السؤال عن الوجود

السؤال عن الوجود لا ينفصل في تفكير هيدجر عن السؤال عن الحقيقة؛ فهما الباعث لهذا الفكر، أو هما النغمة المزدوجة التي تطغى على لحنه المتدفق وتبث فيه الحركة والحياة، ولا بد لنا منذ البداية من الإشارة إلى أن كلمة الحقيقة بمعناها التقليدي لا توضح دلالتها الأصلية التي لا يعنيها هيدجر، وهي «الأليثين» بمفهومها اليوناني الذي يفيد التكشف أو اللاتحجب، ولهذا ينبغي علينا كلما ذكرنا كلمة الحقيقة على الصفحات القادمة أن نتذكر معناها الأصلي الذي يعتمد عليه فيلسوفنا في عرضه المشكلة وتصوره لها، ويمكننا أن نمهد لهذا المعنى إذا قلنا: إنَّ كلمة «الأليثين» — التي نترجمها عادةً بالحقيقة ويترجمها هيدجر باللاتحجب — هي إحدى الكلمات الأساسية في لغة اليونان وفهمهم للوجود.١ فكل تعامل أو اتصال بالموجود لا يتم إلا إذا خرج هذا الموجود من تحجبه وتكشف وظهر بنفسه، هذا اللاتحجب لا يُضاف إلى الموجود أو لا يحمل عليه عن طريق الحكم، بل الأولى أن كل قول نعبِّر به عن الموجود لا يكون ممكنًا إلا إذا سبقه ظهور هذا الموجود نفسه (أو لاتحجبه) الذي يُعَدُّ خاصية أساسية فيه، ولهذا سوى أرسطو على سبيل المثال بين «الأليثين» (اللاتحجب) وبين الأون (الموجود) وأصبح الموجود في نظره هو الكائن الحاضر، بمعنى الموجود الذي يتمتع بنوع من الثبات، ويتصف بشكل معين وحدود ثابتة، ومِنْ ثَمَّ كانت «الفيزيس» عنده هي هذا الكائن الحاضر على الأصالة.

أمَّا الإنسان، فهو الذي يملك القدرة على إدراك الموجود على نحو ما يظهر ويتجلى من ثنايا الاحتجاب، وهو القادر على أن يجمعه في وحدته عن طريق «اللوجوس» الذي يكشف عن هذه الوحدة (إذ إن اللوجوس من ناحية اشتقاق الفعل المشهور «ليجين» يعني عنده التجميع)، وهكذا نجد أن الإنسان — في تفسير هيدجر للتجربة اليونانية — ليس هو مركز هذه التجربة ومحورها؛ لأن الموجود اللامتحجب هو الذي يشغل هذا المركز؛ ومِنْ ثَمَّ يستطيع الإنسان عن طريق اللوجوس أن يتجه إليه وينفتح عليه، ومعنى هذا بطبيعة الحال أن نفهم الإنسان من جهة الحقيقة (أي اللاتحجب) لا أن نفهم الحقيقة من جهة الإنسان.

السؤال إذن ذو شقين، ومن حوله يدور تفكير هيدجر في كل أعماله، وسنحاول أن نبين مدى ارتباط هذين الشقين أو هذين الجذرين الأساسيين لشجرة هذا الفكر، ولن يتسع المجال بطبيعة الحال لتتبع هذا السؤال في كل ما كتبه هيدجر؛ ولهذا سنقتصر على تناوله من خلال بعض أعماله التي تعد علامات واضحة على طريقه الطويل وبخاصة الوجود والزمان، وماهية الحقيقة، وهما أول ما يرد على الخاطر من مؤلَّفاته عند السؤال عن الحقيقة، ثم نتناوله في بعض محاولاته التي تتناوله من وجهة نظر معينة أو مجال محدد، كما في بحثه عن «الأصل في العمل الفني» ورسالته عن النزعة الإنسانية، ومحاضرته عن «ماهية اللغة» وكتابه عن «نهاية الفلسفة ومهمة الفكر».

وقد صرَّح هيدجر نفسه بأن السؤال عن الوجود هو الذي حرَّك فكرَه وحدَّد نقطة انطلاقه، وكان ذلك — كما قدمنا — ثمرةَ تأثره برسالة برنتانو وكتاب أستاذه بريج عن الوجود وبحوث هسرل المنطقية التي أشرنا إليها جميعًا من قبل، ولكن كيف انضم السؤال عن الحقيقة إلى السؤال عن الوجود؟ وكيف ائتلفا في نسق واحد؟ كيف تطلَّب منه هذا أن يرجع لتجربة اليونان في الفكر والوجود، وأن يتأمل مسار الميتافيزيقا منذ بدايتها إلى تصورنا لها، وأن يلحَّ في كتاباته على «التغلب» على الميتافيزيقا أو تجاوزها وقهرها وتخطيها؟ هذا هو ما نودُّ أن نتحدث عنه الآن.

(١) السؤال عن الوجود في أفق الزمان

من الصعب أن نتناول كتاب هيدجر المعروف «الوجود والزمان» (١٩٢٧م) من كل جوانبه أو نحلِّل موضوعَه وأقسامه بالتفصيل، فهذا الكتاب الذي بدأ عصرًا جديدًا في التفلسف وكان له أكبر الأثر على معظم التيارات الفلسفية في هذا القرن يحتاج بغير شك إلى دراسة منفردة، ولهذا فسوف نكتفي بمقدمة قصيرة عنه، نتطرق منها للحديث عن الموجود الإنساني (وهو الذي آثرنا أن نترجم به كلمة هيدجر «الدازاين»٢ أو الموجود الإنساني الذي يكون دائمًا على علاقة بالوجود العام ويتميز دون سائر المخلوقات بفهم هذا الوجود والسؤال عنه) باعتباره وجودًا في العالم، ثم نتناول الوجودات٣ (أو المقومات الأساسية للموجود الإنساني) والزمانية، لكي نختم حديثنا بالسؤال عن الحقيقة كما عبَّر عنها هيدجر في هذا الكتاب.
ربما كان من قبيل الكلام المكرر أن نتحدث عن الأثر الضخم الذي أحدثه ظهور هذا الكتاب أو عن صعوبته وتعقيد لغته وغرابة مصطلحاته التي أذهلت قراء هذا الجيل (وما زالت تزعج الكثيرين منهم وتتخذ من بعضهم مناسبةً للتندُّر والدعاية والتشهير!)٤ فتح الناس عيونهم فوجدوا أن عددًا لا يُستهان به من المشكلات «الكلاسيكية» في نظرية المعرفة قد قُضيَ عليها بضربة واحدة، وأن القضايا التي كانت تتناولها الكانطية الجديدة قد أصبحت ضحلة، وأن تاريخ الميتافيزيقا من أفلاطون إلى نيتشه قد سلط عليه ضوء جديد، وأن فلسفة الظاهريات التي احتلت ميدان السباق وشغلت الأذهان منذ ربع قرن اكتست ثوبًا جديدًا وتجلت في صورة أخرى، بحيث تعذَّر على رائدها هسرل أن يتعرف عليها وأعلن رفضه الصريح لها وخيبة أمله في هذا الزي «الأنثروبولوجي» الذي خلعه عليها أخلص تلاميذه وألمعهم موهبة! ولعل «المعلم» لم يكن قد تعلم بعدُ أن التلميذ ليس بالضرورة نسخة من الأستاذ، ولا هو تابع يمتثل لتعاليم السيد، وأن الوفاء الحقيقي من المريد يقتضي منه التفرد والاختلاف فيما يتصل بأمور الفكر (لا بأمور الأخلاق بطبيعة الحال كما يتصور بعض الناس في بلادنا!) ولهذا كان الوجود والزمان بداية انقلاب جديد في التفكير الفلسفي، ومفرق طريق سرعان ما تشعبت عنه مسالك ودروب جديدة، صحيح أنه وُوجه بسوء الفهم المنتظر من كل عمل جاد، ولكن لم يلبث أن ظهر تأثيره على ذلك الجيل، وتجاوز دائرةَ المشتغلين بالفلسفة في قاعات الدرس إلى دوائر العلماء الطبيعيين والأطباء والأدباء والشعراء حتى بلغ صداه أو كاد إلى آذان رجل الشارع!
والواقع أن تهمة التعقيد والصعوبة التي لحقَت بالكتاب من قبيل السمعة السيئة التي تُلصق بإنسان لم نعرفه حق المعرفة! صحيح أن مصطلحاته جديدةٌ لا يخفى عليها أثر النحت والصنعة والعناء، وأن أسلوبه مرهق، وبناءه لا يخلو من التصميم والمنهجية التي تقترب من المذهبية البعيدة عن الطلاقة والانطلاق، ولكن أين العمل الفلسفي الذي يخلو من التنسيق والبناء؟ وأين الفيلسوف الذي يسمح لنا بالدخول إلى حلبته قبل أن نتزود من مخزن أسلحته بالدرع القوي والحراب والسهام التي تجعلنا أكفاء لمنازلته؟ ليس الكتاب صعبًا إذا أخذناه من ناحية لغته؛ فهي لغة واضحة لكل من يملك الصبر والاستعداد لسماع صوتها، وليس الكتاب عسيرًا إذا فهمنا مقصده الأساسي وهو السؤال عن الوجود، ولكن الكتاب يصبح مُضنيًا شاقًّا إذا أغفلنا الارتباط الجوهري بين الوجود والزمان أو نسينا أن الزمان هو الأفق الذي نطل منه على مسألة الوجود، صحيح أن الفلسفة القديمة والحديثة لم تخلُ من البحث في مشكلة الزمان (ويكفي أن نُشيرَ إلى مفهوم الزمان منذ أرسطو٥ حتى «معطيات» برجسون و«الوعي الباطن بالزمان» لهسرل)، ولكن مشكلة الوجود نفسها لم تكن — على الرغم من كل الأنطولوجيات — قد وضعت في موضعها الصحيح الذي ذكرناه ولا تم فحصها بمثل هذه الرؤية التاريخية العميقة.

•••

أعلن هيدجر منذ بداية الكتاب أن تناول مسألة الوجود يقتضي مهمتين يقابلهما تقسيم الكتاب إلى قسمين؛ فأما القسم الأوَّل فيتناول تفسيرَ «الموجود الإنساني» (الدازاين) من جهة تفسير الزمانية بوصفها الأفق «الترنسندنتالي» الذي ينظر منه إلى السؤال عن الوجود، وأمَّا القسم الثاني فيشرح المعالم الرئيسية لما يسميه «التحطيم الفينومينولوجي» لتاريخ الأنطولوجيا على هدى من مشكلة الزمانية (والكلمة الأصلية للتحطيم توحي بالكلمة الحديثة عن التفكيك وتستبقها)، ثُمَّ أعلن بعد ذلك أن القسم الأوَّل سيتفرع إلى ثلاثة فصول: التحليل الأساسي للموجود الإنساني، الموجود الإنساني والزمانية، والزمان والوجود،٦ وجدير بالذكر أن هيدجر لم يكتب هذا الفصل الثالث والأخير، وبقي كتابه أشبه بتمثال ناقص أو شذرة لم تتم، ولعل هذا الجزء المفتقد كان سيكون من أهم أجزاء الكتاب، بل لعله أهمها جميعًا، مهما يكن من شيء، فإن الفيلسوف لم يتم كتابه واستعاض عن هذه المهمة بما قدمه بعد ذلك من بحوث ودراسات ومحاضرات، لعل من أبرزها كتابه عن كانط ومشكلة الميتافيزيقا (الذي يمثل الفصل الأوَّل من الجزء الثاني الذي لم يضعه حتى اليوم!) ومحاضرته المعروفة «ما الميتافيزيقا؟»٧ وكتابه «المدخل إلى الميتافيزيقا».

•••

يبدأ هيدجر أول صفحات كتابه بالسؤال عن معنى الوجود، وكان حتمًا أن يكون هذا السؤال مثار الدهشة، ففيمَ السؤال اليوم عن الوجود والفلاسفة منذ القدم لا يسألون إلا عنه؟! وعلامَ قامت الأنطولوجيا إلا على أساس فكرة الوجود، وعمَّ بحثت الميتافيزيقا في تاريخها الطويل إلا عن معنى الوجود؟

إن السؤال ليس جديدًا بالطبع، وهيدجر نفسه يعترف بهذا ويقدِّم لكتابه بنص من أفلاطون من محاورة السفسطائي، ولا بد أن نقرأ معًا هذا النص ونقف عند تعليقه عليه؛ لأنه سيكون نورًا يكشف لنا ظلمات الكتاب ويهدينا في متاهاته: «لأن من الواضح أنكم تعرفون منذ عهد طويل المعنى الذي تقصدونه عندما تستخدمون تعبير «الموجود»، أمَّا نحن فقد اعتقدنا حقًّا فيما مضى أننا نفهمه، ولكننا الآن حائرون في شأنه».٨

ويريد هيدجر بهذا النص أن يُذكِّرَنا بأن السؤال القديم قدم الميتافيزيقا نفسها، وهو لا يبغي منه أن يصلنا بالتراث، بل يريد أن يتحدى هذا التراث ويحملنا على التفكير فيه أو بالأحرى على «تحطيمه» وخلخلته وتصفيته مما تراكم عليه من رواسبَ شوَّهَت مقصده الأصلي أو حجبته وألقت به في زوايا النسيان، وهو يعلِّق على النص فيسأل: أعندنا اليوم جوابٌ على السؤال عما نقصده حقًّا حين نستخدم كلمة «موجود»؟ كلا؛ ولهذا ينبغي أن نطرح السؤال عن معنى الوجود من جديد، أنحس اليوم الحيرةَ والارتباكَ لأننا لا نفهم تعبير «الوجود»؟ كلا؛ ولهذا يتعين علينا قبل كل شيء أن نوقظ الفهم لهذا السؤال. إن تناول السؤال عن معنى الوجود هو الغرض من هذا الكتاب، وتفسير الزمان، باعتباره الأفق الممكن لكل فهمٍ للوجود بوجهٍ عام، هو الهدف المؤقت منه.

ولكن هل يمكننا أن نسأل عن الوجود ومعناه إن لم نسال قبل ذلك عمن يطرح السؤال ونحلل مقومات وجوده؟ إن الفيلسوف يضعنا منذ البداية في الموقف الذي ينبغي أن نضع أنفسنا فيه، فإذا كان لنا أن نطرح السؤال بصورة واضحة ونحققه عن بصيرة، فإن هذا يقتضي مِنَّا أن نفسر طريقة النظر إلى الوجود، ونشرح أسلوب إدراكه وفهم معناه، ونمهد لاختيار الموجود النموذجي الذي يقوم بهذا ونبين المدخل الأصيل إليه، والنظر والفهم والتصور والاختيار كلها من أساليب السؤال؛ ومِنْ ثَمَّ فهي نفسها أحوال موجود محدد، هذا الموجود الذي هو نحن أنفسنا الذين نطرح السؤال، معنى هذا أن تناول السؤال عن الوجود ينصرف إلى الكشف عن الموجود الذي يسأل عنه من جهة معناه، هذا الموجود الذي هو نحن أنفسنا والذي يملك إمكانيةَ السؤالِ هو الذي سنصطلح على تسميته ﺑ «الموجود الإنساني»، وهكذا يتطلَّب السؤال الصريح الواضح عن معنى الوجود أن يسبقه تفسير مناسب لهذا الموجود الذي نصفه بالدازاين أو الموجود الإنساني من جهة وجوده.٩
لا سبيل إذن لشرح السؤال عن الوجود إن لم نبدأ بتحليل السائل، ولن نستطيع تناول السؤال كله تناوُلًا موضوعيًّا حتى نمهد له بالبحث عن نوع وجود هذا الذي يضعه، على أنه ينبغي علينا منذ البداية ألا ننسى لحظة واحدة أن الأصل هو السؤال عن معنى الوجود، وأن تحليل «الوجودات» أو مقومات الموجود الإنساني — وهو كما عرفنا الموجود البشري الذي ينفرد بطرح هذا السؤال — هو الطريق الأساسي والمعبر الوحيد إليه، ولا يصحُّ أن يُفهَم من كلامنا عن الطريق والمعبر أن هذا التحليل مجرد تمهيد لموضوع الوجود أو أنه شيء إضافي يقع على هامشه؛ إذ إن السؤال الأساسي يتطلب هذا التحليل لنوع وجود الموجود الذي اتفقنا على تسميتِه بالموجود الإنساني تمييزًا له عن غيره من الموجودات التي سيأتي الحديث عنها كالموجودات الحاضرة أمامنا أو التي تقع في متناول أيدينا، إن السائل ينفرد عن غيره من الكائنات، فلا يكفي أن نقول عنه إنه يكون وحسب، بل ينبغي أن ننتبه دائمًا إلى أنه هو الموجود الذي يهتمُّ بوجوده،١٠ ولا ينبغي أيضًا أن يقع في وهمنا أن تحليل الموجود الإنساني يتصل من قريب أو من بعيد بما نعرفه من تأملات وتحليلات أنثروبولوجية ونفسية واجتماعية، فالهدف الوحيد من هذا التحليل هو التعرف على ماهية ذلك الكائن القادر على السؤال عن الوجود، بل المتميز دون سائر الكائنات بفهم محدد للوجود.
يصف هيدجر السؤال عن معنى الوجود بأنه «أنطولوجيا أساسية»، ولا تريد هذه الأنطولوجيا الأساسية أن تقدم لنا تصوُّرًا شاملًا عن الوجود بقدر ما تريد أن تحلِّل أسلوب وجود من يقوم بالسؤال عنه وتبين «البناءات» الرئيسية التي تكون مقومات وجوده أو بالأحرى «وجوداته»، ووجود هذا السائل يفترق عن سائر الموجودات في كونه على علاقة دائمة مع نفسه، هذه القدرة على التعلق بذاته، وفهم إمكانيات وجوده — بل الإمساك بها! — تعبر عن خاصية أساسية في تكوين هذا الموجود الذي يتميز «بالتواجد»،١١ والتواجد مصطلح ينطبق على الإنسان وحده، وتحديداته البنائية، أو وجوداته، تتميز تميُّزًا واضحًا عن تحديدات سائر الموجودات غير الإنسانية؛ إذ سنصف هذه التحديدات الأخيرة بأنها تحديدات مقولاتية، وينبغي أن نتنبه إلى هذه التفرقة التي لم تفطن إليها الأنطولوجيا التقليدية، صحيح أن الموجودات غير الإنسانية توجد أيضًا أو تكون ولكنها لا تتواجد، ولا تقدر على الدخول في علاقة مع نفسها.

ما هي إذن المهمة المزدوجة في تناول السؤال عن الوجود؟ إنها تقوم من ناحية على تحليل الموجود الإنساني، ومن ناحية أخرى على ما يسميه هيدجر «تحطيم تاريخ الأنطولوجيا».

لنبدأ بالمهمة الأولى، نحن الذين نتواجد، ولهذا يؤثر الفيلسوف — كما قدمنا — أن ينحت لنا مصطلحًا يميزنا عن سائر الموجودات، وهو مصطلح الدازاين أو الموجود الإنساني كما تقدم، وأخص خصائص وجودنا هي أننا نعيش ونتحرك دائمًا من خلال فهم محدد للوجود، يبدو إذن أن من السهل علينا أن نقول شيئًا عن هذا الموجود الإنساني، غير أننا نتوهم هذا، فنحن في العادة لا نملك مقاومة الإغراء الذي يحملنا على أن نفهم أنفسنا من خلال الموجود الذي «لا نكونه»، هذا الموجود الذي نتخذ منه على الدوام مسلكًا مُعيَّنًا ونصفه بأنه «العالم»، هذا الموجود المختلف تمام الاختلاف عن «موجوديتنا» يغرينا بأن نتخذ منه نموذجًا للفهم، أن نتصور أنفسنا على غراره، هكذا يعرف الإنسان ما يتعامل معه بأفضل مما يعرف نفسه! وهذا يفرض علينا أن ننظر إلى الموجود الإنساني في أقرب أحواله وأكثرها حظًّا من الألفة والتكرار، أي في حياته اليومية، كما يحقق المطلب الفينومينولوجي الذي يحرم علينا أن نبدأ من مشروع مثالي، لكي نتمكن من رؤية الإنسان في أسلوب حياته ووجوده المعتاد، ولكن ليس الهدف من هذه الرؤية أن يستغرقنا وصف هذا الأسلوب في الحياة والوجود، وإنما الهدف منه أن نوضح الأسس التي يقوم عليها، أي «البناءات الماهوية» أو مقومات الوجود أو «الوجودات».

يبدو أن هيدجر يترسم هنا طريقًا دائريًّا يشبه أن يكون عودًا على بدء؛ فهو يقرِّر أن تحليل الموجود الإنساني مسألةٌ مؤقتة، الهدف منها أن تُعيننا على تحديد السؤال الأساسي عن الوجود، فإذا تمَّ هذا التحديد كان علينا عندئذٍ أن نرجع إلى تحليل الموجود الإنساني فنعيده مرة أخرى، وهذا هو الذي سنراه بالفعل في القسم الثاني من الكتاب الذي يتناول الارتباط بين الإنسان والزمانية تناولًا جديدًا، وليس هذا من قبيل الصدفة؛ لأن الأفق الذي نستطيع أن نفهم من خلاله وجود الإنسان هو في رأيه أفق الزمانية؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يعيدَ التفكيرَ في مشكلة الزمان، وقد كان المأمول من هذا التفكير أن يمكننا من أن نفهم كذلك زمانية الوجود نفسه، غير أن هذا الجزء المهم هو الذي افتقده الناس، ولم يستطع هيدجر أن يكتبه حتى اليوم!

ونصل الآن إلى المهمة الثانية التي يتطلبها تناولنا للسؤال عن الوجود، ما الذي يقصده هيدجر من «تحطيم تاريخ الأنطولوجيا»؟ ها هو ذا يؤكد لنا أن الموجود الإنساني نفسه تاريخي، وأن هذا وحده هو الذي يجعله يتصوَّر شيئًا كتاريخ العالم، لنستمع إلى ما يقول الفيلسوف في هذا الصدد: إن الموجود الإنساني بأسلوبه الذي يتخذه في الوجود وتبعًا لذلك أيضًا بفهمه الخاص للوجود، قد نشأ في أحضان تفسير موروث للموجود الإنساني، إنه يفهم نفسه دائمًا من خلال هذا التفسير وفي ظل محيط معين، هذا الفهم هو الذي يفض إمكانية وجوده وينظمها، إن ماضيه الخاص، وهذا يعني دائمًا ماضي جيله، لا يسير وراءه ولا يتبعه، وإنما يسبقه في كل حين.١٢
قد يبدو هذا مناقضًا للموضوع الأصلي الذي فرغنا من صياغته؛ فتاريخية الوجود الإنساني — والإنسان العادي بوجه خاص — تغري بالسقوط في شباك التراث والامحاء فيه، وكما رأينا الموجود الإنساني يميل إلى أن يفهم ذاته على مثال الموجودات المختلفة عنه،١٣ كذلك نراه يميل في فهمه للتاريخ إلى السقوط تحت رحمة التراث، فيترك له زمامه، ويدع له أمر اختيار قراراته الحاسمة، دون أن يكلِّف نفسَه مشقة استشراف هذا التراث واستشفاف وجوده التاريخي الخاص.

لا بد إذًا من إزالة الحُجُب التي تراكمَت على التراث، فغطَّتْه أو شوهتْه أو ألقتْه في مهاوي النسيان، ولا بد من الرجوع إلى منابعه الأصلية التي استمدَّت منها المفاهيم والمقولات المأثورة التي ظلَّت المذاهب المتوالية تتناقلها وتنحرف بها عن أصولها، وعلينا أن نضع المفاهيم في سياقها التاريخي بدلًا من أن نأخذها مأخذ الحقائق الأبدية الثابتة التي نكتفي بتلقيها وتسليمها للأجيال اللاحقة.

التحطيم (أو التكسير) للتراث الأنطولوجي لا يعني أن ننفي الماضي أو نقف منه موقفًا سلبيًّا، وإنما الهدف منه هو اكتشاف إمكانياته الإيجابية، وإزالة الرواسب التي تراكمت عليه بغية الوصول إلى التجارب الأساسية التي حددت مفاهيمه الأولية، ومعرفة إن كان هذا التراث قد نظر حقًّا إلى مسألة الوجود من أفق الزمان.١٤

إن تحطيم تاريخ الأنطولوجيا معناه في المقام الأوَّل «كشف الغطاء» عن تاريخية تصوراته الأساسية، لا بل بعث الإحساس بمعنى التاريخية نفسها، على الرغم مما قد يكون في هذا التعبير من مفارقة، ومعناه أيضًا أن نكشف عما وقع في هذا التراث المستقر من إهمال للسؤال الأساسي عن الوجود، بحيث نُصبح على وعي بتاريخ الأنطولوجيا ونتبين حدودها ونفهمها.

والحق أن هيدجر لم يتوقَّف طوال حياته عن القيام بهذه المهمة، وتفسيراته التي قدمها عن أفلاطون وأرسطو وديكارت وليبنتز وكانط وفيشته وشيلنج ونيتشه والفلاسفة قبل سقراط بوجه خاص هي خير شاهد على هذا، وكلها تفسيرات محكمة جديرة بالإعجاب، بغض النظر عن مواقفنا المختلفة منها، ويؤكد هيدجر منذ البداية أن منهجه هو المنهج الفينومينولوجي (الظاهرياتي)، لكننا نخطئ لو تصورنا أنه يأخذ ببساطة مفهوم هسرل للظاهريات كفلسفة «ترنسندنتاليه» تصل في مراحلها التكوينية الأخيرة إلى رد كل شيء إلى الأنا (الذات أو الوعي) الخالص (الذي يبقى ولو فني العالم كله)! فالواقع أن هيدجر يحلل كلمتي الظاهرة والعلم اللتين يتألف منهما المصطلح اليوناني الأصلي تحليلًا عميقًا،١٥ ويبرر — مع عرفانه بفضل هسرل عليه — تنصله من الظاهريات فلسفةً واتجاهًا، واستفادته منها نهجًا وطريقًا للكشف عن أشكال الوجود، إنه، إذا صح تفسيره لها، يجردها من طابعها المطلق من الزمان ويرجعها إلى السياق التاريخي، بل إنه ليجعل منها أنطولوجيا١٦ تتجه في صميمها إلى ما يظهر الظاهرة نفسها، أي إلى حقيقة الوجود؛ ولهذا فإن مفهوم الظاهريات على حد قوله لن ينصب على «مائية»١٧ (أو موضوعية) موضوعات البحث الفلسفي بل على كيفيتها، وبهذا لن تكون الأنطولوجيا ممكنة إلا إذا أصبحت فينومينولوجيا،١٨ أمَّا من ناحية «الموجود الإنساني» فتسصبح الظاهريات تفسيرًا١٩ أو تأويلًا يبين خصائصها وبنيتها: «إنَّ الفلسفة هي أنطولوجيا ظاهرياتية كلية تبدأ نقطة انطلاقها من تفسير الموجود الإنساني الذي ثبت، بوصفه تحليلًا لهذا الموجود الإنساني، نهاية مسار كل سؤال فلسفي عند الأصل الذي صدر عنه وسوف يرتد إليه.»٢٠

(٢) وجود الإنسان وجود-في-العالم

لن تجد في حديث «الوجود والزمان» عن الإنسان شيئًا من تلك الأوصاف التي ألفناها في غيره من الكتب الفلسفية التي تجعل منه وعيًا أو ذاتًا أو شعورًا أو شخصًا أو أنا، إن هيدجر ينحت له الاصطلاح الذي ذكرناه واتفقنا على التعبير عنه في العربية بكلمة «الدازاين (الموجود الإنساني) الملقى هنا وهناك في العالم»،٢١ والواقع أن هذه الكلمة الأخيرة، في منطوقها العربي أو أصلها الألماني، تثير غير قليل من سوء الفهم، ولو تحرينا الدقة لترجمناها ﺑ «الموجود-هنا» أي الكائن الملقى به في العالم، والموجود فيه دائمًا بالقرب من الأشياء ومع غيره من الناس، المتميز عن سائر الكائنات بعلاقته بالوجود، واهتمامه بالسؤال عنه، وحمله مسئوليته على كتفيه، والأمر هنا لا يقف بطبيعة الحال عند استبدال اسم باسم أو كلمة بكلمة، وإنما ينطوي على تغيير أساسي في النظر والتصور والفكر بوجه عام.

ونسأل الآن: ما الوجود؟ فتواجهنا المشكلة الكبرى، ونضطر للاعتراف بأننا لا نعرفه! ومع هذا فإن من السهل علينا أن نفرق في الموجودات التي نعرفها بين موجود يدخل في علاقة مع نفسه ويقدر على تنميتها، وبين موجود آخر عاجز عن هذه القدرة؛ فالحجر يوجد أو يكون، ولكنه لا يملك الدخول في علاقة مع نفسه، وقُل مثل هذا عن الشجرة والبيت والكرسي وغيرها من الموجودات غير البشرية، أمَّا الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي لا يقتصر على أن يوجد أو يكون، وإنما يتعدَّى هذا إلى الدخول في علاقة مع ذاته ومع الذوات الأخرى التي يشترك معها في الوجود وتُشاركه فيه، ومع سائر الموجودات غير الإنسانية، والنتيجة الهامة التي نستخلصها من هذا هي أن الإنسان لا يوجد فحسب، وإنما «عليه أن يوجد»، وأن يحمل مسئولية الوجود وأمانته؛ ولهذا استحق أن ينحت الفيلسوف له كلمة خاصة به هي كلمة الدازاين أو الوجود الإنساني الملقى به هنا وهناك أو الآنية التي قد لا ترضينا كل الرضا! ولا يقعنَّ في ظننا أننا قد عرفنا بهذا شيئًا عن الوجود، فنحن لم نزل على الطريق، ولم نصل بعد إلا إلى معنًى أوليٍّ عن وجود موجود معين نصفه بالإنسان أو الدازاين، ونحاول تحديد معالمه التي تميزه عما عداه، هذا الوجود النوعي ليس وجودًا بسيطًا، وإنما هو وجود في سبيل التحقق وينبغي على صاحبه أن يعرف بنيته ويتحمل مسئوليته حتى يصل به إلى ما سنسميه بعدُ بالوجود الأصيل، وبذلك ينفذ من قشور الوجود الزائف الذي يحيا في الأغلب الأعم حياته اليومية مستغرقًا فيه.

هل ألفنا الآن هذا المصطلح الجديد؟ فلنتقدم خطوة أخرى لنواجه المزيد! ولنتذرع بالصبر على تكرار كلمتي الوجود والموجود!

إن دخول «الوجود الإنساني» في علاقة مع وجود يميز هذا الوجود بأنه «تواجد»٢٢ ولأن تحديد ماهية هذا الموجود الذي نسميه الدازاين لا يمكن أن يتم عن طريق تحديد ﻟ «ما» موضوعية، بل تكمن ماهيته في أن عليه أن يوجد وجوده الخاص به؛ لهذا اخترنا تعبير «الدازاين أو الموجود الإنساني»، باعتباره تعبيرًا خالصًا عن الوجود، للدلالة على هذا «الموجود»، إن الشيء الذي يميزه هو أسلوبه النوعي في الوجود، وهذا الأسلوب يكمن في قدرته على اختيار ذاته، لا، بل يكمن في الواجب الذي يحتِّم عليه اختيار ذاته، وتقاعسه عن هذا الاختيار أو تردده في القيام به هو نفسه نوع من الاختيار (وهي الفكرة التي أخذها العديد من فلاسفة الوجود ومن أهمهم سارتر) بهذا نضع أيدينا على لب التفرقة التي يقيمها هيدجر بين الأصالة والزيف، بين الوجود الأصيل وغير الأصيل، إن الموجود الإنسانيَّ يفهم ذاته على الدوام من خلال تواجده، أي من خلال إمكانياته الذاتية في أن يكون هو ذاته أو لا يكون، هذه الإمكانية إما أن يكون قد اختارها بنفسه أو تكون قد أقحمت عليه أو نشأت في ظله؛ ولهذا فإنه هو نفسه الذي يقرِّر أسلوب تواجده، سواء في ذلك أكان قد اختاره أو تقاعس عنه وضيَّعه من يديه،٢٣ فقد يتم الاختيار على نحو يمكنه من بلوغ ذاته، وتحقيق إمكانياته، وقد يتم على نحو آخر بحيث يملي الاختيار عليه، ويحيا كما يحيا «الناس»، حياة زائفة غير أصيلة.
قلنا: إنَّ تفرُّد الدازاين أو الموجود الإنساني أو ميزتَه؛ يكمن في أن وجوده يتجلَّى في «التواجد» بل يتحقَّق فيه، وسوف يصك الفيلسوف عملةً جديدةً توضِّح لنا هذه الميزة التي ينفرد بها الموجود الإنساني بمصطلح يمكن أن نعبِّر عنه بوجودي الخاص أو وجودي أنا،٢٤ أي أن كل موجودٍ يوجد على هذا النحو (الذي وصفناه بالتواجد) إنما يهتمُّ قبل كل شيء بوجوده الخاص به لا بأي أسلوب آخر من أساليب الوجود بوجهٍ عام: «ولما كان الموجود الإنساني بحسب ماهيته هو إمكانياته، فإن هذا الموجود في وجوده يمكنه أن «يختار» نفسه، أن يكسبها أو يضيعها، أو يمكنه بمعنى أدق ألَّا يكسبها أبدًا، أو يكسبها في الظاهر فقط، وهو لا يكون قد أضاع نفسه أو لم يكتسبها بعدُ إلا لأنه — بحسب ماهيته — يمكن أن يكون بالنسبة لنفسه موجودًا أصيلًا أو متعلقًا بوجوده الخاص به؛ ولهذا فإن حالَيِ الوجود اللذين نصفهما بالأصالة وعدم الأصالة يقومان على تحدُّد «الموجود الإنساني» بوجهٍ عامٍّ من خلال «الوجود الخاص».»٢٥

ما معنى هذه الأصالة؟ وكيف يكون الوجود غير أصيل؟ ما الذي يجعل الموجود الإنساني يقضي معظم حياته أو كل حياته بعيدًا عن الأصالة غارقًا في الزيف كل يوم؟

إن الموجود الإنساني الذي يحيا الحياة الأصيلة يختار الإمكانيات التي تبلغه ذاته أو تضعه على الطريق إليها، أمَّا الذي يحيا حياةً غير أصيلةٍ فيتخلَّى عن هذه المسئولية ويترك لغيره أن يمليَ عليه إمكانياته، ويسمح «للمجهول» — الذي نسميه «الناس» أو «الجمهور» أو «الرأي العام»٢٦ — أن يفرضها عليه أو يوقعه في شباك إغرائها؛ فالإنسان يلعب الرياضة أو يتفرَّج على المباريات أو يدخل السينما أو يشاهد التليفزيون أو يدرس الحقوق أو الطب أو الهندسة أو يذهب إلى المصيف أو يتزوَّج من وسط معين أو ينتمي لحزبٍ ما … إلخ لمجرد أن الناس تفعل هذا كله، إنها حياة التوسُّط، الحياة اليومية التي تقيِّدُنا بإسارها وتسحرنا بسحرها حتى لنتوهم أنها هي الحياة، من هذه الحياة المعتادة، من هذا الأسلوب المألوف الذي نقابله في الأغلب الأعم، لا بل نكونه نحن أنفسنا في معظم أحوالنا أو في كل أحوالنا، يبدأ هيدجر تحليله لوجود الدازاين أو الموجود الإنساني (وهو التحليل الذي لا يصحُّ أن يغيب عن بالِنا أبدًا أنه مَعْبر مؤقت إلى فهم معنى الوجود بوجه عام) ولا بد لنا أن نكشف من خلال تحليلنا لوجود هذا الموجود الذي يحيا حياة التوسط المعتادة، عن تلك البناءات التي تصدق على كل موجود إنساني آخر سواء أكانت أصيلة أم غير أصيلة، سيساعدنا هذا التقدُّم خطوة أخرى بحيث نتفهَّم هذا الموجود من جهة كونه وجودًا-في-العالم، بيْدَ أن هذا الوجود-في-العالم ليس هو البناء الوحيد، وإن يكن أهمها جميعًا؛ فالبناء معقد متشابك، ومهمتنا أن نتبين وَحْدته وندرسه كظاهرة موحدة، وهي مهمة عسيرة بغير شك، تفرض علينا أن نخطوَ ببطء، بحيث نضع أيدينا على خيوط النسيج دون أن تضيع منا وحدته.
يمضي هيدجر في شرح هذا «الوجود-في-العالم» على ثلاث خطوات:
  • (١)

    بالسؤال عن معنى «العالم» في هذا التعبير.

  • (٢)

    ثم بالسؤال عن اﻟ «من» أي عن الإنسان في وجوده الوسط وحياته اليومية من حيث إنَّها وجود-مع-الآخرين ووجود ذاته في نفس الوقت.

  • (٣)
    وأخيرًا بالسؤال عن معنى «الوجود»٢٧ الذي سيشمل البحثَ عن العناصر البنائية التي يتركَّب منها وجود الإنسان-في أو ما وصفناه من قبل ﺑ «الوجودات».٢٨
لا بد لنا من قبل السؤال عن «طبيعة» في-العالم من أن نمهد له بشرح ما نقصده بالوجود-في بوجهٍ عام، فقد تعودنا على فهم هذا الضرب الأخير من خلال وجود الأشياء على أنه نوع من «الاحتواء-في»، ولكن الموجود الإنساني يختلف في وجوده، كما قدمنا، عن وجود الأشياء الحاضرة «أمامنا»٢٩ أو الأشياء التي نتخذ منها أدوات وتكون في متناول أيدينا،٣٠ ومعنى هذا أننا لا نستطيع أن نتخذ من هذه الأشياء نموذجًا لفهم الموجود الإنساني على غراره؛ ولهذا ينبغي علينا أيضًا أن نفهم «الوجود-في» على نحو آخر.

إن «الوجود-في» هو أحد «الوجودات» التي قلنا إنها تميز «الموجود الإنساني»، وهو يعني حالة من الإلف، فالشيء الذي آلفه هو الشيء الذي أكون بالقرب منه أو أتريث عنده أو أقيم بجواره، وإذا كنا لا نستطيع أن ننظر إلى «الوجود-في» على أنه نوع من الاحتواء في المكان، فليس معنى هذا أن الموجود الإنساني لا عَلاقة له بالمكان، بل معناه أن علاقته به لا يمكن أن تُفهم على غرار الأشياء المحتواة في المكان، ويجب ألَّا نتصور أيضًا أننا نستطيع أن نتوصَّل إلى هذا «الوجود-في» عن طريق المعرفة على اختلاف نظرياتها؛ لأن الأمر في الحقيقة على العكس من هذا، فنحن لا نتوصَّل أبدًا إلى هذا الأسلوب النوعي الذي يُطلَق عليه اسم المعرفة إلا لأننا على الدوام في حالة إلف بالموجود، وهذا الإلف يتجلَّى في صور شتى من الانشغال به والاهتمام بأمره.

بهذا يكون هيدجر قد غافلنا وقلب التصور السائد الذي درجنا عليه منذ القدم، وجعلنا نعتقد أن المعرفة هي الأساس الأول لكل أسلوب نتخذه في التعامل مع الموجود! فنحن نقيم أوَّلًا مع الموجود، نتصرف فيه ونحتاج إليه ونهتم بأمره ونستخدمه في شئون حياتنا، وهذا وحده هو الذي يجعلنا نتخطَّى كل هذه المواقف التي تتناوله فيها لكي نبتعد قليلًا عنه وندخل معه في علاقة تأمُّل، هذا التأمل المعرفي ليس هو الأصل على كل حال، ومعنى هذا أيضًا أن كل بداية من نظرية المعرفة إنما تقفز فوق الأساس الذي تقوم عليه؛ ولهذا فإن الصدارة والتفوق اللذين نميل إلى إعطائهما لفعل المعرفة الخالصة ليسا إلا وهمًا ينخدع به صاحب نظرية المعرفة نفسه، وليس معنى هذا مرة أخرى أن هيدجر يتخلَّى عما نسميه نظرية المعرفة، بل معناه أن يرتد بسؤاله إلى الأساس الأصلي الذي تتبنى عليه حتى نتبين أن المعرفة الخالصة تستبعد التعامل المباشر مع الوجود، وأن هذه المعرفة نفسها ليست إلا ضربًا من الوجود-مع الأشياء، وإن يكن قد صرف النظر عن التعامل المعتاد مع الموجود، وليس من شكٍّ عندي في أن هيدجر قد استفاد في هذا من تأملات من دي بيران (الذي لم يُشِر إليه)! عن الجهد والمقاومة الإرادية التي تُعيننا على الوصول إلى الوعي بالذات، ومن أفكار «دلتاي» فيلسوف الحياة ومؤسِّس مناهج العلوم الإنسانية عن تجربتنا للواقع من خلال الإرادة و«الدافع» اللذين يقاومهما هذا الواقع، وبحوث «ماكس شيلر» المتأخرة التي تأثر فيها بآراء «دلتاي» وعبر عن نظريته الإرادية عن الوجود والوعي والإنسان، كما أكد فيها أن وجود الموضوعات لا يعطى بصورة مباشرة إلا في علاقتها بالدافع والإرادة، وأن الواقع لا يقدم لنا في الأصل من خلال الفكر والإدراك، حتى لقد ذهب إلى حد القول بأن فعل المعرفة نفسه ليس هو فعل الحكم، وإنما هو «علاقة بالوجود»،٣١ وإن كان هيدجر يأخذ على هذه المحاولات جميعًا أنها تفتقر إلى التحليلات الأنطولوجية الضرورية عن معنى الوعي والواقع والوجود والعلاقة بينها.
مهما يكن من شيء فإن هذا كله يقودنا إلى صميم المشكلة القديمة التي حيرت الفلاسفة: كيف تخرج «الذات» من عالمها الباطن لكي تصل إلى «الموضوع» الموجود في الخارج؟ يبدو أن هيدجر لا يحاول فكَّ خيوط هذه العقدة الأزلية، ولا يتردَّد في إزاحتها بضربة «قاضية» يعلن بها أن مشكلة وجود الواقع الخارجي وإثباته وعلاقة الذات به مشكلة زائفة لا تستحق عناء لحظة واحدة من التفكير! لماذا؟ لأن الموجود-الإنساني، باعتباره وجودًا-في-العالم، موجودٌ دائمًا في الخارج، أي في العالم المألوف، لنستمع إليه وهو يقول: «إن الموجود-الإنساني في اتجاهه إلى الموجودات وإدراكه لها لا يحتاج لمغادرة مجاله الداخلي الذي نتصوره حبيسًا فيه،٣٢ وإنما هو دائمًا بحسب طبيعة وجوده الأولية، موجود دائمًا «في الخارج»، بالقرب من الموجود الذي يلتقي به في عالم تم اكتشافه بالفعل، ثم إن إدراك الشيء المعروف ليس بمثابة رجوع بالفريسة التي غنمناها من الإدراك الخارجي إلى «بيت» الوعي والشعور، وإنما يظل الموجود-الإنساني العارف — في أفعال الإدراك والاحتفاظ بما يدركه والإبقاء عليه — دائمًا في الخارج بوصفه موجودًا إنسانيًّا هنا هو هناك في هذا العالم.»٣٣ إنه إذًا ليس بحاجة لما نسمِّيه «بالعلو» أو التخطي والتجاوز، إلى العالم؛ لأنه على الدوام «بالخارج» مع الموجودات التي يصادفها في هذا العالم، كما أنه دائمًا «بالداخل» باعتباره وجودًا-في-العالم يهتمُّ بالأشياء وينشغل بأمرها، والخلاصة أن المعرفة ليست هي التي تُمكِّننا من إقامة العلاقة التي تربطنا بالعالم، بل إنها تفترض هذه العلاقة من قبل؛ بحيث لا تَعْدو أن تكون مجرد «تحوُّل» لهذه العلاقة نفسها: «في فعل المعرفة يكتسب الموجود الإنساني موقفَ وجودٍ جديدٍ من العالم الذي سبق اكتشافه فيه»، كما أن المعرفة لا تخلق علاقة «تبادل» بين الذات والعالم، ولا هذه العلاقة تنشأ من تأثير العالم على الذات، إن المعرفة حال من أحوال الوجود الإنساني، يقوم على أساس الوجود-في-العالم،٣٤ ولا جدال في أن هذا أسلوبٌ جديد في التفكير، وقد لا نكون مبالغين إذا استعرنا لفظ «كانط» وقلنا إنها ثورة فكرية أذهلت بعض معاصري هيدجر وملأت صدور البعض الآخر بالنشوة والحماس!

•••

تحدثنا حتى الآن عن «الوجود-في-العالم». ولن نفهم هذا الاصطلاح الأساسي حتى نعرف ما هو «العالم»، وطبيعي أن كل محاولة للوصول إلى العالم بسرد الأشياء والكائنات الموجودة فيه محاولة مقضيٌّ عليها بالفشل، فلن نجني من هذا إلا «رص» هذه الكائنات بجانب بعضها البعض، دون أن نبلغَ من مفهوم العالم شيئًا، وحتى لو أثبتْنا مختلف المقولات التي تستوعب الموجودات من بشرٍ وأشياء طبيعية وأدوات وقيم … إلخ، وحاولنا أن نعرف الأساس الطبيعي الذي تعتمد عليه، وحدَّدنا مفهوم الطبيعة، فلن نتقدَّم خطوة واحدة إلى الأمام، فالطبيعة نفسها موجود نلقاه في داخل العالم، ويمكننا أن نكتشفه بمختلف الوسائل وعلى شتى المستويات.٣٥

ماذا نفعل إذًا؟

إن هيدجر يُغيِّر السؤال ويقلبه قلبًا بحيث تصبح «عالمية» العالم من مكونات «الموجود-الإنساني» نفسه، أي تصبح إحدى الوجودات المميزة له: «ليس العالم — من الناحية الأنطولوجية — تحديدًا «للموجود» المختلف في ماهيته عن الموجود-الإنساني، وإنما هو طابع مميز لهذا الموجود نفسه.»٣٦
ربما دار في خَلَدنا أن هيدجر يرد «العالم» إلى مجال الذات، ولكن كيف يستقيم هذا وهو يستبعد مفهوم الذاتية والذات كل الاستبعاد؟ ما السبيل إذًا للقرب من معنى «العالم» و«العالمية»؟ السبيل واضحة؛ فقد تعلَّمنا من الفيلسوف أن نبدأ تحليلاتِنا «للدازاين (الموجود-الإنساني)» من حياتنا العادية أو حياة التوسُّط التي نعيشها كل يوم؛ بهذا يتَّضح لنا أن عالم الموجود-الإنساني هو العالم المحيط٣٧ به، وأن هذا «المحيط» هو أقربُ عالَم منه، هكذا ينطلق البحث عن فكرة العالمية من هذا الطابع الوجودي المميز للوجود اليومي-في-العالم، كما نصل إلى «عالمية» المحيط (أو ما يسمِّيه هيدجر بالإحاطة) عن طريق التفسير الأنطولوجي للموجودات القريبة منا في داخل هذا المحيط.٣٨

سيقودنا هذا كله إلى تحليلات هيدجر المعروفة عن الأداة، وهي — في تقديري على الأقل — من أروع ما قدَّمه «الوجود والزمان» وأبقاه، ولا شك أن القارئ قد اطَّلع على بعض هذه التحليلات فيما اطَّلع عليه في العربية من فصول ودراسات عن هيدجر، ويبقى علينا الآن أن نحدِّد معنى هذه التحليلات.

لا يعني هيدجر، بطبيعة الحال، أن يوجِّه للناس نصائح تُفيدهم في التعامل مع الأشياء التي يستخدمونها في حياتهم؛ لأن هذا التعامل هو أقرب الأشياء منا وآلفه عندنا؛ فنحن ننشأ في هذا العالم وننمو ومعنا ينشأ التعامل مع أشيائه وينمو، ولا يعني هيدجر كذلك بأن يلقي علينا درسًا في تغيير العالم باستخدام هذه الأشياء والأدوات، ولا في اغتراب الإنسان عن نفسه من خلال العمل وكيف يقضي على هذا الاغتراب، إن الهدف من التحليلات «الأداتية» أن تُبين لنا الفهم المسبق أو «المعرفة السابقة» التي تفترض في كل إلف يتم بين الإنسان والأداة (مع ملاحظة أن هذه المعرفة السابقة لا تصدر عن أي موقف معرفي نظري، وأن التعامل مع الأداة يتمُّ من منظور قبلي خاصٍّ سابق على كل معرفة نظرية، بل إن البدء من هذه المعرفة لن يمكننا من التواصل إلى طبيعة الأداة).

