌ على هذا، أهي عودة إلى القديم وإنكار للتطور الذي تم في تاريخ الفلسفة؟ هذه هي التهمة التي لا يفتأ نقاده يوجهونها إليه، ولكنها في الواقع أبعد ما تكون عن باله، فهو لا يرجع للقديم لقدمه ولا يحاول بعث نصوصه وإحياء دراسته، وإنما يريد الوقوف على التجربة التي حركت هؤلاء المفكرين الأوائل، والعودة على نبع الاندهاش الذي جعلهم يسألون لأول مرة، كما جعل سؤالهم يشع ببريقٍ أطفأه التفكير المنطقي اللاحق، صحيحٌ أن بريق هذا السؤال قد خبا مع الزمن، والمدهش ما عاد يثير فينا الدهشة، ولكن هذا حدث تاريخي أو قدري كامن في تاريخ الميتافيزيقا نفسها، أي في تاريخ الفكر الغربي، وعلينا ألَّا نقبله أو نسلم به، بل علينا أن نحاول بعث التساؤل الأصلي عن معنى الوجود الذي يَفيض نوره على الموجودات، ولولاه ما أمكن أن تظهر نفسها ولا أن تراها عيوننا، ولا يخطرن ببالنا أن تخلي هيدجر عن الإطار التقليدي يعني أنه يستخف بها أو يلغيها ويُنكرها، وكيف له أن يفعل هذا وهي قدره وقدر الإنسان الغربي والإنسان الشرقي والعربي الذي شارك فيها وأضاف إليها وارتبط بها؟ إنه لم ينقطع عن الحوار مع هذه الميتافيزيقا، وإن حاول دائمًا أن يتجاوزها و«يقهرها»، وهو مُقيَّد بتراثها ولغتها، وإن حاول أن يغادر أرضها ويتحرَّر من لغتها، ويكفي أن نطَّلع على تفسيراته العديدة لأعلام التراث الغربي من أنكسمندر وهيراقليطس وبارمنيدز وأفلاطون وأرسطو إلى ديكارت وليبنتز وكانط وهيجل وشيلنج حتى نيتشه الذي اعتبره نهاية الميتافيزيقا وطرفَ قوسها الذي امتد من أفلاطون إليه! وإذا كان هناك من نقد يوجه إلى هذه التفسيرات فهو أنها تفرض على هؤلاء الأعلام جوًّا وجوديًّا وشعورًا بالحياة غريبًا عليهم، فتفسير كانط مثلًا ابتداء من فكرة التناهي تفسير هيدجري بحت؛ لأن كانط — وهو فيلسوف التنوير بأسمى وأجمل معاني هذه الكلمة — يقصد نهائية المعرفة البشرية وضرورة التزام العقل حَدًّا يقف عنده. أمَّا التناهي عند هيدجر فهو هاوية يتجمع فيها القلق والذنب والسقوط وإحساس الإنسان بموته المحتوم، وما أبعد الفرق بين النهايتين! وأمَّا عن تفسيره للحقيقة (أو الأليثيا) عند الفلاسفة قبل سقراط بأنها الإنارة أو الكشف، فلا شك أنه تفسير فرضت عليه أفكار أفلاطونية محدثة جاءت متأخرة عن هؤلاء الفلاسفة، أو بالأحرى هؤلاء المفكرين في الوجود، ربما قلت: إن كل تفسير لا يخلو بالضرورة من جانب ذاتي أو تعسفي، وهذا أمر بشري لا حيلة لنا فيه، هذا صحيح، غير أن المسألة في النهاية مسألة تقدير وميزان، فتفسيرات هيدجر ترجح فيها كفته دائمًا، بحيث يوشك تاريخ الفلسفة أن يصبح مرآة تنعكس عليها صورة شخص واحد هو هيدجر نفسه! أليس من الغريب أن يُظلَم التاريخ على يد فلسفة تشيد بالتاريخية؟

  • (٨)

    ونأتي إلى صعوبة هيدجر التي يئنُّ منها الجميع في كل مكان! وهي مرتبطة إلى حَدٍّ كبيرٍ بمشكلة اللغة التي يعبر بها عن فكرة الوجود، وهو متهم بأن لغته عصية على الفهم، وأن أسلوبه عجيب غير مألوف حتى لأبناء لغته، وأنه ينحت «جهازًا» من المصطلحات التي لا تعرفها اللغة الفلسفية ولا تعرفها لغته نفسها، ويغوص إلى اشتقاقات منسية أو مشكوك في أمرها ليستمدَّ منها دعائم فلسفته.