لنضرب مثلًا بسيطًا، فلو رأيت أمامي مِطْرَقة وحاولت أن أصفها وصفًا نظريًّا، كأن أصف حجمها وشكلها ولونها ووزنها والمادة التي صُنعت منها … إلخ، لَما أدركت ماهية هذه المِطْرقة ولا عرفت شيئًا عن الوظيفة التي جُعلت لها، وهي أنها شيء يُستخدم في الطَّرْق، ولن أدرك أبدًا من خلال التأمل النظري الخالص إن كانت هذه المطرقة خفيفة أو ثقيلة، مناسبة للحمل أو غير مناسبة، إنما أُدرك هذا من خلال التعامل معها واستخدامها، فكل أداةٍ تصلح لشيءٍ ما، وفي كل تعامل مع الأداة يخضع المرء لنوع من الصلاحية؛ ولهذا نرى هيدجر يصف الأسلوب النوعي الذي يميز وجود الأداة بأنه «الوجود في متناول اليد»، وإن راعك هذا التعبير أو فاجأك بغرابته فتذكر أن الفيلسوف لا يزيد عن استخدام لفظ عويص للتعبير عن خبرة نحياها كل يوم!

إننا لا نبدأ بالنظر الخالص إلى الشيء «الحاضر» أمامنا ثم نُضيف إليه قيمًا وخصائصَ معينةً تجعل منه ما نسمِّيه «بالموجود في متناول اليد»، ونحن لا نضع هذا الشيء، كما يتصور الرأي الشائع، في موضع الشيء الممتد (كما فعل ديكارت) ثم نلبس امتداده خصائص وصفات مختلفة، وإنما نتعامل معه دائمًا من خلال ما يسمِّيه هيدجر بالتدبُّر أو التبصُّر،٣٩ فالشيء الماثل في متناول أيدينا هو أقرب الأشياء في المحيط الذي نضطرب فيه، ونحن نرتِّب حياتنا من خلاله، ونستخدمه لتلبية حاجاتنا، وننشغل به ونهتم بأمره.
لنقترب خطوة أخرى من الأداة، قلنا إنها دائمًا أداة تُستخدم من أجل شيءٍ أو غرضٍ ما، والعمل الذي نستخدم له أداةً كالمطرقة أو الفارة أو الإبرة أو الحذاء يحمل من ناحيته أيضًا نوع وجود الأداة، فالحذاء الذي يتم إعداده يُستخدم أداة للمشي، والساعة التي يتم صنعها تصلح لمعرفة الوقت، والعمل الذي نلتقي به خصوصًا في غضون التعامل المنشغل أو المهتم — أي ذلك الذي يجري إعداده — يجعل قابلية الاستخدام التي تتعلق به تعلُّقًا أساسيًّا متضمنةً للهدف من هذا الاستخدام، أما العمل الذي يصنع فلا يكون إلا على أساس استخدامه وعلى أساس «نسق الإحالة للموجود» الذي يكتشف في هذا «الاستخدام»،٤٠ أضف إلى هذا أننا نستخدمُ في الإنتاج شيئًا لا غِنى عنه للعمل المنتج، فالعمل يحيل إلى المادة التي صُنع منها، وهذه تحيل إلى الطبيعة مصدر كل مادة خام، كالحديد والخشب والحجارة والحيوانات، وهكذا نكتشف الطبيعةَ حين نستخدم الأداة (الإبرة، المطرقة، المسمار، إلخ)، كما أن الإنتاج لا ينفصل عمَّن يستخدمونه (كالزبائن مثلًا) ولا عن الذين يقومون به (كالعمَّال والصنَّاع).

ولكن ما شأن هذا التحليل للأداة بسؤالنا السابق عن «عالمية» العالم، أي عما يجعل العالمَ عالمًا؟

يوضح هيدجر إجابتَه على هذا السؤال ببعض الأمثلة التي تبدو معها الأداة، وكأنما تخلَّت عن طابعها الأداتي، فعندما تصبح الأداة غيرَ صالحة للاستعمال (فتلفت انتباهنا) وعندما تُفقد (فنشعر بالحاجة الملحة إليها) أو نجدها ملقاةً في طريقنا (فتفرض نفسها علينا) يتبين لنا بوضوح أن «الإحالة» هي الطابع المميز لها، وعندما تتعطَّل الإحالة (من أجل كذا) كأن أفتش عن مطرقة لدق مسمار فلا أعثر عليها، يشتد وضوح هذه الإحالة من حيث هي كذلك، هنالك يظهر النسق الأداتي المترابط، لا بوصفه شيئًا لم يُشاهَد من قبل، بل بوصفه كلًّا تمَّت رؤيته دائمًا بشكل مسبق أثناء التبصُّر أو التدبُّر، ومع هذا الكلِّ يُعلن العالم عن نفسه،٤١ وهو لن يعلن عن نفسه ولن يتضح إلا إذا كان قبل ذلك قد انفتح أو تفتح.
هل تجد مشقة في هذا الكلام؟ إن هيدجر يخفِّف وطأتَه بضرب مثال جديد، وهو يقدِّم لنا في هذا المثال تحليلًا لأداة معينة هي العلامة٤٢ (كعلامات المرور أو مؤشرات الطرق أو الأعلام … إلخ) وأهم ما يميز العلامة هو أنها توضِّح النسق الكلي للأداة توضيحًا تامًّا (فعلامة المرور مثلًا توضِّح النسق الكلي الذي يربط سلوك المارة وراكبي السيارات وعساكر المرور … إلخ)، فإن كانت الأداة العادية (كالقلم مثلًا) غير ملفتةٍ للأنظار؛ نتيجة انصراف الكاتب مثلًا إلى الغرض الذي يستخدم القلم من أجله لا إلى طبيعة هذا القلم كأداة، فإن «أداة العلامة» على العكس من ذلك تشد الانتباه إلى طابع الإحالة الذي توضِّحه أشد التوضيح، إن العلامات المحددة تحيل إلى «العالم المحيط» الذي تنتمي إليه وتيسر الانفتاح عليه، وأهم خاصية تحدد الأداة هي صلاحيتها أو قابليتها للاستخدام، والعلامة تجسد هذا الاستخدام بتوضيح السياق (أو النسق الكلي المترابط) الذي توجد فيه العلامة، بل إنها لَتزيد على هذا فتوضح العالم المحيط الذي يوجد به النسق أو السياق الأداتي المترابط.٤٣
هل عرفنا الآن ما هو العالم؟ هل توصَّلنا إلى الطابع النوعي الذي يميِّزه؟ حين نُحدد الأداة عن طريق الإحالة فإنما نريد بهذا أن نعين الحالة التي استقرت عليها والغرض الذي جُعِلَت له، ونحن لا ننظر إلى «الموجود في متناوَل اليد» إلا من جهة هذه الحالة التي جُعل لها ودخلت في صميم تركيبه، فليست هناك أداةٌ قائمة بمفردها، مستقلةٌ بذاتها، إنها موجودة على الدوام في إطار نسق أو سياق أداتي كلي، ويكفي أن ننظر إلى الأداة في شمولها لنعرف لأي شيء جُعلت، وعلى أي وضعٍ استقرَّت (مثال ذلك: الآلة، الورشة)، وهذا بدورِه يحيلنا إلى الموجود-الإنساني؛ لأن حلل الأداة يعبِّر عمَّا يريده لها الموجود-الإنساني أو يريد بها، أي أن الغرض الذي جُعلت له الأداة أصلًا هو إرادة الموجود-الإنساني بها.٤٤
هذه التحليلات العسيرة تكشف عن المعرفة المسبقة التي يتحتم على الموجود-الإنساني أن يلمَّ بها قبل أن يتعرف على شيء يتصف بصفة الأداة، أي أننا هنا بإزاء تحليل يكشف عن شيءٍ «قبلي» داخل في تركيب ذلك الموجود، بيد أنه ليس نوعًا من المعرفة القبلية التي نجدها عند فيلسوف مثل كانط؛ إذ لا تركيب هنا ولا تأليف، بل هو «قبلي» يقوم على التعامل المباشر مع الأشياء، فلا بد أن يكون «العالم» قد انفتح لنا أو تفتحنا عليه قبل أن نلتقي في داخله بشيء كهذا الذي نسميه الأداة؛ وإذًا فإن هيدجر لا يركب شيئًا ولا يؤلف معرفة على طريقة المثاليين، وإنما ينطلق من الظاهرة المبنية نفسها ويكشف كل ما يتصل بها مما يتيح للإنسان أن يتعامل مع الأداة، وكل الإشارات والإحالات التي يتحرك فيها الموجود-الإنساني نفترض أنها قد ألقت بنفسها في إمكانيات أو مشروعات محددة تمكنها من الالتقاء بالموجود في صورة محددة؛ ومن ثمَّ فإن «بناء ذلك الذي يُحيل الموجود-الإنساني نفسه عليه هو الذي يكوِّن عالمية العالم»،٤٥ عالمية العالم هي التي تمكن الموجود-الإنساني من تجرِبة موجود من نوع الأداة، والعالم نفسه أسلوب محدد في الفهم، هو أحد الموجودات الأساسية التي تحدِّد ماهية الموجود-الإنساني وتتيح له أن يلتقي بالموجود القائم في محيطه، فيتعرَّف على جوانبه الأداتية ويألفه وينشغل به ويتعامل معه؛ لأن المسألة في النهاية أبعدُ ما تكون عن المعرفة الخالصة أو النظر المحض.

هنا يتضح لنا ما سبق أن أكدناه من أن الموجود-في-العالم لا يمكن أن يكون مجرد موجودٍ بين سائر الموجودات، وإنما يتميَّز قبل كل شيء بما لديه من قدرة على تفهُّم العالم تمكنه، أو بالأحرى تمكن الموجود-الإنساني، من الانفتاح على الموجود، كما تيسر للموجود أن يكون في متناوله، وليس هذا من قبيل إضفاء الذاتية على مفهوم العالم، وإنما هي نتيجة مترتبة على الحقيقة الموضوعية التي تقول إن العالمَ نفسَه — أو بالأحرى فهم العالم — من المكونات الرئيسية للموجود الإنساني، وهيدجر يؤكد هذا حين يفرق تفرقةً واضحة — في تحليلات لا يتَّسع المجال للخوض فيها — بين «فهم العالم» وبين تحديد ديكارت للعالم بأنه «شيء ممتد»، وهو تحديد يمكن في رأيه أن يرد إلى الأنطولوجيا القديمة.

إذا كان هيدجر يرفض مفهوم الشيء الممتد، فما هو رأيه في مكانية العالم؟ وما المعنى المكاني «الموجود في متناول اليد»؟ إنه القرب، ولا يصح أن نفهم القرب فهمًا ديكارتيًّا على أساس البعد الهندسي القابل للقياس، فهذا الفهم لا قيمةَ له في تعاملنا اليومي مع الأداة تعاملًا يقوم على الانشغال والاهتمام الذي يحدِّد الاتجاه الذي نبلغ به الأداة أو تبلغ إلينا.

والأداة لا توجد في مكان مجرد متجانس، مستوٍ؛ لأن لها موضعًا محددًا بها، فمن طبيعتها أن تقوم في مثل هذا الموضع أو المحل المحدَّد، لكي تكون بعد ذلك «تحت التصرف»، وهذا الموضع هو الذي يُتيح لنا أن نرى وجه الاستخدام الذي تصلح له، ومن ترتيب المواضع المختلفة بالنسبة لأداةٍ معينة يتكوَّن ما وصفناه «بكلية الأداة»، والمهم أن هذه المواضع لا يمكن تبديلها كيفما اتفق؛ لأن كل موضع منها متوقف على وجود الأداة التي تكون هي الأداة المحددة التي نحتاج إليها في القيام بنشاط محدد، فالموضع إذًا هو موضع أداة تنتمي إليه وتجد فيه المكان الملائم لها.

وترتيب موضع معين لأداة معينة لا بد أن تسبقه معرفة بالنطاق أو المنطقة المحيطة،٤٦ هذه المنطقة هي التي تكفل وحدة السياق الارتباطي للأداة وتضمن كليتها، أي التنوع المنتظم للمواضع، «ولا بد أوَّلًا من اكتشاف شيء كالنطاق أو المنطقة المحيطة إذا أريد لتعيين المواضع أن يكون سبيلًا لقيام كلية الأداة الخاضعة للتدبر والتصرف».٤٧

ومجمل القول أننا لا نُعطي مواضع متعددة ثلاثية الأبعاد يمكن بعد ذلك أن «نملأها» بالأشياء؛ إذ الواقع أننا نصل إلى المكان من خلال المنطقة المحيطة التي يتم في داخلها كل تنوع في الأدوات، فالعالم المحيط بنا هو الذي يمدُّنا بالمكان على شكل تنظيم للمواضع التي تتخذ اتجاهها المحدد من خلال ما نفعله ونهيئ له حياتنا.

إذا كان الأمر هكذا مع إمكانية «الموجود في متناول اليد»، فما الشأن مع مكانية الموجود-الإنساني نفسه؟ إنها تتجلَّى في «إلغاء الأبعاد»٤٨ والاتجاه، وينبغي أن ننفيَ عن «إلغاء الأبعاد» كل تصور سكوني لنفهمه فهمًا نشيطًا فعَّالًا، فالموجود الإنساني يقرب الموجود منه لكي يلتقي به، وإلغاء الأبعاد هو الذي يمكننا من اكتشاف البعد والمسافة، لا العكس؛ لأنه فعل يحقِّقه الموجود-الإنساني، بل هو في الحقيقة تحديدٌ وجودي له، في حين أن البُعد (أي المسافة الفاصلة بين الأشياء) تحديد مقولاتي، والموجود-الإنساني عندما يلغي الأبعاد إنما يحاول أن يجعل احتياجاتِه في متناول يده، وغنيٌّ عن الذكر أن إلغاء الأبعاد من أهم الملامح التي تميِّز عصرنا وحضارتنا (وسائل المواصلات التي تزداد سرعة، نقل الأنباء، أجهزة الإذاعة والبث … إلخ)، وسوف يتعمَّق هيدجر في هذه المسألة في كتاباته المتأخرة، وبالأخص في محاضرته عن التقنية.

•••

بدأ هيدجر تحليله للوجود-في-العالم بالبحث في ماهية الأداة لكي يُثبت أن الموجود-الإنساني مستغرقٌ دائمًا في عالمه، ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد، كان عليه أن يُلقي نظرةً أشملَ على مختلف الأبنية التي يتركب منها الموجود الإنساني؛ ليبين لنا ما يصفه بالإنية٤٩ والوجود المشترك،٥٠ وكلاهما كامن في أصالة الوجود-في-العالم الذي تحدثنا عنه من قبل، وإذا كُنَّا قد خرجنا من التحليل السابق بأننا لم نعط «أنا» مجردة يكون علينا بعد ذلك أن نوجد لها عالمها كما يكون عليها أن «تعلو» إلى هذا العالم، فإننا سنرى الآن أنه ليست هناك أنا منعزلة يتحتَّم علينا بعد ذلك أن نحطم أسوار عزلتها ونعبرها إلى الآخرين، لقد كان «الآخر» متضمنًا في التحليل الذي قدمناه عن «العالم المحيط» و«كلية الأداة»، فالشيء الذي يتمُّ إنتاجه إنما ينتج للآخرين (الحذاء لمن يلبسه، والثوب لمن يرتديه، والمطرقة لمن يستخدمها، والكتاب لمن يقرؤه، والحقل لمن يحرثه ويزرعه … إلخ).

والأداة وُجدت بطبيعتها لكي يستعملها الآخرون، كما ساهم الآخرون أيضًا في إيجادها، إنهم كذلك معنا-هناك، ليسوا أغرابًا عنَّا، بل نحن نحيا معهم في وجود مشترك، ولا نميز أنفسنا عنهم، إن عالم الموجود-الإنساني عالم مشترك، هو عالم «المعية» أو الوجود-مع، و«الوجود-في» هو في صميمه وجود-مع-الآخرين، ووجود الآخرين في ذاته داخل العالم هو كذلك وجود-مع-الموجود الإنساني.

ولكن عبارة «الوجود-الإنساني هو وجود-مع» تحتاج إلى شيء من الإيضاح، فليس معناها أن هناك من الناحية الفعلية والواقعية أُناسًا آخرين يمكنني أن أبرهن على وجودهم في البيئة المحيطة بي، بل معناه أنني على الدوام منفتحٌ على الآخرين، وأنني بصورة مسبقة مع الآخرين، وحتى لو عزلت نفسي عنهم واعتصمت بوحدتي، فلن يسعني أن أفعل هذا إلا لأن وجودي بطبيعته وجود مشترك أو وجود-مع، والإنسان الذي يتجنَّب الاختلاط بغيره من الناس إنما يُثبت بهذا الفعل نفسه أن الغير حاضرٌ بوصفه ذلك الذي يتجنَّبه!

وصفنا التعامل مع الأداة بأنه انشغال أو اهتمام،٥١ والآن نصف التعامل مع الآخرين بأنه «رعاية»،٥٢ ويجب أن نفهم هذه الكلمة الأخيرة بأوسع معانيها الوجودية، بحيث تشمل كل أساليب الوجود-مع-الآخرين، من الحب والتضحية إلى عدم الاكتراث والاحتقار (وإن كان هذا الأسلوب الأخير بطبيعة الحال هو أخس وجوه الرعاية وأدنى حالاتها السلبية!) وللرعاية معنيان يقع أحدهما على طرفي نقيض مع الآخر؛ فهناك الرعاية «المقتحمة» — إن جاز هذا التعبير — التي تجعلنا نجرِّد الآخر من كل أعبائه، بحيث يصبح عرضةً للارتكان المطلق علينا كما تعرضنا للسيطرة عليه والتحكم المطلق فيه، وهناك الرعاية الواهبة — إن صح هذا التعبير أيضًا — التي تجعلنا نبادل الرعاية بالرعاية، ونرد «الهم» إلى صاحبه لكي يحمله بنفسه ويحرِّر نفسه بنفسه، والرؤية أو النظر المتعلِّق بالرعاية هو الاعتبار والتسامح.
بقيَ أن نسأل عن «المَن» المقصود في تعبير الوجود مع الآخرين، وقد عرفنا مما سبق أن هيدجر يبدأ تحليلاته من أسلوب الوجود والحياة اليومية التي يحياها الموجود-الإنساني، ولهذا فليس غريبًا أن يكون «مَن» المقصود بالوجود اليومي مع الآخرين هو «الناس» أو «الجمهور» أو «المرء» أو «الشخص المجهول»،٥٣ أي ما وصفناه من قبل بالتوسط؛ لنستمع إلى ما يقوله هيدجر عنه: إن «الناس» لَتهتمُّ في وجودها أساسًا بهذا التوسط؛ ولهذا يضعون أنفسهم من الناحية الفعلية في «توسُّط» ما يليق وما لا يليق، وما يمكن أن يقرَّه المرء أو لا يقره، وما يصفه بالنجاح أو ما يأباه عليه، وموقف هذا التوسُّط مما يصح المخاطرة به أو لا يصح هو موقف الرقابة على كل استثناء، إن كل تفوق يُسحق في صمت وبغير ضجيج، هذا الهم الذي يؤرق «التوسط يكشف من جديد عن نزعة أساسية لدى الموجود-الإنساني، يمكن أن نسميها تسوية جميع إمكانيات الوجود»،٥٤ فحياة التوسُّط أو الحياة العامة تلغي كل الفروق وتقضي على كل أصالة وتنزع عن الموجود-الإنساني كلَّ قدرةٍ على تحمُّل المسئولية والاستقلال بالرأي واتخاذ القرار، أي تحرمه من أن يكون هو ذاته وتُملي عليه أسلوب وجودها.

الناس يحملون عبء وجودنا، ويحسمون القرارات نيابةً عنَّا، وهنا يتم نوع عجيب من «التغطية» أو «التنكير»، فالسيطرة التي يفرضها الناس تُجيد التخفي، كل إنسان يعمل ما يعمله وكأنه هو ذاته، وما من أحد هو ذاته، الناس هم كل الناس ولا أحد، لا بد إذًا أن تكون هناك أصالة تواجه عدم الأصالة هذه، ولا بد أن يحاول الموجود-الإنساني أن يختار نفسه، على أساس إمكاناته الذاتية، صحيح أن الأمر لا يخلو أبدًا من مواقف وحالات يتعذَّر فيها اتخاذ القرارات الحاسمة واختيار الذات، نتيجة الظروف الخارجية التي تتحكم فينا كل لحظة، ولكن هيدجر لا يناقشها صراحةً، ويُؤثِر أن يضمنها كلامه الذي سيأتي بعدُ عن «رمي» الموجود-الإنساني أو كونه مُلقى به هناك.

ولا يقف الأمر «بالناس» عند هذا الحد، إن سيطرتهم لتمتدُّ وتتسع فتحدِّد كذلك فَهْم العالم والذات، لقد ضاع «الناس» في عالمهم؛ عالم كل الآحاد ولا أحد! وليس عجيبًا بعد هذا أن يفهموا أنفسَهم على مثال الموجودات غير الإنسانية، أو الموجودات الحاضرة وحسب، أي أنهم يحدِّدون أنفسهم تحديدًا «مقولاتيًّا» لا «وجوديًّا»، على نحو ما فعلت الأنطولوجيا القديمة التي نظرت إلى الإنسان نظرتها إلى موجود حاضر بين الموجودات، ولم تستطع أن تقترب من إنيته المتواجدة ووجوده المهموم بإشكال الوجود.

ويمضي هيدجر في تحليله للوجود-في-العالم فيوضح مفهوم «الوجود-في» الذي يتصل به أوثق اتصال، ويحدِّد العناصر التي يتركب منها وجود الموجود-الإنساني المتميز بالانفتاح في أمورٍ ثلاثة: التأثُّر الوجداني (الوجدانية)، والفهم، والكلام٥٥ أو الخطاب.
ولنستمع إلى ما يقوله عنها بأسلوبه المعهود: «في الوجدانية يحضر الموجود-الإنساني دائمًا أمام نفسه، لقد وجد نفسه، بالفعل دائمًا، كحضور مدرك لذاته، بل كوجدان «شعوري» متأثر.»٥٦ ويتدارك هيدجر ذلك الجانب الذي طالما تجاهلَه التفكير الفلسفي التقليدي بنظرته العقلانية إلى الإنسان، وأعني به الجانب الشعوري الوجداني، والانفتاح المباشر الذي يحققه التأثُّر الوجداني أو «الوجدانية»، لنضرب لذلك مثلًا بسيطًا، فنحن نتعرَّف إلى إنسان لأول مرة، والشعور الوجداني يعتبر ظاهرة أصيلة وأسلوب انفتاح على الآخر، ولن نفهم طبيعة هذا الانفتاح أو نقدر دوره الأصيل في الالتقاء بالآخر وبأنفسنا وبالعالم المحيط بنا؛ ما لم نرده إلى ظاهرة التأثر الوجداني التي يقوم عليها، وما لم نحرر نظرتنا إلى هذه الظاهرة التي نظن في العادة أنها مجرد «تلون نفسي» أو تعبير عن الجانب «اللامعقول» من حياتنا النفسية، إن هذه الوجدانية أو هذا التأثر الوجداني، على حد تعبير هيدجر، قد فتح الوجود-في-العالم بوصفه كُلًّا، وجعل شيئًا كالتوجه أمرًا ممكنًا.٥٧
أضِف إلى هذا أن التأثُّر يؤدي وظيفة أخرى؛ إذ يمكن الموجود-الإنساني من الشعور بأنه مرمي، مقذوف به، مُلقى هناك وموكول إلى نفسه … ويحدِّد هيدجر هذا المعنى حين يقول: «إن تأثُّر الوجدانية هو الذي يؤلف من الناحية الوجودية انفتاح الموجود-الإنساني على العالم»،٥٨ لنضرب مثلًا يوضح هذا، فأنا لا أشعر بالخطر الذي يهدِّدني في العالم الذي أحيا فيه إلا لأن لدي القدرة على الإحساس بالخوف؛ فليس التأثُّر إذن بالظاهرة المقصورة على الذات وأحاسيسها، وإنما هو أسلوب انفتاح يقربني من العالم ويقرب العالم مني بشتى الصور والأشكال، فهو حينًا عالم يهددني بالخطر، أو يستثير مشاعري، أو يملؤني بالغبطة والبهجة أو بالحزن والاكتئاب … إلخ، إن الحال الوجدانية — أو إن شئت حالة التوجد — هي التي تمكنني دائمًا من اكتناه حقيقة ذاتي، ولقد أثرت تحليلات هيدجر للوجدانية أو التوجد على علم النفس المرضي، وأفاد منها العالم المشهور لودفيج بنسفانجر في دراسة ألوان العصاب والذهان التي تصيب الموجود البشري، ولم يكن هيدجر أول من انتبه إلى هذه الظاهرة، وإن كان أول من قام بتحليلها تحليلًا أنطولوجيًّا أو وجوديًّا أصيلًا، بعيدًا عن القيم النفسية والأخلاقية والدينية، وهو نفسه يتتبع تاريخها الطويل منذ أن تناول أرسطو ظاهرة الانفعال (في الكتاب الثاني من الخطابة) والقديس أوغسطين في كلامه عن الخوف والخطيئة والندم (في اعترافاته ورسائله وكتاباته عن التأويل) ولوثر فيما كتبه عن السخط والندم (في تعليقه على سِفر التكوين) وباسكال فيما سجله في خواطره العميقة المفجعة عن عذاب الإنسان ويأسه وكونه مُلقًى في ركن من هذا الكون الرهيب، وكيركجور في تحليلاته النافذة لظاهرة القلق والتفرقة الأساسية بينه وبين الخوف في معرض حديثه عن الخطيئة الأولى (خصوصًا في كتابه مفهوم القلق) وشيلر في دراساته الفينومينولوجية (الظاهراتية) لأشكال الوجدانات وماهيتها، وبخاصة في دراسته للتعاطف، وإن كانوا جميعًا — باستثناء شيلر — قد تناولوها من وجهة نظر دينية أو نفسية أو خلقية، ولم يخطوا خطوةً حاسمةً على طريق المعالجة الأنطولوجية.

ونأتي الآن إلى العنصر الثاني من العناصر التي تكون وجود الموجود-الإنساني وهو التفهم أو الفهم، والواقع أن الوجدانية (التوجد) والفهم كليهما أوليٌّ أصيل، وقد رأينا عند الكلام عن الوجدانية أنها تنطوي على الفهم، وعرفنا أن التأثُّر الوجداني بطبيعته انفتاح أو تفتُّح، وبقيَ علينا أن نعرف أن الفهم حالة أساسية من أحوال الموجود الإنساني، وأن كلمة «الفهم» نفسها ليست مفهومًا مضادًّا للتفسير أو الشرح، ولو مضينا قليلًا في تعمُّق معنى الفهم، باعتباره أحد «وجودات» الموجود الإنساني، لرأينا أنه يكشف عن طابع «المشروع» الذي يشغل مكانًا هامًّا في تفكير هيدجر.

لنقرأ الآن هذه العبارة العويصة قبل التعليق عليها: إن ما يقدر عليه الفهم — بوصفه أحد الوجودات — ليس بشيء أو «ما»، وإنما هو الوجود باعتباره تواجُدًا، في الفهم يكمن من الناحية الوجودية أسلوب وجود الموجود الإنساني من حيث إنه إمكان وجود أو قدرة على الوجود.٥٩

كيف يرتبط الفهم بالإمكان أو القدرة؟ إن الفهم — وهو في صميمه انفتاح — يتعلق دائمًا بتكوين الوجود-في-العالم في مجموعه، وهذا الوجود-في-العالم يكون على الدوام إمكان وجود-في-العالم، والعالم هنا ليس هو مجموع الكائنات الموجودة في داخله، فقد نفينا هذا مرارًا، ونستطيع الآن أن نضيف إليه أن الوجود-في-العالم باعتباره إمكان وجود أو استطاعة وجود، هو الذي يحرِّر كائنات العالم حين يحرر إمكاناتها، عندئذٍ يكتشف الموجود-في متناول اليد من جهة استخدامه واستعماله أو من ناحية ضرره وأذاه، وعندئذٍ نفهم ما قلناه من قبل عن حال الوجود في متناول اليد وما جُعل له، وما قلناه عن وَحْدة النسق الارتباطي للأداة وعلاقتها بالمكان والعالم المحيط والنطاق … إلخ، وأخيرًا يمكن أن تكتشف الطبيعة، أو وحدة الموجودات الحاضرة المتنوعة، على أساس انفتاح إمكانياتها.

لكن لماذا يتجه الفهم دائمًا إلى الإمكانيات، ولماذا يؤثر المقام في بعد الإمكان؟ يجيب هيدجر على هذا السؤال بالإجابة التي ننتظرها فيقول: إن السبب في هذا هو أن الفهم يحتوي بذاته على البناء الوجودي الذي نسميه «المشروع»،٦٠ فبالفهم يفتح الموجود الإنساني لنفسه مجالَ وجوده، كما يفتح في نفس الوقت مجال الموجود الذي يلقاه في داخل العالم فيصل إليه ويصبح في متناول يده، والفهم نوعان؛ أصيل وغير أصيل، فهو أصيلٌ إذا نبع من الذات وتطابق معها واستجاب لها، وهو غير أصيل إذا أدرك الوجود الإنساني من جهة العالم، أي أدركه — كما فعلت الأنطولوجيا التقليدية — على نموذج الموجودات الحاضرة في العالم دون تمييز، والفهم الأصيل وغير الأصيل يمكن بدورهما أن يكونا حقيقيين أو زائفين، فالفهم الحقيقي للعالم يصدر عن الوجود الإنساني صدورًا أصيلًا، وينمو من خلاله نموًّا أصيلًا، أما الفهم الزائف فهو لا ينمو إلا في إطار رُسِمَ له من قبل دون أن يعني نفسه بمناقشته أو يحاول التفكير في أمره.
سبق أن تحدثنا — في معرض الكلام عن عالم الأداة — عن نوع معين من التدبر أو التبصر،٦١ كما تحدثنا — في سياق الكلام عن الوجود المشترك — عن الاعتبار،٦٢ وبقيَ الآن أن نتحدَّث عن الفهم ونحدِّد بأنه «بصر»،٦٣ ولما كان الأصل في هذا الفهم أنه بصر، أمكن للموجود الإنساني أن ينمي مختلف أساليب التبصر عند اهتمامه بالأشياء والأدوات، وأن ينمي الاعتبار عند رعايته للآخرين، وهيدجر يفرد للبصر بالوجود (أو التواجد) نفسه مكانًا مرموقًا، ويصفه بأنه رؤية نافذة أو شفافية،٦٤ وهذه الشفافية على شتى أساليب البصر التي ذكرناها من تبصُّر واعتبار، بل إنها هي التي تجعلها ممكنة، فإنها لا تقتصر على معرفة نفسها فحسب، بل تتعدى ذلك إلى معرفة العالم والآخرين، وعلينا أن نلاحظ في النهاية أن كلمة البصر تدل في المقام الأول على أن الموجود الإنساني هو الذي يسمح للموجود بأن يكشف له عن نفسه، وأن يجرد نفسه من كل غطاء يحجبه،٦٥ فالبصر إذًا لا ينفصل عن طابع الانفتاح أو «الوضوح المضيء» الذي يميِّز الموجود-الإنساني.
في الفهم يتفتح الموجود الإنساني، ولكن على أي شيء؟ على إمكانيات وجوده، وكيف؟ بأن «يشرع» أو يصمم مشروعاته على أساس من إمكانيات وجوده أو من خلال الاستطاعة و«القدرة-على-الوجود»، بيد أن تصميم المشروع لا يتم في فراغ؛ إذ إنه — كوجود ممكن — موكول دائمًا إلى الرمي أو الإلقاء٦٦
(كون الموجود الإنساني مُلقًى به في هذا العالم وعليه أن يحمل بنفسه عبء وجوده ومسئوليته) أي إلى ما يمكن أن نسميه بالوجود الفعلي الواقعي،٦٧ إن كل إنسان مِنَّا يعرف أن وجوده لم يتحقَّق بعد، ويحس أننا لن ننصفه حتى نحكم عليه بما سيكون، لا بما هو كائن بالفعل، ولكن لا ينبغي أن نستسلم للأوهام ونحيا في الأحلام، فنحن لن نحقق من إمكانياتنا إلا بقدر ما نستطيع تحقيقه بالفعل، ولا بد في كل مشروع أصممه أن أحسب حساب الاستعداد والقدرة التي لدي، حتى لا أتعرض لخداع الناس ولا أقع فريسة للوهم.
ويستطرد هيدجر في تحليلاته المفصلة عن الفهم بوصفه تبيينًا٦٨ (أو عرضًا وبسطًا) وبوصفه عبارةً وتعبيرًا،٦٩ مبتعدًا فيهما معًا عن الفهم بمفهومه العقلي والمعرفي لإلقاء الضوء على إمكانيات المشروع التي ينطوي عليها هذا الفهم، مبيِّنًا أنه — في كل تعامل مع العالم وموجوداته — يسبق كل قول وتعبير، هذا إلى أنه يؤكد دور «الزمانية» في كل هذه التحليلات العسيرة، أي دور المستقبل في كل مشروع نقدم عليه، وهو ما سوف نتعرَّض له بشيء من التفصيل عند الحديث عن الموجود الإنساني والزمانية.
ولا يفوتنا أن نشير إلى ما يقصده هيدجر بالمعنى واللامعنى في هذا السياق، فالمعنى «تصور يضم الهيكل الشكلي لما ينتمي بالضرورة لما يفصله (أو يبرزه) العرض (التبيين-البسط) الفاهم، والمعنى هو ذلك الذي يتجه إليه المشروع من خلال التركيب المسبق للملك والبصر والتناول، وعن طريقه يُصبح شيءٌ ما مفهومًا بوصفه شيئًا».٧٠
عبارة عسيرة أشكُّ أنني فهمتها! ولكن ربما أمكننا أن نستشفَّ منها أن المعنى شيءٌ يتعلَّق بالإنسان أو الموجود-الإنساني وحده، فهو (أي المعنى) أحد الوجودات (الخصائص الوجودية الأساسية) المميزة للوجود الإنساني، وليس مجرد صفةٍ تلتصق بالموجود أو تقع في عالم متعالٍ من الحقائق «الخالدة»، أو تسبح في «مملكة وسطى» بين العالمين، المعنى لا يملكه الموجود الإنساني، ما دام انفتاح الوجود-في-العالم لا يتحقَّق إلا عن طريق الموجود الذي ينكشف فيه؛ ولهذا فالموجود الإنساني وحده هو الذي يمكن أن يوصف بأن له معنى أو بأنه خالٍ من كل معنى.٧١

وختامًا نصل إلى العنصر الثالث الذي يدخل في تركيب وجود الموجود-الإنساني، وهو الكلام، ماذا يقصد هيدجر بالكلام؟ ها هو ذا يجمع بينه وبين العنصرين السابقين مؤكِّدًا أنه يقوم على انفتاح الموجود-الإنساني على نفسه، وعلى العالم جميعًا.

إن الكلام من الناحية الوجودية أصيلٌ أصالة التواجد (التأثُّر الوجداني) والفهم، والفهم أسبق من التبيين، كما أن الكلام إفصاحٌ عن الفهم؛ ولهذا فإن كل تبيين يقوم على أساس الكلام،٧٢ والفهم المتوجد (الذي تسري فيه الوجدانية) للوجود-في-العالم يعبر عن نفسه بالكلام، بهذا تظهر دلالة الفهم الكلية في صورة الكلمة، أو إن شئت فإن المعاني «تنمو لها» كلمات، على العكس مما قد نتصور من أن الكلمات تخترع وتصطنع ثم تُزوَّد بمعانٍ مصطنعة، وهنا تتضح دلالة «الإبلاغ» أو «الإخبار» الذي تتحقق فيه المشاركة في الوجدانية والفهم بين موجود إنساني وآخر، وهذا كما ترى أمرٌ طبيعي؛ لأن وجود الموجود-الإنساني في صميمه وجود معية أو وجود مشترك، فهو يحيا دائمًا في حالة تأثُّر وجداني مشترك وفهم مشترك، أي أنه باستمرار في حالة «إخبار» يعبِّر عن هذه المشاركة الأولية؛ ولهذا يكون الكلام أوضح ما يكون عندما تتوافر المشاركة في الفهم والوجدان، أمَّا إذا حاولْنا أن نخلق هذه المشاركة عن طريق الكلام فقد يتعثَّر في طريقه إلى الإفهام.
والتعبير، أو النطق، الذي يتم بالكلام لا يعني أننا نُبرز ما في الباطن في صورة منطوقة؛ لأن الموجود-الإنساني، كما نعلم، موجود دائمًا بالخارج، ولا يخرج كلامه عن أن يكون إفصاحًا عن تجاربِه فيه، بهذا نصل إلى هذه العبارة المرهقة التي أتمنى — بعد الشرح السابق — ألَّا تستعصي عليك: «الكلام هو الإفصاح المنظم الدال على التفهم المتوجد (الوجداني) للوجود-في-العالم».٧٣ لكن ماذا يحدث للكلام حين ينتشر الزيف وعدم الأصالة، حين يسيطر رأي «الناس» فيطغى على الوجود الحقيقي ويحجبه ويصور له أن أسلوبه في الحياة هو الأسلوب الأصيل؟ (وهذا هو أعم الأحوال كما رأينا من قبل)، عندئذٍ يعبِّر الفهم عن نفسه باللغو والفضول والالتباس، فحين تجد الناس يثرثرون فيما لا يعرفون ويتكلمون عن كل شيء ولا شيء (وهو الحال السائد في بلادنا) فاعلم أنهم قد فقدوا العلاقة الحقيقية بالموضوع الذي ينصبُّ عليه الكلام، واندفعوا في دوامةٍ من القيل والقال و«الحكي» والتكرار بغير قرار، عندئذٍ ينقلب الانفتاح الأصلي إلى انغلاق عنيد، ويتعذر على أي إنسان أن يتعمق أي شيء، ويوصد باب المعرفة الحقيقية والتساؤل الحقيقي، ويختم هذا الفهم الفاسد بخاتم اللهاث وراء كل مثير، والتلهف على كل جديد، أي بالفضول الذي يسعى إلى كل مكان دون أن يستقرَّ في أي مكان! ولا عجب بعد هذا أن يتفشَّى الالتباس (أو الازدواج)، فتصدمنا الحقيقة البشعة التي تؤكد عجزنا عن التوصل للمعيار الذي نفرق به بين الأصالة والزيف، وهكذا تتَّحد هذه العناصر الثلاثة (اللغو والفضول والالتباس) وتتجمع فيما يصفه هيدجر «بالسقوط»، وهو تعبير عن تخبُّط الإنسان في دوامة الزيف التي يدور فيها «الناس» ليل نهار.

وأخيرًا أودُّ في نهاية هذا الفصل أن أُشير إلى رأي يسوقه هيدجر في هذا المقام، ولا أدري موقف علماء اللغة منه، فهو يطالب بضرورة إرساء علم اللغة على أسس أنطولوجية أصيلة وتحريره من المفاهيم والأفكار المنطقية المسبقة التي تتحكم فيه.

(٣) الموجود-الإنساني والزمانية

فرغنا من التحليل التمهيدي للموجود-الإنساني، فهل وصلنا إلى تفسير «أصيل» لوجوده؟ هل بلغنا وحدته الكلية؟ هل تقدمنا على الطريق المؤدي للإجابة على السؤال الأنطولوجي الأساسي عن معنى الوجود؟

كان على تحليل الموجود-الإنساني أن يحقِّق هدفين: بيان المكونات الأساسية للوجود-في-العالم، وتوضيح وحدة هذه المكونات وترابطها، ولقد حققْنا الهدف الأوَّل وبقيَ علينا أن نخطوَ الخطوة الثانية في سبيل الهدف الثاني، وقد رأينا أن بناء الوجود-في-العالم يقوم على الانفتاح، وأن كلية هذا البناء وتركيبه الأساسي هو الهم، وعلينا الآن أن نكرر تحليلنا للموجود-الإنساني على ضوء الزمانية أو «التزمن».

لنقف وقفة قصيرة نسترجع فيها الخصائص الثلاث المميزة للموجود-الإنساني قبل المضيِّ في تحليلاتنا التالية لها، هذه الخصائص الثلاث التي كشفنا عنها هي: التواجد (أي أن الموجود-الإنساني دائمًا في حالة إمكان-وجود عليه أن يحققه)، والوجود الفعلي (أي أنه يتحدد دائمًا بما أُلقي فيه، ما وجد قبل أن يوجد، وما يتحتم عليه أن يتقبله ويوكل إليه) والسقوط (أي أنه يفهم نفسه من خلال ما يكونه، ويضيع ذاته في الموجودات المألوفة، وإملاءات «الناس» التي تحجب عنه أصالته أو تصور له أن أسلوب وجودهم هو وحده الأسلوب الأصيل).

وقد رأينا أن هذه الخصائص الثلاث تتجمَّع في «الهم»، ولا تحسب أن الهمَّ الذي نتكلم عنه هو الحزن والنكد والغم! فالتحليل الذي قدمناه يبيِّن أنه ينطوي على ثلاثة عناصر: الاستباق (التواجد)، والوجود الفعلي (الإلقاء)، والوجود بالقرب من «السقوط»، لكن كيف تتحدد هذه العناصر الثلاثة؟ هذا هو ما يجيب عليه هيدجر في القسم الثاني من كتابه تحت عنوان «الموجود-الإنساني والزمانية»، ولعل هذه الإجابة أن تكون سبيلنا إلى الأصالة والوحدة الكلية اللتين نسعى إليهما: «وإذا كان لتفسير وجود الموجود-الإنساني — باعتباره أساس تناول السؤال الأنطولوجي الرئيسي عن معنى الوجود — أن يصبح تفسيرًا أصيلًا، فلا بد له قبل ذلك أن يلقي الضوء على وجود الموجود-الإنساني في خصوصيته الممكنة (أي صميم وجوده وطابعه الحميم) وفي كليته وشموله».٧٤

علينا إذًا أن نفهم «إمكان الوجود» في كليته ووَحْدته الشاملة، ولن نفعل هذا حتى ندخل نهاية الموجود-الإنساني في تحليلاتنا، والنهاية هي الموت، التجربة الوجودية بالموت هي «الوجود للموت»، أو من أجله، وهي التي يتناولها القسم الثاني من الكتاب، لكي يصل منها إلى المشكلة التي تكشف عن صميم الوجود وطابعه الحميم؛ وهي مشكلة الضمير التي تشغل الفصل الثاني من هذا القسم وتبلغ ذروتها في تحديد وجود الموجود-الإنساني بأنه تصميم، ثم نتطرق في الفصل الثالث إلى إمكان الوجود الكلي للموجود-الإنساني على ضوء الزمانية بوصفها المعنى الأنطولوجي للهمِّ، أمَّا الفصول التي تتناولها الزمانية والحياة اليومية، والزمانية والتاريخية، والزمانية الداخلية باعتبارها الأصل في المفهوم السائد عن الزمان — الذي يقوم عليه مفهوم هيجل له — فسوف نغفلها في هذا العرض، آملين أن نرجع إليها في مجال آخر حتى لا نخرج عن هدف هذا الكتاب من بيان الارتباط الوثيق بين الوجود والحقيقة.

(٣-١) الوجود-للموت

تتصل بالموت ثلاثة أمور يمكن إجمالها على النحو التالي:
  • (١)

    هناك «ليس-بعد» سيكونه الموجود-الإنساني ويرتبط به ما بقيَ حيًّا، وهو نوع من الافتقاد الدائم الذي يجعله يندفع نحو تحقيق إمكانياته.

  • (٢)

    أن بلوغ الموجود — الذي لم ينتهِ بعدُ — إلى نهايته يحمل طابع عدم الوجود أو استحالته.

  • (٣)

    بلوغ النهاية ينطوي، بالنسبة للموجود-الإنساني، على حال وجود لا يقبل البدل أو المناوبة، بمعنى أنه يموت وحده ولا ينوب عنه أحد آخر.

إن الكائنات الحية من نبات وحيوان تنتهي، أمَّا الإنسان فهو وحده الذي يموت؛ لأنه هو وحده الذي يهتم بأعلى إمكانيات وجوده وأخصها، وهي إمكانية استحالته وانتهائه وموته، هنا يستحيل أن ينوب عنه أحد كما يحدث في أسلوب حياتنا اليومية مع الآخرين: «فما من أحدٍ يمكنه أن ينوبَ عن الآخر أو يحمل عنه موته»،٧٥ حتم على الموجود-الإنساني أن يتحمل موته بنفسه، وبقدر ما يكون الموت، يكون أساسًا موتي أنا.٧٦

ليس الموت «حدثًا» أو «حالة وفاة» أو نهاية تبلغها الأنا بعد أن تقطع عمرًا طويلًا أو قصيرًا، كما تُصور لها الأنطولوجيا التقليدية التي تتناول الموجودات الحاضرة أمامها دون تمييز، وتعدُّ الإنسان واحدًا منها يسري عليه ما يسري عليها من مقولات، إنما الموت ظاهرةٌ لا بد أن تُفهَم فهمًا وجوديًّا، ولا بد من توضيح معناها المتميز وتحديد معالمه.

كيف نفهم الموت باعتباره نهاية الموجود الإنساني؟ أهو صيرورته إلى ما لم يكنه بعد؟ أهو اكتمال تحققه أو السير نحو تحقيقه على نحو ما تكتمل الثمرة وتنضج من داخلها؟ ولكن كم من موجود-إنساني انتهى قبل أن يبلغ الكمال! وكم من موجود-إنساني بلغ الكمال قبل موته، أو انتهى — وهذا هو الأغلب الأعم — مستهلكًا وبعيدًا كل البعد عن الكمال! فكيف يكون الموت نهاية الموجود-الإنساني؟ أهو توقف وانقطاع، كما يتوقَّف المطر مثلًا؟ لكن وجود الموجود-الإنساني مختلف كل الاختلاف عن وجود الأشياء الحاضرة أمامنا أو الأشياء التي نستخدمها ونتناولها بأيدينا، ولا وجه للمقارنة بين النهاية في الحالين.

بقدر ما يكون الموجود-الإنساني، ما بقي كائنًا، هو ما ليس بعد، بقدر ما يكون دائمًا هو نهايته، والانتهاء الذي نصفه بالموت لا يعني بلوغ النهاية، بل يعني الوجود من أجل الانتهاء، الموت أسلوبُ وجود أو كينونة يتحمَّله الموجود-الإنساني ما بقي كائنًا — ولعل عبارةً وردت في إحدى القصص الألمانية الشهيرة في العصور الوسطى — وهي قصة الفلاح من بوهيميا للشاعر يوهانيس فون تيبل — أن تكون بالغة الدلالة على أن الموت ليس حدثًا ولا واقعةً، وإنما يتغلغل في حياتنا كل لحظة من الميلاد إلى الوفاة: «ما إن يأتي الإنسان إلى الحياة حتى يصبح شيخًا هرمًا ناضجًا للموت!»٧٧

الموت ظاهرة من ظواهر الحياة، والحياة أسلوب وجود مرتبط بالوجود-في-العالم، فكأن الموت هو إمكانية عدم-الوجود-في العالم أو إمكانية استحالة كل إمكانية! وعبثًا نحاول أن نفهم الموت من تجربتنا بموت الآخرين أو من الملاحظات التي تجمعها علوم الحياة والطب والنفس واللاهوت والتاريخ والأثنولوجيا والأنثروبولوجيا … إلخ عن ظواهر الحياة والموت؛ لأن التفسير الوجودي للموت — أي موتي أنا — يتقدَّم على هذه التفسيرات جميعًا ويفترضها.

ولكن مَن منَّا يبلغ هذا الفهم الأصيل للوجود-للموت؟ ألا نعيش حياتنا اليومية مقيدين بحياة «التوسط» وما يقوله الناس ويُملُونه علينا؟ وما الذي يميز هذا الوجود اليومي للموت؛ هذا الوجود غير الأصيل الذي يُلقي ظله علينا ويحاول دائمًا أن يمدَّنا بالراحة والعزاء ويخفي عَنَّا فاجعة الموت؟

لن يتعذر علينا تبيُّن ملامح هذا الوجود اليومي للموت؛ لأننا سنعرفها من خلال ما عرفناه من قبل عن «الناس» الذين يكونون الرأي العام ويعبرون عن أنفسهم باللغو والثرثرة، إن للناس أيضًا فهمَهم للوجود من أجل الموت، فكيف يفهمونه ويثرثرون حوله؟

الحياة العامة التي نحياها مع الآخرين تعرف الموت بوصفه حادثًا يقع كل يوم، حالة وفاة تتكرر كل ساعة ولا يصح أن تُفاجئنا أو تشد انتباهنا أو تشغلنا أكثر مما ينبغي لها، ولا يصح أن توقف عجلة أعمالنا أو تعطل دولاب سيرنا وسعينا، والناس يهونون من شأن الموت، ويؤمِّنون أنفسهم منه، ويقذفون به في حلق المستقبل البعيد قائلين: أجل! كلنا لها، كل إنسان صائر للموت، ولكنه لا يعنينا الآن، ولم يصبنا في هذه المرة على الأقل، كل إنسان يموت، أي لا أحد يموت بحق، هذا هو الالتباس الذي يقع فيه الناس حين يلغون ويثرثرون عن الموت، إنه في نظرهم شيءٌ غير محدد، لا بد أن يأتيَ من مكانٍ مجهول، في وقت غير معلوم، ولكن لا خطرَ منه الآن! هو مجهول يُصيب مجهولين، مجرد حادث يصيب كل إنسان ولا يصيب إنسانًا بالذات، هو حالة مألوفة، واقع متكرر، ولهذا يهربون منه، يحجبون طابع الإمكان الذي ينطوي عليه وما يتصل به من توحُّد رهيب ينبع من انعدام كل علاقة واستحالة النجاة منه أو تخطِّيه، بهذا يحرمون الموجود-الإنساني من أخص إمكانيات وجوده، ويزيِّنون له أن يضيعَ في الناس ومسكناتهم المألوفة عن الموت، كما يئدون فيه شجاعة القلق الذي يواجهه به.

هكذا يسقط الموجود-الإنساني في هذا الفهم اليومي الذي يُصبح هروبًا مستمرًّا من الموت، وإن دلَّ هذا على شيء فهو يدل على أن الموجود-الإنساني في حياته اليومية يوجد أيضًا للموت أي لأخصِّ إمكانيات وجودِه وألصقِها بحقيقته، ولكنه وجود ناقص، لا يعدو أن يكون نوعًا من عدم الاكتراث بهذه الإمكانية القصوى، وإذا انشغل بالموت — كأن يُبديَ شيئًا من الرعاية للآخر الذي يحتضر — فإنما يفعل هذا ليُقنعه بأنه سوف يُشفَى ويرجع للحياة اليومية المألوفة، أو يهمس في سمعه بالكلمات المحفوظة: الموت حقٌّ على كل إنسان، الآخرة خير من الدنيا، الحياة الحقيقية هناك … إلخ، الموت عند الناس يقيني، محتوم، لا مفرَّ منه، ولكن هذا كله يأتي من تجربتهم بموت الآخرين، بحقيقة معروفة جربها كل الناس قبلنا، وقد تقع لمن «نرعاه» ونعزيه عنها، ولكنها لم تزل بعيدة عَنَّا مؤقتًا، ومثل هذا اليقين المزعوم يلغي اليقين المميز للموت ويحجبه — أعني يقين إمكانه في كل لحظة — وهو الذي ينبع من إمكانية الوجود الخاصة بالوجود الإنساني نفسه.

ما علاقة هذا بإمكان وجودنا الكلي الذي نشعر به من خلال الموت؟ وما الصلة بينه وبين الهمِّ باعتباره المكون الأساسي للموجود الإنساني؟

إن الوجود للموت يقوم على الهم، فالموجود الإنساني، من حيث هو وجود، مُلقى به — في العالم — مسلم دائمًا إلى موته، ووجوده لموته يجعله يموت دائمًا وبالفعل، ما بقيَ موجودًا ولم يبلغ نهايته بعد، ومعنى أنه يموت دائمًا وبالفعل في كل لحظة تقع بين الميلاد والوفاة؛ أنه قد اختار بشكل من الأشكال نوع وجوده للموت، وتهربه اليومي منه هو نفسه وجود غير أصيل للموت (فعدم الأصالة يقوم على الأصالة، كما أن اللاحقيقة تقوم على الحقيقة).

إذا كان الموجود الإنساني في حياته اليومية يوجد للموت وجودًا غير حقيقي وغير أصيل، فهل يمكنه أن يتوصَّل للفهم الحقيقي له، أي لإمكانيته الحميمة، الخالصة من كل علاقة، المُتأبية على كل تخطٍّ، اليقينية وإن تكن غير محددة؟ إن الوجود الأصيل للموت يدل على إمكانية الوجود الأصيل للموجود الإنساني. فما هي الشروط الوجودية لهذه الإمكانية؟

الموت إمكانية وجود للموجود الإنساني، أو هو بالأحرى أعلى إمكانيات هذا الوجود وأشدها خصوصيةً وتفرُّدًا، وهو يختلف عن إمكان وجود شيء من الأشياء التي تكون تحت تصرفنا وفي متناول أيدينا، أو نجدها حاضرة أمامنا، والموجود الإنساني يسلك إزاءه مسلك الانتظار والتوتر والترقب لإمكانيةٍ ستقع يقينًا ولكن في وقت غير معلوم؛ ولهذا سنصف الوجود-للموت (الذي علينا أن نتحمله ونواجهه وندخل في حوار دائم معه) بأنه استباق إلى الإمكانية،٧٨ ولكن أية إمكانية هذه؟ إنها إمكانية كل وجود (أو استحالته)، وهي تتضخم وتزداد هولًا مع الاستباق إليها، ليس هناك مقياس تُقاس به، بل إنها لا تعرف الأكثر والأقل، ولا تعطينا أي فكرة واقعية عن هذا الممكن الذي نترقبه حتى نستطيع أن نتهيأ له، كل ما هناك أن إمكانية استحالتنا هي التي تنتظرنا يقينًا، ولكن في وقت مجهول وبصورة غير محددة، إن الموت هو أخص إمكانات الموجود الإنساني، والوجود من أجله يجعل الموجود الإنساني ينفتح على أخص إمكانيات وجوده الذي يتعلَّق به تعلُّقًا مُطلَقًا، بهذا يمكن أن يتكشف للموجود الإنساني — عن طريق هذه الإمكانية المتميزة لذاته — أنه قد انتزع بعيدًا عن «الناس» أو أنه يقدر أن ينتزع نفسه منهم، وفهم هذه «القدرة» هو الذي يكشف عن الضياع الفعلي في حياة الناس اليومية.٧٩
كل ما قدمناه عن هذه الإمكانية: من أنها أخصُّ إمكانيات الموجود الإنساني، وأنها مجردة من كل علاقة ولهذا تفرد الموجود الإنساني وتوحده وتسلمه لنفسه، وأنها يقينية ومن ناحية يقينها غير محددة — كل هذا يمكن أن نجمله في هذه العبارة العسيرة التي يلخص بها هيدجر الطابع الوجودي للموجود-من-أجل-الموت: «إن الاستباق (إلى إمكانية الاستحالة أو انعدام كل إمكانية) يكشف للموجود الإنساني عن ضياعه في «إنية الناس» ويدفع به — دون اعتماد على الرعاية والاهتمام من جانب الآخرين — إلى إمكانية أن يصبح هو ذاته، ولكنَّه يدفعه أيضًا إلى الحرية من أجل الموت، هذه الحرية المتوقِّدة بالحماس، الخالصة من أوهام الناس، الحرية الفعلية الموقنة بنفسها والقلقة من نفسها.»٨٠

•••

الوجود-للموت مرتبط إذًا بالقلق ارتباطه بالاستباق والتصميم، وهذا كله بالوجود الذاتي الأصيل، فكيف يتم هذا؟ علينا قبل الكلام عن ظاهرة الضمير التي تقدم الشهادة الواقعية الحية على هذه الأصالة أن نتحدَّث بإيجازٍ عن القلق والتصميم.

قلنا إن الموت هو إمكانية وجود على «الموجود الإنساني» أن يحملها ويتحملها بنفسه، فهو مع الموت يواجه أخص إمكانياته، وأقصاها، وبهذه المواجهة تنفصم علاقاته بالموجودات الإنسانية الأخرى ويرد إلى وحدته وتفرده المطلق مع ذاته، إنه يشعر مع هذه المواجهة مع الموت — وهو شعور لا يحتاج إلى علم أو معرفة — بأنه قد أُلقى به في الموت، وهو شعور يتكشف له بصورة ملحة في «وجدانية» القلق، كما أن المواجهة نفسها تقوم على انفتاح الموجود الإنساني على نفسه على صورة الاستباق، وهو — كما سبق القول — أحد العناصر المكونة للهم، ولهذا نجده يتجسَّد تجسُّدًا أصيلًا في الوجود-للموت.٨١

أمَّا القلق الذي يشعر به الموجود الإنساني إزاء الموت فهو القلق إزاء أخص إمكانيات وجوده التي تجردت من كل علاقة واستحالت على كل تخطٍّ أو نجاة، وما يقلق منه القلق هو الوجود-في-العالم نفسه، وما من أجله يقلق هو إمكان وجود الموجود الإنساني، ولا يصح أن نخلط بين هذا القلق من الموت وبين الخوف من انتهاء الحياة، فليس هذا القلق حالة ضعف تنتاب الفرد، وإنما هو تأثر وجداني أساسي للموجود الإنساني، هو انفتاح على حقيقة كونه وجودًا «مرميًّا» مُلقى به، موجودًا لأجل موته، بهذا يختلف الموت عن التلاشي والاختفاء أو مجرد الانتهاء، كما يتضح تصور الوجود للموت باعتباره وجودًا مُلقى به نحو أخص إمكانياته.

هذه المواجهة للموت التي تُسيطر على وجود الموجود-الإنساني وتنأى به عن كل أنواع التستر والتهرُّب والتنكر تبلغ ذروتها في التصميم، والتصميم كما عرفناه هو حقيقة الوجود وأصالته، أو هو الذي يُفضي بنا إليها،٨٢ وسنرى عند الكلام عن نداء الضمير أنه فهم ناجم عنه وأنه يكشف كشفًا «ظاهريًّا» عن أصالة الموجود الإنساني وكليته، وينتزعه من الوجود اليومي الساقط المشتت في «الناس» لكي «يغزو» وجوده، إنه تصميم على «الفعل»، بعيدًا عن الانعزال عن العالم بعده عن كل الأوهام، وهو لا ينشأ عن إحساس مثالي محلق فوق الوجود وإمكانياته، بل ينبع من الفهم السليم للإمكانيات الفعلية الأساسية للموجود-الإنساني، وإن القلق الخالص الذي يجعلنا نواجه إمكان الوجود المتوحد ليلازمه الفرح المتزن المطمئن بهذه الإمكانيات، وبهذا الفرح يتحرر الموجود-الإنساني من مصادفات التسلية والتشتت التي يحصلها الفضول النشط من أحداث العالم.٨٣
ما علاقة التصميم بوحدة الموجود-الإنساني وكليته وأصالته؟ كيف يمكن أن يحيا الموجود-الإنساني موحدًا في كل إمكانيات وجوده وأساليبه؟ بأن يكون هذا الموجود — بإمكانياته الأساسية — هو ذاته، وأن أكون أنا ذاتي هذا الوجود،٨٤ فالأنا أو الذات هي التي تؤلف وحدة هذا البناء الكلي وتشمله، وربما كان من الأفضل أن نقول «الموجود-الإنساني» بدلًا من الأنا والذات أو الجوهر أو غيرها من التسميات التي كانت تخلع على هذا الأساس الثابت الذي تقوم عليه أنطولوجيا الموجود-الإنساني، ومهما يكن من أمر الاسم الذي نختاره له، فقد عرفنا من تحليلاتنا للوجود اليومي أنه في الأغلب الأعم ليس هو ذاته وإنما هو ضائع مضيع في ذات «الناس» أو إنيتهم، والواقع أن هذه الذات الأخيرة الضائعة ليست إلا صورة معدلة أو مشوهة من الذات الأصيلة، صحيح أن الناس تردد في كل مناسبة وبغير مناسبة: «أنا … أنا … أنا» غير أنهم أبعد ما يكونون عن الأنا الأصيلة، هذه الأنا-في-العالم التي كشف تحليلنا للهم عن وجودها، إن الأنا التي لا يكف الناس عن ترديدها والكلام باسمها هي الأنا المشغولة بالموجودات الخارجية، المتهربة من وجودها الأصيل الذي يلقي بنفسه على إمكانياته، ويحمل هو وجوده-للموت، هذه الأنا — أو الإنية أو الذاتية — الحقة لا تتمثل في شيء كما تتمثل في التصميم (بما يتضمنه من توحد وتكتم وقلق، ومن شروع على الإمكانيات وفهم وانفتاح) ولا يضيعها شيء كما يضيعها عدم التصميم، ولو فهمنا بناء الهمِّ فهمًا كاملًا لتوصلنا إلى الذاتية أو الهُوية أو الإنية أو ما شئت من أسماء تعبر عن حقيقة الوجود المصمم الأصيل.

(٣-٢) نداء الضمير

الوجود الأصيل إذن ولا شيء سواه!

هذا هو المثل الأعلى لفلسفة هيدجر التي يغلب عليها طابع «المباطنة» أو «الكمون» في العالم، وتصر على رفض أي عون يأتي من أعلى لتحديد أصالة الإنسان وحقيقة وجوده، لكنها لم تستطع أن تصل إلى هذا الوجود عن طريق التحليل الفينومينولوجي (الظاهرياتي) الخالص؛ لأن طبيعة الأشياء لم تسمح لها بذلك، ولا بد لها الآن أن تبحث في أرض «ظاهراتية» تثبت عليها، وأن تفتش في جذور الموجود-الإنساني نفسه وفي أعماق تربته عن ظاهرة واقعية أو شاهد حي على قدرته على اختيار إمكانية وجوده الأصيل. أين تجد هذه الظاهرة؟ كيف تعثر على هذا الشاهد الحي؟

لقد وجدته بالفعل فيما نصفه عادةً «بصوت الضمير»، ففي الضمير ينادي الموجود-الإنساني ذاته، غير أنه نداء هاتف بلا صوت، يتردد في رهبة الصمت، ليس هناك شيءٌ محدد يُنادى به؛ لأن الموجود-الإنساني نفسه هو الذي يُنادى ويهاب به ويفزع من رقاده، ولأن الضمير لا يتكلم إلا بالصمت، فإن نداءه يحمل الموجود-الإنساني على التكتم، وليس عجيبًا أن يبدوَ النداء وكأنه صوت غريب عليه، فما من شيء يبدو في نظر الموجود-الإنساني السادر في عالم الناس أغرب من الذات الملقاة في العدم، المتوحدة مع نفسها توحُّدًا مطلقًا، أضف إلى هذا أن المنادي يصيب من يناديه إصابة مؤكدة، ولا تفسير لهذا إلا بالهوية التي تجمع بينهما.

إن نداء الضمير لا يقول شيئًا وليس لديه شيء يحكيه عما يجري في العالم، وهو أبعد ما يكون عن مناجاة الذات التي يوجه إليها النداء، فالنداء لا ينادي عليها بشيء، وإنما يهيب بها أن تتنبه لذاتها أي لأخص إمكانات وجودها،٨٥ وهذا النداء هو في الحقيقة نداء الهم، وهو الذي يدعو الموجود-الإنساني إلى إمكان وجوده الحق، لا شك أنه نداء رهيب، ولا بد أن ينتزعه من نسيان الذات الذي نغرق عادة فيه، فدعوة النداء دعوة لإمكان الوجود الحق، والقلق هو الذي يجعل هذا النداء ممكنًا؛ لأننا في القلق نجرب توحدنا المرتبط بتلك الإمكانية.
ونداء الضمير يكشف عن وجود الموجود-الإنساني في حالة الذنب، ولا يفهم هيدجر الذنب بمعنى الخطأ الفعلي أو التاريخي ولا بمعناه الأخلاقي أو الديني، وإنما هو في رأيه تعبير عن «قرار العدمية الأساسية»٨٦ للموجود الإنساني الذي يقوم قبل كل شيء على نقيضة الوجود الإنساني أو طابع التناقض الذي يميزه؛ إذ إن عليه من ناحية أن يضع بنفسه أساس وجوده ويقرر بنفسه نوع هذا الوجود، كما يجد نفسه من ناحية أخرى موضوعًا بالفعل في واقعة وجوده التي لا يد له في وضعها ولم يُلق فيها بمشيئته؛ ولهذا فهو لا يستطيع أبدًا أن يتمكن من نفسه كل التمكن، ولا ينفتح الموجود-الإنساني على وجوده المذنب كل الانفتاح إلا إذا أدرك أنه مذنب حتى النهاية، وهذا بدوره لا يتأتَّى له حتى يستبق نفسه إلى النهاية، أي الموت؛ بهذا تتلاءم فكرة الاستباق (أي الوجود الأصيل الذي يستبق ذاته إلى الموت) مع ظاهرة الضمير.

ويصف هيدجر موقف التوتر الذي ينجم عن الإنصات الحقيقي لنداء الضمير، ويقرر فيه الموجود-الإنساني اختيارَ إمكانية وجوده الحق بأنه هو التصميم الذي يتحدَّد به وجود الموجود-الإنساني، فالانفتاح على نداء الضمير — أو إرادة أن يكون لي ضمير — ظاهرة تظل مستغلقة على الناس؛ لأنها مرتبطة بما يتهرَّب منه الناس وينشغلون عنه، بتجربة عدمية الموجود-الإنساني الذي يشعر بها في القلق، وبالفهم كشروع للذات على أقصى إمكانياتها الحميمة، وبالكلام (لأن أسلوب الصمت الذي يهتف به الضمير حالٌ من أحوال الكلام)؛ ومن ثَمَّ يُصبح التصميم حالًا متميِّزًا للانفتاح الحق الذي يوصد الناسُ أبوابَهم دونه، ونصل إلى هذه الصيغة النهائية العويصة التي تعبر عن التصميم أو المثل الوجودي الأعلى لإمكان الوجود الحق بأنه: «المشروع الذاتي المتكتم القلق على الوجود الحميم المذنب».

•••

إن الضمير ينادي إنية الموجود-الإنساني أو ذاته من غمرة الضياع في «الناس»، والمنادي والمنادى عليه غير محددين ولا معروفين، فالنداء لا يهتم بطبيعة من يناديه ولا بما يفهمه عن نفسه، ولا يكترث بشخصه أو اسمه أو أصله أو طبقته، ومع ذلك فهو يُصيبه — كما قلنا — إصابة مؤكدة؛ لأن الموجود الإنساني نفسه هو المنادِي والمنادَى.

ونحن لا نخطط لهذا النداء، لا نوجهه عن قصد ولا نعد له، إنه نداءٌ مجهول، لم نتوقَّعْه، ولم نُردْه، وهو لا يصدر عن «آخر» يشاركني أو أشاركه حياتي في العالم، إنه ينبعث من داخلي، ومع ذلك يرتفع فوقي ومن المستحيل أن يكون صوتًا غريبًا يأتي من قوةٍ عُلْيا تعلن عن وجودها فيَّ، أو أن يكون مظهرًا من مظاهر حياتي البيولوجية أو النفسية أو الاجتماعية، إنه — من الناحية الأنطولوجية — ظاهرة متعلقة بالموجود-الإنساني مرتبطة بتكوينه الوجودي، وهذا وحده هو الذي يهدينا إلى تفسير الصوت الصامت المجهول الذي يصعد نداؤه من أعماقنا ويرتفع فوقنا ويهيب بنا أن نحقق إمكان وجودنا الأصيل.

•••

لن تتحدَّد شهادة الضمير إلا إذا تحدَّدت طبيعة «الإنصات» الملازم له، فتفهُّم ندائه ليس شيئًا لاحقًا به، بحيث يمكن أن نضيفه إليه أو نستبعده عنه، إننا لن ندرك تجربة الضمير إدراكًا صحيحًا إلا إذا فهمنا نداءه، وحتى عدم فهمه أو تجاهله تعبير آخر عن أسلوب وجود الموجود-الإنساني الذي يتحدَّد فيه المُنادي والمنادَى عليه، ولو حلَّلنا هذا الفهم لَاستطعنا كذلك أن ندرك «الذنب» المقصود بنداء الضمير، فكل تجارب الضمير وتحليلاته المختلفة تُجمع على أن «صوت» الضمير يتكلم بشكل من الأشكال عن «الذنب»،٨٧ ولكنها تختلف فيما بينها حول تحديد طبيعة هذا الذنب كما تغفل التصور الوجودي له إغفالًا.

ما هو معنى الذنب وكيف نكون مذنبين؟

لا بد من الرجوع إلى الموجود-الإنساني نفسه لفهم ماهية الذنب، كما رجعنا إليه لفَهْم الضمير والموت، وطبيعي ألَّا نرجع للناس لنسأل عنه؛ لأن السؤال الحقيقي عن الماهية غريب عنهم غربة كل سؤال أنطولوجي أصيل، ولأن تصورهم للذنب نابعٌ من حياتهم المشتركة المنشغلة بالعمل والتملُّك؛ بحيث يكون الذنبُ في رأيهم مساويًا للإضرار بهما وبالصالح العام وتقاليده وقوانينه.

من أين نستمد إذًا معيار المعنى الوجودي عن الذنب والمذنب؟ من كونه صفة «للأنا أكون»، هل يكون الذنب في أسلوب وجود الموجود-الإنساني بما هو كذلك، بحيث يكون مذنبًا بقدر ما يكون موجودًا بالفعل؟ ألَا يستلزم هذا أن نرتفع بفكرة الذنب عن مستوى الوجود المشترك المنصرف إلى الشئون العملية الحاضرة، كما نرتفع به فوق مستوى ما ينبغي وما يحق للآخر، وما يفرضه العرف أو الخلق أو القانون؟

إن فكرة الذنب تحمل طابع «اللا»، وإذا كان الذنب سيحدد الوجود الإنساني، فلا بد من تحديد الطابع الوجودي لهذه «اللا»، ويمكننا أن نصفَ الذنب وصفًا شكليًّا خالصًا بأنه «السبب» في وجود محدد ﺑ «اللا»، أي سبب السلب والعدمية، وإذا استبعدنا عن «اللا» كل سلب لمطلب كان ينبغي الوفاء به أو لشيء مفتقد، كما استبعدنا عن الوجود-الإنساني كل تصور له كموجود حاضر، أمكن القول إن وجود الذنب لا يترتَّب على أي إحساس بالذنب (ولا بالدين، فالكلمتان مرتبطتان في الأصل)٨٨ وإنما العكس هو الصحيح؛ أي أن الإحساس بالذنب لا يكون إلا بسبب ذنب أصلي. كيف نوضِّح هذا من طبيعة وجود الموجود-الإنساني نفسه؟

إن وجوده هو الهم، والهم ينطوي على الوجود الفعلي هناك (الإلقاء) والتواجد (الشروع) والسقوط، والموجود الإنساني ملقى به بلا إرادة منه في «الهناك»، ولقد عرفنا وجوده بأنه إمكانية وجود متعلقة به ومع ذلك لا يملك تحقيقها، ولهذا فهو السبب في إمكانية وجوده كما أنه من ناحية أخرى ليس هو الذي وضع هذا السبب بنفسه؛ ولهذا يحيا في التناقض والهمِّ الذي يكشف عنه التأثُّر والوجدان؛ فعليه أن يضع أساس هذا السبب (بأن يشرع نفسه على الإمكانيات التي ألقى فيها)، ولكنه في نفس الوقت لا يتمكن منه أبدًا، ويعجز عن تحقيق إمكانية وجوده التي يتعلق بها همه فيبقى دائمًا وراءها، أشبه بمن يجري وراء ظله وظله يجري وراءه! فهو يحيا من خلال إمكانية وجوده، بل هو هذه الإمكانية نفسها، غير أنه لا يتمكَّن أبدًا من تحقيقها، هذه «اللا» جزءٌ من المعنى الوجودي «للإلقاء»، أي أن «اللا» أو العدمية تكون وجود الموجود-الإنساني الملقى به، من هنا كان عليه دائمًا أن يكون وأن يفهم نفسه من خلال إمكانياته، أو من خلال مشروعه، والمشروع في صميم تكوينه سلبي أو عدمي، وهذه العدمية مرتبطة بحرية الموجود-الإنساني تجاه إمكانياته، والحرية تكمن في اختيار إحدى هذه الإمكانيات دون الأخرى، فكيف نجمع بين هذه العدمية الأساسية وبين الهم والذنب؟

إن بنية الإلقاء والمشروع كليهما تنطوي على العدمية، هذه العدمية هي السبب في إمكان عدمية الموجود-الإنساني الأصيلة في حالة السقوط التي تلازمه في الواقع، والهم نفسه — من جهة ماهيته — تتغلغل فيه العدمية تمامًا، والهم — أي وجود الموجود-الإنساني باعتباره مشروعًا ملقى به — يعني السبب «العدمي» للعدمية، وهذا يدل على أن الموجود-الإنساني من حيث هو كذلك مذنب، وذنبه الأساسي هو الشرط الأنطولوجي الذي يجعله مذنبًا من الناحية الفعلية، كما هو الأصل في الخير والشر والأخلاقية بعامة.

ما هي التجربة المعبرة عن هذا الذنب الأصلي؟ أهي مرتبطة بالوعي بالذنب والعلم به، أم أن وجود الذنب أسبق من هذا الوعي والعلم؟ إن الموجود-الإنساني مذنبٌ في صميم وجوده، ولا يمنع من هذا أنه في حياته اليومية الساقطة يحاول أن يتهرَّب من ذنبه الأساسي أو ينغلق دونه، وهذا الذنب هو الذي يجعل ظاهرة الضمير ممكنة، كما يجعلنا قادرين على الإنصات لندائه الذي يهتف بأننا مذنبون، «إن نداء الضمير هو نداء الهم، والذنب يكون الوجود الذي نسمِّيه الهم، والأصل في الموجود-الإنساني أن يتوحد مع ذاته في حال الهول الفظيع، وهذه الحال تضعه أمام عدميته الصريحة المرتبطة بإمكانية وجوده الحميم. ولما كان الموجود-الإنساني — باعتباره همًّا — يتعلق بوجوده، فإنه يهيب بنفسه من وسط هذا الهول أن تخرج من السقوط في الناس لتتجهَ صوب إمكانية وجوده، والنداء يتجه إلى الأمام والخلف، إلى الأمام؛ لكي يتحمَّل بنفسه وجوده الملقى به، وإلى الخلف؛ إلى كونه ملقى به، ليفهم أنه هو السبب العدمي الذي عليه أن يطويه في وجوده، مثل هذا النداء المزدوج الذي يهتف به الضمير ينبِّه الموجود-الإنساني، الذي هو السبب أو الأساس العدمي لمشروعه العدمي والذي يكون في إمكانية وجوده، بأنَّ عليه أن يستردَّ نفسه من الضياع في الناس، أي يبين له أنه مذنب».٨٩

هكذا نرى أن نداء الضمير الذي يهتف بالموجود-الإنساني هو في الواقع نداء لا يحضُّه على الخطأ والشر، ولا يقلب وظيفة الضمير المتعارف عليها (فدعوته إلى الشعور الواعي بذنبه لا يعني بالضرورة أن يرتكبَ ذنبًا من الذنوب التي ينكرها الناس وتحرمها القواعد والقوانين!) إنه على العكس من ذلك نداءٌ منبعثٌ من أعماق الموجود-الإنساني نفسه، يحثُّه على تحقيق إمكانية وجوده، ولو أحسن الإنصات إليه لفهم أخص إمكانياته، وتحرَّر للاستجابة لها، واختار نفسه بنفسه! عندئذٍ يصبح معنى الفهم لنداء الضمير هو أن أريد أن يكون عندي ضمير! وعندئذٍ يصير الضمير شهادةً حية مجسدة — كامنة في أعماق الموجود الإنساني — على وجوده الممكن، أي على ذنبه الأصلي، ونداء يستحثه على أن يكون هو نفسه وأن يحقق وجودَه ويتحمَّل مسئوليته ويصمم على اختياره.

•••

ما علاقة هذا التصميم بالحقيقة؟

إن التصميم حال متميزة من أحوال انفتاح الموجود-الإنساني، وقد فسرنا الانفتاح أثناء كلامنا عن «السؤال عن الحقيقة» بأنه هو الحقيقة الأصلية، كما عرفنا أن الحقيقة ليست صفةً من صفات «الحكم» ولا هي صفة لأي سلوك معين، وإنما هي عنصر أساسي في تكوين الوجود-في-العالم، ولا بد من فَهْمها من خلال التركيب الوجودي — أو بالأحرى التواجدي! — للموجود-الإنساني، وقد رأينا أيضًا أن عبارة «الموجود-الإنساني يكون في الحقيقة» لا يمكن تفسيرها من الناحية الأنطولوجية إلا على أساس أن انفتاح الموجود-الإنساني يكشف لنا عن حقيقة الوجود وأصالته.

ونستطيع — بعد هذه الرحلة المضنية! — أن نقول إن التصميم نفسه هو حقيقة الموجود-الإنساني ولب أصالته، ولا نريد أن نكرِّر ما ذكرناه عن الانفتاح على العالم بما فيه من موجودات وأشياء حاضرة أمامنا أو في متناول أيدينا، فأهم من ذلك أن نقول إن النداء الذي يحثنا على الخلاص من التشتت والضياع وسط «الناس» يمكن أن يُفهَم الآن على أنه تصميم، هذا التصميم أو هذا الوجود الذاتي الأصيل للموجود-الإنساني لا ينتزعه من عالمه ولا يحيله إلى أنا منعزلة «خالصة» لا وجود لها في الواقع، وإنما يحرره لعالمه ولا مكان وجوده ووجود الآخرين المشتركين معه وجودًا حقيقيًّا.

ربما يسأل القارئ: لقد أطلت الكلام عن التصميم، فما الذي يصمم عليه الموجود-الإنساني؟

التصميم بحسب ماهيته ينبع من موجود إنساني واقعي، وماهية هذا الوجود الإنساني هو وجوده المتواجد، فتصميمه «لا يوجد إلا كقرار متفهم يشرع نفسه على ممكناته».٩٠

نعود فنسأل: ما الذي يصمم عليه الموجود-الإنساني؟

والجواب يقدمه قراره وحده، ونخطئ لو تصورنا أنه مجرد محاولة لبلوغ الممكنات المتاحة أو المرغوب فيها، فالقرار هو الذي يحدد هذه الممكنات وينفتح عليها من خلال المشروع، ولهذا كان التصميم مرتبطًا «بعدم التحدد» الذي يميز كل إمكان فعلي للموجود الإنساني؛ ولهذا أيضًا لا يؤكد التصميم إلا القرار، ولا يتحدَّد طابعه الوجودي إلا من خلاله.

ما الهدف إذًا من التصميم؟

يحدد هذا الهدف من الناحية الأنطولوجية «وجودية» الموجود الإنساني من حيث هو إمكان وجود على هيئة رعاية مهتمة بالآخرين، ونحن نعلم أن الموجود-الإنساني، بوصفه همًّا، يتحدَّد عن طريق وجوده الفعلي وسقوطه، وكلما انفتح على وجوده الفعلي «هناك» ألقى نفسه في الحقيقة واللاحقيقة على السواء، ويصدق هذا بوجه خاص على التصميم الذي وصفناه بأن هو الحقيقة الأصلية.

ولكن الموجود-الإنساني — كما ذكرنا مرارًا — يحيا عادةً في حالٍ من عدم التصميم وليس هذا إلا تعبيرًا عن ظاهرة استسلامه لرأي «الناس» وأسلوب حياتهم ووقوعه تحت رحمتهم، ولهذا كان التصميم هو النداء المنبعث من أعماق الموجود-الإنساني ومن فوقه وإليه، يهتف به أن ينتشل نفسه من الضياع في الناس (وتلك هي مشكلة المشكلات في بلادنا؛ إذ يجد الناس متعتهم الوحيدة في التدخُّل في أخص أمور حياتنا، واستخلاص مادة لا تنتهي للغو والثرثرة، ولهذا كان الفضول والتطفل وَباءَنا وغذاءنا اليومي، وكان الصمت والكتمان أعدى أعدائنا!) صحيح أن «عدم التصميم» يبقى هو الطابع الغالب المسيطر علينا جميعًا، ولكنه لن يقدر على محاربة الوجود الذي قرر وصمم على غزو حقيقته بنفسه! إنه الآن قادر على الرؤية الشفافة النافذة، مهيَّأ لاكتشاف إمكاناته الواقعية وتحقيقها، بعيدًا عن اجترار الأحلام والأوهام، والتصميم هو الذي يدعوه — بصوت الضمير الصامت الرهيب! — إلى أن يعيشَ موقفَه المحدد له، ويقدِّم الشهادة على إمكان وجوده الحق، وليس التصميم في النهاية إلا «الأصالة التي يهتمُّ بها الهم ويجعلها ممكنة»،٩١ وليست الأصالة بدورها إلا تعبيرًا عن إمكان الوجود الكلي الحق.

ولكن إلى أي مدى يرتبط هذا الوجود الكلي بالزمان؟ وفي أي بُعد من أبعاده أو أية «انبثاقة» من انبثاقاته يتحقَّق؟

هذا ما سنحاول الآن أن نراه.

(٣-٣) انبثاقات الزمان

لم تكن هذه الشروح المفصلة عن الوجود للموت والضمير والذنب والتصميم إلا جسورًا للعبور إلى السؤال عن معنى الهم، أو بالأحرى إلى الأساس الذي يقوم عليه وهو الزمانية، ويسأل هيدجر: «ما الذي يجعل كلية البناء الشامل المفصل للهمِّ في الوحدة التي تضم تفاصيله أمرًا ممكنًا؟»٩٢ بعبارة أبسط: ما الذي يُضفي الوحدة على العناصر المكونة للهم؟
إن الموجود-الإنساني حين يستبق نفسه إلى أقصى إمكاناته (أي حين يوجد للموت) يرتدُّ في نفس الوقت إلى زمنه الذي كان، أي زمنه المنقضي،٩٣ وهو يحتفظ بهذا الزمن المنقضي، بل هو زمنه الذي انقضى وكان، وهو لا يستطيع أن يكون منقضيًا بحقٍّ إلا بقدر ما هو مستقبل،٩٤ ومِنْ ثَمَّ يُفاجئنا هيدجر بهذه العبارة التي تقلب الصورة المألوفة للزمن — في حركته من ماضٍ إلى حاضر إلى مستقبل — رأسًا على عقب: «إن الانقضاء٩٥ (الزمن المنقضي) ينبثق على نحو من الأنحاء من المستقبل»،٩٦ فكأنه يريد أن يقول إن الماضي ليست له الصدارة والأولية عند الموجود-الإنساني، وإنما المستقبل هو الذي يُحيله إلى الماضي ويجعله يحافظ عليه، ومعنى هذا — بتعبير هيدجر! — أن قدرة الموجود-الإنساني على استباق ذاته إلى ما لم يوجد بعدُ وإن كان ينتمي إليه بالفعل — أي إلى موته — هذه القدرة على أن يكون في المستقبل هي التي تُمكِّنه من الرجوع إلى زمنه المنقضي وصونه من الضياع، فكأن استشعار الموت والإحساس بالنهاية هو الذي يُحيي الماضي ويُعيدنا إلى ذكرياته، على نحو ما نرى في أعمال «مارسيل بروست» الروائية، التي يذوب فيها المستقبل والماضي والحاضر في وَحْدة واحدة تكون الشخصية الرئيسية في هذه الأعمال.
وعن طريق الاستباق إلى الموت أو النهاية (أي عن طريق التصميم المستبق) يجد الموجود-الإنساني نفسه في موقف، فيتعامل مع الموجود تعامله مع شيء يُشغل به، ويتيح له أن يلتقي به وجهًا لوجه، وهذا الالتقاء بالموجود القائم في «العالم المحيط» والتعامل معه لا يتيسر إلا بإحضاره (أي جعله حاضرًا)٩٧ وهذا بدوره لا يتم إلا عن طريق التصميم، والتصميم يحضر نفسه أو يجعلها حاضرةً في الموقف بحكم كونه مستقبليًّا وقادرًا على الرجوع إلى نفسه، وهذا بعينه هو جوهر الزمانية كما نجربها ونحياها في الموجود-الإنساني، بل كما يُتيحها البعد الخاص بالموجود-الإنساني ويحملها، ومِنْ ثَمَّ يستطيع هيدجر أن يقول إن الزمانية تتكشف بوصفها المعنى الحقيقي للهم،٩٨ وإذا كُنَّا قد حددنا الهم — بلغة هيدجر العسيرة! — بأنه «الوجود-الفعلي المسبق-في» من حيث هو «وجود-بالقرب من»، فيمكننا الآن أن نرى أن الوجود الفعلي المسبق يتم في «تزمن» المستقبل، وأن الوجود-بالقرب-من-يتم من خلال الحاضر أو بالأحرى الإحضار،٩٩ وقد عرفنا أن الهم يجمع بين التواجد، والوجود الفعلي، والسقوط، فالتواجد مرتبط «بالشروع» الذي فيه يلقى الموجود-الإنساني بنفسه على إمكانياته التي لم تتحقق بعد، وليس هذا إلا نوعًا من «تزمن» المستقبل، والوجود بالفعل — أي كون الموجود-الإنساني مُلقى به هناك — عنصر من العناصر التي عرفنا أنها من المكونات الأساسية للهم، ولهذا يمكننا الآن أن نفهم هذه العبارة: «إن قيام الهم على أساس الانقضاء هو الذي يُمكِّن الوجود-الإنساني من أن يوجد (أو يتواجد) بوصفه الموجود الملقى به».١٠٠
ويُفرِّق هيدجر بين الانقضاء (ما قد كان) والماضي؛ فالماضي تعبير يصدق على الموجودات التي ليست من نوع الموجود-الإنساني، هذا الموجود-الإنساني «المتواجد» لم «يمض»، بل «انقضى» أو كان، أي أن الكينونة لا تزال باقية، وما قد كان لا يزال في الحقيقة كائنًا، ويتضح هذا إذا تذكرنا ما قلناه من أن «الوجود الواقع بالفعل»١٠١ عنصر أساسي في تكوين الموجود الإنساني، وهو لا يكون ممكنًا إلا لأن الموجود-الإنساني — في وجوده في الزمان — لا يترك وراءه ما كان — أو ما انقضى من زمنه — ولا يتخلى عنه، وإنما يكونه، وهكذا يبين لنا بُعد المستقبل الذي ينطوي عليه «الاستباق»، وبُعد الماضي الذي يتضمَّنه «الوجود-بالفعل-في» أن الهم زماني في تكوينه وتركيبه، ولعل القارئ قد لاحظ أن هذا التفسير للزمانية بأنها البناء الأساسي المكون للهم يُشبه أن يكون نورًا كاشفًا سُلِّط — بعد الجهد والعناء! — على بقية البناء المعقد الذي حاولنا أن نخرج بفكرة موجزة عن هيكله ومعماره، ولعل «الوجود والزمان» أن يكون من الكتب التي يصدق عليها ما يُقال من أنها تُقرأ من آخرها، وأن نهايتها تَكشف عن بدايتها وتجمع كل خيوط نسيجها (ويا له من نسيج تبدو عبقرية الصنعة والتصنُّع والصبر والمشقة في تطريز كل خيط فيه!).
بقي أن نتحدَّث عن السقوط، وهو العنصر الثَّالث من العناصر المكونة للهمِّ؛ لنعرف علاقته بالزمانية، وليس السقوط سوى الضياع فيما هو «حاضر» أي فيما وصفناه بالوجود-بالقرب-من، وطبيعي أن يكون هذا السقوط في الحاضر (ما هو كائن وقريب) دون المستقبل (ما سيكون) ودون ما كان (الانقضاء)، وهكذا تجعل الزمانية وحدة «التواجد» و«الوجود بالفعل» و«السقوط» أمرًا ممكنًا وتؤلف كلية بناء الهم تأليفًا أصيلًا.١٠٢

طبيعي ألَّا تكون الزمانية دائمًا زمانية أصيلة، فكيف نفرق بين الأصيل منها وغير الأصيل؟ لا بد لهذا الغرض من بحث «الموجودات» التي تكلمنا عنها من قبل، وهي الفهم والتأثُّر الوجداني والسقوط والكلام، لنرى دورَ الزمان فيها ونبيِّن أنها في صميمها زمانية، هنا يجمع هيدجر الخيوط التي سبق أن قدَّمها متفرقة، ويرجع للتحليلات التي تابعناها من قبل لينظر إليها في أفق جديد، وليس هذا من قبيل التَّكرار، وإنما هو إضاءة للبناء الكلي ومحاولة لفهمه على ضوء الزمانية.

لنبدأ بالفهم، كيف يتجلَّى طابعه الزماني؟

لقد رأينا أن الفهم «شروع» على إمكانات الوجود الخاصة، وأنه تفتُّح أو «تفتيح» لإمكانية الوجود، وكل أشكال «المعرفة» وأساليبها تقوم على هذا الفهم وتعتمد عليه، ولكن «الشروع» على الإمكانيات مرتبط بالمستقبل، أو هو بتعبير هيدجر «تزمن للمستقبل»، والمستقبل — من الناحية الأنطولوجية — هو الذي يمكن الوجود الذي نسميه الموجود-الإنساني من أن يوجد على الصورة التي هو عليها، بحيث يكون وجوده — أو بالأحرى تواجده — مرادفًا لتفهُّمه إمكانية وجوده،١٠٣ ولا يجوز أن نتصوَّر أن هذه الإمكانية شيءٌ يبتدعه الموجود-الإنساني أو يتمناه ويخشاه، وإنما الموجود الإنساني هو إمكانية وجوده وبقدر ما يكون في المستقبل، وليس «الاستباق» الذي تحدثنا عنه إلا هذا التزمُّن من خلال المستقبل، وطبيعي أن هذا الاستباق أو هذا التزمن في المستقبل، لا يقدر عليه غير الموجود-الإنساني الأصيل، فهو وحده الذي يستطيع أن يعود إلى ذاته ويحقِّقها ويستبق نفسه إلى مستقبلها، وطبيعي أيضًا أن يكون هذا هو المستقبل الأصيل الذي يحدِّده بنفسه لا بما يُمليه عليه «الناس».١٠٤

هذا عن الموجود-الإنساني الأصيل، فماذا عن الموجود-الإنساني غير الأصيل؟

إذا صحَّ ما قلناه من أن الهم، أو بالأحرى بناءه الموحد، يقوم على الزمانية، وإذا كانت الزمانية تتكوَّن من «انبثاقات»١٠٥ الزمن الثلاثة، وهي ما سيكون وما قد كان وما هو كائن (المستقبل والانقضاء والحاضر)، فلا بد أن يكون للمستقبل دوره في تركيب الموجود-الإنساني غير الأصيل، ولكن كيف؟ لقد بينت لنا التحليلات السابقة أن الوجود اليومي المعتاد للموجود-الإنساني يقوم على «الانشغال» بالأشياء والموجودات الحاضرة أمامه أو في متناول يده وتحت تصرُّفه، وأن الموجود الإنساني لا يلبث أن يستغرق فيها فلا يكاد يفهم نفسه إلا من خلالِ هذا الانشغالِ وما يُشغَل به؛ لهذا يعجز الموجود-الإنساني عن العودة إلى «إمكان وجوده» الحميم الخالص من كل العلاقات أو الرجوع إلى ذاته، ويصبح — تحت تأثير الانشغال — في حالة توقُّع أو تهيُّؤ لما تأتي به الموجودات المنشغل بها أو لما تأباه عليه،١٠٦ ويصبح المستقبل الذي «يتزمن» به مستقبلًا غير أصيل، نوعًا من التوقُّع١٠٧ الذي يجعله يعيش في مواقف الانتظار والرجاء، والتطلُّع والرغبة …
الموجود-الإنساني الأصيل وغير الأصيل إذا يتزمن كلاهما بالمستقبل، والتزمن بالمستقبل قد يكون أصيلًا أو غير أصيل، ولكن يصدقُ في الحالَين تعبير «السبق للذات»١٠٨ أو الاستباق الذي يتميَّز به تواجد الموجود-الإنساني المتواجد، وكل تزمُّن يشمل الانبثاقات الزمنية الثلاثة التي ذكرناها، وقد عرفنا مما سبق أن الفهم والتأثر الوجداني والكلام كلها «وجودات» متزمنة أو يدخل الزمان في نسيج تركيبها، فما صلة هذا بما نحن بصدده من الحديث عن الوجود الأصيل وغير الأصيل؟
لنبدأ بالتزمُّن الأصيل للفهم الذي ينطلق — كما عرفنا — من المستقبل، ويتخذ صورة استباق الموجود-الإنساني لنفسه نحو إمكاناته التي لم تتحقَّق بعد، هذا الاستباق الذي يتم كما رأينا «بالتصميم»، يحتاج إلى الزمن الحاضر الذي يقع فيه اختيار «القرار» على موقف معين، في هذا التصميم وبهذا القرار يسترد الحاضر من التشتت والاستغراق في الموجودات القريبة التي ينشغل بها الموجود-الإنساني، ولا يقتصر الأمر على هذا؛ إذ يضم الحاضر نفسه إلى مكانه الذي يتحد فيه بما سيكون (المستقبل) وما قد كان (الانقضاء)، هذا الحاضر الأصيل الذي يُوضع في مكانه من الزمانية الأصيلة هو الذي نسمِّيه «اللحظة»،١٠٩ وليست اللحظة «نقطة آن» في مجرى تتابع زمني داخل العالم، وإنما هي أسلوب انفتاح الموجود-الإنساني على ما يقابله ويواجهه، أو بالأحرى على ما يُتيح له مقابلتَه ومواجهته، ويتوقف هذا بطبيعة الحال على أسلوبه المتميز في الوجود، على قدرته على أن يكون هو ذاته.

أمَّا التزمُّن غير الأصيل للفَهْم فيقابله — في انبثاقه الحاضر — الإحضار، ومعنى الإحضار أن الوجود-الإنساني — أو إمكانية الوجود — لا يفهم ذاته إلا من خلال ما ينشغل به وما يكون حاضرًا أمامه، على حين أن التزمُّن الأصيل مرتبطٌ بالمستقبل ولا يضيع نفسه أو يشتِّتها فيما ينشغل به.

بقيت الانبثاقة الثالثة للزمن، وقد تبيَّن مما قلناه عن الفهم الأصيل أن الموجود-الإنساني يحتفظ بما كانه أو انقضى منه أثناء الاستباق.

هنا يلمس هيدجر مسألة الهوية (أي هوية الذات مع ذاتها) التي يكثر حولها الجدل في الفكر المعاصر، فالموجود-الإنساني يسترد نفسه في أثناء هذا الاستباق ويعود من جديد إلى الإمكانية الحقة لوجوده؛ ولهذا يصف الانقضاء الأصيل بأنه تَكرار (وهو مصطلح نعرفه من كيركجورد الذي أنشأ حوله قصةً فلسفية مؤثرة شائقة، وإن اختلف مدلوله عند المفكرين اختلافًا كبيرًا) فإذا اقتصر الموجود-الإنساني على اكتساب إمكانياته من تعامله مع الموجودات المنشغل بها، نسي ما كانه وما يحدد له ما يمكن أن يكونه، فالنسيان حالة ناقصة من أحوال تزمُّن الانقضاء أو ما قد كان، حين يكون هذا التزمُّنُ غير أصيل، وفي حياتنا اليومية شواهدُ كثيرةٌ على تنكُّر الإنسان لماضيه ومحاولته إسدال ستر من التجاهل والنسيان عليه حين يكون بصدد التخطيط لمستقبله (أو الشروع له كما يقول هيدجر)! وهو بهذا الأسلوب ينغلق على نفسه، وينخدع فيها، ويتهرب منها، وفي الأدب المحلي والعالمي شواهد عديدة تقدم لنا شخصياتٍ تهرَّبت من شبح ماضيها وحاولت أن ترتفع إلى قمة الطموح والمجد فهوَتْ في وادي الآلام والموت (وتحضرني الآن بداية ونهاية لنجيب محفوظ، والأحمر والأسود لستندال، والبطة الوحشية لإبسن) وهذا هو موقف عدم التصميم الذي يقع على طرفي نقيض من موقف التصميم الذي ذكرناه.