    كل هذا أمر معروف يكاد أن يرتبط باسمه، بحيث أصبحت بعض تعبيراته مثار التندر والسخرية! ولن أحاول أن أعتذر عن الرجل، فلغته عسيرة ومعقدة حَقًّا، وأسلوبه أسلوب شاعر ركيك إلى أقصى حد، وهو نفسه يعترف بغرابة لغتِه في مواضعَ كثيرة من كتاباته (وكأنه يُذكِّرُنا أيضًا بتحسُّر كانط على أسلوبه المرهق إذا قورن بأسلوب هيوم المطبوع!) ولكن جانبًا كبيرًا من هذه الصعوبة اللغوية يمكن التغلُّب عليه إذا عرفنا مفاتيح فكره — أو بالأحرى مفتاحه الوحيد! — وتعودنا على مصطلحاته الجديدة. والواقع أن صعوبته الكبرى لن يحسَّها إلا من يحاولون ترجمته إلى لغةٍ أخرى؛ فبعض كتاباته تستحيل تمام الاستحالة على المترجم، اللهم إلا إذا فسَّر كل جملة بحاشية أكبر منها! وكلُّ من يقرأ ترجمة بعض أعماله الصغيرة في الإنجليزية أو الفرنسية لا بد أن يقدر مدى الجهد الذي تكبده المترجم ليفكر معه أوَّلًا قبل أن يكتشف الكلمة المناسبة أو يبتكرها في لغته! ومع ذلك فلا بد أن يصطدم حتمًا ببعض الكلمات والمصطلحات التي يقف أمامها حائرًا؛ لأن الفكرة نفسها مرتبطةٌ بها أو مستمدةٌ منها، وهنا لا يجد مناصًّا من تركها على ما هي عليه وأمره وأمر قرائه إلى الله!

    بَيْدَ أن هذه المصاعب كلها يجب ألا تُثنينا عن قراءة هذا الفيلسوف والتفكير معه، فنحن لا نستطيع أن نتجاهل أثره الضخم على الفكر المعاصر في شتى مجالاته، ولا تعمقه الجاد ﻟ «زمن المحنة»، كما يقول عنوان أحد الكتب الهامة التي صدرت عنه لكارل لوفيت:٦ ولعل صعوبته أن تكون راجعة إلى صعوبة «الموضوع» الذي يحاول الاقتراب منه، وهو كما علمنا ليس موضوعًا، ولا يمكن أن يكون موضوعيًّا! وأحسب أننا يجب أن نصدق ما يقوله من أنه لا يملك اللغة التي تُسعفه في التعبير عن الوجود، بل إنه ليفتقد «النحو» أيضًا! وليس هذا مجرد اعتذار عن فقره في موهبة الكتابة، فهو يتعمق التراث الفلسفي كي يكشف عن «أساسه» الذي أهمل ونسي، ويُبيِّن قصور هذا التراث وضرورة تحديه وتجاوزه. ولا عَجب إذن أن يترك لغة هذا التراث ويتحرَّر منها خطوة خطوة، وإن ظلَّ بطبيعة الحال مُقيَّدًا بها، مضطرًّا إلى الحوار معها والهجوم عليها بأسلحتها في نفس الوقت الذي يكوِّن فيه لغته الجديدة، يكفي دليلًا على هذا أن تُراجع مقدمة الكتاب لترى كيف تخلَّى عن مشكلة الذات والموضوع، وكيف بدأ بفكرته عن «الموجود الإنساني» أو «الدازاين» أو «الموجود-هناك» مرحلة جديدة في فهم الإنسان، وكيف أسقط مشكلة العالم الخارجي بضربة واحدة؛ إذ إن الموجود الإنساني بطبيعته موجود في العالم! وكيف أعاد النظر في مفاهيم عديدة كالأنطولوجيا والترانسندنس (العلو) والحقيقة … إلخ؟ وكيف لم يتوقف منذ صدور كتابه الأساسي «الوجود والزمان» سنة ١٩٢٧م عن البحث والسعي «على الطريق» سعيًا لا يهدأ ولا تخبو ناره؟ ومثل هذا البحث والسعي المتصل لا بد أن يضايق الشَّارح الذي يُريد أن يثبته على رأي أو موقف يريحه!
  • (٩)

    ربما زال جانب كبير من صعوبة هذا الفيلسوف لو حاولنا أن نفهم تفكيره ونحققه «من الداخل» ولم نحاول أن نثبته على مسامير الشعارات الجاهزة والقضايا المحددة المريحة التي تملأ كتب تاريخ الفلسفة والأدب (حتى لتبدو لي في بعض الأحيان أشبه بمحلات العاديات والتحف التي تثبت رءوس الحيوانات وجلودها على الحائط!) عندئذٍ يمكن أن نجد في قراءته متعة لا تقل عن المتعة التي نحسُّها في صحبة كبار الفلاسفة، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنها تفوقها في كثيرٍ من الأحيان، وما أسهل النقد — أو النقض! — على من ينظر إلى مثل هذا المفكر من الخارج أو يحاول الاقتراب من عالمه بمفاهيم ثابتة تعوَّد عليها، فلنجرب هذا التعاطف واللقاء مع هيدجر ومع غيره من المفكرين والأدباء، ثم ننتقده بعد ذلك كما نشاء على أساس صحيح. وليس معنى التعاطف واللقاء أن نسبح في بحره ونرتديَ زيه ونتخذَ موقفه وننظرَ بعينيه، فهذا تكرار شاحب لا يليق إلا بالببغاوات، بل معناه أن نتابعه على الطريق الشاق، ونحقق حركته الفكرية في تطورها وصيرورتها قبل إصدار الحكم عليها، هذا هو موقفي الذي لا أحيدُ عنه، أمَّا المتعجِّلون والمتزمِّتون فهم وما يشاءون!