لا شك أن التفسير الزماني للوجودات المختلفة تفسير مُضن حافل بالتفصيلات المتشابكة، وتكمن صعوبتُه في ضرورةِ المحافظة على النظرة الكلية عند تناول كل منها على حدة؛ فانبثاقات الزمن الثلاثة حاضرة في كل واحدة، لا يقلِّل من هذا أن يكون التركيز على إحداها أكثرَ من غيرها، ولو أخذت الفهم مثلًا لَوجدت أن كفة المستقبل ترجح كفَّتَي الانقضاء والحاضر اللذين يؤدِّيان كذلك دورَهما فيه، وهذا لا يمنعنا من القول بأن كل واحدةٍ من الوجودات تقوم أساسًا على انبثاقة زمنية محددة، فإذا كان الفهم يقوم على المستقبل (ما سيكون) فإن الوجدانية — أو التأثر الوجداني — يقوم على الانقضاء (ما قد كان)، وقد عرفنا مما سبق أن الوجدانية هي التي تُتيح للوجود-الإنساني أن ينفتح على «إلقائه» أو كونه ملقى هناك وموجودًا بالفعل وجودًا واقعيًّا لم يختَرْه ولا يد له فيه، وهذا يدلُّ على أن التزمُّن الأساسي للوجدانية ليس هو الذي يوجد الانقضاء أو يخلقه، وإنما يكشف الموجود-الإنساني عن وجوده فيه؛ لأن الموجود-الإنساني كان، أو هو بمعنى أدق ما كانه؛ لهذا يقول هيدجر إن الطابع الوجودي الأساسي للتأثُّر هو الإعادة أو الاستعادة، وهذه لا توجد الانقضاء ولا تنتجه، وإنما التأثُّر الوجودي هو الذي يكشف للتحليل الوجودي عن حال من أحوال الانقضاء.١١٠
ويوازن هيدجر بين تأثُّرين وجدانيين يوضحان الفارق بين انقضاء أصيل وآخر غير أصيل؛ ففي حال الخوف الذي تسوده الحيرة والاضطراب يظهر نسيان الذات وفرارها من كينونتها الماضية، أمَّا في القلق فيتجلَّى عبثُ «الانشغال» وبطلانُه واستحالةُ وصول الموجود-الإنساني إلى ذاته عن طريقه، في القلق — وما أبعد الفرق بينه وبين الخوف كما قدمنا! — يرجع الموجود-الإنساني إلى نفسه، ويتم شيء يمكن أن نصفَه بالتَّكرار، هنا يجرب الموجود-الإنساني تناهيه وتفانيه، وإذا كان القلق ينبع من مستقبل يقرره التصميم، فإن الخوف ينجم عن الحاضر الضائع الذي يملؤه الخوف من الخوف، لكيلا يلبث أن يسقط فيه.١١١

فإذا انتقلنا أخيرًا إلى زمانية السقوط وجدنا أن خير ما يوضِّحها هو التطفل أو الفضول، في هذا الفضول يتمُّ نوع من «الإحضار» الذي يبقى مع ذلك حبيسًا بين جدران الزمن الحاضر؛ إذ ينغلق الفضول على نفسه دون الاستباق إلى الإمكانيات الحميمة التي تنغلق دونه، إن الفضولي يعيش في حاضر فاسد، كل همه فيه هو الإحضار أو تكويم المعلومات والأخبار، ويظل بعيدًا عن الحاضر الحقيقي الذي ينبع من استباق إلى المستقبل وتكرار ما كان وانقضى؛ ولهذا كان الفضول حفرةً بلا قرار.

ولو شئنا أن نجمل ما قلناه عن التزمُّن الأصيل والتزمُّن غير الأصيل، لَأمكننا أن نضع هذا الجدول١١٢ الذي يُعيننا على رؤية الهيكل الحاشد بالتفاصيل، إدراك الغابة قبل أن تتوه في زحام الأشجار!
الانبثاقات الزمنية التزمن الأصيل التزمن غير الأصيل
المستقبل الاستباق التوقع (التهيؤ)
الحاضر اللحظة الإحضار
الانقضاء التكرار النسيان
لعل القارئ قد افتقد «الكلام» في هذا التحليل الزماني «للوجودات» المختلفة من فهم وتأثُّرٍ وسقوط، ولعله قد تصور — كما فعل بعض الباحثين١١٣ — أن تحليل الانشغال بالحاضر قد حل محله، والواقع أن التحليل الزماني للكلام في «الوجود والزمان»١١٤ مختصر غاية الاختصار، وهو يرد بعد حديثٍ مستفيضٍ عن السقوط، ومع ذلك فإنه — وإن لم يحدد للكلام انبثاقة زمنية متميزة — لا يهمله تمام الإهمال، وإنما يبين أن للحاضر دلالةً خاصةً بالقياس إليه، فهو ينصب في الأغلب الأعم على ما يقابلنا في العالم المحيط بنا، وإن كان هذا بطبيعة الحال لا يستنفد كل إمكاناته، إذ يكفي أن نفكر في «لغة» الفن وأساليبها المختلفة في حوارها مع الوجود أو معنا، إن الكلام في ذاته زماني؛ لأن كل كلام «عن» أو «إلى» يقوم على وحدة الانبثاقات الزمنية الثلاثة، ولما كان الكلام متعلِّقًا على الدوام بموجود — وإن لم يتخذ صورة التعبير النظري وحده — فإن تحليل البنية الزمنية للكلام وتفسير الطابع الزمني للصور والأشكال اللغوية لا يمكن البدء فيه إلا إذا تناولنا مشكلة الارتباط الأساسي بين الوجود والحقيقة على ضوء الزمانية، عندئذٍ يمكننا أن نفهم المعانيَ الأنطولوجية «للرابطة» أو فعل الكينونة وتوضيح المعنى وتكوين التصورات.

مهما يكن من شيءٍ فلا بأس من إعادة ما قلناه من أن انبثاقات الزمن الثلاثة — التي نسميها عادةً بالماضي والحاضر والمستقبل — ماثلةٌ على الدوام في كل تزمن، وإن كانت إحداها تطغى على الأخريين في كل حالة على حدة، فالفهم مثلًا يطغى عليه المستقبل (الاستباق أو التوقع)، والتأثُّر الوجداني يتفوَّق فيه الانقضاء (التكرار أو النسيان) والسقوط والكلام يغلب عليهما الحاضر (اللحظة أو الإحضار)، وفي نفس الوقت يمكن تأكيدُ ما قلناه من أن الانبثاقات الزمنية الأخرى تؤدي دورها مع الانبثاقة الغالبة، فالفهم حاضر انقضى وكان، والتأثُّر مستقبل وحاضر، ومعنى هذا أن الزمانية تتجلَّى كاملةً في كل انبثاقة على حدة، وأن «الوحدة الانبثاقية لتزمن الزمانية تقوم عليها كلية البناء الكامل للتواجد، والوجود بالفعل، والسقوط، وهذا هو معنى وحدة بناء الهم»، وهو كذلك المعنى الذي انتهينا إليه من كل هذه التحليلات التي بينت لنا أن الهم يقوم بناؤه وتركيبه على الزمانية، وهذا يدلنا في النهاية على أن الموجود-الإنساني — بإمكانياته الأساسية وانفتاحه، وأصالته، أو عدم أصالته — يقوم على الزمانية التي تتمثل فيها عناصر التزمن في وحدة واحدة.

(٤) السؤال عن الحقيقة

تبلغ تحليلات هيدجر المفصلة عن الهم (باعتباره وجود الموجود-الإنساني) ذروتها في أول بحثٍ قدمه عن الارتباط بين الوجود والحقيقة في كتابه «الوجود والزمان»، وهذا الارتباط قديمٌ قدم الفلسفة، لم نبتدعه على هوانا ولم نخلقه من العدم، فلقد دار الفكر الفلسفي منذ بدايته حول هذا الارتباط بين الوجود والحقيقة، وتجلَّى ذلك بأوضح صورةٍ في كثير من شذرات هيراقليطس الباقية، وفي قصيدة بارمنيدز (وبخاصة في قوله المشهور إن الفكر — أو التعقل — والوجود شيء واحد)، كما ظهر عند أرسطو الذي عرف الفلسفة بأنها «العلم بالحقيقة»،١١٥ وحددها في نفس الوقت بأنها العلم «أبيستمي» الذي يتأمَّل الموجود بما هو موجود، أي من ناحية وجوده.

أليس من الطبيعي إذن في بحثٍ يصف نفسه بأنه بحث في «الأنطولوجيا الأساسية» أن يهتم بهذا الارتباط الأصلي بين الوجود والحقيقة ويُلقي الضوء كذلك على العلاقة بين الموجود-الإنساني والحقيقة، لكي يبين لنا في النهاية أن الوجود لا ينفصل عن الحقيقة، كما أن الحقيقة ملازمة للوجود؟

يمضي هذا المبحث الأوَّل — الذي ظل الشغل الشاغل لهيدجر في العديد من دراساته ومحاضراته من «ماهية الحقيقة» إلى موضوع الفكر — في ثلاث خطوات:
  • (١)

    التصور التقليدي للحقيقة والأسس الأنطولوجية التي يقوم عليها.

  • (٢)

    الظاهرة الأصلية للحقيقة والأصل في التصور التقليدي الذي وصلنا عنها.

  • (٣)

    نوع وجود الحقيقة والشروط التي تعتمد عليها.

إذا كانت طريقة السؤال هي أهم ما يُميِّز الفيلسوف ويوجِّه فكره، فإن هيدجر يتجه بسؤاله عن الحقيقة وجهة جديدة، إنه يبدأ من التصوُّر السائد المألوف عن الحقيقة، وهو تصور راسخ في أذهاننا منذ أرسطو وابن سينا وتوماس الأكويني؛ لكي يرجع إلى الظاهرة الأصلية التي حجبها هذا التصور، ولقد استقر الرأي في هذا التصور على أن العبارة — الحكم أو القضية — هو محل الحقيقة وموضوعها، وأن ماهية الحقيقة تقوم على تطابق الحكم مع الموضوع، وهو رأي يستند إلى أرسطو الذي يُنسَب إليه تحديد هذا الوضع وإطلاق هذه الصيغة، فهل قال أرسطو ذلك صراحةً؟

الحق أن الأصل في هذا الرأي يرجع إلى عبارة أرسطو التي يقول فيها إن تجارب النفس أو تصوراتِها معادلة (أو مكافئة) للأشياء،١١٦ ومن الواضح أنه لم يقصد من قوله هذا أن يقدِّم تعريفًا للحقيقة، ولكن هذا القول تحول على يدي توماس الأكويني إلى التعريف التقليدي للحقيقة بأنها تكافؤ أو تطابق بين العقل والشيء، وهو التعريف الذي تمسكَتْ به الفلسفة إلى ما بعد كانط (وقد أشار الأكويني نفسه إلى أنه أخذ هذا التعريف عن ابن سينا الذي يُقال إنه أخذه بدوره عن كتاب التعريفات لإسحاق الإسرائيلي من القرن العاشر)،١١٧ مهما يكن من أمر هذا التعريف المشهور، فإن هيدجر يسأل: ما هو المعنى المقصود بالتطابق (التكافؤ أو التوافق)؟١١٨ إنه يعبِّر من الناحية الشكلية البحتة عن علاقة شيء بشيء، ولكن إذا كان التطابق علاقة، فليست كل علاقة تطابقًا، لا بد إذن من توضيح هذه العلاقة وتحديدها، كيف يمكن أن يتطابق العقل والموضوع (الشيء) ومن أي جهة؟ يلزم أن يتطابقَ الحكم مع مضمونه، فمن أين يأتي هذا التطابق؟ أنقول إنهما متساويان أو متشابهان؟ ولكنني إن حكمت بأن القرش مستدير، فلا يُعقَل أن أتصور أي نوع من التشابه بين الحكم والاستدارة، بين العبارة التي أحكم بها (وهي لغوية) والقرش الذي أحكم بأنه متطابق معها (وهو معدني)! يلزم إذن أن يدرك العقل الموضوع (أو الشيء) على ما هو عليه، فكيف يتم هذا، إذا كان هذا العقل لن يتحول إلى موضوع!
نحن جميعًا نميز في الحكم بين «فعل الحكم» وبين موضوعه، وفعل الحكم حدث نفسي واقعي، وموضوعه مضمون مثالي، والأمر كله يتوقف على هذا المضمون المثالي، فلسنا بحاجةٍ إلى معرفة شيء عن طبيعة الأحداث النفسية التي في الوعي عند القيام بعملية الحكم، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فلدينا فعل الحكم الواقعي من ناحية، ولدينا من ناحية أخرى المضمون المثالي الذي نفكر فيه أثناء تحقيق هذا الفعل، ولا بد أن يتعلَّق هذا المضمون بشيءٍ واقعي أو موضوع متعين، «ألا يكون واقع المعرفة والحكم قد انفصم بهذه الطريقة إلى أسلوبين في الوجود «وطبقتين» لا يمكن أن يبلغ التلفيق بينهما إلى صميم أسلوب وجود المعرفة؟»١١٩ لنسأل إذن: متى تظهر الحقيقة في فعل المعرفة نفسه ظهورًا صريحًا؟ الجواب: عندما يُثبت فعل المعرفة أنه حق (أو صادق). ومتى يتم هذا؟ الواقع أن هذه هي المشكلة! ولا بد تبعًا لهذا «أن تتضح علاقة التطابق في السياق الظاهري للإثبات». ونسأل من جديد: كيف نفهم هذا الإثبات؟ يضرب لنا هيدجر مثالًا بسيطًا من واقع التجربة التي نعيشها كل يوم؛ لنتصور أننا نقول عبارة عن صورة معلقة على الحائط، في الوقت الذي نُدير لها ظهرنا ولا نراها رؤية مباشرة، ثم نستدير لنرى إن كانت العبارة صحيحة، كانت عبارتنا هي هذه: الصورة مائلة. فما الذي يجعلها صادقة أو كاذبة؟ لا بد أوَّلًا أن نلاحظ أننا حينما ننطق بالعبارة لا نشغل أنفسنا بأية ظاهرة سيكولوجية أو أي فعل من أفعال التصور، وإنما نكون مع الموضوع أو الشيء ذاته، ولسنا الآن بحاجة للبحث عن مختلف الإمكانيات التي تتيح لنا أن نكون مع الموضوع نفسه؛ ذلك أن التعبير (أو الحكم) وجود متعلق بالشيء أو الموجود نفسه،١٢٠ وفي المثال الذي قدمناه الآن يتم الإثبات عن طريق الإدراك الحسي، فما الذي يحدث على وجه التحديد عندما يتأكد صدق العبارة التي ذكرناها عن الصورة المعلقة على الحائط؟ الجواب ببساطة: إننا نتوصَّل للموجود من ناحية وجوده، أو بالأحرى نكتشفه.

هكذا يكون فعل المعرفة — الذي نعبِّر عنه في صورة حكم أو عبارة — مسلكًا نتَّخذه من الموجود لكي نكشف عنه أو نكتشفه، هذا الاكتشاف هو مركز الثقل في الموضوع كله؛ لأن التوفيق بين العمليات النفسية والمضامين المثالية التي تُضفي على كل شيء واقعي هو في الحقيقة أمر عرضي لا أهمية له، إن معنى العبارة هو إتاحة رؤية الموجود الذي نعبر بها عنه؛ ومِنْ ثَمَّ تكون الحقيقة هي الاكتشاف، ويكون التوصُّل إلى الحق عن طريق الكشف، لكن من الذي يقوم بهذا الكشف غير الإنسان؟ ألا يتحتَّم أن يكون موجودًا-في العالم لكي يتمكَّن من القيام به؟ — الواقع أن هذا هو الذي يتعرَّض له القسم الثاني من هذا المبحث.

يحاول هيدجر أن يدعم تفسيرَه للحقيقةِ بالرجوعِ إلى فجرِ الفلسفة، والنظر في المعنى الأصلي الذي كان يقصده فلاسفة اليونان المبكرون من كلمة الحقيقة (أليثيا-لاتحجب) فهو يقف عند شذرة هيراقليطس الأولى١٢١ التي تتحدث عن معنى اللوجوس الذي يبين للناس حقيقةَ الأشياء وحالَها التي هي عليها، غير أنهم لا يفهمونه ولا يسمعون نداءه، فيسقط في التحجب ويهوي إلى الخفاء.
وترجمة هيدجر لكلمة «الأليثيا» اليونانية — التي تُفيدنا القواميس بأنها هي الحقيقة — باللاتحجب (أو سلب الحجب والخفاء) ليست مجرد ترجمة لفظية، وإنما هي محاولة للنفاذ إلى التجربة الأصلية التي ارتبطت منذ القدم بهذه الظاهرة، والكشف عن «الحدث» الذي كانت تنطوي عليه رؤية اليونان الأوَّل لها، وهذا هو الملمح الظاهرياتي (الفينومينولوجي) الذي يكتشفه هيدجر عند فلاسفة الإغريق في فجرهم الشاعري، كما يكتشفه عند أرسطو، «فاللوجوس» عند أرسطو كشف أو إتاحة رؤية الموجود الذي ينقل — من خلال القول — من التحجُّب إلى اللاتحجُّب، ومن الخفاء إلى الظهور، أي أن القول في صميمه كشف وإظهار (أبوفانسيس وأليثويين)، ولكن ما هذا الذي يكشف عنه القول وينتزعه من الحجب ويتيح له أن يُرى من ناحية وجوده؟ إنه الشيء نفسه الموجود من ناحية تكشُّفه أو الأسلوب الذي ينكشف به.١٢٢
لن يقف هيدجر عند هذا الحد من تفسيره «للأليثيا»، وسيواصل التفكير فيها في بحوثه ودراساته التالية من «ماهية الحقيقة» إلى «موضوع الفكر»، ولكن الذي يهمنا في هذا السياق أنه حاول في هذه المرحلة المبكرة من تفكيره أن يُبين الارتباط بين الأليثيا (اللاتحجب) والموجود الإنساني، بَيْدَ أن «الأليثوين» (اللاحجب أو إظهار الحقيقة) إنما هو فعل يقوم به الموجود الإنساني وأسلوب من أساليب وجوده،١٢٣ حين يكشف الموجود أو يرفع عنه الغطاء، فالحق هو هذا المسلك الذي يسلكه الموجود الإنساني، كما هو في نفس الوقت ذلك الذي ينكشف من خلال المسلك — أي ذلك الموجود الذي ينكشف — ولهذا يطالبنا هيدجر بأن ننظر إلى المسلك الذي يمكن من الكشف على أنه هو الظاهرة الأصلية نفسها للحقيقة، هذا المسلك هو الذي وصفناه — كما رأينا من قبل — بانفتاح الموجود الإنساني، وإن شئنا المزيد من الدقة فهو الوجود-في-العالم الذي يتركب من التوجد (التأثر الوجداني-الوجدانية) والفهم والكلام ليتحد فيما سميناه «بالهم»، وهذا الهم يوحِّد بدوره بين الانبثاقات الثلاثة للتزمن وهي المستقبل والماضي (الانقضاء) والحاضر.
إن تعبير هيدجر المشهور «إن الموجود الإنساني يكون في الحقيقة»١٢٤ لا يعني بطبيعة الحال أنه يملك الحقيقة كل الحقيقة — فذلك شيء لا يقبله عقل ولا يسيغه ذوق — وإنما يعني أنه قادر على الكشف، أي على انتزاع الحقيقة وإظهارها من طوايا التحجُّب والخفاء عن طريق التصميم، ولا تتأتَّى له هذه القدرة على الكشف عن الموجود وتقريبه وتبيينه وتشكيله وتناوله بالبحث … إلى آخره، إلا لأنه قادر على اتخاذ مسلك من نفسه، أي على الانفتاح.

ربما اعترض معترض بأن الأمر لا يخرج عن وضع كلمة الموجود الإنساني (الدازاين) في مكان كلمة «الذات» وأنه لا يعدو أن يكون صورة جديدة من هذه الصيغة الفلسفية الحديثة: «الوعي هو الوعي بالذات»، ولكن هذا الاعتراض وأمثاله يخطئ تفكير هيدجر ويخرج عنه منذ البداية، فمفهوم الموجود الإنساني مختلف تمام الاختلاف عن مفهوم الوعي، ولا يمكن أن يكون كلمة جديدة وضعت في مكان كلمة قديمة، وسيزول هذا الاعتراض إذا عرفْنا أن هيدجر ينأى بنفسه عن «الذاتية» و«الإنسانية» بمعانيها التقليدية التي تأكَّدت منذ ديكارت وعبر المثالية الألمانية حتى كيرجورد ونيتشه، كما أنه ينظر إلى الموجود الإنساني منذ البداية على أنه «وجود-في-العالم» ويرتب على ذلك نتيجة لم تكن تخطر للفلسفة الحديثة على بال، إنه لا ينطلق من ذاتٍ معزولة أو منعزلة، يكون عليها بعد ذلك أن تنتقل إلى «المتعالي» — سواء فهمناه بمعنى الوجود أو العالم الخارجي أو بمعنى العالم أو الله — وإنما يبدأ من الموجود الإنساني من حيث هو وجود-في-العالم، فيؤكد البناء الأساسي الذي يتميز به ويوضح كل ما يرتبط به من «وجودات» تقوم على تزمنه، وكلها آراء لا يشك منصف في أنه لم يسبق إليها.

إن الوجود-في-العالم يعني أن انفتاح الموجود الإنساني يتعلَّق ببناء الهم الذي منه يتركَّب هذا البناء الكلي من وحدات المشروع (تزمن المستقبل حيث يشرع الإنسان نفسه — إن صحَّ هذا التعبير! — وينزع إلى تحقيق إمكاناته مع انفتاحه على عالمه) والإلقاء (الرمي-الانقذاف حيث يجد الموجود الإنساني نفسه في عالم وُجد من قبل، وحيث يفترض هنا تزمن الماضي أو الانقضاء) ولنتذكَّر هنا أن أمام الموجود الإنساني سبيلين؛ فإما أن يتمكن من فهم نفسه على ضوء إمكاناته الصميمة، وعندئذٍ يكون في الحقيقة، وإمَّا أن يفهم نفسه من خلال العالم الذي أضاع نفسه فيه ويضيعها أبدًا، وعندئذ يكون في اللاحقيقة والزيف، وإن كان في الأغلب الأعم يحيا في هذه الحال الأخيرة، ويعيش — كما رأينا من قبل — وجودَه اليوميَّ «ساقطًا» في اللاحقيقة، إنه يحيا دائمًا في الحقيقة واللاحقيقة على السواء؛ ولهذا يتحتَّم عليه أن يحافظَ باستمرار على ما اكتشفه أو كشف عنه، حتى لا يسقط في التنكُّر والمظهر، وهكذا يكون عليه أن ينتزعَ التكشُّف من المظهر، كما كان عليه أن ينتزع الحقيقة من اللاحقيقة، ولعل هذا أن يكون مصداقًا لكلمة جوته المشهورة في القسم الثاني من فاوست: «لا يستحق الحرية والحياة إلا من يغزوهما كل يوم.»١٢٥ ويمكننا أن نضيف إلى كلمة الشاعر الحكيم: ولا الحقيقة إلا من يغزوها ويكافح في سبيلها في كل لحظة!
يتصل هذا كله بما سبق أن قلناه عن تفسير هيدجر لكلمة «الأليثيا» اليونانية التي تترجمها معاجم اللغة بالحقيقة (وهو تفسير قد لا يوافق عليه كثير من فقهاء هذه اللغة!) فهو يرى أن الألف (الألفا) التي تبدأ بها الكلمة هي الألفا السالبة أو النافية، وأن بقية الكلمة (ليثيا) تأتي من لانثانو (يبقى متحجِّبًا في الخفاء أو النسيان)، على نحو ما سنجد هذا بالتفصيل في رسالتِه عن «ماهية الحقيقة»، إن الوجود ينتزع من التحجُّب، وكل اكتشاف يتم بالفعل لا يخرج عن أن يكون نوعًا من «الانتهاب»١٢٦ وإذا كانت ربة الحقيقة التي يصعد إليها بارمنيدز في قصيدته الكونية المشهورة تُخيِّره بين طريقين لا ثالث لهما، طريق الكشف وطريق الحجب، أو إن شئنا طريق الوجود الحق واللاوجود الباطل، فإن هذا في رأي هيدجر تعبيرٌ عن رؤية قديمة قدم الفلسفة نفسها، ولا بد أن نفسِّرها بأن الإنسان يكون دائمًا في الحقيقة واللاحقيقة على السواء.

نخلص من كل ما تقدم إلى نتيجتين: أولاهما أن الحقيقة الأصيلة تقوم على انفتاح الموجود الإنساني، وهي لا تقوم على تفتُّحه على ذاته فحسب، بل كذلك على تكشُّف الموجود في عالمه، وثانيتهما أن الموجودَ الإنسانيَّ يوجد أصلًا في الحقيقة واللاحقيقة على السواء.

يمكننا الآن — على ضوء ما ذكرناه من تميُّز الموجود الإنساني بفهم الوجود — أن نقول إن فهم الوجود نفسه مستحيلٌ بغير الانفتاح، وإن الموجود الإنساني لا يفهم نفسه وعالمه إلا لأنه يوجد أو يتواجد دائمًا في هذا الانفتاح، وهذا هو الذي يميِّزه تمييزًا واضحًا عن سائر الموجودات التي يستخدمها وتكون في متناول يده، كما يميزه عن الموجودات التي تكون حاضرة أمامه، وتختلف عنه في أسلوب وجودها.

ولا يقف تناول هيدجر لمشكلة الحقيقة وارتباطها بانفتاح الموجود الإنساني عند الفصل الذي عرضناه عرضًا موجزًا، وإنما يعود إليها مرة أخرى في نفس الكتاب في سياق كلامه عن التفسير الزماني للهم وتصويره للموجود الإنساني بأنه «قدرة على الوجود الكلي الحقيقي»١٢٧ فالتصميم الذي تحدثنا عنه — في الفصل السابق — لا يكتسب معناه الحق إلا إذا أصبح «وجودًا متفهِّمًا من أجل الموت»، أو بعبارة أخرى إذا أصبح استباقًا للموت،١٢٨ فبالتصميم يرجع الموجود الإنساني إلى وجوده الذاتي الأصيل؛ وما دامت الحقيقة تقوم في الموجود الإنساني، وما دام الحق — أي الانفتاح أو التفتُّح الأصيل — هو أسلوب وجود الموجود الإنساني، فلا بد أن نخلص من هذا إلى أن التصميم هو الحقيقة الأصيلة للوجود، وإذا عقد الموجود الإنساني العزم على الحياة المصممة، فقد وجد نفسه في الحقيقة الأصيلة.

قلنا إن هيدجر تناول مشكلة الحقيقة لأول مرة في كتاب «الوجود والزمان»، ثم توسَّع فيها بعد ذلك في دراسات ومحاضرات مختلفة، ولقد بدأ بحثه، كما رأينا، بالنظر في المفهوم التقليدي للحقيقة، وأرجع هذا المفهوم القائم على فكرة التطابق بين العقل والشيء أو بين الشيء والعقل إلى تكوين الموجود الإنساني المتميز قبل كل شيء بالقدرة على الكشف والانفتاح على نفسه وعلى العالم، والقول بأن الموجود الإنساني «يكون في الحقيقة» لا يعني أن هناك حقائق تغرسها فيه قوى خارجية عنه، بل معناه أنه وجود-في-العالم منفتح بصورة دائمة على عالمه وكل ما يتصل به، ولا شك أن هذا الفهم الجديد للإنسان قد تجلى في فهم جديد مثله للحقيقة، وإذا كان هيدجر قد عزز رؤيته الجديدة بالتفسير الذي قدَّمه لبعض نصوص المفكرين اليونان المبكرين (أنكسمندر وهيراقليطس وبارمنيدز) إلى جانب تأويلاته لبعض نصوص أفلاطون وأرسططاليس، فلم يكن هذا مسألة عرضية، ولم يكن لونًا من ألوان التأريخ الفلسفي، أو ضربًا من ضروبِ الحذلقة اللغوية، لقد كان من الطبيعي أن يدخل في حوار مع أولئك الذين أسَّسوا الميتافيزيقا وأرسَوْا مناهج التفلسف وصاغوا مشكلاتِه التي لم تزل ملزمة للأجيال، وكان من الطبيعي أن يجد لديهم الأفكار التي كانت بمثابة العلامات على الطريق، ولا يملك أحد أن يغفلها أو يتنصل من واجب التفكير فيها.

وأخيرًا فقد كان البحث في وجود الإنسان في «الوجود والزمان» مجرد تمهيدٍ للسؤال الأساسي الذي لم يكف هيدجر عن إلقائه والتنبيه إليه، وهو السؤال عن معنى الوجود، ولهذا كان من الطبيعي أن يتناولَ مشكلةَ الحقيقة في نفس الكتاب بصورة مؤقتة، وأن يرجع إلى هذا الشطر الثاني من نواة تفكيره في بحوثه التالية، ولقد فعل هذا بوجهٍ خاصٍّ في رسالته عن «ماهية الحقيقة» التي يتعيَّن علينا الآن أن ننظر فيها لنرى ما أضافه إليها من جديد.

(٤-١) ماهية الحقيقة

كانت «ماهية الحقيقة» محاضرة ألقاها هيدجر في خريف وشتاء سنة ١٩٣٠م في مدن ألمانية مختلفة، ثم أعاد النظر فيها وأضاف إليها الملحوظة الختامية قبل نشرها سنة ١٩٤٣م، وإذا تذكرنا أن كتابه الأساسي «الوجود والزمان» قد ظهر سنة ١٩٢٧م، وأن محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا?» قد صدرت سنة ١٩٢٩م، أمكننا القول بأن «ماهية الحقيقة» هي أول عمل فلسفي بالمعنى الكامل يظهر بعدهما، ولعلنا لا نتورَّط في المبالغة إذا قلنا إنها من أهم أعماله الفلسفية.

والرسالة — كما سترى بنفسك! — من أصعب نصوص هذا الفيلسوف الذي يُتَّهَم دائمًا بالغموض والتعقيد والإسراف في نحت كلمات واشتقاقات غريبة على لغته نفسها! ولا شك أن الترجمة — بكل ضروراتها ومخاطرها — قد تزيدها غموضًا على غموض، وقد لا تنجح في تذليل وُعُورة النص الذي يتَّسم بالكثافة والدقة والتركيز والإحكام، أضف إلى هذا أن الرسالة نفسها تمثل آخر مرحلة وصل إليها تصور الحقيقة عند الفيلسوف؛ ولهذا لم أجد بأسًا من المقارنة بينه وبين تصوره السابق في «الوجود والزمان» أو تصوره اللاحق في رسالته عن «النزعة الإنسانية» وغيرها من دراساته ومحاضراته.

كان هيدجر في «الوجود والزمان»١٢٩ قد عرض التصوُّر التقليدي للحقيقة، وهو الذي يذهب إلى أن مكان الحقيقة هو الحكم، وأن ماهيتها هي التطابق بين هذا الحكم والشيء، ولكنه أكد — كما رأينا — أن هاتين القضيتين لا تمثلان الوضع الميتافيزيقي النهائي للمشكلة على نحو ما عرضها كبار الفلسفة الكلاسيكيين صراحةً أو ضمنًا في أعمالهم، كما أخذ يلحُّ منذ ذلك الحين على أن المشكلة ما تزال في حاجة إلى المزيد من الشرح والتوضيح، وهي مهمة أخذ بها نفسه في الرسالة التي تجدها الآن بين يديك.

كان «الوجود والزمان» قد مَهَّدَ الطريق وبيَّن معالمه، ولكنه وقف عند مرحلة معينة حددتها خطة الكتاب وبنيته، ووصل إلى نتائج تُعَدُّ من منظور هذه الرسالة نتائج مرحلية، حتى لَيمكن القول إن الفيلسوف نفسه قد تجاوزها وردَّ بعضها أو تراجع عنه.

ويتفق «الوجود والزمان» و«ماهية الحقيقة» في أن تطابُقَ الحكم والموضوع أو تطابُق الموضوع والحكم لا يعبِّر إلا عن وجهٍ واحدٍ من وجوه المشكلة، فالقضية أو العبارة التي تحكم على قطعة نقدية بأنها مستديرة ليست هي نفسها شيئًا مستديرًا، ولا هي من المعدن الذي صُنعت منه القطعة النقدية، وليس الهدف منها (أي من العبارة) أن تصبح هي الشيء الذي تعبر عنه، بل أن تكشف عن الحالة التي يكون عليها هذا الشيء، أي أن العلاقة المميزة للحقيقة (أو الصدق) — وهي علاقة التطابق أو التوافق — علاقة من هذا النوع، كما — هي — عليه.

ولكن كيف يصبح هذا النوع من التطابق ممكنًا من الناحية الأنطولوجية؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بالبحث في بناء الموجود الذي يُصدر الحكم، والموجود الذي ينصب عليه هذا الحكم، وهذا يدل على أن هيدجر يدين كل تصور يُرجع الحكم إلى مضمون «كامن» (أو مباطن ومحايث) في الذات التي تحكم، أي يدين كل تصور يرده إلى التمثل الذاتي،١٣٠ وقد احتفظت رسالته عن ماهية الحقيقة بهذا المصطلح الأخير، ولكنها حافظت كذلك على معناه الاشتقاقي المباشر الذي يُفيد المعرفة عن طريق «استحضار» الشيء المعروف أمام العارف أو إظهاره أمامه (وهو نفس المعنى الذي تنطوي عليه كلمة التمثل في العربية) ومعنى هذا مرة أخرى أن كلمة التمثُّل تستبعد فكرة التصور الذاتي التي نفهمها منها عادةً، كما تستبعد فكرة البناء أو «التشكيل» الذي تقوم به الذات في فعل المعرفة كما يفهمه كانط وأتباعه من الكانطيين الجدد؛ ولهذا نرجو أن يلاحظ القارئ أن التمثُّل ليس له أي معنى نفسي، ولا يشير إلى أي فعل محدد من أفعال الوعي والشعور، وإنما يُقصَد به استحضار الشيء والدخول في مجاله والانفتاح على ظهوره وتكشُّفه قبل إصدار أي حكم عليه.

ونعود الآن إلى السؤال الذي طرحناه: كيف تقوم هذه العلاقة؟ ما الذي يسمح بالتطابق بين الحكم والموجود الذي ينصب عليه هذا الحكم؟

إن إمكانية التطابق — كما يؤكد هيدجر في «الوجود والزمان» و«ماهية الحقيقة» على السواء — تتطلب قبل كل شيء أن يتكشَّف الموجود الذي أصدر عليه حكمي على النحو الذي يكون عليه، وأن تكون لديَّ القدرة على الكشف عنه في حالته هذه،١٣١ بهذا يقوم الحكم على الاتجاه أو «المسلك» الذي يهدف إلى الكشف عن الموجود، أو إلى «تركه-يوجد» كما تعبِّر الرسالة التي بين أيدينا، هذا الاختلاف في المصطلح يستحق مِنَّا وقفة قصيرة؛ فقد كانت مهمة «الوجود والزمان» — كما بَيَّنَّا فيما سبق — هي التمهيد للسؤال عن «معنى الوجود»، وإن كان الكتاب قد اقتصر أو كاد على تحليل الموجود الإنساني (أو الدازاين) ولم ينظر إلى غيره من الموجودات إلا من خلال هذا التحليل، وقد حاول هذا التحليل أيضًا أن يثبت أن الإنسان يحيا على حالين أساسيين، أحدهما يميل به عادةً إلى وضعه في موقف الوهم والزيف وعدم الأصالة بالقياس إلى نفسه، كما ينزع به بطريق غير مباشر إلى نفس الموقف بالقياس إلى الأشياء، ذلك أن أسلوب انفتاح الموجود الإنساني هو الذي يحدد مدى ما يقدر على استحضاره وتمثله، كما يقرر أسلوب هذا الاستحضار والتمثل.

وهذا هو الذي عبرت عنه كذلك ماهية الحقيقة في صراحة ووضوح، فإذا تكلمنا عن معرفة الموجود على ضوء اتجاه أو مسلك يتسم عادةً بالتنكُّر والزيف والوهم، تحتَّم علينا أن نبيِّن خصائص المعرفة الحقة التي تستحضر الموجود على ما هو عليه أو بالأحرى تحاول أن تكشف عنه.

تجاوزت رسالة هيدجر عن «ماهية الحقيقة» هذا التحليل الوجودي أو الأساسي، واتجهت مباشرةً إلى تناول علاقة الموجود المعروف أو القابل للمعرفة بالبناء الأصلي للموجود الإنساني، هذه العلاقة الأصلية التي تربط الإنسان بالأشياء هي الموضوع الأساسي الذي تدور عليه «ماهية الحقيقة»، وهي في صميمها علاقة متعالية، تقوم على البنية التي يتميز بها الإنسان من حيث هو كائن متعالٍ أو «متخارج» أو «متواجد» خارج نفسه مع الأشياء، فالأصل أن الإنسان موجود «بالقرب» من الأشياء؛ لأنه في الأصل موجود «متخارج» أو «متواجد»، أي موجود على الدوام «خارج» نفسه، على نحو ما يفسِّر هيدجر كلمة الوجود المألوفة في اللغات الأوربية الحديثة،١٣٢ ولعلنا لا نجاوز الصواب إذا قلنا مع المترجمين الفرنسيين لماهية الحقيقة١٣٣ إن فكرة «التخارج» أو التواجد قد حلَّت الآن محل فكرة «الوجود-في-العالم» التي عرفناها في «الوجود والزمان»؛ وقد يرجع هذا إلى أن الفكرة الأولى تؤكِّد معنى العلو أو التعالي بأكثر مما تفعل الثانية، صحيح أن هذه الفكرة الأخيرة قد بيَّنت بوضوح أن وجود الإنسان-في-العالم لا يعني أنه موجود كسائر الموجودات — كأن يوجد مثلًا «بجانب» البيوت والأشجار والبجع! — بل الأحرى أن يُقال إنه «يحتوي» هذه الموجودات أو يضمها في بناء له طابع الإحالة؛ لأنه يكون دائمًا خارج نفسه وبالقرب منها، ولأنه بطبيعته «متخارج» أو «متواجد»، ولكن المهم بعد كل شيء أن «ماهية الحقيقة» قد جاءت لتؤكد أن الوجود-في-العالم أو التخارج هو العامل الأساسي المكون للحقيقة؛ ولهذا التأكيد معنى مختلف عن معناه في «الوجود والزمان»، فهو يدل على أن الإنسان من الناحية الشكلية هو مصدر الحقيقة؛ لأن بلوغ الحق يتطلَّب موجودًا قادرًا على الكشف، أي موجودًا منفتحًا غير منطوٍ على نفسه أو منغلق بين جدرانه ذاته، يملك القدرة على أن يكون ذاته وأن يكون في الوقت نفسه خارج ذاته وبالقرب من سائر الموجودات، هذا الطابع الأنطولوجي المزدوج للحقيقة يقتضي موجودًا متخارجًا، ولا ينبغي أن نفهم من هذا أن الإنسان هو الذي «يخلق الحقيقة» أو «يصنع مضمون الأحكام الحقة التي يتصورها»، وهنا نصل إلى ملمح جديد يدل على تطور مفهوم الحقيقة في العملين الفلسفيين اللذين نُشير إليهما، فقد ألحَّ «الوجود والزمان» على أن خلق الحقيقة هو بمثابة إيجاد معنى لمشروعات «الموجود الإنساني»، فهذه المشروعات التي يستبق بها نفسه هي التي تتيح له انتشال الموجود من العدم والعماء الأصلي، لكن «ماهية الحقيقة» لا تبلغ هذا الحد من الغلو، فهي تنظر إلى الموجود في ذاته وتعترف بدلالته في ذاته، وفكرة الوجود (أو لنقُل فكرة التخارج والتواجد) التي كانت تدل على الخاصية التي تجعل الموجود الإنساني يستبق نفسه في سعي متصل لتحقيق إمكاناته وتفسير الأشياء في عين الوقت، قد أصبحت الآن تدلُّ على خاصية أخرى تختلف عن سابقتها اختلافًا شكليًّا على الأقل، وتجعل الموجود الإنساني دائمًا بالقرب من الأشياء، كما تجعل للأشياء دلالةً في ذاتها، صحيح أن الوجود والفهم لا يزال لهما نفس المعنى، ولكن الكلمة التي تؤكِّد المعنى المشترك لم تعد هي «الاستباق» أو إلقاء الموجود الإنساني بنفسه في مشروعاته، بل أصبحت هي الانفتاح على الموجود بوجهٍ عام.
وهنا نستدرك فنقول أن فكرة «المشروع» التي اختفت حروفها من النص الذي سأقدِّمه لك، لم تَغِب روحها عنه تمامًا، فهي الآن منطوية في فكرة الخضوع للموجود أو تركه يوجد ويكون، وهي كذلك متضمنة في القول بأن الإنسان لا يبلغ من الحقائق إلا ما ينفتح عليه عن طريق «مسلكه»، ويبقى بعد كل شيء أن هذا النص يبرِّر الرأي الذي ذهب إليه الفيلسوف في كتابه الأكبر١٣٤ من أن الموجود الإنساني هو الذي يكون الحقيقة بفعله الكاشف — ولا ريب أن العبارة الأخيرة ظلَّت مطويةً في ضباب الغموض حتى جلَتْها «ماهية الحقيقة» ورفعت عنها النقاب.

قِس على هذا قضية أخرى أشار إليها «الوجود والزمان» ثم جاءت «ماهية الحقيقة» فأضفت عليها معنى مختلفًا، ونقصد بها القضية التي تحدد حقيقة وجودنا بالقدرة على جعل الحقيقة ممكنة، فالكشف عن الموجود على ما هو عليه وفي كليته — وعلى هذا الكشف وحده تقوم كل حقيقة أساسية — يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالمسلك الذي يسميه هيدجر «ترك-الموجود-يوجد».

هذا المسلك وحده هو الذي يقينا السقوط والتورط في اتخاذ الموجود الجزئي مقياسًا لكل وجود، وهو أمر نتعرَّض له على الدوام في حياتنا اليومية وتصرُّفاتنا العملية، ولهذا فلن يتسنَّى لنا الكشف عن الموجود في كُلِّيته ولا القرب من حالته التي هو عليها إلا بقدر ما نبتعد بأنفسنا عن الموجود الجزئي ونحميها من الانغماس فيه.

كان نيتشه يتمنى أن يتحقَّق الحلم القديم الذي تعبِّر عنه هذه الكلمة القديمة: «كن أنت نفسك»١٣٥ — وها هو ذا هيدجر يواصل السعي إلى تحقيق الذات الأصلية بغية تحقيق الوجود الأصيل، وليست القدرة على إقامة الحقيقة — أي على الوجود خارج الذات وبالقرب من الموجود على ما هو عليه وفي كليته — سوى تأكيدٍ لحقيقة وجودنا الخاص الذي حدَّده من قبل تحديدًا دقيقًا ووصفه بأنه تواجد أو تخارج، هكذا استطاع الفيلسوف أن يقرِّر — دون لَبْس أو غموض — أن الحقيقة موجودةٌ لأنني أوجد الوجود الحق أو لأني أكون أنا نفسي.

•••

يحسن بنا قبل الحديث عن مضمون الرسالة أن نُلقيَ بعض الضوء على كلمة «الوجود» التي يوشك هيدجر أن يكرِّرها في كل سطر يكتبه! إن اللغات الأجنبية تورد الحرف الأوَّل منها مكبرًا، وهو أمر يأباه الرسم العربي، ولا بد لنا على كل حال من التمييز بين الوجود والموجودات، فكل ما يوجد أو يكون، كل موجود أو كائن له وجود، بهذا المعنى نتحدث عن وجود الإنسان والحيوان والمعدن والنبات، إنها جميعًا موجودة أو كائنة، كلها موجودات، والذي يجعلها موجودات ليس هو نفسه موجودًا، وإنما هو «الوجود»، أي أن الوجود هو الذي يسمح لجميع الموجودات أن توجد ويكون لها وجود هو وجودها، هذا الوجود هو الوجود الأوَّل، الأصيل، أو إن شئت فهو الوجود العام أو الوجود بإطلاق،١٣٦ كما يؤثر هيدجر أن يعبر عنه، وبغير هذا الوجود لن يتسنَّى لنا أن نجرب أي موجود.
ربما تصورنا من هذا الكلام أننا نحيا في أفقه ومجاله كلما التقينا بالموجودات، غير أن الأمر الغريب حقًّا هو أننا ننغمس عادةً في بحر الموجودات ونتشتت بينها، بحيث يندر أن يكون الوجود ماثلًا في منظور رؤيتنا حين نرى الموجودات أو نتصل بها في حياتنا اليومية، تؤكد هذا عبارة هيدجر التي يقول فيها إن الإنسان ليتشتت في الموجود بحيث يستغرق فيه ويفقد نفسه، وهو لذلك لا ينتبه إلى الوجود أدنى انتباه،١٣٧ إن الإنسان يتصور أن الموجود هو الذي يؤدي إلى الوجود، ويُضيف هيدجر إلى هذا قوله: «إنه لا يهتم بالموجود الذي يصل إليه إلا من جهة تحديداته أو تعيناته لا من جهة أنه «يوجد» أو «يكون»، وهو يكتفي بالنظر إليه من حيث هو شيء يكتفي بتنظيمه وترتيبه ووضعه في شبكة من العلاقات، الإنسان الغارق في حياته اليومية لا يكترث بوجود الأشياء، ولا يعنيه أن تكون مؤسسة على «الوجود»، إن كل همه واهتمامه موجه إلى الموجود، أمَّا الوجود نفسه فهو غريب عنه، إنه الزمن السيئ، والزمن السيئ يكفينا، أمَّا «وجود» أو «كينونة» هذا الزمن فلا وزن لها عندنا، ذلك هو الاسم الذي نخلعه على الوجود، ونتصوَّر أنه يجعل كل موجود «يوجد» بحيث يختلط — بتسميته نفسها — مع التحديدات والتعينات التي تقوم عليها العلاقات المتبادلة في نشاطنا العادي، بَيْدَ أن كل سلوك بشري يعمل على اندلاع شرارة هذه النقيضة التي تقوم على معرفة الإنسان للموجود ونسيانه للوجود، إنه يتقدم بخطًى حثيثة نحو الموجود، ولكنه لا يبلغ من نفسه أن يركز على الوجود ذاته.» لا ريب في أن هذه العبارات — التي لا يفتأ هيدجر يكررها بصورة مختلفة في كتاباته المتأخرة — لا يمكن أن تُفهَم إلا في سياقها العام، ولكنها قد تنجح على كل حال في الوفاء بالغرض الذي نقصده منها، وهو إلقاء شيء من النور على معنى كلمة «الوجود» التي نخشى أن تلتفَّ حولها الظلماتُ من كل ناحية.

•••

لعل من المفيد أيضًا قبل الدخول في «متاهة» الرسالة نفسها أن نلقي بعض الضوء — والضوء أو النور أو الإنارة هي كلمة هيدجر الأخيرة فيما يبدو! — على كلمات تتكرر كثيرًا على صفحاتها وتكاد تُوحي بقرب هيدجر من «ملكوت» التصوف والإشراق والروحانية، وإن كان هو نفسُه يصرُّ على رفض هذا الظن كل الإصرار، فهل يسمح تكرار كلمات الكشف والانكشاف في هذه الرسالة أن نلجأ إلى الاستعارة الديكارتية القديمة عن «النور الفطري» التي وردت لأول مرة عند شيشرون في كتابه عن العقل البشري، ثم أضاف إليها أوغسطين وبونافنتورا وأصحاب الإشراق في القرنين السابع عشر والثامن عشر النورَ العلوي ليكون شرطًا للمعرفة الحقة؟ ربما جاز لنا القول بأن «الموجود الإنساني» قد أصبح عند هيدجر نوعًا من النور الفطري أو الطبيعي، وليس معنى هذا أن الإنسان هو الذي يخلق المعنى ويوجد الحقيقة، بل معناه أنه يقوم بدور الكشف (بالمعنى الذي فهمه أصحاب الكيمياء من هذه الكلمة!) لأنه هو الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على التواجد، وبهذا يُضفي على نفسه المعنى الكامن في كل الموجودات.

قلنا إن الانصراف إلى الموجود الجزئي في غمرة الحياة العملية يحمل معه نذير السقوط والزيف، ومع ذلك فيجب ألا ننسى أن هناك علاقة جدلية قائمة بين معنى الوجود الجزئي ومعنى الوجود في كليته، وإذا كانت حياتنا اليومية والعملية واقعةً تحت رحمة الموجودات الجزئية، عاطلةً من القدرة على الكشف بمعناه الصحيح، فهي مع ذلك تظل محتفظة بعلاقة ضمنية تصلها بالوجود في مجموعه، ولعل من أعجب سمات الوجود الساقط في الزيف والضلال أنه يسعى بكل جهده لنسيان هذه العلاقة أو تناسيها، ويدع الموجودات الجزئية تتحكم فيه وتسيطر عليه بحيث يتوه بينها ويضيع، والغريب حقًّا أنه ينجح في محو هذه العلاقة الأصيلة أو نسيانها تمام النسيان! والأغرب من هذا أن الموجود الجزئي نفسه يقتص منه فيخفي عنه معناه الحق؛ لأن هذا المعنى لا يمكن أن ينكشف للإنسان الغارق في دوامة الحياة اليومية وضروب النشاط العملية حتى ينظر إلى علاقته الجدلية بالموجود في كليته نظرة الاعتبار، ولعل هذا أن يؤكد لنا أن الأصالة — أي «ترك-الموجود-يوجد» في كليته وعلى حاله التي يكون عليها — هي الشرط الذي لا غِنى عنه للتكشُّف والانكشاف.

كل ما قلناه الآن يفرض علينا أن ننظر إلى مشكلة اللاحقيقة نظرة أصيلة، فالرأي التقليدي الشائع عن اللاحقيقة يتصورها على معنى الخطأ وعدم الصواب، أي ينظر إليها كأنها على الوجه العكسي الآخر من التطابق والاتفاق بين العقل والشيء أو بين الشيء والعقل، غير أن اللاحقيقة بمعناها الأصيل تختلف عن هذا كل الاختلاف، إنها الوجه الجدلي المقابل للحقيقة، وترتبط بالحقيقة الأصلية أو الأساسية في وحدة ماهوية أصيلة، فإذا صحَّ ما قلناه من أن الحقيقة لا تكون إلا في وجود الموجود، وإذا كُنَّا لا نصل إلى وجود الموجود إلا من خلال التقابل الجدلي بين الموجود الجزئي والموجود الكلي، فإن من الصحيح أيضًا أن يكون تكشف أحدهما ملازمًا لتحجب الآخر، أي ملازمًا للاحقيقة، غير أن هذه اللاحقيقة المبدئية المحتومة يمكن أن تنقلب بدورها إلى صورة من الصور العابرة للاحقيقة (والخطأ بمعناه الشائع في أسلوب المعرفة هو إحدى هذه الصور)، ويتم هذا التشوه أو هذا الانقلاب نحو اللاحقيقة عندما يتراخى التوتر الجدلي الذي أشرنا إليه، وينغمس الموجود الإنساني انغماسًا تامًّا في أحد طرفي التوتر الذي أشرنا إليه وينسى الطرف الآخر كل النسيان، والواقع أن هيدجر لا يعنى في هذه الرسالة إلا بوجه واحد من وجوه هذا النسيان، وهو الوقوف عند الموجودات الجزئية والانصراف إليها، ويرى في ذلك خطرًا كبيرًا يهدِّد الحضارة الغربية، وقد كان حريًّا به أن يلتفت إلى خطر آخر لعله لا يهدِّد هذه الحضارة بنفس الصورة الملحة لأنه لا يزال بعيدًا عن القلوب والأذهان؛ ألا وهو خطر الهروب الكامل من الموجود الجزئي إلى ضباب «الكلية» والتعميم والخيال والصوفية السلبية، والأحلام الرومانسية التي تكون فيها كل الأبقار سوداء (على حد تعبير هيجل!) وهو خطر طالما تعرضنا له في الشرق وطالما خلعنا عليه أسماء رنانة كالزهد والمثالية والتفاني في سبيل المبادئ الخالدة! ولعل الفيلسوف الفرنسي المعاصر إيمانويل ليفيناس قد تنبَّه أيضًا إلى هذا الخطر فوجَّه فلسفته كلها من الوجود إلى الموجود (كما يقول عنوان أحد كتبه وكما يتكشَّف له في الوجه الإنساني) فقلب البناء الهيدجري كله على رأسه! مهما يكن من شيء فإن مشكلة-اللاحقيقة، شأنها في هذا شأن مشكلة الحقيقة التي لا تنفصم عنها، قد تطورت في هذه المرحلة من تفكير هيدجر بعد مرحلة «الوجود والزمان»، ولا عجب في هذا بطبيعة الحال، فقد اتَّسع نطاق الإشكال الذي يؤرِّقه منذ ذلك الحين واشتدت محنته وبعدت أعماقه.

•••

يعرف قارئ هيدجر أن كتاباتِه ورسائلَه ومحاضراتِه تتميَّز بالبناءِ الشكلي المحكم، كما يعرف أيضًا أن الإلمام بهذا البناء أمرٌ لا غِنى عنه لفهم مضمون النص والنفاذ إلى أغواره، وتلمس الطريق الذي يهديه في متاهاته ويصل به إلى لحنه الأساسي الذي تشبه جميع الأنغام أن تكون تنويعات عليه، وهنا تطلُّ علينا مشكلة الدور المشهور الذي يأخذه عليه الشارحون، أضِف إلى هذا أنه كثيرًا ما يلجأ إلى ما يسميه المناطقة بالمصادرة على المطلوب؛ إذ يفترض صحة النتيجة في بداية البحث ثم يحاول ما وسعه الجهد إثباتها والبرهنة عليها! ولهذا نجد من يسارع باتهامه بالمغالطة أو التحايل على الكلمات أو التعسف في الاشتقاقات أو لوي أعناق النصوص أو الغموض والإرباك المتعمد، ولعل خير السبل لإنصاف الرجل والبعد عن مزالق الاتهام هو محاولة فهمه «من الداخل»، وهذه ضرورة يفرضها أسلوبه في الكتابة والتفكير واستخدام المصطلحات، فكلمات كالحرية أو الوجود أو الحقيقة تكتسي على يديه ثوبًا مختلفًا عن ثوبها الذي تعودنا عليه أو تعلمناه من التراث، ولو أصررنا على قراءتها بمنظار معانيها التقليدية، لَكانت النتيجة الوحيدة هي الوقوف على بابه وقفة الشحاذ أمام قصر الأمير أو الريفي في محطة المدينة أو الكافر على باب الجنة! ولا بد لنا للنجاة من هذا المصير من السير خطوةً خطوة في داخل المتاهة، وتلمُّس الخيط الهادي الذي أنقذ ثيسيوس من فم الوحش الخرافي «القنطور»، وعرض أفكاره وتأمُّلاته ومراحل استدلاله في صبر وأناة.

نودُّ قبل كل شيء أن نُشير إلى الروح السقراطية التي تتغلغل في ثنايا هذه الرسالة وتبثُّ الحياة والحركة الجدلية في بنيتها، وتشدُّ حلقاتها وتتجاوزها في آن واحد، ولعل السباحة في تيار هذا الجدل الحي أن تكون أهم من الوقوف عند نتائجه؛ لأن النتائج لا تكتسب معناها الحق إلا من أنفاس التطور الذي يحركها وينفخ فيها شعلة الحياة، والأمر يعتمد بعد كل شيءٍ على الدخول في دائرة هذا الفكر والتحرُّك في مجاله والحوار مع إشكالاته والمشاركة في محنةِ السؤال ولو كلفنا العمر كله! ولا بد في النهاية من أن نَثِب الوثبة التي تحتمها علينا مخاطرة اللقاء مع كل فكر جاد!

والواقع أن التمهيد الذي وضعه هيدجر لهذه الرسالة يدور حول الإعداد لهذه الوثبة، فهو يؤكد منذ البداية أن السؤال ينصب على ماهية الحقيقة لا على «الحقائق» المألوفة، عملية كانت أو اقتصادية أو سياسية أو علمية أو دينية أو فنية، وهو يدعونا للخروج من دائرة التفكير اليومي الساذج، والنظر إلى مشكلة الحقيقة نظرةً جديدةً مختلفةً كل الاختلاف عما تعودت عليه عيون «الحس السليم» (الفهم العام أو الذوق الفطري)، هذه مسألة أساسية لا يفتأ ينبهنا إليها منذ البداية، بل إننا لا نكاد ننتهي من قراءة هذا التمهيد حتى نشعر أن هذا الحس السليم، أو ما شئت له من أسماء، هو أعدى أعداء الروح الفلسفي، إنه ضيق الأفق، معصوب العينين، عاجز عن العلو إلى الأسئلة الأخيرة أو الغوص في أعماقها، مطمئن إلى القريب المحسوس الذي يلمسه أو يقبض عليه بكلتا يديه، وهو إلى هذا كله عنيد مكابر، متشبث بحصنه الحصين في داخلنا، ومن أصعب الأمور أن نطرد شيطانه المقيم في نفوسنا مهما تذرعنا بالرقي والتمائم ونثرنا البخور والأدعية لإخراجه من قمقمه!

صحيح أن الحس السليم كامنٌ فينا جميعًا، وأننا لا نستغني عن الرجوع إليه في شئوننا العملية واليومية، وصحيح أيضًا أن له فلسفتَه التي يستند إليها، وإن تكن هذه الفلسفة قد تجمَّدت مع الزمن وانطفأت فيها شرارة الاندهاش، بل إن هناك فلسفاتٍ مشهورةً تقوم عليه منذ القدم، ابتداءً من السفسطائية والتجريبية حتى فلسفة مور التحليلية وغيرها من الفلسفات الوضعية، وليس من الصواب أن نهون من شأن هذه الفلسفات أو نتعالى عليها، فقصة الصراع بين الفلسفة والحس السليم مستمرة منذ عهد أفلاطون حتى عهد هيجل ونيتشه، ولكن المشكلة أن التفلسف الحق لا يبدأ أولى خطواته حتى يكافح هذا الحس السليم الرابض في أنفسنا ويتغلَّب على النزوع الطبيعي — أو الموقف الطبيعي بتعبير هسرل — الذي يسلم بالوجود ببساطة ويهرب من مشقة البحث في الماهيات والعودة للبدايات، ويضيق بالسؤال ويتجنب الإشكال، ويصرُّ دائمًا على أن كل شيءٍ واضحٌ مفهومٌ وعلى ما يُرام!

هكذا يبدأ هيدجر رسالته باستبعاد «الحقائق» المألوفة التي لا تتصل بماهية الحقيقة، وبيان العقبات التي تحول دون التفكير في مشكلتها تفكيرًا جديرًا بالنظر الفلسفي، وهي عقبات يضعها «تفكير» الحس السليم أو الفهم العام الذي يتحتم علينا أن نبدأ بقهره والعلو عليه إلى مستوى فكري آخر لا ينفر من البحث في الماهية ولا يفزع منه! وتحديد الماهية أمرٌ عسيرٌ محفوفٌ بالصعاب، فليست الماهية بالطبيعة الماثلة على الدوام في أفق تفكيرنا ومعرفتنا، وإنما هي الطبيعة الخافية التي لا تُكتشف بغير الجهد الجهيد، يبذله فكر اختار أن يرتفع فوق يقين الحس السليم وبداهة الحياة العملية، هكذا يدفع هيدجر الإشكال ويحرِّك السؤال، إنه يثير الاعتراضات الممكنة من جانب «الفكر» اليومي على جدوى البحث عن الماهية، فهذا «الفكر» الذي يزعم أنه يصدر عن حس سليم (لم يقصر هيدجر في الاعتراف به وبيان ضرورته ولا قصر في اتهامه بالعمى والصمم!) يدَّعي أن الأمور التي يغفلها السؤال عن الماهية هي بعينها الأمور الواقعية التي يجب أن تبقى بمنجاة من الشك، أي هي الأمور التي تتصل بحقيقةِ الحسِّ السليم نفسه! والحس السليم «يؤكد حقَّه بالسلاح الوحيد الذي يملكه، وهو الإهابة ببداهةِ دعاويه واعتراضاتِه»، ولا جدوى من دخول الفلسفة في جدال معه؛ لأن كل جدال يفترض أساسًا مشتركًا بين الطرفين، وهذا الأساس لا وجود له على الإطلاق، كما أن البحث في حقيقة الحس السليم نفسه يستلزم النظر في ماهية الحقيقة من حيث هي كذلك، أي الحقيقة التي ينبثق عنها كل ما يحمل صفة الحق أو يدعيه لنفسه، فالحس السليم مُدان في كل الأحوال.

ولكن هل نحن أبرياء من هذا الوزر الذي يتحمَّله الحس السليم؟ ألسنا نحن أيضًا على مستواه؟ إن الفيلسوف يتجه إلينا بالسؤال حتى نصبح نحن السائل والمسئول، ولن يتسنى لنا أن ننصت لصوته أو ننتبه لتحذيرِه حتى ننتشل أنفسنا من براثن الحس السليم، ونُدير ظهورنا لجنته الزائفة، ولن نبلغ هذا حتى نشعر بالمحنة، حتى نعرف أنا نحن الممتحنون.

•••

بعد التمهيد للسؤال وإيقاظ شعلة الإشكال يبدأ الفصل الأوَّل بالحديث عن التصوُّر الشائع عن الحقيقة، هذا التصور الشائع — كما يُفهَم من اسمه — يعلن عن نفسه بنفسه كأنه أمر بدهي، ولكن جذوره ممتدة في أرض التراث الفلسفي منذ العصر الوسيط الذي يمتد بدوره إلى بعض العبارات المأثورة عن أرسطو، ورجعة هيدجر إلى التراث لا تعني أنه سيتناول المشكلة تناولًا تاريخيًّا، فما كان في يوم من الأيام مؤرخًا للفلسفة بالمعنى المألوف من هذه الكلمة، إنه يلتمس من التاريخ والتراث «شهادة»، ويستمد منهما دليلًا على معنى الحقيقة المتأصل في نفوسنا جميعًا.

ما هو تحديد الفكر الشائع بين الناس لمعنى الحق؟ إنه التوافق والصحة، وهو التطابق والصواب، علامَ يقوم هذا التحديد؟ يقوم على تحديدٍ أسبق منه تكون عند المدرسيين في العصر لوسيط، ليس الأمر وليد الصدفة، ولا هو شيء نقصد به الموازنة التاريخية، فالواقع أن هذا التصور الشائع لم يكن تصوُّرًا متعسِّفًا منبت الجذور عن الماضي، إنه نتيجة تمخضت عن تفسير قديم لوجود الموجود، وإذا كان هذا التفسير قد نسي أو أصابه الوهن وسوء الفهم، فإنه لم يفقد مع ذلك أثره القوي على تفكيرنا وحياتنا اليومية، نحن جميعًا — عن قصد أو غير قصد — نفهم الحقيقة بمعنى التطابق، ولكننا ننسى أصله اللاهوتي في تفكير العصر الوسيط، وقد ننسى كذلك عبارة القديس توماس الأكويني التي ختمت على هذا الفهم بخاتمها المعروف: «الحقيقة هي تطابق الشيء مع العقل»، وقد يرجع البعض بهذا الفهم اللاهوتي لمعنى الحقيقة إلى أرسطو، فيجعل من الحكم مكان الحقيقة، ويتصور هذه بمعنى تطابق الحكم مع الشيء الذي نحكم عليه، ولكن هل نظلم أرسطو وننسب إليه شيئًا لم يقله، أم نأخذ منه رأيًا دون رأي؟ لقد أشار هيدجر نفسه إلى هذا في «الوجود والزمان»،١٣٨ حين قال: «ليس الحكم هو الموضع» (أو المكان) الأصلي للحقيقة، وإنما الحكم — بوصفه أسلوب امتلاك لما يكتشف ونحوًا من أنحاء الوجود-في-العالم — هو الذي يقوم على فعل الكشف، أي على الانفتاح الكاشف للموجود-الإنساني، وهيدجر يعزز هذا المعنى فيشير إلى أهمية كتاب الثيتا (الكتاب العاشر)١٣٩ من الميتافيزيقا لأرسطو، وهو الذي يقدِّم فيه المعلم الأوَّل تصورَيْن مختلفَيْن عن الحقيقة: الحقيقة بوصفها كشفًا،١٤٠ وبوصفها تطابُقًا،١٤١ والمهم ألَّا يغيب عن بالِنا أن كلام هيدجر في هذا الفصل بضمير المتكلم الجمع لا يعبِّر عن رأيه الشخصي، وإنما يؤكد تأثير هذا التصور العام الذي ينبغي تجاوزه.

•••

بعد العرض الأوَّلي لتصوُّر الحقيقة بمعنى التطابق (أو التوافق والتكافؤ) يأتي دور الفصل الثاني لتوضيح هذا التطابق نفسه، وبيان دلالته العميقة من وراء معانيه المختلفة، ثم الإجابة على هذا السؤال البسيط الذي سيؤدي بنا إلى قلب المشكلة: كيف يُصبح هذا التطابق ممكنًا؟ والحق أن الإجابة على هذا السؤال الأساسي هي التي ستُلقي الضوءَ الغامرَ على مشكلة الحقيقة بأكملها: الحقيقة هي الانكشاف أو اللاتحجب من صميم الاحتجاب لكائن تقوم ماهيته على مسلك الانفتاح لنورها.

هل نفهم من هذا أن هيدجر يرفض مفهوم الحقيقة بمعنى التطابق أو يتحفَّظ في قبوله؟ الواقع أنه لا يرفضه، وإنما لا يرجع به إلى «أساسه» الأوَّل الذي يجعله ممكنًا، وهذا شيءٌ لمسناه وكررناه أكثر من مرة.

يرى هيدجر أن توافق الحكمِ أو تطابقَه مع الشيء هو نوع من «التكافؤ»، ولا يعني هذا أن الحكم يريد أن يجعل من نفسه شيئًا (فالعبارة أو القضية التي تحكم على القطعة النقدية بأنها مستديرة لا يمكن — كما قدمنا — أن تُصبح هي نفسها قطعة نقدية!) بل معناه أنه يتخذ بالقياس إلى الشيء علاقة من نوع خاص، هي علاقة نعبِّر عنها بقولنا: على ما هو عليه أو من حيث هو كذلك، والتمثُّل أو الاستحضار هو جوهر هذه العلاقة، والتمثُّل هو «جعل الشيء يوضع أمامنا بوصفه موضوعًا»، أو التعبير عنه بما هو كذلك وبحالته التي يظهر بها، والشرط الذي يعتمد عليه التمثُّل هو أن يوضع الكائن القائم بالتمثل في «النور» الذي يتيح للشيء أن يظهر له، هذا الشيء المتمثل يتحتم عليه أن «يقطع أو يتخلل مجالًا مفتوحًا في مواجهتنا»، فالكائن الذي يقوم بالتمثل يملك القدرة على «التخارج»، على وضع نفسه في مجال المواجهة، على «الاستحمام» في ضوء هذا المجال، وكل هذا يسميه هيدجر «بالانفتاح»، هذا الانفتاح «مسلك»؛ لأن الإنسان الذي يضع نفسه في مجال المواجهة لا بدَّ أن يواجه شيئًا سبق له الظهور من قبل، ولا بد له بصورة أو بأخرى من أن يقفَ معه موقفًا أو يسلك منه مسلكًا.

لا يخطرن ببالنا أن هذه نسخة جديدة من التصور التقليدي للحقيقة، فالفيلسوف ينتقل الآن من مفهومَي التطابق والتكافؤ المعروفين إلى مفهوم آخر جديد لا غِنى عنه لإمكان قيامهما، ألا وهو المفهوم الذي أطلق عليه اسم «الانفتاح»، بهذا يتجاوز التصور التقليدي الذي جعل الحكم مكان الحقيقة، كما يتغلَّب في نفس الوقت على الصعوبات التي واجهتنا في ختام الفصل الأوَّل.

غير أننا لم نفرغ بعدُ من كل الصعوبات! فعلينا أن نخطوَ خطوةً أبعد لنعرف ما هو الأساس الذي تقوم عليه الإمكانية الباطنة لانفتاح المسلك، أو ما الذي يجعل المسلك يتخذ الموجود معيارًا لأفعاله، صحيح أن الإنسان منفتح بطبيعته على الموجود، ولكن ليس يلزم عن هذا أنه مستعد بطبيعته للخضوع له واختياره معيارًا يهتدي به في أفكاره وأفعاله، ما السبب في هذا؟ ومن أين تتأتَّى له هذه الإمكانية الباطنة؟

•••

الفصل الثالث يتولى الإجابة على هذين السؤالين، محاولًا تفسير هذه الإمكانية وبيان الأسباب التي حدَّدت ماهية الحقيقة وقصرَتْها على توافق الحكم أو تطابقه مع الشيء، على نحو ما رأينا في التصور التقليدي الذي تقدم الحديث عنه، وهيدجر لا يرفض هذا التصور كما قدمنا، ولكنه يوضح كيف انتهى — على الرغم من قصوره البيِّن — إلى الظهور في صورة التعبير الكامل عن ماهية الحقيقة.

إن ما نسمِّيه بالتطابق أو التوافق بين الإنسان والموجود الذي يتمثَّله لا يتحقق حتى «يحرر» الإنسان ليكون أهلًا للدخول في المجال المفتوح الذي يمكن من خلاله أن يتم ظهور ما يظهر له، بَيْدَ أن الإنسان لا يمكنه أن يحرِّر نفسه إلا إذا كان حُرًّا: «إن انفتاح المسلك، وهو الذي يجعل التوافق ممكنًا من الناحية الباطنة، يقوم على أساس الحرية، إن الحرية هي ماهية الحقيقة.»

هذا أمر طبيعي لا شك فيه، ولكن ألا نبعد بهذا عن دائرة التصور المألوف عن الحرية والتحرر؟ ألا نُسيء فهم العبارة السابقة إن حاولنا أن نفهم الحرية بمعناها التقليدي من حيث هي حرية القبول أو الرفض، والسلب أو الإيجاب، والفعل أو عدم الفعل؟ ألا تختلط الأمور في أذهاننا، وتقحم الحرية في مجال الحقيقة الذي يبدو غريبًا عنها كما تبدو غريبة عنه؟ وكيف تخضع الحقيقة للتعسُّف والهوى والذاتية؟ لا بد إذًا أن نفهم الحرية فهمًا آخر يختلف عما درجنا عليه أو تعلَّمناه، وهذا هو الذي يتصدَّى له الفيلسوف في الفصل الرابع من رسالته.

•••

ما الحرية؟ سؤال ضخم، ولكنها ليست مقطوعة الصلة بماهية الإنسان، وإذا كان التصور الشائع عنها يجعلها خاصية من خصائص الإنسان، بحيث يملكها ولا تملكه، فإن علينا أن نبين الارتباط الأساسي بين الحقيقة والحرية ونبحث ماهية الإنسان بحثًا يضعنا في المجال الذي تفصح فيه الحقيقة بصورة أصيلة عن ماهيتها.

ألا نلمس هنا نوعًا من الدور المنطقي؟

ألم يكن الفيلسوف يريد أن يفسِّر ماهية الحقيقة فإذا به يقرِّر فجأة أن ماهية الحقيقة هي الحرية؟! وحين سألناه: وما الحرية؟ إذا به يفسِّرها عن طريق ماهية الحقيقة التي يزعم أنها أشدُّ منها أصالة؟

سيبقى هذا الدور قائمًا ما بقيت نظرتُنا إلى تفكير الفيلسوف نظرة تحليلية تهتم بالعزل والفصل، والقسمة والتمييز، ولو نظرنا إليه نظرةً كليةً توحد بين خطواته ومراحله لاختفى الدور الذي توحي به عبارته.

يؤكد هيدجر — بأسلوبه المعهود الذي لا يخلو من التقرير قبل الأوان! — إن ماهية الحقيقة هي الحرية، ومعنى هذا أن الانفتاح لا يقوم إلا على الحرية، ولكننا من ناحية أخرى لن نفهم معنى الحرية حتى نتجه ببصرنا إلى ماهية الإنسان بحيث نجد أنفسنا في «المجال الذي تُفصح فيه الحقيقة عن نفسها» وتحضر بنفسها حضورًا أصيلًا، بهذا يمتنع الدور لامتناع الاستدلال، فماهية الحقيقة لن تكون نتيجة برهان ولا ثمرة استنباط، وإذا كان الفيلسوف يفكِّر بطريقةٍ «لولبية» ترتب شيئًا على شيء، فإنما يفعل ذلك لكي يمهدَ «لتجربة» الحقيقة ويعدَّنا «لرؤيتها».

ما هي إذن الماهية «الأصلية» للحقيقة التي نصفها عادةً بالثبات والبقاء وتقول إن حقيقة الحكم تقوم عليها؟ لا بد من إلقاء الضوء على هذه الحقيقة لكي يتسنَّى لنا بعد ذلك أن نفهم معنى الحرية.

ليست الحقيقة في صورتها الأصيلة من صنع العقل، إنما هي ذلك الذي قصده اليونان في فجر الفكر الغربي عندما أطلقوا اسم الحقيقة على تكشُّف الموجود أو لاتحجُّبه (أليثيا)،١٤٢ على ضوء هذا المعنى الأصلي للحقيقة يمكن أن تفسِّر الحرية بأنها هي «ترك الموجود-يوجد»،١٤٣ و«هبة النفس للموجود»، بنفس المعنى الذي نقصده حين نقول عن إنسان إنه يهب نفسه للخير، الحرية إذًا هي التي تجعل الإنسان «يهب نفسه للمنفتح-وانفتاحه»، وهو لا يحقق معنى الحرية — أي لا يترك الموجود يوجد — إلا إذا «تعرض» للموجود، على نحو ما يتعرَّض لدفء الشمس أو تقلبات الطقس، والتعرض هنا يساوي القول بالوجود على نحو يكون فيه الإنسان خارج نفسه بالقرب من … أي هو التخارج أو التوجد، فإذا نظرنا إلى ماهية الحرية على ضوء ماهية الحقيقة كانت هي التعرُّض للموجود من حيث إنه بطبيعته يكشف عن نفسه أو «ينكشف»؛ ولهذا فإن الإنسان الذي يفتقد الحرية (أي الإنسان المنغلق على نفسه، العاجز عن الخروج منها والقرب من غيره، وبالتالي من ذاته) لا يملك القدرة على هذا التعرض، أي لا يوجد على الإطلاق.
بهذا التعرض — الذي يتيح للموجود نفسه أن ينكشف — يعبِّر الإنسان عن انفتاحه ويؤكد «إنيته»، وانفتاح الإنسان أو تواجده هو الذي يسمح للموجود أن يوجد على ما هو عليه وفي كليته (وهو ما فعله أول إغريقي نطق بهذا السؤال: ما الموجود؟) ولهذا فإن الحيوان لا يوجد بهذا المعنى ولا يشارك في أية كينونة أو حضور، لأنه عاجز عن «التواجد» بالمعنى المشار إليه، أمَّا الإنسان فهو وحده الذي يدعو الوجود إلى الوجود، أنى اتجه ببصره أيقظه من سباته وغمره بنوره «لأنه بطبيعته وبحكم وجوده-في-العالم هو الكائن المنار والمنير».١٤٤

هكذا يتضح ما قلناه من قبل من أن الحرية ليست شيئًا يملكه الإنسان ويتصرف فيه على هواه، وإنما هي التي تمتلكه، إنها تؤسِّس علاقتَه بالوجود، وهذه العلاقة هي التي تؤسِّس التاريخ، فالتاريخ يبدأ بالوجود (أو الحضور)، والوجود يبدأ بالموجود الذي يتخارج أو يتواجد؛ لهذا لا يعرف الحيوان شيئًا عن التاريخ ولا يمكنه أن يكون كائنًا تاريخيًّا، وما السبب؟ لأنه يفتقد العلاقة التي ذكرناها بالموجود؛ لأنه لا ينفتح عليه ولا يتعرض لانكشافه.

بهذا يصبح الحديث عن الحقيقة الأصلية بحثًا تاريخيًّا بالضرورة، بل يصبح بحثًا عن أصل التاريخ، بل عن لحظة ابتدائه، عندما تتفتح الإنسانية على حقيقة الوجود كله وتتجه إليها وتلتزم بها وتصونها وترعاها، في هذه اللحظة نفسها عرف اليونان أن الموجود هو «الفيزبس» (الكينونة المتفتحة النامية) وبها بدأ تاريخ الغرب.

بَيْدَ أن الإنسان قد لا يترك الموجود يوجد في كليته وقد لا يتمثَّله أو يلتزم بحقيقته، بل نراه «يغطيه» ويزيفه ويشوهه، عندئذٍ ينتصر «المظهر» الخداع وتسود اللاحقيقة، عندئذٍ تنشأ مشكلة اللاحقيقة، لا على المعنى الذي يُفهَم عادةً من أنها مسألة ثانوية لاحقة لمشكلة الحقيقة، كأن تكون نتيجة مترتبة على الخطأ كما يتصور الحس السليم، أو على الغفلة وعدم الانتباه إلى بساطة الحقيقة وتميُّزها، كما يتصور إسبنوزا، بل بمعنى ارتباطها الأساسي بالحقيقة، وكونها خطوةً حاسمة على الطريق المؤدي للكشف عن طبيعة الحق: «ولهذا فإن السؤال عن ماهية الحقيقة لا يصل إلى مجاله الأصلي إلا إذا استطاع كذلك — من خلال النظر المسبق في الماهية الكاملة للحقيقة — أن يضمَّ التفكير في اللاحقيقة إلى أفق تكشف الماهية»، من هذا المنظور الجديد يبدأ الفيلسوف دراسة ماهية الحقيقة في الفصل الخامس من رسالته.

•••

ليس ما يقدِّمه المؤلف هنا عن الحقيقة على ضوء اللاحقيقة مجرد تكملة لما قدمه على ضوء الحرية، فنحن نصادف الآن فكرة جديدة لم ترد من قبل، تلك هي فكرة «التأثر» التي يُضفي عليها الآن معنى جديدًا غير معناها الذي عرفناه في كتاب الوجود والزمان حين جاءت في سياق تحليله لحالات التواجد والتأثر وكون الموجود الإنساني مُلقى به في العالم (والكلمة الأصلية — كما ذكرنا — تُوحي بضبط الأوتار والتوفيق بينها لإخراج الصوت أو اللحن المرجو)، ولكن التأثر هنا لا شأن له بأحوال الحياة النفسية، وإنما يتصل بما سبق الحديث عنه في الفصل السابق عن التعرُّض للتخارج، إنه في النهاية أسلوب محدَّد من أساليب الوجود يؤثر علينا ويوجهنا ويتحكم فينا، كما يُدخلنا في عَلاقة مع الموجود في مجموعه وكليته ويحول بيننا وبين الضياع في هذا الموجود الجزئي الخاص أو ذاك، ولكن ما هو هذا الموجود في مجموعه وكليته؟

ليس هذا الموجود الشامل مجرد «حاصل جمع» لكل ما يوجد، ولا يجوز أن نخلط بينه وبين «كل» الموجودات المعروفة في الواقع وفي لحظةٍ معينة من لحظات التجربة اليومية أو العملية، إن الوجود الكلي الشامل هو الذي ينكشف لنا من خلال التأثُّر، وهو الذي يؤثر علينا ويحددنا إن بقى هو نفسه بغير تحديد١٤٥ فنحن في مسلك الانفتاح على الموجود أو التعرض المتخارج «نتأثر» بالموجود في كليته ونستقر فيه، ولكن هذا التعرض والتأثر لا ينفصل كما رأينا عن «ترك-الموجود-يوجد»، أي لا ينفصل عن صميم الحرية، غير أن هذا الترك أو هذا المسلك الحر يؤدي بالإنسان إلى كشف الموجود الخاص المتعلق به كما يعمل في نفس الوقت على حجب الوجود بكليته، هكذا يلقي الموجود الخاص بالموجود الكلي العام في ضباب الاحتجاب، وكلما قويت علاقتنا بهذا الموجود الخاص، وازداد اهتمامُنا به وانصرافُنا إليه، تحجبَ الموجود الكلي واستحكم خفاؤه.

وليت الأمر يقف عند هذا؛ فنحن نميل مع الزمن إلى أن نخفي عن أنفسنا هذا الحجب نفسه، وتلك هي محنة الإنسان في هذا العصر الذي اتَّسع فيه علمُه بالموجود الجزئي الخاص، وأصبح — أو كاد — يعيش في حالة نسيانٍ للموجود في كليته، بل في حالة نسيان للنسيان!

وهذا هو الذي حدث أيضًا في «الميتافيزيقا» الغربية على مدى تاريخها الطويل، صحيح أنها كانت تسأل عن الموجود بما هو موجود، وكانت في مراحل تطورها المختلفة تخلع عليه معاني مختلفة، ولكنها لم تحاول أبدًا أن تفكِّر في التحجُّب أو تجعل «السر» موضوعًا لها، ولهذا ظلَّت هائمةً في ضلال الموجودات وبعيدة عن حقيقة الموجود ومعناه.

•••

ويأتي الفصل السادس فيتناول تحجب الموجود الكلي وخفاءه، إن القضية الآن هي قضية اللاحقيقة الأصلية التي لا تنفصم عن الحقيقة، وقد نبَّه هيدجر في نهاية الفصل الرابع إلى هذه العلاقة الأساسية بين الحقيقة واللاحقيقة، وبيَّن لنا أن من المستحيل السؤال عن إحداهما دون السؤال عن الأخرى.

لا شك أن الحس السليم أو الظن الشائع سيتعثَّر في فهم هذه الصفحات وسيتشبث بطريقته المباشرة في النظر إلى الأمور، فيبقى على السطح ويسقط في الحفر الطافحة بسوء الفهم! لأن ماهية الأشياء لا تزدهر أبدًا على السطح، ولأن السر يكمن دائمًا في الأعماق، وعبثًا تحاول النظرة السريعة — وهي أسيرة اللحظة المباشرة والواقع المباشر! — أن تبلغ إليه عن طريق الفكر اليومي المعتاد وما فطر عليه من تعجل وحساب، ونفور من كل ما نشتمُّ منه رائحة الإشكال.١٤٦
ومع هذا كله فإن التخلي عن التفكير الشائع لا يكفي وحده للولوج من باب التفكير الماهوي، وإنما هو مدخل ضروري وحسب، ويرجع هذا إلى أن الأفكار الحقة نادرة، فهي ليست من صنع الفكر وتأليفه، كما أنها لا ترقد في الأشياء رقدة الحجر على سطح الأرض أو الحصاة في عمق الماء، إن الإنسان يكون العديد من الأفكار، غير أن هذه الأفكار ليست هي الأفكار الأصيلة، فالأفكار الأصيلة تُقدَّم للإنسان، تُوهَب له، حين يضع نفسه في ذلك الانتباه الحقيقي الذي هو بمثابة نوعٍ من التهيؤ لما هو خليق بالفكر.١٤٧

لنرجع إلى العلاقة بين الحقيقة واللاحقيقة، إننا نُخطئ خطأً بالغًا إذا تصورنا أن اللاحقيقة مجرد صورةٍ باهتة من الحقيقة، كما نتصوَّر الظلام بالقياس إلى النور، والمرض بالقياس إلى الصحة، والشر بالقياس للخير، ليست اللاحقيقة هي عكس الحقيقة أو سلبها، على نحو ما نفهم من تصورَيْن متضادَّيْن، فكيف نتصور هذه «اللا» التي تسبق كلمة «اللاحقيقة»؟ (وما أكثر ما تتردد هذه اللا في الفصل السادس والفصول التالية في كلمات كاللاماهية واللاتحجب!)

لا شك أن القارئ سيُدرك بنفسه أن هذه «اللا» تختلف عن «لا» السلب العادية، فهي تُحيلنا إلى مجال أصلي (يفترضه أسلوب التفكير العادي وإن كان لا يلتفت إليه ولا يكترث به!) هو مجال التحجُّب، وهو مجال أسبق في الوجود من كل ظهور أو تكشُّف للوجود، في ظهور نطاق هذا المجال — الذي يتصل به الإنسان دائمًا على نحو أو آخر ونقف منه موقفًا لا يبلغ أبدًا مستوى الوعي — تكون «حقيقة الوجود»، ومن خلاله يمكن أن نقترب قليلًا أو كثيرًا من الوجود.

إن حقيقة الوجود أسبق من كل حقيقة متعلقة بالموجود، كما أنها أكثر منها أصالة وأهمية، هذه الحقيقة الأولية حاضرة دائمًا بصورة أو بأخرى، مهما تُكلفنا من الجهد لتجاهلها، ومهما تصور الإنسان أن كل علاقةٍ بالوجود قد اختفت، ومهما دخل في رُوعه أنه نسي الوجود وصار غريبًا عنه، ذلك أن الوجود لا ينفكُّ يظهر لنا ويقدِّم لنا نفسه باستمرار، مهما حاولنا إنكاره والانصراف عنه، ولو كف الوجود نوره فكيف يتسنى للإنسان أن يتعرَّف على الموجود الخاص الذي لا يني عن السعي وراءه، كيف يتأتَّى له أن ينطق فعل يوجد أو «يكون»، وهو أهم كلمات اللغة وأكثرها ابتذالًا في آن واحد؟!

من خلال «ترك-الموجود-يوجد» يكون هذا الموجود ويحضر؛ ولهذا يوصَف هذا الترك بأنه كشف له، ولكن حضور الموجد الخاص وظهوره يُلازمه احتجاب الموجود في كليته، ومن هنا يمكن فهم هذه العبارة العويصة: «في الحرية المتخارجة للموجود-الإنساني يتم حجب الموجود بكليته، يكون الاحتجاب».

لا بد إذن من تفسير معنى الحجب إذا أردنا أن نفهم العلاقة بين الحقيقة واللاحقيقة، فلما كانت الحقيقة هي الكشف (أو بعبارة هيدجر المخيفة هي الترك المتخارج لوجود الموجود!) فلا بد أن تنطويَ على نوع من الحجب ما دام الأوَّل مستحيلًا بغير الثاني، بهذا يصبح الحجب أو الاحتجاب شرطًا للحقيقة بوصفها كشفًا، بل إن فعل الكشف لا يتم إلا على أساسه، لا معنى إذن لأن نتصور أن هذا الحجب نوعٌ من الظلام الذي سيبدده النور، أو أن ظهور «الموجود الإنساني» يكفي لتبديده؛ إذ لا بد من القول بأنه كامن بالضرورة في صميم الموجود الإنساني، وأنه محجوب عنه بحكم طبيعته، فالإنسان يخفي عن نفسه أن هناك نوعًا من الاحتجاب والخفاء يلازم انكشاف الموجود وظهوره، أي أن الاحتجاب كامن في الموجودات الإنسانية بقدر ما تكون هذه كاشفة، ولا يخطرن ببالنا أن هذا الاحتجاب متوقف على «الذات الإنسانية» لكي تتصرَّف فيه بحريتها، فالواقع أن فكرة الذاتية لا مكان لها في فلسفة هيدجر — اللهم إلا مكان الرفض والإنكار — كما أن كلمة الموجود الإنساني أو الدازاين عنده ليست بديلًا لكلمة «الذات» المعهودة في نظريات المعرفة، وإنما تدل على تصور مختلف للإنسان الذي يتميز قبل كل شيء بأنه «موجود-في-العالم»، ومِنْ ثَمَّ فليس الإنسان هو السيد المتحكم في الاحتجاب ولا في التكشف، بل إن هذين هما اللذان يسودانه ويتحكمان فيه، وهذا هو الذي تُوحي به العبارات التالية التي تأتي في بداية الفصل السادس الذي تتحدث عنه:

«إن التحجب يمنع «الأليثيا» من التكشف، بل لا يسمح لها بأن تكون «ستيريزس» (سلبًا)، وإنما يحفظ لها (أي للأليثيا) أخص ما يخصها.» أو هذه العبارات التي يستطرد فيها الفيلسوف: «إنه (أي التحجب) أقدم من ترك الموجود نفسه، الذي يحجبه أثناء قيامه بالكشف، كما يتخذ موقفًا من التحجب.»

لا بد من تعليق قصير على هذه العبارات التي لن تُفهم إلا في سياقها، فإذا كانت الحقيقة هي الكشف، وكان كل كشف يفترض الحجب، فإن اللاحقيقة ستصبح مرادفة لعدم الكشف؛ بهذا لا تكون العلاقة بين الحقيقة واللاحقيقة علاقة تضاد منطقي، بل علاقة المؤسس بالأساس الذي يقوم عليه، معنى هذا أن الحقيقة — على العكس مما يظن الراي الشائع — تتأسس على اللاحقيقة، وأن هذه — بوصفها لاماهية الحقيقة — تحيل إلى ماهية أسبق، وإذا كان الإنسان على علاقة مستمرة بالتحجب، فلا بد من القول بأنه يوجد دائمًا في اللاحقيقة، وأن هذا وحده هو الذي يجعله قادرًا على الكشف.

ولكن التحجُّب يؤكد نفسه — كما سبق أن رأينا — في كل ترك-للموجود، فترك-الموجود يحجب الموجود بكليته، والموجود بكليته هو المتحجب، ولما كان ترك-الموجود يقيم بالضرورة علاقة بالموجود بكليته الذي يظل في هذه العلاقة على احتجابه، فإن هيدجر يؤكد مع ذلك أن ترك-الموجود يحقِّق تحجب المحتجب، وهذا هو الذي يصفه بالسر، فليس السر في رأيه معضلةً أو لغزًا يتطلَّب الحل، وإنما هو الحدث الأساسي الذي يتغلغل في وجود الإنسان؛ ولهذا يمكن القول بأن الإنسان ليس بالكائن الذي يحتجب بقدر ما يكشف فحسب، بل إنه يصر على أن يحجب عن نفسه ذلك التحجب الأصلي، ولعل هذا أن يكون قريبًا مما يقصده هيدجر في النص الأوَّل الذي اقتبسناه في بداية هذا الفصل حين يقول: إن التحجب يحول بين «الأليثيا» وبين التكشُّف، وأنه لا يسمح لها أيضًا بأن تكون سلبًا، بل يحتفظ لها بأخص ما يخصها، ولعل المقصود «بأخص ما يخصها» هو السر نفسه؛ ومِنْ ثَمَّ يمكننا أن نفهم هذه العبارة العسيرة أو نحاول فهمها على أقل تقدير: فالتحجُّب الملازم للحقيقة يحول دون تصوُّر هذه الحقيقة باعتبارها كشفًا كليًّا كاملًا، ولما كان هذا التحجب نفسه يتحجب في «الموجود الإنساني» الذي يقوم بالكشف، فإن «الأليثيا» تعجز حتى عن اعتبار نفسها سلبًا للكشف الأصلي، لهذا فإن التحجب يحتفظ للحقيقة بصورة من صور السر الأساسي، أو بالأحرى يحتفظ لها بسر تختص به.

هل فسرنا العبارة العسيرة بعبارات أشد عُسرًا؟ لنقل باختصار أن التكشف لا يتم إلا على نحو جزئي، فهو يتحقق في ظل الاحتجاب وعلى أساسه، وكلما تقدَّم في فعله الكاشف عمل على مزيد من الحجب، وكلما اتَّسعت معرفة الإنسان بالموجود الجزئي دفع الموجود بكليته١٤٨ إلى الظل، وكلما زاد نجاحه في هذا «الكشف» الموهوم زاد الاحتجاب وأمعن السر في الخفاء.

•••

وتبدأ الفقرة الثانية من هذا الفصل (السادس) بعبارةٍ قد تبدو محيرة، وهكذا يحدث في أثناء ترك-الموجود، الذي يكشف عن الموجود بكليَّته ويحجبه في نفس الوقت، أن يظهر التحجب في المقام الأوَّل في مظهر «المتحجِّب».

ولا بد أن يسأل القارئ نفسه: كيف يمكن أن يظهر التحجب، في حين أن الظهور لا يُقال إلا على الشيء الذي يقدِّم نفسَه لنا؛ بحيث تمكن معرفته أو التعرف عليه وإدراك ماهيته إدراكًا واضحًا؟

لا مفرَّ من فَهْم كلمة «الظهور» — شأنها في ذلك شأن بعض الكلمات التي يستخدمها هيدجر كالحرية والحقيقة واللاحقيقة — بمعنى مختلف عن معناها المألوف في التراث أو لدى الحسِّ المشترك والفهم العام، فظهور التحجُّب يدلُّ هنا على أنه يتم بصورة يحسها «الموجود الإنساني»، لا بمعنى أن هذا الظهور يمكن أن يؤديَ إلى ماهيته، ولا شك أن في إمكاننا أن نجرِّب ظاهرة ونحس بها وتبقى مع ذلك محوطةً بالسر، فظهور التحجب لا يعني اختفاء هذا التحجب وزواله.

وظهور هذا التحجب مرتبطٌ بالموجود الإنساني: «إن الموجود الإنساني، بقدر ما يتخارج، يتعهد (أو يؤدي إلى) أول وأوسع عدم-تكشف، أي اللاحقيقة الأصلية»، هل يتناقض هذا مع ما سبق قوله من أن التحجب أقدم من ترك-الموجود نفسه؟ الواقع أن المسألة لم تكن مسألة ترتيب تاريخي، بل مسألة ترتيب في الأساس وما يتأسس عليه، وهذا الترتيب لم يتغيَّر في الحالين.

وتعود الفقرة التالية إلى مشكلة الحرية فنقرأ هذه العبارة: «إن الحرية بوصفها ترك-الموجود-يوجد، هي في ذاتها علاقة منفتحة، أي علاقة غير مغلقة على نفسها.»

معنى هذا أن الحرية — من حيث هي ترك-الموجود-يوجد — أسلوب في الحياة يلزم الموجود الإنساني، كما يلزمه بالانفتاح على الأشياء، على هذا الانفتاح يقوم مسلك الموجود الإنساني تجاه الموجود، وعلى الرغم من هذا الانفتاح يخفي الموجود الإنساني عن نفسه علاقته بالتحجب، غير أن هذا الإخفاء نفسه يفترض الانفتاح؛ لأن التحجُّب أسبق من الموجود الإنساني نفسه، ولأنه لا يملك أن ينكشف أو يحتجب إلا عن طريق كائن قادر على الانفتاح.

لكن هذا الكائن المنفتح الذي سميناه بالموجود الإنساني يحدث له أثناء فعل الترك١٤٩ أن يفقد علاقته الأساسية بالسر أو ينساها، صحيح أن هذا النسيان لا يفسد علاقتنا بالموجود الجزئي، ولكنه يوجه هذه العلاقة في اتجاه خاص، ويصرفها إلى الخصائص التي تحدِّد الموجود وتعينه، والنتيجة أن يتمسك الإنسان بالواقع المعتاد الذي يمكن التحكم فيه والسيطرة عليه، حتى في الأحوال التي تستوجب النظر في المسائل الأولى والأخيرة، أي أن نسيان السر يؤدي إلى إضعاف معنى وجود الموجود؛ بحيث يعجز الإنسان عن رؤية الوجود نفسه في الموجود، فيعده موجودًا حاضرًا أمامه وحسب، ويشغل بحصر خصائصه وتحديداته بغية التحكُّم فيه والسيطرة عليه، وبهذا ينسى الإنسان المشكلات الحقيقية وتغيب عنه المسائل الأولى والأخيرة، ويغرق في الحاضر المباشر، ويبذل كل ما في وسعه لمد سلطاته على العالم وتنصيب نفسه إمبراطورًا على عرشه! ويبتعد عن السر الذي يربطه بالموجود بكليته، وتصبح ذاته هي المحور الذي يدور حوله كل شيء، ويتخذ من حاجاته ومعارفه وتطلعاته المعيار الذي يقيس به كل شيء، وإذا كانت كلمة الذات والذاتية قد ترددت في السطور السابقة، فلا ينبغي — كما تقدم — أن يغيب عن بالنا أن هيدجر أبعد ما يكون عن المفاهيم «الأنثروبولوجية» المعتادة عن الذاتية بعده عن كل تصور تقليدي للنزعة الإنسانية، فحين يتخذ الإنسان من ذاته مقياسًا لجميع الكائنات، لا بد أن يخطئَ في القياس ويختلَّ في يده الميزان.
لا شك أن محاولة الإنسان تأكيد ذاته تأكيدًا مُطلَقًا هي النزعة الغالبة على الفلسفة الحديثة، وهي أم المشكلات التي نبتت من سيطرة الروح «التعالمية»١٥٠ والتقنية، وجذور هذه المحاولة تمتد إلى عبارة «بيكون» التي كُتبت على بوابة الزمن الحديث: العلم قوة، كما تبدأ من حيث المبدأ مع توحيد ديكارت بين الحقيقة واليقين، وتقصيره في سؤال نفسه إن كان هذا اليقين هو الأساس النهائي الذي تقوم عليه الحقيقة من حيث هي كذلك.

ولقد بلغت هذه الذاتية الإنسانية ذروة تأكُّدها على يدي نيتشه وكيركجورد من ناحية، وأيدي العلماء والفلاسفة الوضعيين من ناحية أخرى، كما بلغت ذروة انتصارها وخطرها في النزعة التقنية المعاصرة، وقارئ هيدجر يعلم أنه لا يفصل هذه النزعة الأخيرة عن النزعة الذاتية في فهم الحقيقة بمعنى الصحة أو الصواب والتطابق التي بدأت خطواتها الأولى في تاريخ الميتافيزيقا مع تفكير أفلاطون، فالتقنية هي الانتصار العظيم الذي حققته الميتافيزيقا الغربية، وهي لا تعدو أن تكون طريقة لمد هذه الميتافيزيقا على الموجود بكليته.

ونحن نشهد اليوم كيف تحول هذا الانتصار — الذي يعبِّر عن نسيان للعلاقة الأصلية التي تجمعه بالسر — إلى ألوان من الحيرة والعجز واليأس والاغتراب في مواجهة أخطار التقنية، ونشهد أيضًا كيف انقلب هذا الوليد المعجز (أُلقِيت بذرته الحية يوم أَلقى أول إغريقي متفلسف سؤاله القدري ما الموجود؟) إلى طاغية ينشر ظلام المحنة على العصر الذي نعيش فيه.

الإنسان يحاول أن يستند إلى الموجود، أن يجد الراحة فيه، أن يختصَّه بعنايته وتفكيره، أي يحاول — بتعبير هيدجر — أن يتداخل … صحيح أنه بطبيعته يدخل دائمًا في علاقة بالموجود، ولكنه أصبح الآن يتمسَّك بهذا الموجود ويستمد منه مقاييسه، دون أن يسأل نفسه عن ماهية هذه المقاييس أو الأساس الذي تقوم عليه؛ ولهذا يقول هيدجر هذه العبارة التي احتاجت مِنَّا إلى الوقوف عندها: «إن الموجود الإنساني-بتخارجه-متداخل.» في هذا التخارج المتداخل لم يعد للسر مكان، لقد فقد ماهيته.