    ولا شكَّ أننا أحرار بعد ذلك في الحكم عليه كما نشاء، وشتَّان ما بين بعد وقبل! فهنا يمكن أن نكون منصفين، وأن نتكلم عن علم ووعي لا عن شهوة إلى الكلام، وأن ندخل طرفًا في الحوار، بعد أن هيَّأنا أنفسنا له، ولهذا فإن هذا الكتاب لا يطمع إلا في أن يكون تمهيدًا متواضعًا لتفكير هيدجر، مجرد محاولة أرجو أن تغريك بقراءته «وتجر رجلك» إلى بحار نصوصه!

  • (١٠)

    أخيرًا، فإن هذا «التمهيد» يتمنى أن يضيف لبنة واحدة إلى البناء الفلسفي الذي يرتفع بالجهد والإخلاص في بلادنا العربية، وهو لهذا يحب أن يسجل دَينه وعرفانه للجهود الطيبة التي سبقته وعبَّدت له الطريق، ويودُّ أن يشيد بالدراسات القيمة التي ظهرت عن هيدجر، وفي مقدمتها دراسات أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي «الزمان الوجودي، والإنسانية والوجودية في الفكر العربي، ودراسات وجودية»، وأستاذنا الدكتور عثمان أمين في كتابه «في الفلسفة والشعر»، والأساتذة الدكاترة: زكريا إبراهيم «الفلسفة الوجودية، ودراسات في الفلسفة المعاصرة، فلسفة الفن في الفكر المعاصر»، ويحيى هويدي «دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة»، ومحمود رجب في رسالته التي لم تظهر بعد عن «المنهج الظاهرياتي عند هرسل»، وترجمته لمحاضرة هيدجر «ما الفلسفة؟»، وفؤاد كامل في ترجمته لمحاضرتيه «ما الميتافيزيقا؟» و«هلدرلين وماهية الشعر» وترجمته القيمة لكتاب ريجيس جوليفيه عن «المذاهب الوجودية من كيركجورد إلى سارتر».

    أمَّا عن مشكلة الحقيقة فأودُّ أن أنوه بفضل البحث الذي أصدره الدكتور نظمي لوقا عن الحقيقة، وبرسالة الدكتور فؤاد زكريا عن مشكلة الحقيقة التي أعارني ترجمته الإنجليزية لها (إذ لم يكن الأصل العربي بين يديه!) وكانت خير عون لي طوال الفترة التي شُغلت فيها بإعداد هذا الكتاب.

    وأودُّ أخيرًا أن أسجل عرفاني بالترجمة الفرنسية ﻟ «ماهية الحقيقة»، وهي الترجمة التي قام بها الأستاذان فالتر بيميل وألفونس دي فيلنس، وساعدتني أكبر مساعدة على استجلاء الكثير من غوامض النص الأصلي، أمَّا الكتاب الذي صحبني في رحلتي المضنية مع نصوص هيدجر المختلفة ابتداءً من «الوجود والزمان»، ودلَّني على الطريق في دروبه «المسدودة»، فهو كتاب الأستاذ فالتر بيميل الذي ظهر عن هيدجر في سلسلة «روفولت» المعروفة، وتفضلت الآنسة فاطمة مسعود بإرساله إليَّ، والحق أن فضل هذا الكتاب عليَّ أكبر من كل شكر ومن كل تعبير.

القاهرة في ١٩٧٥م
١  هذا هو فصل الحكمة، لا يستحق الحرية ولا الحياة، إلا من يغزوهما كل يوم (فاوست، القسم الثاني، الفصل الخامس، الأبيات ١١٥٧٤–١١٥٧٦).
٢  راجع إذا شئت كتابه «فلسفة العلو» من ترجمة تلميذه كاتب هذه السطور، القاهرة، مكتبة الشباب، ١٩٧٥م.
٣  راجع «الزمان الوجودي»، القاهرة، النهضة المصرية، الطبعة الثانية، ١٩٥٥م، ص٢٠٠، وارجع أيضًا إلى حديثه الأخير مع الدكتور الجندي خليفة عن الوضع الفلسفي الراهن في العالم العربي، المنشور في مجلة «الثقافة» الجزائرية، العدد ٢٦، أبريل-مايو ١٩٧٥م.
٤  الوجود والزمان، ص١٣٦.
٥  راجع في هذا كتاب فولفجانج شتيجملر: التيارات الأساسية في الفلسفة المعاصرة، ص١٨٨ وما بعدها، وكذلك الفصل الخاص بهيدجر في رسالة الدكتور فؤاد زكريا عن مشكلة الحقيقة (النسخة الإنجليزية التي لم تُنشَر بعد).
٦  هيدجر مفكر في زمن المحنة، فرانكفورت، ١٩٥٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