هكذا يكون هيدجر قد تبيَّن أهمية السر بالنسبة للموجود الإنساني، وشرح لنا كيف نسي هذا السر والنتائج المترتبة على هذا النسيان في حياة الإنسان المتشبث بذاته وبالموجودات، وبهذا يكون أيضًا قد أكد الرابطة التي تؤلِّف بين الحقيقة واللاحقيقة، وأوضح لنا — على طريقته بالطبع! — أن اللاحقيقة هي الأساس الذي تنهض عليه الحقيقة وتنمو وتتفتح.

•••

ويجيء الفصل السابع فيتناول العلاقة بين النسيان والسر، بين انفتاح الموجود الإنساني أو تخارجه في اتجاه الموجود وبين تمسكه بالجانب الشائع المعتاد منه أو تداخله المؤدي إلى الضلال، هذا التداخل مستحيل بغير التخارج، ولهذا يقول هيدجر إن الموجود الإنساني متداخل ومتخارج، أو منفتح ومتواجد معًا، إنهما يتحدان ليكونا أسلوب الوجود الذي يمتاز به الوجود الإنساني متداخل ومتخارج، أو منفتح ومتواجد معًا، إنهما يتحدان ليكونا أسلوب الوجود الذي يمتاز به الموجود الإنساني، فهو بتخارجه يكون على علاقة بالسر؛ لأن كشف الموجود لا يتم إلا على أساس التحجب الذي ينبثق عنه هذا الكشف، ولكنه بتداخله، أي تمسكه بالموجود وتشبثه بخصائصه وتحديداته، تختلط عليه الرؤية، وينسى علاقته الأصيلة بالتحجب والسر، وتتهدده الحيرة والخطأ والضلال، صحيح أنه يتخذ من الموجود مقياسًا لأوجه نشاطه المختلفة، ولكنه ينغمس فيه فينسى الأساس الذي يستند إليه اختيار هذا المقياس، أي ينسى السر، بَيْدَ أن الموجود — الجزئي الخاص — لا يستمدُّ أهميته ووجوده نفسه إلا من خلال علاقته الوثيقة بالموجود بكليته (أو إن شئت بالوجود)، وهذه العلاقة الأصلية يحوطها السر، ولهذا فإن الوقوف عند الموجود والاستغراق فيه والتصلب على تحديداته المباشرة واتخاذه مقياسًا للأفعال، معناه الوحيد هو الانصراف عن السر وضياع الجذور، ومهما حاولنا أن نستخفَّ بالسر ونرجم من ينبهنا إليه بأحجار الكلمات السهلة والشعارات المحفوظة، مهما نسيناه أو تناسيناه وأنكرناه، فلن يفلح هذا في إلغائه؛ لأن النسيان والتناسي والإنكار لا تزال جميعها تعبيرًا عن صورة من صور العلاقة التي تربطنا به، أليس أدل على هذا من لهفة الإنسان وقلقه وتخبطه من موجود إلى آخر، دون أن يجد في واحد منها السلام والراحة التي يرجوها؟ ألا يحق للفيلسوف أن يقول إن لهفة الإنسان بين الهروب من السر واللجوء إلى الواقع المعتاد واندفاعه من موضوع يومي إلى آخر، وغفلته المستمرة عن السر، كل هذا هو «الضلال».

وما هو الضلال؟ ليس سلوكًا عرضيًّا ينجم عن خطأ أو سهو عارض يمكن تصحيحه وتحاشيه، إنما هو الذي يحدِّده وجود الإنسان تحديدًا أوليًّا؛ ومِنْ ثَمَّ يحدِّد سلوكه، ولا يعني هذا أن الضلال قدر محتوم لا فكاك منه؛ لأنه لا ينفي أننا نملك القدرة على مواجهته، بل ينبغي علينا أن نواجهه: «ليس الضلال الذي يمضي فيه الإنسان شيئًا يسعى بجانبه ويحاذي طريقه كأنه حفر يسقط فيها أحيانًا، وإنما هو جزء من تكوين الموجود الإنساني الذي خلى بين الإنسان التاريخي وبينه».

من أين تأتي حتمية الضلال؟ من الحقيقة التي عرفناها من قبل، وهي أن الإنسان لا يمكنه أن «يكشف» إلا بقدر ما يحتجب، وأنه هو نفسه يخفي هذا التحجب عن نفسه؛ ولهذا تظل علاقتنا نفسها بالتحجب محتجبة.

ويستطرد هيدجر فيقول: «إن الضلال بالقياس إلى الماهية الأصلية للحقيقة، هو ضد الماهية الأساسي.» وربما تصورنا من هذه العبارة أن الحقيقة الأصلية — التي تتميز بعلاقتها الوثيقة بالسر — تستمد منها حقيقة أخرى فاسدة تكون بمثابة الضد من تلك وتستحق أن تُسَمَّى «الضلال»، ولكنَّا إذا واصلنا قراءة النص وجدنا هذه العبارة التي تحدد الأمر فنقول إن حجب المحتجب والضلال ينتميان معًا للماهية الأصلية للحقيقة، وإذًا فاللاحقيقة، بوصفها حجبًا للاحتجاب وبوصفها ضلالًا، تنتمي بوجهيها هذين للماهية الأصلية للحقيقة، يؤيِّد هذا وصف هيدجر لضد الماهية أو للماهية الضد بأنها أساسية، أي أنها أولية وأصلية، داخلة في بناء الحقيقة نفسها وماهيتها الأصلية، فكأن هذه الحقيقة ذات جذر مزدوج، يعاند أحد طرفيها صاحبه ويقف منه موقف الضد! ما السبب في هذا؟ ليس عسيرًا أن نلتمس هذا السبب، فالحقيقة علاقة بالسر ونسيان لهذه العلاقة، وكلا الأمرين يمثل في الواقع وحدة واحدة لا انشقاق فيها، ولو تأمل كلٌّ مِنَّا نفسه وحياته لرأى أنه ينتمي للحقيقة بما هو إنسان مهموم بالوجود، كما ينتمي للاحقيقة بما هو إنسان مشغول بشئون حياته اليومية وما يحيط به من موجودات تُنسيه علاقته الأصلية بحقيقة الوجود بكليته، ولعل هذا أن يوضِّح ما يؤكده هيدجر في العبارتين المذكورتين من أن الضلال هو ضد-الماهية الأساسي للماهية الأصلية للحقيقة، وأنه — أي الضلال — ينتمي لهذه الماهية الأصلية للحقيقة، وغنيٌّ عن الذكر أن الضدية هنا ليست منطقية؛ لأن الضدين المتقابلين تقابُلًا جدليًّا حاسمًا يرتبطان في وَحْدة أعلى وأسبق منهما، دون أن يحطما هذا التقابل أو يحاولا تحطيمه.

إن الإنسان يوجد دائمًا في الضلال، وهو يوجد فيه بصورةٍ أولية مسبقة، والضلال هو المسرح الذي تدور عليه كل ألوان الخطأ، فإذا عرفنا أن الضلال هو ضياع العلاقة الإيجابية التي تربطنا بالسر، وأن الحقيقة الماهوية أو الأساسية هي اتخاذ موقف من التحجب، أمكننا أن نفهم عبارة هيدجر: «إن الضلال ينفتح لكل ما يناوئ الحقيقة الماهوية.»

ولما كان الضلال — بوصفه الضد الأساسي للماهية — ينتمي انتماءً أصيلًا للحقيقة، فإن الإنسان يستطيع أن يستعيد السر من خلال الضلال، وذلك بمجرد أن يجرِّب الضلال ويحس أنه هو الضلال (لا الإحساس فحسب بصوره المختلفة التي تجربها في حياتنا اليومية من تخبُّط وخطأ وبلبلة واضطراب وعجز وجهل)، ولو جرَّبْنا الضلال بما هو كذلك وانتبهنا إليه لَعرفنا عندئذٍ من نحن وأين نحن، واستعدنا عَلاقتنا الأصيلة بالسر، فالانتقال من هذه المعرفة بالضلال إلى السر غيرُ مستحيل، إذا تذكَّرنا أن الحقيقة الأصلية تتكون منهما معًا على نحو أصيل، ويكفي أن نُدرك الخطر الذي يتهدَّدنا من جانب الضلال لكي نتحدَّد بالسر ونهتدي إلى الطريق إليه، مهما يكن من نسياننا أو تناسينا له.

«إن كليهما (السر والضلال) يحمله (أي الإنسان) على الحياة في محنة القهر»، فهل تحكم الحقيقة على الإنسان (أو الموجود الإنساني) بالمحنة والقهر؟

إن وجود الإنسان في غمرة الضلال يتضح من اضطرابه ولهفته ولهاثه من موجود بعينه إلى موجود آخر، دون أن يجد راحة القلب واطمئنان الضمير؛ ولهذا يتميز الإنسان باضطرابه، وتأرجحه، واندفاعه إلى المحنة، وخضوعه للقهر والضرورة (لاحظ بهذه المناسبة أن كلمات المحنة والقهر والضرورة مشتقةٌ في لغتها الأصيلة من جذر واحد!) ويجب ألَّا نتصور الضرورة أو القهر على معنى القهر المحتوم، ولا أن نأخذ المحنة على معنى يوحي باليأس أو الحزن.

فالقهر الذي يجد فيه الإنسان نفسه؛ نتيجة اضطرابه في الضلال، ليس قوة قدرية محتومة، وإنما هو صميم المحنة التي نعيشها وعلينا أن نجربها ونواجهها، هذه المحنة نفسها لا علاقة لها باليأس الذي نعرفه جميعًا، وإنما تأتي من أن السر لا ينقطع تأثيره حتى في غمرة الضلال، ولما كان وجود الإنسان خاضعًا للمحنة، فإن هذا هو الذي يمكنه من الكشف عن الضرورة، ووضع نفسه في «المحتوم»، ولن يتسنى له ذلك إلا عن طريق الحرية التي تشعر بتناهيها.

وتأتي خاتمة هذا الفصل فتجمع خيوطه في نسيج واحد مكثف، لقد كان الهدف منه هو بيان ماهية الحرية استنادًا إلى ماهية الحقيقة، وقد أوضح أن الحقيقة — التي هي في صميمها وبحسب معناها الذي فهمه فلاسفة اليونان قبل سقراط، كشف أو تكشُّف — هي في نفس الوقت تحجب الموجود بكليته.

هذا التحجب هو اللاحقيقة الأصلية المتلازمة لطبيعة الحقيقة نفسها، غير أن اللاحقيقة ليس تحجُّبًا (أو سِرًّا) فحسب، بل هي كذلك ضلال، أي نسيان للعلاقة الأصلية بالسر، فالضلال هو الماهية المضادة للحقيقة، وهذه الماهية المضادة تنتمي كما رأينا لماهية الحقيقة.

ويختتم هيدجر هذا الفصل بقوله: «وليست الحرية هي ماهية الحقيقة (بمعنى توافق التمثل أو تطابقه) إلا لأن الحرية نفسها تصدر عن الماهية الأصلية للحقيقة، عن سيادة السر في غمرة الضلال.» ولما كانت الحرية تنشأ عن سيادة الحقيقة، فإن فعل «التَّرْك»،١٥١ الذي تحدده الحرية، يصبح أصيلًا متفقًا مع طبيعته بمجرد أن يتم في حضرة السر، أي حين تصحبه تجربة الضلال من حيث هو الضلال.

لو قلبنا الصفحات قليلًا لقرأنا هذه العبارة التي وردت في نهاية «الملحوظة» التي اختتم بها المؤلف محاضرته: «إن المعرفة (أو الفكر) الذي تحاول المحاضرة تقديمه تتوجه هذه التجربة الأساسية: إن القرب من حقيقة الوجود لا يتهيَّأ للإنسان التاريخي إلا انطلاقًا من الإنية التي يمكن أن يلتزم بها الإنسان.» وقد وردت هذه الفكرة نفسها في الفقرة الختامية التي نتحدث عنها في قول المؤلف: «إن ترك-الموجود-يوجد بما هو موجود وبكليته أمر لا يتم بصورة أصيلة ووافية بالماهية إلا إذا أخذ في الاعتبار من حين إلى حين من جهة ماهيته الأصلية، عندئذٍ يبدأ الانفتاح على السر في التحقُّق في إطار الضلال، عندئذٍ يوضع السؤال عن ماهية الحقيقة وضعًا أصيلًا، وعندئذٍ يتضح الأساس الذي يقوم عليه تشابك ماهية الحقيقة مع حقيقة الماهية».

معنى هذا أن ماهية الحقيقة تتحقَّق بصورةٍ أصيلة عندما يتمكن ذلك الذي يسأل من تحقيق وجوده الخاص على نحو أصيل، أي حين يدخل في علاقة أصيلة مع الوجود، ومعنى هذا مرة أخرى أن الأمر هنا يتصل بوجود السائل كما يتصل بالوجود بما هو كذلك؛ لأن الأوَّل (أي الموجود الإنساني) يتحدد وجوده من خلال علاقته بالوجود؛ ومِنْ ثَمَّ حرص هيدجر منذ أن وضع كتابه عن الوجود والزمان على الربط بين حقيقة الوجود وبين ماهية الموجود الإنساني أو ماهية الإنسان؛ فالإنسان لا يمكنه أن يتساءل عن الوجود إلا إذا كان يحيا في علاقة معه ويحس أنه في حماه، بل إن أسلوب الإنسان في الوجود هو الذي يحدِّد أسلوبه في فهم ماهية الحقيقة، وهي بالطبع حقيقة الوجود نفسه، ومن الواضح أن هذا الأسلوب في الوجود (الذي سيمكننا من اتخاذ موقف معين من ماهية الحقيقة) لن يكون أسلوبًا عقليًّا أو نظريًّا، بل ينبغي أن يكون مسلكًا أساسيًّا يوجه كل كياننا ويحدد كل وجودنا التاريخي، والأمر في اختيار هذا المسلك واتخاذ هذا القرار يتوقف على درجة الأصالة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان، ثم إن هذه الأصالة نفسها تعتمد على طبيعة علاقتنا بالوجود، إن كانت أصيلةً أصبحنا أُصَلاء، وإن كانت زائفة أصبحنا زائفين ضائعين، وهكذا نفهم عبارة هيدجر العويصة عن تشابك ماهية الحقيقة مع حقيقة الماهية، والمهم بعد كل شيءٍ هو التفكير في حقيقة الوجود، لا في الموجودات فحسب، وتلك هي أسمى مهمة يمكن أن يلتزم بها الفكر، إنها هي المهمة التي واجهَت الفلسفة منذ نشأتها الأولى، وحاولت الميتافيزيقا عبر تاريخها الطويل أن تقوم بها دون أن تحقِّق هدفها حتى اليوم، لماذا؟ لأنها لم تفكر أبدًا في الوجود نفسه وحقيقته، ولأنها كانت تفكر دائمًا في الموجود وتنسى حقيقة الوجود (ومِنْ ثَمَّ كانت دعوة هيدجر المستترة لقهر الميتافيزيقا وتجاوزها، لا بتحطيمها أو إلغائها، فهذا شيء مستحيل، بل بالعودة إلى أساسها، ألا وهو التفكير في حقيقة الوجود نفسه، من خلال الموجود الوحيد المهموم بالسؤال عنها، القادر على كشفها والانفتاح على نورها)، ومن هنا نفهم هذه العبارة التي جاءت في الملحوظة التي تختتم بها هذه المحاضرة: «إن الفكر يلتزم في ظاهره بالطريق الذي سارت عليه الميتافيزيقا، ولكنه مع ذلك يحقِّق في خطواته الحاسمة — التي تنتقل من الحقيقة بوصفها تطابُقًا إلى الحرية المتخارجة، ومن هذه إلى الحقيقة بوصفها حجبًا وضلالًا — (يحقق) تحوُّلًا في التساؤل ويؤدِّي إلى تجاوز الميتافيزيقا.»

•••

تحددت ماهية الحقيقة، وبقي أن نحدِّد ماهية الفلسفة التي تسأل عن هذه الحقيقة، ولما كانت الماهية الكاملة للحقيقة تتضمن اللاحقيقة، فلا بد أن تكون الفلسفة بدورها منقسمة على ذاتها، وأن تكون — على حد تعبير هيدجر — متزنةً ولينة، متشددة ومتفتحة، معتدلة ووديعة … وربما أنكرنا هذه الكلمات الشاعرة في مجال قد لا يسمح بها، وقد نحار في العثور على مقابل للكلمتين الأصليتين اللتين تُفيدان بحروفهما «اتزان الرقة»، ولكن سواء آثرنا الرقة أو المرونة أو الوداعة، فالمعنى المقصود هو القدرة على الاتجاه نحو الموجود وتركه يوجد وينكشف، مع الحفاظ في نفس الوقت على التحجُّب الأصليِّ وصونِه ونقلِه إلى وضوح التعقُّل، دون أن يقترن هذا بأي قنوطٍ من جانب الإنسان أو تخلٍّ عن ماهيته الحقة التي تقوم على الانفتاح للموجود، فالاعتدال أو المرونة والوداعة التي نتحدَّث عنها تُتيح للفلسفة أو بالأحرى للمتفلْسِف أن يبقى هو نفسه، أن يظل قريبًا من الموجودات الأخرى بغير أن يحاول تغييرها أو تشويهها أو اقتحامها بالتعسف والقوة والاغتصاب، ولا شك أن كلمات كالرقة أو الوداعة أو اللين ترتعش عليها ظلال الرحمة والكرم والحنان والتعاطف التي تميِّز موقف المتفلسف من الموجود بكليته، ولعل هذا أن يذكرنا بعبارة هيدجر المشهورة التي يردِّدها في كثيرٍ من كتاباته: «الإنسان هو راعي الوجود وحامي بيته.»

•••

ويُلقي المؤلف في الفصل الثامن نظرةً أخيرةً على مشكلة الحقيقة والفلسفة، ويجدِّد هجومه على الحس السليم الذي يُعلن ضيقَه بطبيعة الفلسفة وأسئلتها وإشكالياتها منذ بداياتها الأولى! ثم يهتدي برأي «كانط» في ماهية الفلسفة ومحنتها الباطنة، ويُورد أحد نصوصه التي تشهد على إيمانه بكرامة الفلسفة وأصالتها، وجهده في الدفاع عنها وإنقاذها من سطحية أصحاب الفهم العام واستبعاد بعض الكُتَّاب والمفكرين الذين يحسبونها مجرد «تعبير» عن الحضارة، لقد كان «كانط» — على الرغم من وقوعه في أسر التراث الميتافيزيقي ومن موقفه القائم على الذاتية — عميق الحكمة كالعهد به في نظرته إلى طبيعة الفلسفة «حارسة قوانينها الخاصة»، وكان أصيلًا في حرصه على احتفاظ الفلسفة بماهيتها، والعودة بها إلى الحقيقة الأصلية التي يقوم عليها السؤال الفلسفي.

ونأتي إلى نهاية هذا الفصل فنجد المؤلف يلخِّص المسائل الأساسية التي عرضنا لها على الصفحات السابقة ويجمعها حول هذا السؤال الأساسي: «ألا يجب أن يكون السؤال عن ماهية الحقيقة في نفس الوقت وقبل كل شيء هو السؤال عن حقيقة الماهية؟» — ربما أوحت صيغة السؤال بالتكرار والتلاعب الحاذق بالألفاظ، ولكن الواقع أنها أبعد ما تكون عن هذا، فهي تريد أن تحيي في نفس القارئ جذوة السؤال الأساسي الذي حرك التفكير في هذه الرسالة بأكملها، كما تحرص على البعد عن وضع نتيجة «جاهزة» بين يديه، إن المفكر الحقيقي لا يقدم لقارئِه ثمرةَ بحثه على طبق فضي أو ذهبي، وإنما يحاول أن يُشركه في الجهد المبذول في غرس البذور ورعاية الأشجار وانتظار الثمار … إن همَّه هو إحياء الإشكال في نفس القارئ وعقله، وحثه على البقاء في محنة السؤال؛ لأنه في النهاية هو الممتحن والمسئول، وهل هناك ما هو أولى بالسؤال والعذاب والانتظار من مشكلة الحقيقة؟ هل هناك من هو أولى بالبحث عن حقيقة الوجود من ذلك الكائن الذي يهتمُّ — وحده — بالسؤال عنه وترقُّب أنواره والوصول، عبر جسوره، إلى طبيعته الحقة وإنقاذ وجوده الأصيل من بحار الزيف التي تغرقه صباح مساء؟!

هكذا يختم هيدجر رسالته ختامًا لا يخلو من التواضع الكريم حين يؤكد أنها «تساعد على التأمل» في قضية الحقيقة، وحسبه أنه ابتعد بنفسه عن الإجابات السهلة التي يتلهَّف عليها أصحاب الحس السليم، وأنه لم يحرص على شيءٍ حرصه على إثارة السؤال.

(٤-٢) حقيقة الفن

كان من الطبيعي أن تدور جهود هيدجر حول قطبي الوجود والحقيقة اللذين تتغذَّى منهما شعلة تفكيره، فنحن نجد بعد كتابه عن الوجود والزمان ورسالته عن ماهية الحقيقة عدة دراسات تشع من نفس النواة ذات الشطرين، أو تدور حولها كالكهارب في قلب الذرة، إنه يوضح حقيقة الفن في دراسته عن «الأصل في العمل الفني»١٥٢ (١٩٣٥م)، ويتحدث عن إنسانية الإنسان في رسالته عن النزعة الإنسانية (١٩٤٦م)، كما يتحدث عن الحقيقة — أو بالأحرى الأليثيا بمفهومها اليوناني! — في دراسته عن ماهية التقنية (١٩٥٣م) وعن ماهية اللغة (١٩٥٧م) وموضوع الفكر (١٩٦٤م)، ولما كان المجال لا يتسع لتناول هذه الدراسات كلها بالتفصيل، فسوف نحاول أن نقدم معالمها الأساسية بإيجاز شديد.
يفسر هيدجر ماهية الفن والعمل الفني بوجه خاص من خلال فهمه «للأليثيا» أو الحقيقة كما أرادها اليونان بمعنى التجلِّي والتفتُّح والظهور من طوايا التحجب والخفاء، ونودُّ أن نسير هنا أيضًا على المنهج الذي التزمنا به في الصفحات السابقة من التقيد بنصوص الفيلسوف نفسها، على الرغم مما نجده فيها ويجده القارئ من صعوبة وجفاف! ويدور «الأصل في العمل الفني» حول الحقائق التالية:
  • (١)

    أن حقيقة الموجود «تحدث» في العمل الفني.

  • (٢)

    أن «وضع العالم» و«إنتاج الأرض» مَلْمحان أساسيان من ملامح العمل الفني الذي يتم فيه «النزاع» بين الأرض والعالم.

  • (٣)

    ماهية الحقيقة تكمن في هذا النزاع الأصلي الذي يدور حول «الوسط المنفتح» الذي فيه يكون الموجود ويعود إلى نفسه.

  • (٤)

    أن ما يُظهره العمل الفني هو الجميل فيه، والجمال هو أسلوب وجود الحقيقة أو كينونتها.

  • (٥)

    الحفاظ على العمل الفني من ناحية المعرفة هو معايشة «الهول» أو «الرهبة» من الحقيقة التي تحدث فيه.

  • (٦)

    الفن كله — بوصفه «إحداث» حقيقة الموجود بما هو موجود والكشف عنها وتجليتها — هو في ماهيته شعر (بمعناه الواسع من الإبداع والإنشاء).

تبدأ الدراسة بالسؤال عن الأصل الذي يستمد منه العمل الفني طبيعته وماهيته كعمل فني، فهي لا تستغرق في التأملات والخواطر المعتادة عن جمالياته، وإنما تتجه مباشرةً إلى السؤال المحدد عن ماهيته. إننا جميعًا متفقون على أن الفنان هو الذي يُبدع العمل الفني، فهل هو الأصل فيه؟ ألا يصح القول من ناحية أخرى أن إبداع العمل الفني هو الذي يجعل الفنان فنانًا؟ أليس معنى هذا أن الفنان هو أصل العمل الفني، كما أن العمل الفني هو الأصل في الفنان؟ ولكن أليس الفن نفسه هو الأصل في الفنان وعمله على السواء؟ ألا ينبغي علينا أن نسأل أوَّلًا عن ماهية الفن؟ إن الإجابة على هذا السؤال تحتِّم علينا الرجوع إلى الأعمال الفنية، فهل وقعنا إذن في الدور الذي يحذرنا منه المناطقة ويأباه الحس السليم؟ ولكن هذا الدور لا مناص منه في مواجهة هذه المشكلة بكل أطرافها، فلا بأس من الاعتراف به، ولا غِنى عن تحمله والتمسك به، لسنا هنا بصدد الدور الذي ينهى عنه المناطقة؛ لأننا لا تستنتج شيئًا ولا نبرهن على شيء، وإنما نحاول أن نتيح رؤية هذا الذي نسميه العمل الفني والكشف عن حقيقته، فلا ضير إذن من السير في دائرةٍ تمتد بنا من العمل الفني إلى الفن، ومن الفن إلى العمل الفني.

وأول طريق نسلكه إلى العمل الفني هو النظر إليه من جهة «شيئيته»، فما هو الشيء؟١٥٣

لو حللنا تحديدات الشيء المعروفة لَوجدناها تنحصر في الشيء بوصفه جوهرًا أو موضوعًا حاملًا للصفات والمحمولات، أو بوصفه وحدة تؤلف بين المعطيات الحسية المتنوعة، أو مادة تشكلت من خلال الصورة.

ولهذا فإن لدينا «الشيء الخالص» كما تقدِّمه لنا الطبيعة، و«الشيء-الأداة» كما أنتجها الإنسان ليستخدمها الإنسان، و«العمل» بمعنى العمل الفني، والواقع أن هذه الفروق المختلفة لن تساعدنا كثيرًا فيما نحن بصدده من فهم ماهية العمل الفني وحقيقته، كما لن تساعدنا صيغة الشكل والمضمون التي يكثر حولها الجدل، وكل ما سنخرج به منها هو أن العمل الفني «شيء»، وأننا ننساق فيها مع تيار الميتافيزيقا في محاولاتها المختلفة لفهم الوجود والتفكير فيه ابتداءً من «شيئيته»، فَلْنتَحدَّ تاريخ هذه الميتافزيقا! ولنحاول البحث عن طريق جديد! (وإن يكن طريقًا شاقًّا أشبه بطريق جحا عندما سألوه عن أذنه!)

يبدأ هيدجر أول خطوة على هذا الطريق بالسؤال عن طبيعة الشيء-الأداة، وهو يوضِّح سؤاله بالتأمُّل في لوحة الحذاء للرسام الشهير فان جوخ، فاللوحة تُوحي بالكثير: بعناء الفلاح وتعبه، بهمومه وجهده وإصراره، هنا نجد هيدجر يستعيد تحليلاتِه السابقةَ للأداة في «الوجود والزمان» ويضيف إليها. إن ماهية الأداة تكمن في استخدامها، كما تكمن في إشارتها إلى «عالمية» العالم الذي نعيشه فيه، ووجودنا مع الآخرين الذين صنعوا هذه الأداة أو الذين يستعملونها، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فأهم ما تدل عليه هو الاطمئنان إليها والاعتماد عليها، وهذا يؤدي بنا إلى العالم الذي نحيا فيه، وإلى الأرض التي هي جزء من هذا العالم، هل تتحقَّق هذه الوظيفة في كل أداة؟ هل هناك أدوات متميزة دون غيرها؟ لنصرف النظر عن هذه الأسئلة ولنعد إلى لوحة الحذاء! إنها تجعلُنا ننفتح على عالم الفلاح بكل ما فيه من صبر وعناء، وهي لا تكتفي بهذا بل تجعلنا أيضًا ننفتح على الأرض التي «تحضر» أيضًا من خلاله،١٥٤ لعل هذا الطريق الجانبي الذي بحثنا فيه عن الأداة لم يكن بعيدًا كل البعد عن طريق العمل الفني، فقد تأمَّلْنا لوحة فان جوخ لنعرف منها طبيعة هذه الأداة التي صورها لنا الفنان، فإذا بها تكشف لنا عنها من حيث هي موجود محدد، والكشف هنا مرادف للإظهار، فالعمل الفني يكشف عن موجود معين في حالته التي هو عليها، وهذا الكشف يعود بنا إلى المعنى الأصلي ﻟ «الأليثيا» أو الحقيقة من حيث هي لا تحجب، ولهذا لن يدهشنا الآن أن يقول هيدجر: «إن الحقيقة تحدث في العمل (الفني)، وذلك حين يتم فيه تفتح الموجود من حيث ماهيته وحالته التي هو عليها.»١٥٥

حقيقة الموجود تحدث في العمل الفني، أو تضع نفسها فيه بالفعل، هذا الوضع الذي ينطوي على معنى الصيرورة والفاعلية مرادف كما قلنا «للإحضار» و«الإظهار»، ولا بد لنا الآن من تتبع هذه الظاهرة التي تُظهر نفسها بنفسها، إذا أردنا أن نصل إلى ما يميز العمل الفني عن الأداة وعن الشيء الخالص، وإذا كان العمل الفني «وضعًا» للحقيقة أو إحداثًا وإظهارًا لها، فكيف نفهم معنى الحقيقة وعلاقتها بماهية العمل الفني؟

هنا يلجأ هيدجر إلى تقديم أنموذج جديد لعمل فني آخر، وهو يختار المعبد الإغريقي القديم تعبيرًا عن الحب المتأصِّل في نفسه لكل ما شاده اليونان أو فكروا فيه! وإذا كُنَّا في المثال السابق (حذاء الفلاح) قد رأينا كيف يعكس العمل الفني صورة للأداة ويُظهر وظيفتها وماهيتها من حيث هو موجود، فإن المعبد لا يصور شيئًا ولا يعكس أي شيء، ومع ذلك فإن أمرًا هامًّا يحدث فيه: «إن المعبد هو الذي ينظم ويجمع حوله وحدة تلك المسالك والعلاقات التي يكتسب فيها الميلاد والموت، والنقمة والنعمة، والانتصار والعار، والصمود والانهيار — صورة الكائن الإنساني ومصيره».١٥٦

هذه العلاقات التي يذكرها هيدجر في العبارة السابقة هي ما نسمِّيه باسم «العالم»، في هذه العلاقات يحيا البشر وتتم مسيرتهم في عصر معين نحو قدر مرسوم، وهي التي تحدِّد سبيلنا إلى فَهْمهم ومعرفة رؤيتهم لعالمهم ونظرتهم إلى أنفسهم.

ولكن المعبد لا «يُظهر» طبيعة العالم وحده، فقد شُيد بناؤه في مكان محدد، ووقوفه هناك — أو ما بقي منه من أطلال — هو الذي يُظهر المكان نفسه، وإن شئنا الدقة فهو لا يُظهر المكان أو المحل الذي وُضع فيه، وإنما يُظهر «الفيزيس» أو «الأرض» التي يتأسَّس عليها كل مكان، وليست الأرض ولا العالم بمجموعة من الأشياء والكائنات وُضعت بجانب بعضها البعض، ليسا موضوعًا يمكن أن نراه، وإنما هما — إن صحَّ هذا التعبير — إطار غير موضوعي نلتزم به وننفتح فيه على الوجود ونُقدم الشهادة على طبيعة فَهمِنا له: «وما بقيت مسالك الميلاد والموت والبركة واللعنة تضعنا في الوجود، وحيثما تمت القرارات الحاسمة في تاريخنا فأخذناها على عاتقنا أو تخلينا عنها، أو تجاهلناها ثم سألنا عنها؛ هناك يكون العالم.»١٥٧
العالم إذن أسلوب محدد للانفتاح، يعبر عن علاقات البشر بالموجود وفهمهم له ولشركائهم من البشر والآلهة … إلخ في عصر معين أو مرحلة محددة من تاريخهم، ولما كان العالم هو المجال الذي يتم فيه الانفتاح، وكان العمل الفني «يقيم عالمًا»، ففي إمكاننا القول إن «العمل الفني يفتح انفتاح العالم»١٥٨ أو أنه — بعبارة أبسط — هو الذي يظهر هذا الانفتاح على حقيقة العالم والوجود.
هذه الخاصية الأساسية في العمل الفني مقترنة بخاصية أخرى، وهي الإنتاج، وليس المقصود هنا بالإنتاج ما نعنيه عادةً من إنتاج الأدوات من مادةٍ معينةٍ تختفي حتمًا لكي تظهر الوظيفة التي صُنعت من أجلها هذه الأدوات المخصصة للاستعمال، وإنما المقصود به هو «إظهار» المادة التي صُنع منها العمل الفني ولا يمكن أن يقوم بدونها (فالتمثال من حجر، والصورة من أصباغ وألوان، واللحن الموسيقي من ذبذبات صوتية … إلخ)، ولو عدنا بالذاكرة إلى المعبد الإغريقي لَوجدناه لا يكتفي بإظهار الأحجار التي شيد بها، بل يُظهر كذلك الأرض (الفيزيس) التي جاءت منها هذه الأحجار، وهو يُظهر الأرض بمعناها الواسع، أي البحر، والصخر، والسماء، وأشجار الزيتون وكل ما يمكن أن يتصل بها، هذا «الإظهار» الذي يحققه العمل الفني لا يمكن التفكير فيه إلا من ناحية الإنتاج الذي تحدثنا عنه، وهو ليس بإنتاج شيء جديد أو شيء مثير غير عادي أو إنجاز تقني، وإنما هو الإنتاج الذي يحررنا لكي ننفتح على هذه الأرض التي نعيش عليها ونتحرك فوق أديمها ونسكنها، الأرض التي يظهرها هذا المعبد ويحافظ عليها ويخرجها من حال الانطواء والانغلاق، إنه ينطوي في الأرض ويخرجها في نفس الوقت من الانطواء، وبهذا نصل إلى هذا المبدأ: «إن وضع العالم وإنتاج الأرض ملمحان أساسيان من ملامح العمل الفني»،١٥٩ وبهذا يستقر العمل الفني في ذاته، ويكتفي بذاته، ويتميز عن الشيء والأداة جميعًا، غير أن استقراره ليس سكونًا ميِّتًا، وإنما هو سكون ينطوي على الحركة، وشهادة على ذلك التوتر الحي الذي يعلمنا هيراقليطس أنه كامن في سكون القوس! إنه توتر النزاع والصراع بين العالم والأرض، بين الانفتاح والانطواء، والظهور والاحتجاب، وليس العمل الفني — مهما تكن غرابة هذه القفزة الشعرية! — سوى الميدان الذي يدور فيه هذا النزاع، وليس هذا النزاع بين الانفتاح والانطواء، والظهور والاحتجاب إلا تعبيرًا عن حقيقة الوجود نفسها.

هكذا تتم الدورة ويرجع هيدجر إلى ما قرَّره من أن حقيقة الوجود تحدث في العمل الفني، وكأننا لم نبحث في حقيقة العمل إلا لكي نصلَ إلى الحقيقة نفسها، وكأننا في هذه المرحلة كلها أشبه بالفارس الذي قطع المسافات الشاسعة بحثًا عن الجواد الذي كان يمتطي ظهره! مهما يكن من شيء فإن التأملاتِ حول العمل الفني ستدفعنا إلى التفكير في ماهية الحقيقة، وستجعلنا نراها كذلك رؤية جديدة، وطبيعي أن يرجع هيدجر إلى الأفكار الأساسية التي عرضها في محاضرته عن ماهية الحقيقة، وأن يؤكد أن «الأليثيا» (اللاتحجب) هي أكثر الأشياء تحجُّبًا (ص٤٠) وأنها هي السر واللغز نفسه، ولكي يكون مبدأ التطابق هو معيار الحقيقة والصدق، ولكي تعبِّر القضية عن التوافق بين المعرفة والشيء، فلا بد أن يسبق ذلك ظهور الشيء نفسه، وانفتاح الموجود للإنسان والإنسان للموجود، ولا بد أيضًا أن يسود الانفتاح علاقة الإنسان بشريكه الإنسان، ولا نريد أن نكرر ما قلناه عن ماهية الحقيقة؛ إذ يكفي أن نحتفظ منها — في سياق بحثنا عن حقيقة العمل الفني — بخاصية الظهور والانفتاح والإنارة والتجلي التي لا تنفصل عن جميعها عن التخفي والتحجب والانغلاق والانطواء، كما نحتفظ منها بكون الحقيقة لا تنفصل عن اللاحقيقة، وأنها صراع بين الإنارة والإظلام، والتحجب واللاتحجب، وهو صراع يوضع فيه الإنسان ويتعرض له على الدوام: «فماهية الحقيقة تكمن في هذا الصراع الأصلي الذي يتم فيه الكفاح لانتزاع ذلك الوسط المفتوح الذي يكون فيه الموجود ومن خلاله يعود إلى نفسه» (ص٤٣) هذا الصراع أو النزاع في قلب الحقيقة نفسها بين الإنارة والتحجب يقربنا من ذلك الصراع الذي يدور في قلب العمل الفني بين العالم (الإنارة والانفتاح) والأرض (التحجب والانطواء).

لنسأل الآن: أين يمكن أن نعثر على هذا الصراع؟ والجواب قدمناه من قبل: في العمل الفني؛ ففيه «تحدث» الحقيقة ويتم الصراع بين قطبيها أو جذريها الأصليين، أيكون العمل الفني هو «المكان» الوحيد؟ بالطبع لا، فهناك «أماكن» أخرى يعاين فيها الإنسان هذا الصراع القدري الذي تتفتح فيه حقيقة الموجود بكليته، كالتضحية في سبيل الآخرين، وتأسيس دولة أو حياة جماعية، والتفكير نفسه عندما تصبح الحقيقة هي مشكلته الرئيسية وشغله الشاغل، والمهم أن نتذكر ما أكدناه من قبل من أن عنصري العمل الفني — وضع العالم وإنتاج الأرض — هما اللذان يؤلفان طرفي النزاع الأصلي الذي يتم فيه الكفاح من أجل تجلي (لاتحجب) الموجود بكليته، أي من أجل الحقيقة (ص٤٤). نقول الحقيقة، أي الحقيقة الكلية لا حقيقة موجود أو شيء بعينه يمكن أن يعبِّر عنه العمل الفني أو يعكسه أو يحاكيه كما تقول نظرية المحاكاة التقليدية، ولا يتسنى ظهور هذه الحقيقة الكلية إلا في الأعمال الفنية الخارقة التي يصح عليها القول بأنها صنعت عصرًا وعبرت عن روح شعب أو جيل: «إن ما يُظهره العمل الفني هو الجميل فيه، والجمال هو أسلوب وجود الحقيقة أو كينونتها» (ص٤٤). وغنيٌّ عن الذكر أن هذه العبارة تضع حدًّا للخلاف التاريخي الطويل الذي يتلخص في هذا السؤال: هل هناك علاقة بين الجمال والحقيقة أم أن الجميل ينبغي أن يُستبعد من مجال الحق؟ والعبارة تبين بوضوح أن الجمال أسلوب من أساليب مختلفة لتجربة الحقيقة، وأنه ليس هو الأسلوب الوحيد.

هكذا يكون هيدجر قد وجه المشكلة الجمالية وجهةً جديدة، فبدلًا من أن يسأل عن الحقيقة ابتداءً من الفن والعمل الفني، كما فعل الكثيرون من فلاسفة الفن ولا يزالون يفعلون، نجدُه قد عكس السؤال وأخذ يبحث عن ماهية الفن والعمل الفني ابتداءً من ماهية الحقيقة التي «تتجسَّد» فيه أو «تكون» وتظهر من خلاله؛ ولهذا نراه يقول: «لما كان من طبيعة الحقيقة أن ترتِّب أمرها في الموجود؛ لكي تصبح بذلك حقيقة، فإن الاتجاه إلى العمل شيء كامن في ماهيتها، وهذا تعبير عن إمكانية متميزة للحقيقة يجعلها توجد في قلب الموجود نفسه.» (ص٥٠)، وكلما نجح الإبداع في إظهار انفتاح الموجود أو حقيقته، كان هذا المبدع عملًا فنيًّا، والفنانون والأدباء العظام لم يفعلوا شيئًا غير هذا، فأعمال رمبرانت أو سيزان أو كافكا تُظهر إمكانية هذا الانفتاح، وتجعلنا نرى الموجود في ضوء جديد غير مألوف، هو باختصار نور الحقيقة التي لا بد أن يتفتح فيها حتى يمكننا أن نراه، ولعل هذا أن يكون هو المقصود بالعبارة الخامسة التي ذكرناها في صدر هذا الحديث من الحفاظ على العمل الفني، فليس المراد به أن نحميَه من التلف أو نصونه في مكان أمين — وهو أمر واجب بطبيعة الحال! — بل إن العمل الفني يغير علاقتنا بالعالم والأرض، وينتشلنا من مستنقع العادة، وينتزعنا من سأم المألوف والمعتاد، وتتم صدمة هذا التحول في العمل الفني نفسِه، وواجبنا ألَّا نتجاهله أو نهون من شأنه أو نقابله بالصمت، بل نجربه ونعانيه كأشد ما تكون التجربة والمعاناة: إن الحفاظ على العمل الفني من ناحية المعرفة هو معايشة «الهول» أو «الرهبة» من الحقيقة التي تحدث فيه، والتغلغل في باطن الانفتاح الذي يحدث في هذا العمل (ص٥٥)، ولا شك أن هذا التغلغل وتلك المعايشة يتطلبان من الإنسان مسلكًا خاصًّا يُتيح له — بالفعل والإرادة — أن يجرِّب الانفتاح ويهب نفسه لنور الحقيقة حين يتكشَّف عن وجهها الحجاب، ولا شك أيضًا أن هذه التجربة شيء مهول ورهيب؛ لأن الذي يظهر فيها ليس هذا الموجود المعتاد أو ذاك، بل الموجود بكليته، وإن شئت فحقيقة الوجود نفسه؛ لهذا تتطلب من الإنسان — وهو بطبيعته كائن متفتح متجاوز لنفسه باستمرار — غاية الصمود والاحتمال والاتزان في مواجهة الحدث الغريب المهول الذي لا شك في أنه سيغيره ويحوله من الأعماق، وهل يغير الإنسان شيء كما تغيره تجربة الحقيقة؟ وهل يقدر شيء على تحويله كما يقدر العمل الفني الذي يظهر الحقيقة؟ وهل يمكن أن يدهشنا الآن هذا التعريف الذي يقدِّمه هيدجر للفن بأنه «الحفاظ الخلَّاق على الحقيقة في العمل الفني»؟ وهل يمكن أن نرفضَ وصفَه لحدوث الحقيقة — أو بالأحرى إحداثها وإظهارها وتفتحها — بأنه شعر: «إن الفن كله، بوصفه إحداث حقيقة الوجود بما هو موجود، هو في ماهيته شعر» (ص٥٩).

لقد كان الشعر دائمًا وسيطًا بين السماء والبشر، فلِمَ لا يكون العمل الفني حلقة الوصل بين الإنسان والحقيقة؟

ليس المقصود بطبيعة الحال أن ترتدَّ كل الفنون إلى الشعر الذي نعرفه ونميزه عن النثر ونختلف حول طبيعته وخصائصه ومفهومه، وإن لم نختلف حول محبته وحول وقعه الغنائي على الوجدان، وإنما المراد بالشعر أن يكون الإبداع في مختلف الفنون هو السبيل إلى تحرير الحقيقة وتجليتها والكشف عنها، ولا شك أن لكلِّ فنٍّ سبلَه المختلفة عن غيره في تحقيق هذا الكشف والانفتاح، ولا شك أيضًا أن لكل عصر فنَّه أو فنونَه، أي أسلوبه في «تأسيس» الحقيقة وتصويرها والتعبير عنها.

كان هيدجر يريد أن يعرفنا بماهية العمل الفني، فإذا به يزيدنا علمًا بماهية الحقيقة! كُنَّا ننتظر منه أن يكشف لنا عن ماهية الفن، فإذا به يعود بنا إلى ماهية الحقيقة كما تظهر في العمل الفني، أيكون بهذا المقال قد خطا أول خطوة على طريق «العودة» أو «الرجعة» إلى الحقيقة الأصلية التي ينطلق منها لتفسير اللغة والفكر والإنسان … إلخ على نحو ما فسر الفن؟ أيكون بهذا قد غيَّر طريقه الأوَّل الذي جعله يبحث في وجود الإنسان تمهيدًا للبحث عن معنى الوجود بوجهٍ عام؟

هذا هو الذي حدث بالفعل.

لقد بدأ طريق العودة أو الرجعة إلى حقيقة الوجود، فلنحاول الآن أن نصحبه على هذا الطريق، بقدر ما يسعنا الجهد وتُسعفنا الأنفاس!

(٤-٣) حقيقة الإنسان

كتب هيدجر رسالتَه المشهورة عن النزعة الإنسانية (١٩٤٦م) ردًّا على خطاب وجَّهَه إليه المفكر الفرنسي جان بوفريه الذي زاره بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتوطدت وشائج الصداقة بينهما منذ ذلك الحين، والرسالة تدول حول هذا السؤال: ما هي إنسانية الإنسان وكيف نفكر فيها؟ هل تقتصر النزعة الإنسانية — كما نفهمها عادةً — على السؤال عن الإنسان والاهتمام به؟

كان كتيب سارتر عن «الوجودية نزعة إنسانية» قد صدر في ذلك الحين في باريس، وكان سارتر — قبل محاولاته الأخيرة للاقتراب من الماركسية — ما يزال على خلافه مع الماركسيين الذين أرادوا احتكار النزعة الإنسانية، فجاء سارتر ليؤكِّد لهم أن الوجودية هي الإنسانية الحقة، واغتنم «بوفريه» الفرصة ليسأل فيلسوف الوجود الأكبر: ما هي النزعة الإنسانية؟ أيمكن أن نُضفيَ على هذه الكلمة معنًى جديدًا؟ ويرد عليه هيدجر بسؤال مضاد: وهل هناك ضرورة تدعو إلى ذلك؟

بهذا يضعنا في قلب المشكلة: كيف نفكر في ماهية الإنسان؟ ربما أوحى سؤال هيدجر المضاد بأنه لا يكترث بالبحث عن ماهية الإنسان، ولكن الواقع غير هذا، فهو يشك في كل محاولة لتحديد ماهية الإنسان بالاعتماد على المفهوم التقليدي للنزعة الإنسانية التي تضعه في مركز الوجود، صحيح أن مثل هذه المحاولة هي أقرب شيء مِنَّا وأيسره علينا، وهي كذلك نفس المحاولة التي قامت على أرض الميتافيزيقا وتحقَّقَت على مدى تاريخها، ولكنَّها ليست بأنسبِ الطرق المؤدِّية إلى فَهْم حقيقة الإنسان.

أين نجد النزعة الإنسانية، ومَنْ مِنَ الشعوب والحضارات تمثلها لأول مرة؟ لا شك عند هيدجر أنها ظاهرة رومانية خالصة، نشأت عن التقاء الرومان بالثقافة الإغريقية في عهودها الأخيرة، وليست «النهضة» التي تمت في إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر إلا بعثًا للنزعة الرومانية، أي للنزعة الإنسانية القائمة على فكرة «البايدايا» أو التربية الإغريقية، والدليل على هذا أن النظرة إلى الروح الإغريقية المتأخرة كانت نظرة رومانية، وأن «الإنسان الروماني» الذي بعثه عصر النهضة كان يُعدُّ الطرف المقابل «للإنسان البربري» (بالمعنى الأصلي الذي كان يُطلَق على سائر الشعوب دون الإغريق وسلالتهم من الرومان)، كما كانت «البربرية» المنسوبة للشعوب القوطية في العصر المدرسي الوسيط مرادفةً لكل نزعة غير إنسانية، وقد كان من الضروري أن يستند هذا المفهوم التاريخي للنزعة الإنسانية على دراسة الإنسان، وأن يرتبط بالرجوع إلى العصور القديمة وبعث علومها وفنونها ونصوصها، ومحاكاة الروح الإغريقية بوجه خاص محاكاة خلاقة، وهذا هو الذي حدث على سبيل المثال مع النزعة الإنسانية التي قامت في ألمانيا في القرن الثامن عشر ودعا إليها رجالٌ من أمثال فنكلمان وجوته وشيلر وهمبولت وهيردر.

بَيْدَ أن هذه الصورة التاريخية للنزعة الإنسانية ليست هي الصورة الوحيدة؛ ففي عصرنا الحديث نزعة أخرى تهتم بالإنسان دون أن تمدَّ جذورها في أرض الثقافة اليونانية والرومانية القديمة، وتتمثَّل بوجه خاص في الماركسية وفي وجودية سارتر، ولقد كان من الضروري أن يختلف مفهوم النزعة الإنسانية باختلاف المذاهب والعصور؛ لأنه إذا كان المقصود منها أن يتحرر الإنسان ليسترد إنسانيته ويجد فيها قيمته وكرامته، فلا بد أن يختلف معناها باختلاف المعنى الذي يفهمه كل منها من حرية الإنسان وطبيعته.

من الواضح أن هيدجر ينتقد هذا التصور التاريخي للنزعة الإنسانية والأساس الميتافيزيقي الذي يقوم عليه، فما هي الخاصية التي تميِّز الإنسان في هذا التصور؟ إنها العقل١٦٠ الذي يمكن له من المعرفة والفعل، ويضع له الأهداف ويهيئه لتحقيقها بمختلف الوسائل والأساليب العملية والنظرية.

وما الذي يأخذه هيدجر على هذا التصور العقلي؟ لِمَ لا يُرضيه؟

من المعروف أنه لم يكفَّ طوال حياته عن «تحدي» تاريخ الميتافيزيقا والدخول معها في حوار مستمر ومحاولة تجاوزها والرجوع بها إلى «أساسها» الذي نسيته أو قصرت في التفكير فيه؛ ولهذا فإنه يرفض هذا التصور لأنه يقوم على تفسير ميتافيزيقي محدد للإنسان، ولأن هذا التفسير لم يفهم من ناحيته الميتافيزيقية ولم يتمَّ التفكير فيه على نحو كاف.

وليس معن هذا أنه يريد أن يضع تفسيرًا جديدًا يحل محل التفسير القديم، وإلا كانت المسألة كما يقول هيدجر مسألة «وضع» لا يزيد في مشروعيته عن أي وضع آخر ولا يقلُّ عنه، بل معناه أنه يبحث في كل هذه الأوضاع والتفسيرات عن «مضمونها» الذي لم ينل حظه من التفكير المتعمِّق الأصيل.

ما الذي يريده هيدجر من «مشروعه» أو تجربته التي استعان فيها بتجربة المفكرين الأوائل قبل سقراط، وراح يلتمس عندهم منبع الاندهاش وأصل التفلسف ونور الوجود ذاته؟ وكيف نُعاين هذا النور الذي كان لا يزال حيًّا دافئًا قبل أن تنشأ الميتافيزيقا على يدي أفلاطون وأرسطو فيخبو بريقه ويقيد في قوالب المنطق؟ وإذا كانت الميتافيزيقا القديمة لا تُرضيه، فهل يلتمسه لدى الميتافيزيقا الحديثة التي توصف منذ عهد ديكارت بأنها ميتافيزيقا الذاتية؟ وأين نجد ذلك «البُعد» الذي ييسر لنا فهم الموجود، ويحرره، ويظهره؟ وهل يمكن أن يظهر الموجود إلا ذاتًا أو كائنًا ينفتح عليه ويتعرض لنوره؟ لقد تحدث أفلاطون عن الظهور، وكانت نظريته عن إدراك الموجود عن طريق «الفكرة» أو «المثال» هي إدراكه من خلال منظره ومظهره١٦١ دون حاجة إلى افتراض مفهوم «الذات» التي يظهر لها، هل نرجع إلى السؤال عن شروط المعرفة التي تحصلها الذات، على نحو ما فعلت الفلسفة «الترنسندنتالية» أو الشارطية والنقدية عند كانط وأتباعه؟ إن الذات عند هذه الفلسفة هي المحور والمركز، وكل ما ليس ذاتيًّا فهو موضوع عليها أن تدركه وتحقق موضوعيته، لقد كان التحول الذي تم في هذه الفلسفة بعيد الأثر على الميتافيزيقا الحديثة، ولكنه لم يكن التحول الوحيد في تفسير الموجود وأسلوب ظهوره، فقد سبقته ولحقته تحولاتٌ عديدة، سواء في العصر القديم والوسيط، أو الحديث والمعاصر، كما أنه لن يكون هو التحول الأخير، ونحن لا نملك حريةَ التصرف في أمثال هذه التحولات ولا نستطيع أن نحدثها بمحض إرادتنا؛ لأنها جزء من تاريخ الميتافيزيقا، أي من تاريخ الإنسان الغربي وقدره، وأقصى ما نقدر عليه هو محاولة التفكير فيها، ولهذا كان تفسير هيدجر لتاريخ الميتافيزيقا منذ بدايتها عند أفلاطون إلى نهايتها عند نيتشه؛ تفسيرًا لتاريخ الإنسانية الغربية نفسها: وأهم ما في هذا التفسير أن الميتافيزيقا لم تَضع هذه التحولات المختلفة في تفسير الموجود موضع السؤال، وإنما كانت دائمًا تضع تفسيرًا محددًا تعدُّه التفسير الحقيقي الوحيد، إلى أن يأتي التحول الجديد ومعه تفسير جديد، ويكفي أن نستعرض «شريط» هذه التفسيرات «الموجودية» للموجود — لا للوجود نفسه! — من المثال (الأيدايا) الأفلاطوني والفاعلية (الإنيرجيا) الأرسطية والموجود المخلوق (في العصر الوسيط) إلى الذات (ديكارت وكانط) والمونادة (ليبنتز) والروح المطلق (هيجل) وإرادة القوة (نيتشه)، ولا يتَّسع المجال لمناقشة قضية الميتافيزيقا وتاريخها ورأي هيدجر في ضرورة قهرها وتجاوزها و«تفكيكها»؛ إذ يكفينا الآن أنه يطرح هذا السؤال: ما الذي تمَّ في كل هذه التحولات؟ أو بعبارة أخرى ما هو النور أو «الإنارة» التي «حدثت» في كل مرة وظهر على ضوئها الموجود دون أن يتساءَل الفلاسفة عن حقيقتها أو يتفكَّروا فيها؟ إنهم جميعًا قد فكروا في «الموجود» ولم ينتبهوا إلى الوجود نفسه الذي ظهر في كل هذه التحولات واحتجب في نفس الوقت أثناء ظهوره؛ ولهذا أصبح التفكير في الوجود نفسه والتحولات المختلفة التي طرأت على «إنارته» هي المهمة الملقاة على عاتق كل فكر أصيل، كما أصبحت الضرورة تقتضي أن يكون هذا الفكر غير ميتافيزيقي.

ولكن ما علاقة هذا كله بإنسانية الإنسان وبرسالة النزعة الإنسانية؟

لقد عرفنا أن الإنارة مرتبطة بالتفتح أو الانفتاح، وهذا الانفتاح لا يمكن تصوره بغير الإنسان الذي هو في صميمه «تواجد» أو «تخارج» أو «تعرض» لنور الوجود، هذا هو الذي أكدتْه «ماهية الحقيقة»، وأوضحتْه الدراسة السابقة عن الأصل في العمل الفني عندما اعتبرتْه «الوسيط المنير» الذي يدور فيه النزاع من أجل الحقيقة، وهذا هو الذي ستبرزه النزعة الإنسانية التي ستفكر في الإنسان على ضوء علاقته بالانفتاح على إنارة الحقيقة ونور الوجود، فهي لن تفكر في إنسانية الإنسان من ناحية أفعاله وإنجازاته، ولا من جهة نشاطه السياسي أو سلوكه الاجتماعي، وإنما ستفكر فيها كما قلنا من خلال علاقته بالإنارة، إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي وُهب القدرة على الانفتاح بحكم وجوده نفسه الذي وصفناه «بالتواجد»،١٦٢ وهو كذلك الكائن الذي فُرضت عليه مهمة الحفاظ عليها؛ ولهذا يمكن القول بأنه هو حارسها وراعيها، وتتأكَّد إنسانيةُ الإنسان عندما يقوم بهذه المهمة ويحفظها بكيانِه وفكرِه، وتنسى وتضيع عندما يتنكر لها ويعجز عن القيام بها، ولهذا نجد هيدجر يقول في بداية رسالته: إن الفكر يحقق علاقة الوجود بماهية الإنسان، وليس ما «يحققه الفكر» إلا تجربة الإنارة والصمود والتعبير عنها باللغة، عندئذٍ تصبح اللغة هي «بيت الوجود»، أي المكان الذي تتجلَّى فيه الإنارة تجليًا أصيلًا، بينما تظل في العادة خافية أو متحجبة لأننا لا ننتبه في حياتنا اليومية إلا إلى الموجودات التي تظهر في نورها، ولا شك أن إدراك هذه الإنارة أمر عسير؛ لأنها ليست موضوعًا يمكن التعبير عنه باللغة التي درجة على وصف الموضوعات المألوفة، كما أنها ليست موجودًا كسائر الموجودات التي تظهر لنا ويسهل علينا إدراكها، وإنما هي ذلك الذي يجعل تجربة الموجود أمرًا ممكنًا.

مهمة الفكر إذن تنحصر في التعبير عن الإنارة بالكلمة، والحفاظ عليها، وتيسير السبل إلى إدراك ماهيتها، ولعل هذه الفكرة هي التي حرَّكتْ هيدجر ودفعتْه منذ البداية للسؤال عن الوجود والحقيقة.

ما هي العلاقة بين الإنارة والوجود؟

إن الإنارة هي الوجود، بقدر ما يتيسر لنا إدراكه وفهمه فهمًا غير مباشر ولا موضوعي، وهذا هو الذي تُعبِّر عنه هذه الرسالة حين تقول: «إن الفكر يسمح للوجود بأن يستوليَ عليه كيما يعبر بالقول عن حقيقة الوجود، والفكر هو الذي يحقق هذا السماح.» فحقيقة الوجود هي هذه الإنارة التي «تحدث» وتحمل علاقتنا بالموجود وتبقى عليها، وبهذا تشهد الحقيقة نفسها تحولًا حاسمًا في مفهومها ووظيفتها، فلم تعد تحديدًا يتعلَّق بالموجود «وينطبق» عليه، وإنما أصبحت هي «اللاتحجب» أو الإنارة التي لا نفكِّر في الوجود إلا على ضوئها بل نجعلها مرادفة له، ربما يتحمل هيدجر مسئولية الارتباك الذي نقع فيه عند الاطِّلاع على هذه المصطلحات المختلفة من وجودٍ وإنارةٍ وحقيقةٍ ولاتحجُّب (أليثيا) في مؤلَّفاته العديدة، ولكن لعل للرجل عذرَه؛ فهي قد صحبت طريقه الطويل في التفلسف، كما أنه كان دائمًا «على الطريق» إليها، ومع ذلك نستطيع أن نقول الآن، بعد اكتمال دائرته الفكرية، إنها جميعًا تعبِّر عن شيء واحد وتجربة واحدة، والأهم من المصطلحات بطبيعة الحال هو تحقيق هذه التجربة وبذل الجهد المتصل في سبيلها.

ونسأل الآن: ما هي العلاقة بين الوجود وبين ماهية الإنسان الذي وصفنا وجوده بأنه «تواجد»؟ إن الوجود نفسه هو «العلاقة»، و«الموضع» الذي تكون فيه حقيقة الوجود «وترتب نفسها» فيه هو الموجود الإنساني أو على حد تعبير هيدجر: «إن التعرُّض لإنارة الوجود هو الذي أسميه بتواجد الإنسان، والإنسان وحده هو الذي يختص بهذا الأسلوب في الوجود، والتواجد المفهوم بهذا المعنى ليس هو الأصل في إمكان العقل فحسب، وإنما التواجد هو ذاك الذي تحفظ فيه ماهية الإنسان منشأ تحديده.»

كلام عسير بغير شك، ولكنه يبين التحول الذي طرأ على وجهة نظر الفيلسوف بعد «الوجود والزمان» فأصبحت أوسع وأشمل، لم يعد «التواجد» مجرد جهد يبذله الإنسان لكي يصل إلى هُويته أو وجوده الأصيل عن طريق «شروعه» على إمكانياته، بل أصبح هو التعرض لإنارة الوجود والانفتاح عليها، هذه الإنارة لم يُحدثها الإنسان ولم يخلقها بإرادته وفعله، وإن كانت وراء كل خلق أو فعل، وتدور رسالة النزعة الإنسانية حول وجود الإنسان أو بالأحرى تواجده، أي حول فهم الإنسان بوصفه كائنًا متميزًا عن سائر الكائنات الحية بعلاقته بالوجود.

بهذا تنفتح لنا أبواب المجال الذي يمكن فيه تحديد ماهية الإنسان، وبهذا يكتسب من القيمة والكرامة أضعاف ما أعطتْه إياه النزعة الإنسانية، إن إنسانيته الآن مستمدة من قربه من الوجود، وفكره منصبٌّ على الانفتاح الحادث في التاريخ، أي على حقيقة الوجود: «إن الفكر لَيفعل في أثناء تفكيره، وربما كان هذا الفعل هو أبسط الأمور وأسماها في نفس الوقت؛ لأنه يتعلَّق بعلاقة الوجود بالإنسان.»

ومن الطبيعي بعد كل ما قلناه أن تكون اللغة مرتبطة بالوجود، فاللغة تعبر عن تجربة الوجود، والفكر والشعر — كما سنرى بعدُ — لا يهتمان بشيء قدر اهتمامهما بذلك الانفتاح الأساسي على الحقيقة، وإذا كُنَّا في العصر الحاضر أسرى الفهم التقني أو المنطقي للفكر، فإن هذا يزيد من مشقَّة الجهد الذي علينا أن نبذله للاقتراب من الأفق الذي يحاول هيدجر أن يهدينا إليه، صحيح أن المنطق يعلمنا فن التفكير السليم، ولكنه لن يعلمنا كيف نفكر ولا ما هو الفكر، وأقصى ما يمكن أن نعرفه من المنطق هو التفسير التقني أو «الأداتي» الذي يتحكم اليوم في حياتنا العملية ولا يعدو أن يكون تفسيرًا ميتافيزيقيًّا محدودًا للفكر الذي انحدر إلينا من السفسطائيين وأفلاطون ولم تتوقف أيدي الصناع المهرة عن تهذيبه وتنقيحه! وعندما يسير الفكر صوب نهايته، بابتعاده عن عنصره، نجده يعوِّض هذا النقص بأن يجعل من نفسه تقنية وأداة للتعليم، ومِنْ ثَمَّ يؤكِّد نفسه في برامج التدريس ونظم الحضارة، وتصبح الفلسفة بكل بساطة أسلوبًا فنيًّا للشرح والتفسير انطلاقًا من أسمى العلل والأسباب.١٦٣ ولهذا يحاول هيدجر أن يعيد الفكر إلى عنصره، أي يعلمه السباحة من جديد في بحر الوجود الذي استمد منه قوته وطاقته وأصالته في فجر الفلسفة! وإن شئنا الدقة قلنا إنه يرجع الوجود إلى الفكر لكي يستولي عليه، ويزوده بالقدرة والطاقة، ويعرفه بجوهره الذي نسيه وغفل عنه في غمرة انشغاله بالموجودات، بهذا يتم التحول الذي ننتظره من التفكير الفلسفي الحق، ويتغير التصور السائد منذ القدم، فبدلًا من أن نفكر في الوجود — وهذا بالطبع هو واجبنا المحتوم — نحاول أن يفكر الوجود فينا، أن يصبح الفكر شيئًا «يحدثه» الوجود بعد أن يسلم له نفسه وينفتح عليه بكل طاقته وينصت لندائه ويقف منه موقف التلقي والخشوع، وليس التفكير في الإنارة والأسلوب الذي أنارت به عند هذا الفيلسوف أو ذاك الشاعر، في هذا العصر أو غيره، سوى نوع من الإنصات لنداء الوجود.

لن نحاول إذن أن نفهم الإنسان باعتباره «ذاتًا» تفسر الموجود من حولها تفسيرات مختلفة، كما فعلت النزعات الإنسانية على اختلافها، بل سنسير في الاتجاه الآخر ونجتهد في فهم الإنسان من ناحية الوجود نفسه كما نجتهد في فهمها من خلال علاقة الإنسان به، وسيكون علينا أن نتخلَّى عن مجال الميتافيزيقا — أو نقهرها ونتحدَّاها! — لأنها وإن تكن قد فكرت في وجود الموجود-أو موجوديته، فقد عجزت عن إدراك الفارق الأساسي بينهما، ولم تسأل عن حقيقة الوجود نفسه، ولا سألت عن العلاقة الحميمة بين ماهية الإنسان وبين الحقيقة، وسيكون علينا أن نفكر في الوجود الذي نعيش دائمًا في قربه وجواره، والذي يقرِّبنا من الموجودات كما يقرِّبنا من أنفسنا، وليس هذا الموجود كما قلنا إلا «الإنارة» التي لا بد من افتراضها حتى يتسنَّى للموجود أن يظهر كما يتسنى لنا أن نلتقي به.

وسنُخطئ لو تصورْنا أن هذه هي الغاية ونهاية المطاف؛ لأن مهمتنا ستبدأ في الواقع من هذه «المعرفة» — إن جاز لنا أن نسمِّيَها بهذا الاسم — التي ستمكننا من النظر إلى ماهية الإنسان على ضوء الإنارة التي تحدث في التاريخ، ولا شك أن هذه الإنارة قد تغيَّرت أساليب ظهورها وتجليها باختلاف الفلاسفة والعصور والشعوب، وكانت مهمة الإنسان دائمًا أن يتحمَّلها ويواجهها ويصمد لها وينفتح عليها، لا أن يصطنعها أو يخلقها من العدم، لقد كانت قدرًا — كما قال الفيلسوف — وما قدر على فرد أو شعب لا يلزم فردًا أو شعبًا آخر كل الإلزام، فهل آن لنا أن نفكِّر في وجودنا والإنارة التي سطع بريقها في طرقات تاريخنا؟ هل نأمل أن نحتشد ونتجمع لنتحمل قدرنا ونواجه مصيرنا ونعرف حقيقتنا بعد أن طال الرقود والركود، والتقصير والنسيان؟

(٤-٤) حقيقة اللغة

الشعر والفكر واللغة، هذا هو المجال الذي بقي علينا أن نستكشفه على هدي الحقيقة، وبنعمةِ نورها وتجلِّيها، فلعلنا أن نجد فيها الإنقاذ من المحنة التي تتهدَّد تاريخنا المعاصر، أو لعلَّنا أن نشارك بأنفسنا في هذا الإنقاذ.

والكلام عن الشعر والفكر واللغة يحتاج للرجوع إلى دراسات هيدجر المتعددة وشروحه المختلفة لنصوص الشعراء، ابتداءً من «الوجود والزمان» إلى «الأصل في العمل الفني»، و«هلدرلين وماهية الشعر»، وتفسير بعض قصائد هذا الشاعر الكبير مثل «العودة»، و«إلى الأقارب»، و«كما في يوم عيد»، و«ذكرى»، فضلًا عن بعض أشعار «رلكه» و«تراكل» وجئورجه، ولما كان هذا أكبر من أن يتسع له المجال، فسوف نكتفي ببعض ما جاء في كتابه «على الطريق إلى اللغة»١٦٤ ونتناول بوجهٍ خاصٍّ محاضراتِه عن ماهية اللغة وتفسيره لقصيدة «الكلمة» للشاعر ستيفان جئورجه.
يقول هيدجر في مقدمة محاضراته الثلاث عن «ماهية اللغة» إن هدفه هو «الدخول في تجربة مع اللغة»، وليس معنى هذا بطبيعة الحال أن نقوم بتجارب على اللغة أو نجمع معلومات عنها، كما يفعل علماء اللغة وما بعد اللغة، بل معناه أن ننتبه إلى علاقتنا باللغة، ونتفكر في «سكننا في اللغة»، ونستوضح طبيعة شيء يتعلَّق بصميم وجودنا، وهو يؤكِّد فضلًا عن هذا أن سؤالَه عن ماهية اللغة لا ينتهج مسالك الميتافيزيقا الحديثة التي تتقيَّد بها بحوث «ما بعد اللغة»،١٦٥ فهذه البحوث هي ميتافيزيقا السيطرة التقنية التي تنشر سلطانها على جميع اللغات لتشغيل أدوات التوصيل والأعلام التي تصل بين الكواكب المختلفة.

علينا إذن أن نحيا تجربة اللغة بحيث تعبِّر عن نفسها بنفسها، فاللغة تتميَّز بأننا نعيش فيها ونألفها دون أن ننتبه لها في العادة أو نحاول تركيز أبصارنا عليها، فكيف نخرج من هذه الحال ونفكر في ماهيتها؟

إننا جميعًا نفزع إلى بيت أو قصيدة من الشعر نستشهد بها حين تتأزَّم مواقفنا في الحياة أو نعجز عن التعبير عن مكنون مشاعرنا، فالشعراء هم أصحاب الرؤية، وكلماتهم لآلئ بحر التجربة البشرية، وكم من أبيات قليلة كشفت — كالبرق الخاطف — عن خبرة أجيال طويلة، وكم لخصت في حكم قليلة ما عجز الفيلسوف عن قوله في مجلدات ضخمة (ولقد طالما لجأ الفلاسفة أنفسهم إلى صور الشعر ورموزه وتشبيهاته واستعاراته حين انطلقوا إلى مجال الفكر الخالص وعجزت أجنحة الرؤية والعيان عن التحليق إليه، كذلك فعل أفلاطون عندما غادر أرض الحس والمحسوس في رحلته إلى عالم المثل ولم يستطع أن يعبر عن تجربته الفكرية المجردة بمثال الخير — وهو أسماها جميعًا — إلا بالصورة والرمز، ورمز الكهف ورمز الشمس والخط كلها تعبير عن عجز اللغة حين يصعد الفكر إلى أفق مرتفع فوق الأشياء والموضوعات المرئية والمحسوسة، فتكبو كذلك جياد اللغة — التي خُلقت بطبيعة استعمالها لوصفها ومخاطبتها — عن اللحاق به).

ويبدو أن التفكير في ماهية اللغة قد ألجأ هيدجر كذلك إلى التماس العون من الشعراء، لا لأن علاقتهم باللغة علاقة متميزة فحسب، بل لأنهم أقدر من غيرهم على التعبير عنها، وكما ذهب إلى هيلدرلين ليستوضحه عن ماهية الشاعر والشعر، نجده يتجه إلى الشاعر الرمزي ستيفان جئورجه١٦٦ (١٨٦٨–١٩٣٣م) ليتعرف على علاقته باللغة، وهكذا يحلِّل قصيدة «الكلمة» التي كتبها الشاعر سنة ١٩١٩م ونشرها بعد ذلك في ديوانه «المملكة الجديدة»:
معجزة من بعيد أو حلمًا
جلبته إلى طرف بلادي،
وانتظرت حتى تجد ربة القدر١٦٧ المظلمة
في نبعها اسمًا تضفيه عليه،
عندئذٍ أمكنني أن أقبضَ عليها بقوة،
وهي الآن تزدهر وتسطع نافذة في عظامي،
وقديمًا حرَّكني الشوق إلى رحلة طيبة،
ومعي جوهرة ثرية ورقيقة،
فتشَتْ١٦٨ طويلًا ثم جاءتْني بالخبر:
«لا شيء هنا يرقد في الأعماق.»
هنالك أفلتت من بين يدي،
وما كسبت بلدي الكنز أبدًا،
فتعلَّمت وقلبي محزون هذا الزهد:
إن تنكسر الكلمة لا يوجد شيء بعد.

تتحدث القصيدة في أبياتها الستة الأولى عن قوة الشاعر وقدرته، فهو يملك موهبة الرؤية والبصر بكل مدهش وعجيب، وربة القدر في الأساطير الجرمانية هي التي تهب رؤيته الاسم، نعمة منها وهدية، والكلمة هي التي تظهر الموجود أمام الشاعر أو أمام غيره من الناس، والأسماء هي التي تمكنه من الاحتفاظ برؤاه، كما تساعد هذه الرؤى على التفتح والازدهار، هنا نبلغ قمة الفعل الشعري؛ فالبيت السادس يقول: «وهي الآن تزدهر وتسطع نافذة في العظام»، ويشير هذا إلى أن الأسماء هي التي «تحضر» الأشياء وتمدها بالوجود والثبات.

وفي الأبيات الستة الأخيرة يحدِّثنا الشاعر عن تجربةٍ مختلفة، فهو لم يحمل معه شيئًا من بعيد، وإنما رجع من رحلته الطيبة ومعه شيء قريب: جوهرة ثرية رقيقة، ما الذي نفهمه من هذه الجوهرة؟ ربما كانت هي الجوهرة التي تظهر وجود الشاعر نفسه، ولكن ربة القدر تفتِّش في نبعها فلا تجد لها اسمًا، لقد استطاعَت قبل ذلك أن تجد لكل موجود اسمًا، فما الذي يعجزها الآن عن العثور على اسم لهذه الجوهرة؟ أتكون شيئًا لا وجود له؟ ولكنها جوهرة، والجوهرة شيء غالٍ ونفيس، موجود من نوع متميز، وحين تغيب الكلمة تختفي الجوهرة وتفلت من يدي الشاعر، هذا الغياب يشير إلى وظيفة أخرى للكلمة، إلى أسلوب آخر من أساليب وجودها؛ فهي لا تقتصر على إضفاء الاسم على الموجودات، وليست مجرد يد تمتد بالاسم إلى ما نتصور وجوده، بل هي قبل كل شيء ذلك الذي يهب الوجود ويضفي الكينونة.

تنتهي القصيدة بهذين البيتين:

فتعلَّمت وقلبي محزون هذا الزهد:
إن تنكسر الكلمة لا يوجد شيء بعد.

فكيف نفهم هذه النهاية؟ ما الذي يزهد فيه الشاعر أو يصدُّ عنه؟ وما الذي تعلَّمه هنا من جديد؟ إنه شيء يتعلَّق بالرأي الذي كان يؤمن به من قبل عن العلاقة بين الشيء والكلمة، لقد تعلَّم الآن أن يتخلَّى عن هذا الرأي السابق، والتخلِّي ينطوي في نفس الوقت على وعد، فالكلمة تبدو له الآن في ثوبٍ جديد: إنها هي التي تُضفي على الشيء وجوده وتحافظ عليه.

عرف الشاعر أنه حارس الكلمة ومدبِّرها، وإذا كانت تجربته قد انتهت بالإخفاق، إذا كانت ربة القدر قد عجزت عن العثور على كلمة تُسَمِّي بها تجربته الجديدة، فيجب ألَّا نفهم من هذا أنها تجربة سلبية خالصة، أو أنه خرج منها فاقدًا كل كنوزه، لقد تعلَّم الزهد والصد والتخلي عن عقيدته السابقة، ولكنه تعلَّم شيئًا لم يكن يعلمه عن سلطان الكلمة وقدرتها، والأسى الذي يشعر به على ما فقده وضاع منه، يحمل في طياته وعدًا بما يدخره المستقبل من حضور الغائب واقتراب البعيد، ولعل هذا الإحساس بالأسى أن يكون هو المسيطر على هيدجر نفسه، فهو الإحساس «بزمن المحنة» الذي عبَّر عنه هلدرلين ببيته المعروف: «لم الشعراء في الزمن الضنين؟» حين افتقد أولئك الذين يؤسِّسون بالكلمة «ما يبقى»، وإذا كان الوجود قد احتجب عَنَّا نوره، فإن التفكير في هذا الاحتجاب والإحساس العميق به يمكن أن يكونا إيذانًا بظهوره ووعدًا بحضوره، وموقف هيدجر من الميتافيزيقا يوضِّح ما نقول، فتاريخها في رأيه هو زمن نسيان الوجود، وطبيعي أن تفكير هيدجر لا يلغي هذا الزمن ببساطة، وإنما يُحاول أن يشعرَنا بغياب الوجود عنه، وبأنَّنا نعيش في زمن لم يفكر بعد في هذا الغياب تفكيرًا أصيلًا، حتى يمهِّد لإمكان التحول الذي لا يستطيع أحدٌ أن يتنبأ بموعده.

ما علاقة هذا بحديث هيدجر عن اللغة؟

ما شأنه بما يقوله عن قدرة الكلمة؟

الحق أن المشكلات التي يثيرها ليست مجرد مشكلات للبحث، وإنما هي وعاء يضم تجربته الأساسية، ويقدم من خلاله سؤالَه عن الوجود، كما فعل في بحوثه عن العمل الفني ومشكلة التقنية وشروحه لنصوص الفلاسفة وقصائد الشعراء … إلخ، إنه يريد أن يستمع إلى نداء اللغة، واللغة هي لغة الوجود، ولا بد أن تتحدث اللغة إلينا، أن تعبِّر لنا عن ماهيتها: «فماهية اللغة هي لغة الماهية»، ولن تتسنَّى لنا تجربة اللغة حتى يحدث هذا، وخير ما يمهد لهذا الحدث أن نحسَّ بجوار الشعر والفكر، ونتمكن من السكن في هذا الجوار، صحيح أن المفكرين قد قدموا لنا أفكارًا قيِّمة عن اللغة، وأن الشعراء قد أبدعوا آيات لغوية رائعة، غير أن ماهية اللغة لم تعبِّر عن نفسها عند أحد منهم ولا في أي مكان بوصفها لغة الماهية، فما تقوله اللغة نفسُها يختفي عادةً وراء ما يُقال من خلالها، وربما كان السبب في هذا أنها تتمسك بالأصل الذي انحدرت منه وتأبى على ماهيتها أن تظهر، وربما كان السبب أيضًا أننا لم نفكر بعدُ تفكيرًا أصيلًا في الشعر والفكر، وهما الأسلوبان المميزان في القول، ولم نحاول أن نلتمسهما حيث ينبغي أن يُلتمسا، أي في الجوار الذي يؤلف بينهما.

ونعود إلى تفسير قصيدة جئورجه عن الكلمة، فهي لا تقتصر على القول بأن هناك علاقةً بين الشيء (الموجود) والكلمة، بل تزيد عليه أن الكلمة هي التي تساعد الشيء على الوجود وتحفظه، إنما هي التي تجعل الشيء شيئًا، وما وصفناه بالعلاقة بينهما هو في الحقيقة أقرب إلى «التمكين»، فالكلمة هي التي تمكن الموجود من الوجود وتكفله له.

قلنا إن الشعر والفكر يربط بينهما الجوار، فما هو العنصر المشترك بينهما؟ إنه عنصر اللغة نفسها، ولكننا جميعًا نعلم أن الشعر غير الفكر، هذا ما يشهد به الحس السليم ولا يُنكره هيدجر، وإذا كان الشاعر والمفكر، والعالم ورجل الشارع يستخدمون لغةً واحدةً أو عنصرًا واحدًا، فإنهم يختلفون مع ذلك أشدَّ الاختلاف تبعًا لاستخدام الكلمة في الشعر أو الفكر أو العلم أو الحياة اليومية، وربما أوحى إلينا تفسير قصيدة جئورجه أننا لسنا في جوار الشعر والفكر؛ إذ كان الفكر هو طريقنا إلى فهم ما يقوله الشاعر، ولكن المسألة أعقد من هذا، فهذه المحاولة التي قمنا بها يعوزها إدراك الجوار في ذاته، إننا نقيم حقًّا في اللغة ونتخذ منها سكنًا لنا، ولكن الإحساس بهذا المقام والسكن من أصعب الأمور، وإذا كان هذا السكن هو الذي يحدِّد ماهية الإنسان، فإن العودة إلى ما يسمِّيه هيدجر «مقر الوجود الإنساني» هو الواجب الأسمى علينا، وهو الذي يتجه إليه بكل جهده وفكره، ولا ينبغي أن نتصور هذا «المقر» «مكانًا ثابتًا» لا يبرحه الإنسان، بل لا بد من اعتباره المكان أو المجال الذي تتفتح فيه إمكانياته الأصيلة التي عرفناها عند الحديث عن تحليل الوجود الإنساني في «الوجود والزمان»، ولا ينبغي أيضًا أن نفهم هذه العودة بمعنى الرجوع للقديم، فهذا شيء تأباه تاريخية الإنسان كما يأباه التكوين الزماني للوجود نفسه.

هذه «الرجعة» إلى مقرِّ الوجود الإنساني والماهية الإنسانية تقابل ما نلمسه اليوم من «تقدُّم» في ماهية الآلة مقابلة الضد للضد، وما بقي الإنسان على جهله بقوام ماهيته وأساسها، فسيظل كل تقدُّم في السيطرة الآلية والتقنية أمرًا مشكوكًا فيه؛ لأنه سيقيس تقدمه بمدى تحكمه في الطبيعة، لا بمدى معرفته بحقيقته أو بالطبيعة نفسها بما هي كذلك.

ولكن ما هي هذه الجوهرة التي يحملها الشاعر معه؟ كيف نفهمها؟ ما معنى هذا الرمز؟ ولماذا تعجز ربة القدر عن إيجاد اسم لها؟ إن هيدجر يقترح علينا أن تكون هذه الجوهرة هي الكلمة نفسها، هنا يعرف الشاعر حدوده التي لا يصح أن يتخطاها، فهو يفتِّش في «وطن الشعر» عن كلمة تُسَمَّى الكلمة فلا يعثر عليها، أيمكن أن يساعده الفكر؟ إن الكلمة ليست شيئًا، عبثًا نبحث بين الأشياء عن الكلمة، والكلمة لا «تكون» بالمعنى الذي «تكون» به الأشياء والموجودات، ومع ذلك فكينونتها متميزة عن كل الأشياء؛ ولهذا لا يجوز لنا أبدًا — من الناحية الموضوعية البحتة — أن نقول عنها إنها تكون، والأولى أن نقول: إنها تعطي.١٦٩

إنها تعطي بمعنى العطاء والإهداء، ولكن ما الذي تعطيه؟ الجواب بسيط: إنه الوجود، وهي لا تعطيه بالمعنى الذي كان مفهومًا في العصور الوسطى من أن الله أو الكلمة هي التي تخلق الموجود، بل بالمعنى الذي فهمناه من قبل من «الإنارة» التي تتجلَّى فيها الموجودات وتظهر، دون حاجةٍ منها إلى خلقها وإيجادها.

ونقترب الآن من فكرة الجوار بين الشعر والفكر، ونحاول أن نفهمه من خلال اللغة نفسها: «فالإنسان لا يكون إنسانًا إلا بقدر ما يُنصت لنداء اللغة، وبقدر ما يستخدم اللغة ويتحدث بها»، هذه العبارة تغير محور الارتكاز الذي عرفناه حتى الآن، فقد تحدثْنا عن علاقة الماهية بالإنسان، ووصفنا اللغة بأنها سكنه ومقامه الذي يحيا فيه دون أن ينتبه إليه أو يتفكَّر في أمره؛ لأنه أبعد شيء عنه وإن كان أقربه إليه، وها هو ذا الإنسان يتوارى قليلًا لكي تبرز اللغة إلى مقدمة المسرح (وهي — إن صحَّ هذا الظن — تخاطبنا كما يخاطب الممثل أو الراوية جمهور المتفرجين في المسرحيات الملحمية، أو المسرحيات التي أُصيبت بوباء «الموضة» دون أن يكون لها من الملحمية أدنى نصيب) لكي تقول لنا: لقد درجتم على اعتبار اللغة أداة اتصال وتوصيل، وظننتم أن اللغة وسيلة تستخدمونها، ولكن ما رأيكم، دام فضلكم، في أنكم مخطئون في حقها وحق أنفسكم؟ إن اللغة يا سادة هي التي تستخدمكم، تعلموا إذن أن اللغة هي التي تستخدم الإنسان، وعليه أن يطيعَها ويُنصت إليها، وربما ثار أحد المتفرجين فنهض غاضبًا من مقعده — كما يحدث كثيرًا في مسرحيات هذه الأيام — وصعد إلى خشبة المسرح وصاح: ما هذه الإهانة؟ إنك أنت الذي تجعل منها شيئًا، ما عسى أن تكون هذه اللغة التي تريد مِنَّا أن نخدمها ونكون في طاعتها؟ أرجعتم بنا إلى نظرية الأصل السماوي للغة أو نظرية «التوقيف» وما فيها من خزعبلات عفَّى عليها الزمن ودفنها العلم؟ ولكن «الراوية» لن يستسلم بهذه السهولة، سيحافظ على دوره ولو حاول المتفرجون كلهم أن يزحزحوه من مكانه! وها هو ذا يقول في تؤدة تليق به إن ماهية اللغة هي القول، والقول،١٧٠ في اشتقاقه الأصلي من اللغات الهندو-أوروبية التي تجهلونها ويعرفها المؤلف، يعني الإشارة والدلالة، وهو يعني كذلك الإظهار، والإظهار — وهذا ما لا تعلمونه أيضًا — مرتبط بإنارة الوجود التي تُحرِّر وتعطي، وتمنع وتُخفي، فما الذي تُعطيه وتمنعه، ما الذي تُظهره وتحجبه؟ إنه العالَم، وهذا شيء غير جديد على من درس «الأصل في العمل الفني» الذي قلنا فيه إن العمل يظهر حقيقة الوجود ويحجبها، يعطيها ويمنعها، هكذا يمكننا أن نقول — سواء فهمتم أم لم تفهموا — إن ماهية اللغة هي: لغة الماهية، وهي عبارة لو تأملتموها وعشتموها لَحولتكم من الأعماق.
فالماهية في الشطر الأوَّل من العبارة غيرها في الشطر الثاني، إنها في الأوَّل تأتي إجابة على السؤال عما هي، واللغة هنا هي الموضوع الذي نبحث عن ماهيته عن طريق مفهومنا وتصورنا عنه، بحيث نستطيع أن نجيب على من يسألنا «ما هو»، وهذا يعود بنا إلى الأبيات الستة الأولى من قصيدة «الكلمة»، كما يرجع بنا كذلك إلى مجال التصور الميتافيزيقي التقليدي، أمَّا الماهية في الشطر الآخر من العبارة فهي التي ستأتي بالتحوُّل المنتظر؛ لأنها ستنقلنا من ميدان التصوُّر الميتافيزيقي الذي طال حبسكم فيه، إلى مجال الفكر غير الميتافيزيقي الذي نريد أن نهديكم إليه، هذا شيء سيصدكم ويثير دهشتكم، ولكن أين الفكر الحقيقي الذي لا يصدم ولا يدهش؟ إن الماهية الآن ليست الإجابة على سؤال عما هو الموضوع؛ لأننا لسنا بصدد موضوع ولا شيء موضوعي، وإنما تفيد معنى الحفاظ والضمان والعطاء، فاللغة تهمُّنا، وتتصل بصميم وجودنا وتحركه وتلمس شِغافه، واللغة تنتمي بهذا المعنى للماهية التي تحرِّك وتمنح، ما هو الذي يحرك ويمنح؟ إن أعمال هيدجر الأخيرة، وبخاصة محاضرته عن الشيء،١٧١ تسميه «الرباع» أي اتجاهات العالم الأربع من أرض وسماء ومن فانين وسماويين في عَلاقتهم ببعضهم البعض، ما صلة هذا باللغة؟ إن اللغة هي التي تحمل تفاعل هذا الرباع أو هذه الوجهات الأربع أو هذا العالم، وفي هذا التفاعل «يحدث» القرب، والقرب والقول أسلوبا الإظهار، أي أسلوبا «كينونة» اللغة وإحضارها للموجودات من التحجُّب إلى النور، تلك هي ماهيتها.

لا شك أن المتفرِّج الذكيَّ قد تذكر الشاعر هلدرين عند سماع كلمات الأرض والسماء والفانين والسماويين، وربما تذكر قصيدته الكبرى «خبز ونبيذ» التي يقول في نهاية المقطوعة الخامسة منها:

هكذا الإنسان، حين تكون الثروة بين يديه،
ويؤثره الرب نفسه بالنعم والهدايا.
لا يفطن إليها ولا يراها.
عليه أولًا أن يتحمل ويقاسي،
لكنه الآن يُسَمَّى أعز الأحباب إلى نفسه،
ولا بد أن تتفتح الكلمات التي تدل عليه،
كما تتفتح الأزهار.١٧٢

وقد لمح هيدجر «الكلمة» — زهرة الفهم كما يسمِّيها هلدرين! — أو الكلمات كما جاءت في هذه القصيدة، ففهم أنها هي «الجهة» التي تسمح للأرض والسماء وتدفق الأعماق وقوة الأعالي بأن تتقابل وتتفاعل، وفي هذا التفاعل كما قلنا يتم القرب والإظهار والإحضار، أي يكون الوجود، فليست اللغة شيئًا تربطنا به علاقة فحسب، بل هي — إن صح التعبير — سيدة العلاقات، هي محركة العالم وكاشفة الوجود، وهي التي تعطي وتمنح، وتحفظ وتحمي، وعلى الإنسان أن يسكن في بيتها ويحرسه ويرعاه.

ونخطئ لو تصورنا أن النطق في اللغة نتيجة عملية فيزيولوجية وفيزيائية ونفسية: «إن المنطوق المسموع من اللغة يحتفظ به في التوافق الذي يوفق بين جهات العمل الأربع أو رباعه الفريد ويجعلها تتفاعل وتتداخل» (ص٢٠٨).

كلام غريب كما قلت لكم، ولكن غرابته تأتي من تأصيله، فنحن ننظر الآن إلى أصل اللغة، لا إلى استخدامها ووظائفها، نتأمل ماهيتها التي «يكون» بها الموجود، ولا نعتبرها وسيلةً أو أداة، نراها تمنح وتعطي وتحرِّر وتثير، ولا نراها قيدًا يتحكَّم فينا طول العمر، هل تفهمون من هذا أنها قوة متعالية؟ ولكن هذا هو الفهم الميتافيزيقي الذي نريد أن نحولكم عنه إلى فكر الوجود، إنها القرب الكامن في قوى العالم الأربع، أو هي «التجميع» الأصلي — إن شئنا أن نوافق هيدجر على تفسيره لكلمة اللوجوس عند هيراقليطس — وهي، كتجميع أصلي، ساكنة وبلا صوت؛ لأنها هي التي تنعم على الإنسان بقول «يكون» و«يوجد»، لغة السكينة هذه هي لغة الماهية، ويمكننا أيضًا أن نقول: لغة الوجود (بشرط ألَّا نفهم الكلمة الأخيرة بمعانيها الميتافيزيقية القديمة!) والبيت الأخير من قصيدة «الكلمة» يُشير بوضوح إلى انكسار الكلمة، الكلمة التي ألفناها وتعودنا عليها، كما يدعونا إلى فهمها والتفكير فيها من حيث هي سكينة، ولن يمكننا أن نفهمها هذا الفهم إلا إذا عرفنا أن الشعر والفكر متجاوران، والجار حبيب الجار، وجوارهما في اللغة التي تمنح القرب وتهديه، فاللغة تعبر، وهي بهذا التعبير تدل وتشير، وتصل إلى كل جهات الوجود، فتظهر الموجودات أو تخفيها، تُنيرها أو تسدل عليها الحجاب، والإظهار «حدث» لن يدركَه الإنسان حتى يستمع إلى اللغة ويطيعها، لأنها لن تسمح له بأن يعبِّر بها حتى يقف منها موقف الطاعة، نفس الموقف الذي يقفه من نور الوجود، إن الإنسان محتاجٌ إلى اللغة، واللغة بحاجة إلى الإنسان، وإن لم تكن صنيعته أو خاضعة لإرادته ونشاطه اللغوي.

والحدث الذي تحدثه اللغة بعيد كل البعد عن تسلسل الأسباب والنتائج، إنه الحدث الذي يمنح الإنارة والانفتاح، فيظهر الموجود ويتجلَّى، أو يغيب ويحتجب.

وهذا الحدث أو هذا العطاء لا يمكن تفسيره أو فك رموزه؛ لأنه شيء أخير، تصطدم به النظرة ولا تعلِّله، فهو الذي يُعطي كلمة «يوجد» ويردُّ الموجود إلى أصله.

هل عرفتم دين الإنسان نحو اللغة؟ أدريتم كيف تتيح له أن يعبر بها، حين تتيح له «النور» الذي يظهر كل موجود؟ أرأيتم أن «النطق» في حقيقته «تطابق» مع قول اللغة وحدثها، وأن «اللغة تستخدم الإنسان لكي ينطق عما تقوله اللغة الساكنة»؟ (ص٢٦٠).

هل أصبحتم مستعدين لمواجهة «الحدث» الذي يظهر ويحتجب، ويتحول ويحولكم معه؟ وهل تملكون القدرة على القرب من هذا الحدث لكي تكون لكم لغة أصيلة؟ وهل يحسن شعراؤكم ومفكروكم الاستماع إلى ندائها لكي يصبح الشعر فكرًا والفكر شعرًا؟ أم تراكم مصرين على تحويل اللغة إلى أداة تستهلك معكم كالثوب البالي؟

(٤-٥) حقيقة الفكر

هل انتهت الفلسفة وبدأ الفكر؟

فلنحاول في هذا الفصل الختامي أن نتلفت للوراء لننظر إلى الفلسفة من حيث هي ميتافيزيقا آن أوان تخطِّيها و«العودة إلى أساسها»،١٧٣ ونتطلع إلى الأمام لنستشرف فكر الوجود الذي لم يعد ميتافيزيقا، وسوف يساعدنا هيدجر نفسه على القيام بهذه المحاولة التي نراجع بها جهده الضخم الذي يشبه جبلًا شامخًا لم يستطع الباحثون — على وفرتهم — الصعود إلى قمته واكتشاف كل شِعابه، فقد ألقى في سنة ١٩٦٤م محاضرة تحمل هذا العنوان المثير: «نهاية الفلسفة ومهمة الفكر»، وقد نقلها إلى الفرنسية جان بوفريه (الذي سأله عن مفهوم النزعة الإنسانية ورد عليه برسالته التي تحدثنا عنها) وفرانسوا فيدييه، وظهرت الترجمة الفرنسية سنة ١٩٦٦م في باريس في مجلد بعنوان «كيركجور حيًّا» يضم دراسات مختلفة عن المفكر الدنمركي الكبير، وأخيرًا نشرت المحاضرة في كتاب عن قضية (موضوع) الفكر ظهر في سنة ١٩٦٩م بمدينة توبنجن.

ما الذي يأخذه هيدجر على الميتافيزيقا بحيث ينبغي تجاوزها والرجوع إلى أساسها الذي نسيته ولم تفكر فيه؟ هذا سؤال شغل هيدجر مدى حياته، وأجاب عنه في العديد من كتبه ومحاضراته ودراساته، وكان من الطبيعي أن يطوِّر تفكيره في هذا الموضوع، شأنه في هذا شأن كل كائن حي، ولعل هذه المحاضرة الأخيرة أن تبيِّن لنا وجهة نظره التي استقر عليها.

«إن الميتافيزيقا تفكر في الموجود بما هو موجود على طريقة التصور المؤسس»،١٧٤ إنها تبحث عن أساس الموجود، وتُسَمِّي هذا الأساس باسم الوجود، وهي تتصوره تصوُّرًا لا غبارَ عليه حين ترى أنه هو الذي يوجد الموجود أو يحضره ويعمل على إظهار كينونته.

غير أنها تصور هذا التأسيس كما تتصور السبب والمسبب أو العلة والمعلول، لقد وصفته عبر تاريخها الطويل بأوصافٍ مختلفة أخطأت معناه الحقيقيَّ في كل مرة: فتارة يكون هذا الأساس هو الله بوصفه السبب الأسمى والأخير (سواء عند أرسطو أو في العصر الوسيط) أو يكون هو السبب الترنسندنتالي أو الشارطي (كما نجده عند كانط شرطًا لإمكان التجربة أو بالأحرى لإمكان قيام موضوعات التجربة) وتارةً أخرى يكون هو الحركة الجدلية التي «يفض» بها الروح المطلق نفسه (كما نرى عند هيجل) أو يكون تفسيرًا لعملية الإنتاج (كما نرى عند ماركس) أو إرادة للقوة وهي في صميمها إرادة المزيد من الحياة التي تضع نفسها أو تُبدعها حين تبدع القيم (كما نجد عند نيتشه الذي يرى هيدجر أنه يمثِّل نهاية الميتافيزيقا الغربية بعد أن سارت في طريق «الذاتية» إلى آخر مداه).

وإذًا فالخاصية التي تميز التفكير الميتافيزيقي الذي يبحث عن سبب الموجود هي أنه يبدأ من هذا الموجود (أو الكائن) فيتصوره من جهة وجوده (أو كينونته) ويعبر عنه تعبيره عن شيءٍ ما قد عرف أساسه بالفعل.

ولكن هذا التصور الميتافيزيقي قد بلغ نهايته: فما هو المعنى المقصود من نهاية الميتافيزيقا أو الفلسفة؟ ليس معناه بالطبع أنها توقفت أو انطفأت، ولا يمكن أن نفهم منه أننا نلغيها ببساطة أو نستخف بشأنها، فالمقصود بنهاية الفلسفة أنها وصلت إلى الموضع الذي فيه يتجمَّع تاريخها كله في أقصى إمكانياته، بهذا تكون قد تمَّت، والتمام غير الكمال أو الاكتمال؛ لأن المراد به أنها بلغت النهاية، سواء عند نيتشه أو عند هيدجر نفسه، والواقع أنه ليست هناك فلسفة أكمل من غيرها، فليست فلسفة كانط بأكمل من فلسفة أفلاطون، ولا هذه أكمل من فلسفة بارمنيدز، والأولى من هذا أن نقول إن كل فلسفة — مثلها في هذا مثل كل أدب أو فن عظيم — تعبر عن شيء يحمل ضرورته في ذاته، ونحن نقع في خطأ المفاضلة بين الفلسفات لو نظرنا إليها بمنظار العلم الوضعي المنظور، عندئذٍ يمكن أن نتصور أن المتأخِّر أكمل من المتقدم، أو أن الحاضر يلغي الماضي، وهذه النظرة «العلمية» لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تطبق على تاريخ الميتافيزيقا، فالفلسفات التي جاءت بعد أفلاطون لم تسقط فلسفته ولم تعزلها في متحف العاديات القديمة، ولعلنا لا نبالغ لو قلنا إن الفلسفة الأفلاطونية ماثلة في تاريخ الميتافيزقا كله، وإن صورتها الأخيرة عند نيتشه ليست في الحقيقة سوى أفلاطونية مقلوبة، ولعل الفيلسوف الإنجليزي وايتهيد ألَّا يكون قد أسرف في المبالغة حين قال إن الفلسفة بأسرها ليست سوى هوامش وتعليقات على أفلاطون.

هل معنى هذا أن الفلسفة لم تتطور؟ تطورت بالطبع، ولكنه كان تطوُّرًا غير التطور العلمي الذي ينسخ آخره أوله ويغني حاضره عن ماضيه كما سبق القول (اللهم إلا عند المهتمين بتاريخ العلم)، ولقد تطوَّرت الفلسفة، أو بالأحرى تفتَّحت وفضت نفسها — إن صح تعبير هيجل — في العلوم المختلفة التي استقلَّت عنها، ثم لم تكتفِ بهذا بل بدأت في السنوات الأخيرة تختبرها بمناهجها ومقاييسها وتحاول على يد المتطرفين من الوضعيين (المناطقة) أن تشبكها أو تعلقها في ذيلها، ولا ينكر أحد أن كثيرًا من المسائل التي كانت تتناولها الفلسفة قد انتقلت اليوم إلى ميدان العلوم المتخصصة، وأصبح من المستحيل على الفيلسوف أن يُدلي فيها برأي قبل أن يعرف وجهة نظر العلماء، وربما وقع في ظننا أن العلم قد أزاح الفلسفة عن مكانها وحكم عليها بالبطالة الأبدية، ولكن الواقع أن هذا علامة تدل على تمام الميتافيزيقا ووصولها إلى نهاية إمكانياتها، ذلك أن النظر السطحي وحده هو الذي يفصل العلم الحديث عن الميتافيزيقا الحديثة التي نشأ على أرضها، واكتسب طابعه «التقني» الذي يتحكَّم اليوم فيه من الطابع التقني الذي غلب على الميتافيزقا منذ عهد بيكون وديكارت على أقل تقدير، وما تفتح الفلسفة في العلوم المستقلة التي يزداد التعاون والتداخل بينها إلا دليل مشروع على نهاية الفلسفة؛ فالفلسفة تنتهي في عصرنا الحاضر، ولقد وجدت مكانها في النزعة العلمية المسيطرة على البشرية العاملة، والطابع الغالب على هذه النزعة العلمية هو الطابع التقني والسيبرنيطيقي١٧٥ الذي يحقق انتصاراتِه في عالم الآلة والصناعة والتقنية والمجتمع الإنساني الذي انعكست عليه آثاره.

هذه هي الصورة التي انتهت إليها الفلسفة وكانت بذورها كامنةً في الفكر الغربي وطموحه إلى المدنية العالمية.

هل ذابت الفلسفة في هذه النزعة العلمية السائدة؟ هل انتقلت إلى العلوم المتخصِّصة وتبدَّدت كل إمكانياتها أو وصلت، كما قلنا، إلى غايتها الأخيرة؟ ألا تنطوي الفلسفة على إمكانية خافية عليها هي نفسها؟ هل يمكن أن تكون هذه النهاية بداية فكر جديد، وتتحقق خرافة العنقاء التي بُعثت من الرماد؟ ألم يبقَ أمام الفلسفة إلا أن تنوح كما ناحت «هيكوبا» زوجة الملك برياموس ملك طرواده على أبنائها الذين ذُبحوا أمام عينيها — كما قال كانط في مقدمة كتابه نقد العقل الخالص — أم تجتر أحزانها كاليمامة الوحيدة في عشها بعد أن هجرتها أفراخها وتنكَّرت لها؟

لا يمكن بطبيعة الحال أن نزيح الفلسفة ونتخلص منها كأنها عبءٌ ثقيل قديم أو جثة عزيز لا تدري كيف نتخلص منها، بل لا بد من التفكير فيها وفي تفتحها عبر التاريخ، على نحو ما فعل هيدجر طوال حياته، لم يكن همُّ هذا التفكير أن يبحث في تاريخ الفلسفة أو يبعث بعض حقائقها الماضية، بل كان في صميمه «تذكيرًا» بما نسيَته ولم تفكِّر فيه، أي بمعنى الوجود نفسه، كما كان «دعوة» إلى إمكانية لم تتبين معالمها ولم يتأكَّد بعدُ موعد تحققها، صحيح أن المدنية العالمية — التي بدأت في عصرنا الحاضر مسيرتها التقنية والعلمية الخطيرة — قد امتصت الفلسفة وأذابتها فيها، ولكننا نستطيع أن نقول أيضًا إن هذه المدنية العالمية ستتجاوز في يوم من الأيام طابعها التقني والعلمي والصناعي، وستكتشف أنه ليس هو المقياس الوحيد ولا «السكن» الوحيد في هذا العالم.

ما هي قضية هذا الفكر، ما هو موضوعه؟

إن هيدجر يتناول محاولتين من أهم المحاولات في العصر الحديث للإجابة عن هذا السؤال، وهما اللتان قام بهما هيجل وهسرل، وقد تبين له من التحليل أنهما لم يختلفا على موضوع الفكر، فقد اتفقا على أنه هو الذاتية، وإنما اختلفا على المنهج، فالجدل التأمُّلي مثلًا عند هيجل يوضِّح لنا كيف يظهر موضوع الفلسفة من ذاتها ويصبح حاضرًا واعيًا بذاته، والظهور يفترض النور الذي يتجلَّى فيه كل ما يظهر، والنور بدوره يفترض المكان المفتوح أو الانفتاح، والفكر التأملي لا يستغني عن هذا الانفتاح الذي يُيسر له النفاذ إلى الموضوع الذي يفكِّر فيه.

لقد رأينا في الفصول السابقة أن الانفتاح هو الإنارة (راجع ما قلناه عن ماهية الحقيقة، وحقيقة الفن، وحقيقة الإنسان)، وكلمة الإنارة في الألمانية والفرنسية١٧٦ تدل في الأصل على تخلية مكان بين الأشجار المتكاثفة في الغابة، ولو نقلناها إلى موضوعنا نقلًا مجازيًّا لَأمكننا القول إن النور لا يوجد الانفتاح بل هو شرط سابق عليه، حتى تظهر الأشياء فيه ويتفاعل المضيء والمظلم، والظاهر والخفي، فالإنارة انفتاح لكل ما يكون، وكل ما يفتقد الكينونة،١٧٧ ولا بد أن يأتي اليوم الذي نسأل فيه: أليست الإنارة أو الانفتاح الحر هو المقر الذي يجمع المكان الخالص والزمان بانبثاقاته الثلاثة وكل ما يوجد ويكون فيهما أو كل ما يفتقد الوجود والكينونة، لا بد أن يأتي هذا اليوم ونرد على سؤالنا بالإيجاب.
قلنا إن الميتافيزيقا قد نسيت الوجود وعاشت تاريخها غارقةً في هذا النسيان، ونستطيع الآن أن نقول إنها نسيت الإنارة ولم تعرف عنها شيئًا، صحيح أن التفلسف مرتبط بها على الدوام، وقد ظل الفكر اليوناني في انشغاله بأمر الوجود أو الحضور على اتصال بها، فأفلاطون يدرك الموجود من ناحية مظهره أو منظره (الأيدوس) ولم يفُته أن يشير إلى النور، وبارمنيدز يذكر الأليثيا (اللا-تحجب) صراحةً في قصيدته الفلسفية ويشبهها بكرة تامة الاستدارة تتساوى فيها البداية والنهاية، لم يستغنِ الفكر اليوناني إذن عن الإنارة، ولم تنقطع صلته بها، ولكنه لم يفكر فيها ولا فكر في الانفتاح الذي يظهر فيه كل موجود أو كل مفتقد للوجود، كذلك قصرت الفلسفة الحديثة في التفكير فيه، وقد آن الأوان لتجربة هذه الإنارة أو هذا الانفتاح، فهو الطريق الذي نتبعه في سؤالنا عن الموجود، سواء من ناحية وجوده أو حضوره، أو من ناحية بلوغه هذا الوجود والحضور، ولا بد من أن نفكر في الأليثيا، أو اللاتحجب، بوصفها هذه الإنارة التي تكفل الوجود والفكر وتؤمنهما وتضمن التفاعل بينهما، لقد طرح اليونان السؤال عن العلاقة بين الفكر والوجود، وظل هذا السؤال مطروحًا على الميتافيزيقا عبر تاريخها الطويل، وها هو ذا هيدجر يفكر في هذه العلاقة من ناحية الأليثيا، وقد رأينا كيف كان الباعث المحرك على تفكيره هو السؤال عن الوجود والحقيقة، ونحن الآن نرى أن: «الأليثيا» هي مجال الوجود والحقيقة جميعًا وعنصرهما الذي يعيشان ويتفاعلان في تياره، لقد لاح فجر الأليثيا وتردد صداها لأول مرة عند بارمنيدز، ثم نسيتها الميتافيزيقا حين تصورت أن وجود الموجود هو العلة الأولى أو السبب الأوَّل، فراحَت تبحث عن أسمى الموجودات على اختلاف صوره وأشكاله، وظلت بذلك أونطية (موجودية)-لاهوتية،١٧٨ وها نحن أولاءِ نشهد التحول على يد هيدجر، ونرى كيف تحول هو أيضًا في هذه المرحلة الأخيرة من تفكيره عن السؤال عن ازدواجية الوجود والحقيقة إلى السؤال عن الأليثيا التي تحملهما معًا وتكفل لهما «الوقوف» في نورها، وهكذا تصبح الحقيقة بمعناها التقليدي الذي عرفناه — أي انطباق المعرفة على الشيء — ممكنة عن طريق الإنارة وحدها، كما تتحرَّك البداهة واليقين بكل أنواعه ومستوياته ويتم «التحقق» من الحقيقة نفسها في ضوء هذه الإنارة.

الإنارة إذن هي الأصل الذي نسيناه وأغفلناه حين انشغلنا بما يصدر عنه، ولا يجوز لنا الآن أن نخلط بين الأليثيا والحقيقة أو نسوي بينهما؛ لأن الأولى هي التي تضمن وجود الثانية وتكفله لها، وكلما فكرنا في الحقيقة بمعنى التطابق أو اليقين وجب علينا أن نفكر في الإنارة التي تسبقهما وتكمن وراءهما، ولعل خير شهادة يقدِّمها هيدجر على أمانته ومراجعته الدائمة لخطواته على الطريق أنه عمد في هذه المرحلة من تفكيره إلى تصحيح بعض آرائه السابقة؛ فهو يعدل الآن عن ترجمة الأليثيا بالحقيقة، كما فعل في الوجود والزمان، كما ينتقد تعبير «حقيقة الوجود» الذي قدَّمه في محاضرتِه عن ماهية الحقيقة ورسالته عن النزعة الإنسانية، بل إنه لَيُراجع رأيه الذي ذهب إليه في دراسته عن «نظرية أفلاطون عن الحقيقة» وقال فيه إن تحوُّل معنى «الأليثيا» من اللاتحجُّب إلى الصحة أو الصواب قد تمَّ على يد أفلاطون، فهو يرى الآن أن «الأليثيا» قد فُسرت مباشرةً على معنى الصواب وبذلك غابت عن نظر أفلاطون، وكان أفلاطون ومن سبقه من مفكري اليونان قد فكروا — كما قدَّمنا — فيما تكفله الأليثيا أو الإنارة من ظهور الموجودات أو تحجبها، ولكنهم لم يفكروا في حقيقة الإنارة ذاتها، وكذلك يفعل الناس اليوم، يشغلون بالموجودات الحاضرة أمامهم ولا يعنون أنفسهم بالسؤال عن الوجود والحضور ولا عن الإنارة التي هي الأصل فيهما.

ما السبب في هذا؟ أهو أمر مقصود؟ أتكون غفلةً من جانب البشر أم قدرًا تاريخيًّا يتحكم فيهم؟ أيكون التحجُّب جزءًا لا ينفصل عن اللاتحجُّب؛ بحيث تنتمي الليثية (النسيان) «للأليثيا»؟ أيكون هذا في صميم ماهية الإنارة نفسها التي تكشف عن الوجود وتحجُّبه وتصونه وتحرِّره في آنٍ واحد؟ أنحن قادرون حقًّا على الإجابة على هذه الأسئلة أم يقتصر جهدنا على البقاءِ في السؤال والإصرارِ على متابعة طريقه ومعاناة تجربته؟ هل أصبحنا على استعداد لتحمُّل مشقة السؤال أم لا زالت أنوار المدنية التقنية تخلب أبصارنا؟ هل نشعر أننا السائل والمسئول أم نَنفُض أيدينا من المسألة كلِّها زاعمين أنها محض خيال وتلاعب بالألفاظ؟

ربما كان تفكير هيدجر كله مجرد دعوة وتوجيه إلى السؤال، وربما كان هذا الكتاب كله مجرد إعداد له؛ ولهذا سيظل مجرد تمهيد ومحاولة، حسبها أنها تثير فكرك وتقنعك بألَّا تتشبث بصخرة المألوف، وأن تُلقيَ بنفسِك في تيار الدهشة، فإن نجحت في تحقيق هذه الغاية، كان هذا خيرَ جزاءٍ يقدِّمه القارئ للكاتب فيعزيه عن تعبه ومعاناته، ويغفر له قصوره أو تقصيره.

عبد الغفار مكاوي

(٥) لوحة بحياة هيدجر وأعماله

١٨٨٩م مولد هيدجر في ٢٦ سبتمبر لأبويه فريدريش، صانع البراميل ببلدة مسكيرش، ويوهانا.
١٩٠٣–١٩٠٩م المدرسة الثانوية في مدينتي كونستانس وفرايبورج بالبريسجاو (عاصمة الغابة السوداء).
١٩٠٩–١٩١١م دراسة اللاهوت بجامعة فرايبورج.
١٩١١–١٩١٣م دراسة الفلسفة والعلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية بجامعة فرايبورج.
١٩١٣م الحصول على الدكتوراه برسالةٍ أعدها تحت إشراف الأستاذين شنيدر وريكرت بعنوان: «نظرية الحكم في النزعة النفسية» (في المنطق).
١٩١٦م الحصول على الدكتوراه المؤهلة للتدريس بالجامعة برسالة عن نظرية المقولات والمعنى عند دونس سكوتس (وقد نُشرت الرسالتان مع بحث عن مفهوم الزمن في علم التاريخ سنة ١٩٧٢م بمدينة فرانكفورت — على الماين تحت عنوان «الأعمال المبكرة»).
١٩١٧م زواجه من إلفريده بيتري.
١٩١٩-١٩٢٠م مولد ابنيه يورج وهرمان.
١٩٢٢م انتقاله إلى مدينة ماربورج للعمل أستاذًا بها وبقاؤه فيها حتى سنة ١٩٢٨م، بناء «كوخه» المشهور في توتناوبرج، وهو الذي أتمَّ فيه كتابه «الوجود والزمان».
١٩٢٣م إلقاء أولى محاضراته العامة «الوجود واليقظة» بدعوة من الفيلسوف ماكس شيلر في جمعية كانط بمدينة كولن (كولونيا).
١٩٢٦م محاضرة باتحاد الفلسفة بمدينة ماربورج عن مفهوم البحث الظاهرياتي (الفينومينولوجي) وتطوره (وقد ألقاها في الرابع من ديسمبر).
١٩٢٨م تعيينه أستاذًا لكرسي الفلسفة بجامعة فرايبورج خلفًا لادموند هسرل، يلقي سلسلة من المحاضرات عن «كانط ومشكلة الميتافيزيقا» في معهد هردر بمدينة ريجا، وقد صدر الكتاب في العام التالي بمدينة بون.
١٩٢٩م • الأنثروبولوجيا الفلسفية وميتافيزيقا «الدازاين» (الموجود الإنساني الملقى في العالم)، محاضرة ألقاها في ٢٤ يناير بمدينة فرانفكورت — على — الماين.
• خطاب بمناسبة عيد ميلاد هسرل السبعين في الثامن من أبريل.
• ما الميتافيزيقا؟ — محاضرته الأولى التي افتتح بها حياته الجامعية بجامعة فرايبورج. وقد ألقاها بالقاعة الكبرى للجامعة في ٢٤ يوليه، وصدرت في نفس العالم ببون.
• مشكلة الفلسفة اليوم، محاضرة في مدينة كارلزروه.
• ماهية السبب، بحث أسهم به في الكتاب التذكاري الذي صدر تكريمًا لهسرل بمناسبة بلوغه السبعين من عمره (وقد ظهر ملحقًا بحولي هسرل السابقة).
١٩٣٠م • مشكلة الفلسفة اليوم وهيجل ومشكلة الميتافيزيقا. محاضرتان ألقاهما في الاتحاد العلمي بمدينة أمستردام في ٢١ و٢٢ مارس.
• ماهية الحقيقة، محاضرته الشهيرة التي تجدها بين نصوص هذا الكتاب، وقد ألقاها بمدينة بريمن في شهر أكتوبر، ثم في ماربورج وفرايبورج ودرسدن.
١٩٣٣م انتخابه مديرًا لجامعة فرايبورج (في ظل النازي)، يُلقي محاضرة عن «تأكيد الجامعة الألمانية لذاتها» عند تسلم منصبه في السابع والعشرين من مايو.
١٩٣٤م استقالته من هذا المنصب (في شهر أبريل).
١٩٣٥م الأصل في العمل الفني، محاضرة ألقاها في ١٣ نوفمبر في جمعية الفنون بمدينة فرايبورج وأعاد إلقاءها سنة ١٩٣٦م بمدينة زيوريخ، (وقد نُشرت بعد ذلك في كتاب المتاهات، أو الطرق المسدودة، سنة ١٩٥٠م بمدينة فرانكفورت).
١٩٣٦م هلدرين وماهية الشعر — محاضرة ألقاها في روما في الثاني من أبريل، وأُعيد نشرها سنة ١٩٤٤م مع دراستَيْن يشرح فيهما قصيدتَيْ هلدرين «العودة» و«إلى الأقارب» ضمن كتابه «شروح على شعر هلدرين».
١٩٣٨م تأسيس الصورة الكونية الحديثة عن طريق الميتافيزيقا، محاضرة ألقاها أمام جمعية البحوث الفنية والطبيعية والطبية بفرايبورج في التاسع من يونيو (وقد أُعيد نشرهما بكتاب المتاهات تحت عنوان عصر الصورة أو وجهة النظر الكونية — أو الأيدلوجية).
١٩٣٩م أنشودة هلدرين: «كما في يوم عيد»، محاضرة ألقاها عدة مرات ونُشرت في كتابه السابق الذكر: «شروح على شعر هلدرين».
١٩٤٠م نظرية أفلاطون عن الحقيقة، محاضرة نُشرت بعد ذلك عدة مرات (أهمها سنة ١٩٤٧م و١٩٥٤م مع رسالته عن النزعة الإنسانية، كما نُشرت مع اثني عشر مقالًا ومحاضرةً أخرى مبكرة سنة ١٩٦٧م في كتابه «علامات على الطريق»).
١٩٤٣م • دراسة عن قصيدة هلدرين «ذكرى» نُشرت في الكتاب التذكاري الذي صدر بمدينة توبنجن بمناسبة مرور مائة سنة على وفاة هلدرين.
• محاضرة ألقاها في دائرة محدودة من خلصائه عن كلمة نيتشه عن موت الله، وقد نُشرت في المتاهات.
١٩٤٤م جُنِّد في فرق «العاصفة الشعبية» التي كونها هتلر في أواخر الحرب العالمية الثانية.
١٩٤٥م قوات الاحتلال (الفرنسية) تحظر عليه التدريس، وقد استمر الحظر حتى سنة ١٩٥١م.
١٩٤٦م لِم الشعراء؟ محاضرة — مأخوذة من أحد أبيات هلدرين المشهورة: لم الشعراء في الزمن الضنين؟ — ألقاها في دائرة محدودة من التلاميذ والأصدقاء بمناسبة مرور عشرين سنة على وفاة الشاعر رلكه (وقد نُشرت في المتاهات).
١٩٤٧م ظهور كتابه «نظرية أفلاطون عن الحقيقة مع رسالة عن النزعة الإنسانية» التي ردَّ فيها على خطابٍ وجَّهه إليه المفكِّر الفرنسي جان بوفريه.
١٩٤٩م • نداء الحقل — خواطر شاعرية نُشرت لأول مرة في صحيفة الأحد التي تصدر بمدينة هامبورج (بالعدد ٤٣ في ٢٣ أكتوبر).
• أربع محاضرات ألقاها في نادي بريمن في شهر ديسمبر تحت عنوان «نظرة إلى ما يكون» وتضمُّ محاضراته التي نُشرت بعد ذلك في كتاب «من تجربة الفكر» وفي «المحاضرات والمقالات» عن الشيء، الوضع، الخطر، العود.
١٩٥٠م • محاضرتان عن الشيء (تنقيح للمحاضرة السابقة) في الأكاديمية البافارية للفنون الجميلة، وعن اللغة في بولرهيهه، وقد ألقاها في الاحتفال بذكرى الناقد الأدبي ماكس كومريل ونشرت بعد ذلك في كتابه على الطريق إلى اللغة، ١٩٥٩م.
• ظهور كتابه المتاهات بمدينة فرانفكورت ويضم الدراسات الآتية:
– الأصل في العمل الفني.
– عصر الصورة أو وجهة النظر الكونية.
– مفهوم هيجل عن التجربة.
– كلمة نيتشه: «الله مات».
– لم الشعراء؟
– عبارة أنكسمندر.
١٩٥١م • البناء، السكن، الفكر، محاضرة ألقاها في إطار الندوة السنوية التي تُعقد بمدينة دار مشتات تحت عنوان «حديث دار مشتات» عن الإنسان والمكان.
• محاضرة بعنوان «سكن الإنسان شاعري …» ألقاها في بولرهيهه، والعنوان مأخوذ عن أحد أبيات هلدرين.
١٩٥٢م ما الفكر؟ — بحث نُشر بمجلة «مركير»، العدد السادس، ص٦٠١–٦١١، ١٩٥٢م.
١٩٥٣م • مدخل إلى الميتافيزيقا، توبنجن، ص١٥٦.
• جورج تراكل — شرح على قصيدة له، بحث نُشر بمجلة مركير، العدد السابع، ١٩٥٣م، ص٢٢٦–٢٥٨.
• من هو زرادشت نيتشه؟ — محاضرة ألقاها في بولرهيه في الثامن من أكتوبر.
• العلم والتفكُّر، محاضرة ألقاها في ١٥ مايو أمام أكاديمية الفنون الجميلة في بافاريا كما ألقاها بمدينة فرايبورج في ١٢ فبراير بمناسبة مرور ١٥٠ سنة على وفاة كانط.
١٩٥٤م • تفكُّر، محاضرة ألقاها في زيوريخ وكونستانس وفرايبورج.
• من تجربة الفكر، صدر في بفولنجن، ص٢٧.
• محاضرات ومقالات، صدر في بفولنجن، ١٩٥٤م، ٢٨٣ص، ويضم الكتاب المحاضرات والمقالات الآتية:
– السؤال عن التقنية.
– العلم والتفكر.
– قهر الميتافيزيقا (أو تجاوزها أو «تحطيمها» «وتفكيكها»).
– من هو زرادشت نيتشه؟
– ما هو الفكر؟
– البناء السكن الفكر.
– الشيء.
– رسالة إلى طالب شاب.
– سكن الإنسان شاعري.
– لوجوس (هيراقليطس، الشذرة ٥٠).
– مويرا (بارمنيدز، الشذرة ٨ والأبيات ٣٤ — من قصيدته).
– أليثيا (هيراقليطس، الشذرة ١٦)، وهو النصُّ الذي تجده في هذا الكتاب.
– ما الفكر؟ صدر في توبنجن، ١٧٤ص.
١٩٥٥م • طمأنينة، خطبة بمناسبة الاحتفال بمرور ١٧٥ سنة على ميلاد المؤلف الموسيقي كونرادين كرويسر، ألقاها في ٣٠ أكتوبر ببلدة مسكيرش.
• ما الفلسفة؟ حرفيًّا: ما هو الذي يُسَمَّى بالفلسفة؟ محاضرة ألقاها في مدينة «سيريزي لاسال» بفرنسا في شهر سبتمبر (وقد ترجمها الدكتور محمود رجب إلى العربية).
• عن الخط، دراسة نُشرت في كتاب تذكاري بعنوان «لقاءات ودية» صدر بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد الستين للكاتب المشهور أرنست يونجر وقد ظهرت في السنة التالية بمدينة فرانكفورت في كتاب بعنوان «السؤال عن الوجود».
١٩٥٦م • مبدأ السبب، محاضرة في ٢٥ مايو بنادي بريمن، ثم أُعيدت في جامعة فيينا.
• حديث مع هيبيل، أُلقيت في الاحتفال بذكرى الكاتب يوهان بيتر هيبيل، كاتب القصص والنوادر الشعبية باللهجة «الألمانية».
• محاضرة عن الرسام والكاتب بول كليه في جمعية المهندسين بفرايبورج.
١٩٥٧م • مبدأ السبب، بفولنجن، ١٩٥٧م، ٢١٢ص (مع إعادة نشر المحاضرة السابقة الذكر).
• مبدأ الهُوية، أُلقيت بمناسبة الاحتفال بمرور خمسمائة سنة على تأسيس جامعة فرايبورج.
• الهوية والاختلاف، بفولنجن، ١٩٥٧م، ص٧٦ ويضم محاضراتِه السابقةَ عن مبدأ الهُوية ومحاضرته عن التكوين الأنطي-واللاهوتي للميتافيزيقا.
• هيبيل صديقًا للبيت، بفولنجن، ٣٩ص.
• ماهية اللغة، ثلاث محاضرات ألقاها بجامعة فرايبورج، وكان لي حظ الاستماع إليها منه، ونُشرت بعد ذلك في كتابه «على الطريق إلى اللغة».
١٩٥٨م • مبادئ الفكر، نُشرت في حولية علم النفس والعلاج النفسي، العدد السادس، ص٣٣–٤١، ١٩٥٨م.
• ماهية الفيزيس ومفهومها، نُشرت أوَّلًا بمجلة «الفكر» الإيطالية، العدد الثالث، ميلانو ١٩٥٨م.
• هيجل والإغريق، محاضرة ألقاها بالفرنسية في الكلية الجديدة «إكس، أون-بروفينس» الفرنسية في العشرين من شهر مارس (نُشرت بعد ذلك في كتاب علامات على الطريق).
• الشعر والفكر، حول قصيدة «الكلمة» لستيفان جئورجه (نُشرت في كتابه على الطريق إلى اللغة).
١٩٥٩م • طمأنينة، بفولنجن، ١٩٥٩م، ٧٣ص.
• على الطريق إلى اللغة، بفولنجن، ١٩٥٩م، ٢٧٠ص، ويضم الكتاب البحوث والمحاضرات الآتية:
– اللغة.
– اللغة في القصيدة، شرح لقصيدة من شعر جورج تراكل.
– من حديث عن اللغة، بين أستاذ ياباني وطارح للسؤال.
– ماهية اللغة.
– الكلمة (شرح قصيدة ستيفان جئورجه التي تجدها في هذا الكتاب).
– محاضرة عن «أرض هلدرلين وسمائه» ألقاها في السادس من يونية بمسرح كوفييه بمدينة ميونخ في المؤتمر الذي عقدته جمعية هلدرلين.
– شكرًا لوطني مسكيرش، محاضرة بمناسبة اختياره مواطن شرف لبلدة مسكيرش مسقط رأسه في ٢٧ سبتمبر.
– مصير الفنون في العصر الحاضر، محاضرة أُلقيت في مدينة بادن — بادن.
١٩٦٠م اللغة والوطن. محاضرة ألقاها في فيسلبورن في الثاني من يونية ونُشرت في حولية هيبيل.
١٩٦١م • نيتشه في جزئين، بفولنجن، ١٩٦١م، ويضم الجزء الأوَّل الدراسات الآتية:
– إرادة القوة بما هي فن.
– عودة الشبيه الأبدية.
– إرادة القوة بما هي معرفة.
• ويحتوي الجزء الثاني على الدراسات الآتية:
– عودة الشبيه الأبدية وإرادة القوة.
– العدمية الأوروبية.
– ميتافيزيقا نيتشه.
– المصير التاريخي الوجودي للعدمية.
– الميتافيزيقا بوصفها تاريخًا للوجود.
– تخطيطات لتاريخ الوجود بوصفه ميتافيزيقا.
– تذكر الميتافيزيقا.
١٩٦٢م • قيامه بأول رحلة له إلى بلاد اليونان.
• السؤال عن الشيء، حول نظرية كانط عن المبادئ الترنسندنتالية، توبنجن، ١٩٦٢م، ١٨٩ص.
• مقولة كانط عن الشيء، نُشرت في الكتاب التذكاري «الوجود والنظام» الذي صدر احتفالًا بعيد الميلاد الستين لفيلسوف القانون إريك فولف، ص٢١٧–٢٤٥، كما نُشرت مستقلة سنة ١٩٦٣م في فرانكفورت لدى الناشر كلوسترمان.
١٩٦٤م نُشر جزء من محاضراته الأخيرة في جامعة ماربورج عن ليبنتز في الكتاب التذكاري «الزمن والتاريخ» الذي صدر بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد الثمانين للفيلسوف اللاهوتي رودلف بولتمان.
١٩٦٧م • علامات على الطريق، فرانكفورت، ١٩٦٧م، ٣٩٨ص (ويضم الكتاب اثنتي عشر دراسة ومحاضرة نُشرت وأُلقيت بين سنتي ١٩٢٩م، ١٩٦٤م).
• العدمية الأوروبية، بفولنجن، ١٩٦٧م، ٢٩٦ص.
• أصل الفن ومصير الفكر، محاضرة أُلقيت في الرابع من أبريل في أكاديمية العلوم والفنون بمدينة أثينا.
١٩٦٨م • هلدرين: القصيدة، محاضرة في أمريسفيل بفرنسا، وقد قام الشاعر الفرنسي الكبير «رينيه شار» بإلقاء الترجمة الفرنسية.
• حلقة دراسية (سمينار) في تور بالبروفانس الفرنسية عن كتاب هيجل عن الاختلاف بين مذهب فيتشه ومذهب شيلنج تستمر من ٣٠ أغسطس إلى ٨ سبتمبر.
١٩٦٩م • الفن والمكان، سان-جالين، ٢٦ص (وقد نقلها جان بوفريه وفرانسوا فيدييه إلى الفرنسية).
• حلقة دراسية في تور بالبروفانس عن كتاب كانط عن الدليل الممكن على وجود الله، واستمرت الحلقة من الثاني إلى الحادي عشر من سبتمبر.
١٩٧٠م حلقة دراسية عن هيراقليطس عُقدت في الفصل الشتوي ١٩٦٦-١٩٦٧م بالاشتراك مع تلميذه الفيلسوف «أويجن فينك»، ونُشرت في كتاب صدر بمدينة فرانكفورت على نهر الماين، ٢٦١ص.
١٩٧١م • رسالة شيلنج عن ماهية الحرية الإنسانية (١٨٠٩م) — وقد نشرتها هيلدجارد فايك وصدرت في توبنجن، ١٩٧١م، ٢٣٧ص.
• الكتابات المبكرة، فرانكفورت، ٣٨٦ص (ويضم رسالتيه في الدكتوراه إلى جانب بحثه عن مفهوم الزمن في علم التاريخ).
هذا وقد سُجلت أسطوانتان طويلتان (٣٣ لفة) بصوته تضمان محاضرتيه عن المكان والفن وعن مبدأ الهوية، كما صدرت أخيرًا ببليوجرافيا تحوي قائمة الدراسات التي كتبت عنه وتضم ٢٢٠١ عنوانًا! وقد قام بإعدادها الأستاذ ﻫ. م. ساس. وصدرت في ميزنهايم سنة ١٩٦٨م.* (وطبيعي أن هذا الكتاب الذي بين يديك ليس فيها!)
لاحظ أن الكتاب الذي بين يديك قد تم تأليفه سنة ١٩٧٤م، ولذلك لم أتابع الطبعة الكاملة لأعمال هيدجر ولا البحوث الكثيرة التي ظهرت منذ ذلك الحين.
١  يفسر هيدجر الكلمة اليونانية ἀλήθειν بأن الألفا هي حرف النفي، والفعل هو فعل التحجب، وبهذا يكون الحق في مفهوم اليونان ἀληθές هو اللا-محتجب أو المنكشف.
٢  Dasein ومعناها الحرفي هو الوجود أو الموجود-هناك.
٣  die Existentiale أي المقومات الأساسية في بناء الموجود الإنساني التي يكشف عنها التحليل الوجودي مهتديًا بالسؤال الأساسي عن معنى الوجود.
٤  وهيدجر نفسه يعترف بهذا التعقيد وينسبه إلى صعوبة إدراك معنى الوجود أو التعبير عنه، لا لنقص الكلمات فحسب، بل لنقص النحو نفسه، ولهذا لا يصح أن نتوقع منه أقاصيص تروي عن الوجود، ولهذا أيضًا ينصح القارئ بمقارنة قسم من أقسام محاورة بارمنيدز لأفلاطون أو من الفصل الرابع من الكتاب السابع من ميتافيزيقا أرسطو بفصل من فصول المؤرخ توكيد يديس ليرى كم احتمل الإغريق من فلاسفتهم!
٥  وبخاصة في بحثه عن الزمان، الطبيعة، كتاب دلتا () ١٠–٢١٧، ب ٢٩، ١٤–٢١٤، ١٧أ.
٦  الوجود والزمان، ص٢٩، هذا وقد سمعت محاضرةً لهيدجر ألقاها في الفصل الدراسي الصيفي لسنة ١٩٦٢م عن «الزمان والوجود»، ولم يبلغ إلى علمي حتى الآن أنها نُشرت في كتاب.
٧  ترجمها الأستاذ فؤاد كامل وظهرت في طبعة حديثة عن دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٧٤م.
٨  أفلاطون، السفسطائي، ١٢٤٤م.
٩  الوجود والزمان، ص٧.
١٠  الوجود والزمان، ص١٢.
١١  التواجد هي الكلمة التي اخترتها للتعبير عن مصطلح اﻟ Existenz الذي يستخدمه هيدجر في هذا السياق، وسوف نرى أنه سيكتبه بطريقته الاشتقاقية على هذه الصورة Ek-sistenz ليؤكد صفته الأساسية وهي تخارجه أو تخطيه لذاته وعلوه عليها نحو الوجود.
١٢  الوجود والزمان، ص٢٠.
١٣  أي الموجودات التي ليست هو، كما سبق القول.
١٤  يبرهن هيدجر على ضرورة تحطيم Destruktion التراث بأن السؤال عن الوجود لم يَسُؤ وضعه فحسب، وإنما غاب في ظلام النسيان، على الرغم من كل اهتمام بالميتافيزيقا، وتاريخ الأنطولوجيا عند الإغريق هو أوضح دليل على هذا، فقد عمدت عبر تاريخها الطويل وفي صورها وأشكالها المختلفة التي امتدت حتى العصر الحديث إلى فهم الموجود الإنساني والموجود بوجه عامٍّ من جهة «العالم» وسقطت تحت رحمة التراث الذي أحالته إلى صفات لا موضع للجدال فيها أو إلى مجرد مادة يُعاد تنظيمها (كما حدث على يد هيجل) وأصبحت هذه الأنطولوجيا المجتثة من جذورها مناهج تعليمية ثابتة في العصر الوسيط، واستحالت نسقًا مؤلفًا من قطع متوارثة. وسارت هذه الأنطولوجية اليونانية في ثوبها المتزمت في العصر الوسيط من «المجادلات الميتافيزيقية» «لسواريز» حتى وصلت إلى الميتافيزيقا والفلسفة الكانطية الترانسندنتالية في العصر الحديث كي تحدد الأسس التي قام عليها منطق هيجل، ومهما تكن الأشكال المختلفة التي تحوَّلت إلى المفاهيم الأنطولوجية الأساسية على أيدي المحدثين (ابتداءً من الأنا أفكر لديكارت إلى الذات والأنا المطلقة والعقل والروح والشخص) فإن هذه المفاهيم التي تعبر عن مناطق متميزة من الوجود قد أغفلت السؤال عن الوجود ووقعت بذلك في نفس الخطأ الذي وقع فيه تاريخ الأنطولوجيا بسقوطه تحت رحمة التراث والاستسلام له.
١٥  أي Logos & Phänomen بمفهومهما اليوناني؛ فالأولى تدل على ما يظهر نفسه بنفسه، والثانية تدل على ما يسمح بالرؤية، أي ما يعلن المحتجب من خلال القول، أي أن الظاهريات ستصبح طريقًا يمهد للبحث في وجود الموجود.
١٦  وهذا هو التفسير الذي أخذ به الدكتور محمود رجب في رسالته القيمة عن المنهج الظاهرياتي عند هسرل (لم تنشر بعد).
١٧  من «ما».
١٨  الوجود والزمان، ص٢٧، ٣٥.
١٩  أو هيرمينويتيك Hermeneutik.
٢٠  الوجود والزمان، ص٣٨.
٢١  Dasein، ومعناها في لغتها الأصلية هو الوجود أو الموجود، ولكن هيدجر يقصد بها معنًى مزدوجًا: الموجود العيني الفرد الذي يكون دائمًا على علاقة بالوجود، وكينونة الوجود الإنساني التي يُنظَر إليها من خلال ذلك الموجود العيني، والآنية هي الترجمة التي اقترحها أستاذنا عبد الرحمن بدوي للكلمة الأصلية، وهي من اصطلاحات الفلاسفة الإسلاميين، ومعناها كما جاء في «تعريفات» الجرجاني وفي اصطلاحات الصوفية لكمال الدين عبد الرازق الكاشي: «تحقيق الوجود العيني من حيث رتبته الذاتية»، وهي تُستعمل عادةً في مقابل الماهية، أي أنها ترادف مجرد الوجود في مقابل الماهية، كما في نص لأبي بركات البغدادي: «وكذلك الوجود: يشعرون بآنيته، وإن لم يشعروا بماهيته» (الزمان الوجودي، ص٤، ٥، الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، ص٧٣)، ومع ذلك كله فقد عدلت عن هذا المصطلح في الطبعة الحالية، واكتفيت بالتعبير عنه بكتابة الكلمة الأصلية برسمها الأصلي مع وضع الموجود — هنا أو — هناك أو الموجود الإنساني بين قوسين، وذلك توخيًا للبساطة والوضوح.
٢٢  Existenz أي أسلوب الوجود الذي يميز «الدازاين» الذي يكون دائمًا هناك، خارج نفسه في العالم، مع الآخرين، وبالقرب من سائر الموجودات والأشياء (راجع الهامش السابق).
٢٣  الوجود والزمان، ص٢١٢.
٢٤  في الأصل Jemeinigkeit.
٢٥  الوجود والزمان، ص٢٤٣.
٢٦  The man – L’on – Das Man.
٢٧  In-Sein أي الوجود-في-العالم من حيث اختلافه عن سائر الموجودات التي يحتويها العالم.
٢٨  Existentialien أو أحوال وجود الدازاين أو الموجود-الإنساني التي تميزه عن الأشياء والأدوات.
٢٩  Das Vorhandensein.
٣٠  Das Zuhandensein.
٣١  الوجود والزمان، ص٢٠٩، ٢١٠، ويشير هيدجر بوجه خاص إلى محاضرة شيلر عن «أشكال المعرفة والتربية» (١٩٢٦م).
٣٢  كما فعل ليبنتز مثلًا في نظريته عن المونادات أو الذرات الروحية الوحيدة التي لا نوافذ لها!
٣٣  الوجود والزمان، ص٦٢.
٣٤  نفس المرجع السابق، نفس الصفحة وما بعدها.
٣٥  الوجود والزمان، ص٦٣.
٣٦  الوجود والزمان، ص٦٤.
٣٧  Die Umwelt المحيط. وقد استبعدت كلمة البيئة لما توحي به من دلالة جغرافية أو حضارية أو أنثروبولوجية أو نفسية … إلخ.
٣٨  الوجود والزمان، ص٦٦.
٣٩  Die Umsicht.
٤٠  الوجود والزمان، ص٧٠.
٤١  الوجود والزمان، ص٧٥.
٤٢  Das Zeichen.
٤٣  Der Zeugzusammenhang.
٤٤  الوجود والزمان، ص٨٤، وقد حاولت في هذه الفقرة أن أعبِّر عما يريده هيدجر بأسلوب مبسط، ومن شاء أن يطَّلع على الصيغة الأصلية المفزعة فليرجع إلى الصفحة المذكورة.
٤٥  الوجود والزمان، ص٨٦.
٤٦  Die Gegend.
٤٧  الوجود والزمان، ص١٠٣.
٤٨  Ent-fernung.
٤٩  Selbstsein.
٥٠  Mitdasein.
٥١  اهتمام Besorgen.
٥٢  رعاية Fürsorge ومن الصعب إيجاد كلمتين متقاربتين مثلهما في اللغة العربية.
٥٣  L’on-Das Man.
٥٤  الوجود والزمان، ص١٢٧.
٥٥  وهي على الترتيب: Rede – Verstehen – Befindilichkeit.
٥٦  الوجود والزمان، ص١٢٥.
٥٧  الوجود والزمان، ص١٣٧.
٥٨  الوجود والزمان، نفس الصفحة.
٥٩  الوجود والزمان، ص١٤٣.
٦٠  الوجود والزمان، ص١٤٤ وما بعدها.
٦١  Umsicht.
٦٢  Rücksicht.
٦٣  Sicht.
٦٤  Durchsichtigkeit.
٦٥  الوجود والزمان، ص١٤٧.
٦٦  Geworfenheit وهي الفكرة التي ورثتها فلسفة الوجود عن شذرة باسكال المشهورة (الشذرة ١٦٦ من ترقيم برونشفيج). وتأمل معي هذا البيت لأبي العلاء:
ولو كنتُ مُلقًى بظهرِ الطريـ
ـق لم يلتقط مثليَ اللاقطُ!
٦٧  Faktizität.
٦٨  Auslegung.
٦٩  Aussage.
٧٠  الوجود والزمان، ص١٠٦.
٧١  الوجود والزمان، نفس الصفحة.
٧٢  الوجود والزمان، ص١٦١.
٧٣  الوجود والزمان، ص١٦٢.
٧٤  الوجود والزمان، ص٢٢٣.
٧٥  الوجود والزمان، ص٢٤٠.
٧٦  نفس المرجع والصفحة.
٧٧  الوجود والزمان، ص٣٤٥، وعنوان القصة هو Der Ackermann aus Böhmen للشاعر يوهانيس فون تيبل (الذي مات حوالي سنة ١٤١٤م) وردت العبارة في الفصل العشرين من القصة، وقد نقلها إلى العربية صديقنا المرحوم الدكتور كمال رضوان.
٧٨  الوجود والزمان، ص٢٦٢.
٧٩  نفس المرجع، ص٢٦٣.
٨٠  نفس المرجع، ص٢٦٥.
٨١  نفس المرجع، ص٢٤١.
٨٢  الوجود والزمان، ص٣١٦.
٨٣  نفس المرجع، نفس الصفحة.
٨٤  نفس المرجع، ص٣١٧.
٨٥  الوجود والزمان، ص٢٧٣.
٨٦  نفس المرجع، ص٢٨٥. والقرار هنا بمعنى العمق الباطن.
٨٧  الوجود والزمان، ص٣٨٠.
٨٨  Schuldig – Sein – Schuld.
٨٩  الوجود والزمان، ص٢٨٧.
٩٠  الوجود والزمان، ص٢٦٨.
٩١  الوجود والزمان، ص٣٠١.
٩٢  نفس المرجع، ص٢٢٤.
٩٣  الزمان المنقضي (أو الانقضاء) محاولة مني للتعبير عن الكلمة الأصلية Das Gewesen (ما قد كان) التي يفرق هيدجر بينها وبين الماضي Das Vergangen-Sein كما سيأتي بعد.
٩٤  أي يحيا في المستقبل أو ذو مستقبل.
٩٥  Die Gewesenheit أو كينونة ما قد كان.
٩٦  الوجود والزمان، ص٣٢٦.
٩٧  نفس المرجع والصفحة.
٩٨  نفس المرجع والصفحة.
٩٩  Das Gegenwärtigen.
١٠٠  الوجود والزمان ص٣٢٨.
١٠١  Faktizität-facticité.
١٠٢  الوجود والزمان، ص٣٢٨.
١٠٣  نفس المرجع، ص٣٢٦.
١٠٤  الوجود والزمان، ص٣٢٦.
١٠٥  Ekstasen وقد فضلت هذا التعبير الذي لجأ إليه المرحوم الأستاذ فؤاد كامل في ترجمته لكتاب ريجيس جو ليفيه، المذاهب الوجودية من كيركجورد إلى نيتشه، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، ١٩٦٦م، والكلمة — اليونانية الأصل — تعني الخروج من حالة الكون أو العالم كله والاتجاه نحو الواحد كما عند أفلوطين وتترجم عادة بالوجد.
١٠٦  الوجود والزمان، ص٣٢٦.
١٠٧  Das Gewärtigen.
١٠٨  Das Sich-Vorweg.
١٠٩  الوجود والزمان، ص٣٣٨، وقد ناقش هيدجر فكرة اللحظة باختصار وبين ارتباطها بالتصميم الذي يسترد «الحاضر الحقيقي» من التشتُّت والانشغال وإن كان الموضوع يحتاج إلى دراسة منفردة قد يتسع لها مجال آخر.
١١٠  الوجود والزمان، ص٣٤٠.
١١١  نفس المرجع، ص٣٠٤ وما بعدها.
١١٢  تجد هذا الجدول في كتاب فالتربيمل عن هيدجر، هامبورج، مجموعة كتب روفولت، ١٩٧٣م، ص٦٠.
١١٣  مثل آوتو بوجلر في كتابه طريق هيدجر الفكري، بفيلنجن، ١٩٦٣م، الفصل الثاني الميتافيزيقا والتاريخ، ص٢٧، وقد ذكره فالتربيميل في كتابه السابق الذكر، ص٦١.
١١٤  ص٢٤٩ إلى ص٢٥٠.
١١٥  العلم بالحقيقة أو بالتكشُّف واللاتحجُّب كما يرى هيدجر.
١١٦  انظر لأرسطو. العبارة De Interpret. ١٦، ١٦.
١١٧  الوجود والزمان، ص٢٧٣.
١١٨  Correspondence – Adaequatio.
١١٩  الوجود والزمان، ص٢٦٧.
١٢٠  نفس المرجع، ص٣١٨.
١٢١  تقول هذه الشذرة: «أمَّا عن معنى اللوجوس، كما يقدم ها هنا إلى الأبد، فإن البشر لن يفهموه أبدًا، لا قبل أن يستمعوا إليه ولا بمجرد سماعهم له، فعلى الرغم من أن كل شيءٍ يتم وفقًا لهذا المعنى، فإنهم أشبه بغير المجربين، مهما حاولوا أن يختبروا أنفسهم مع مثل هذه الكلمات والأعمال التي أقوم بشرحها وتمييز كل منها حسب طبيعته وبيان حالته، غير أن بقية الناس يظلون على غير وعي بكل ما يعملونه بعد اليقظة، كما يفقدون الوعي بما يفعلونه في أثناء النوم.»
١٢٢  الوجود والزمان، ص٢١٩.
١٢٣  الوجود والزمان، ص٢٢٠.
١٢٤  نفس المرجع، ص٢٢١.
١٢٥  راجع القسم الثاني من فاوست. الفصل الخامس. البيتان رقم ١١٥٧٥-١١٥٧٦.
١٢٦  الكلمة الأصلية هي Raub، راجع: الوجود والزمان، ص٢٢٢.
١٢٧  الوجود والزمان، ص٣٠٥.
١٢٨  نفس المرجع والصفحة.
١٢٩  راجع الوجود والزمان، ص٢١٤–٢٤٠. والفصل السابق عن «السؤال عن الحقيقة».
١٣٠  الكلمة التي يستخدمها هيدجر هي كلمة Vor-stellung المعتادة. ومعناها الحرفي هو وضع الشيء أمام العارف واستحضارها وتمثله.
١٣١  الوجود والزمان، ص٢٤٩ إلى ٢٦٨.
١٣٢  وهي كلمة existence المعروفة التي يحب هيدجر دائمًا — كما قدمنا في هوامش سابقة — أن يضعها على هذه الصورة التي تفيد الوجود-في-الخارج ek-sistence.
١٣٣  انظر مقدمة الترجمة الفرنسية، ص١٢.
١٣٤  الوجود والزمان، ص٢٢٠.
١٣٥  وقد عبَّر عنه الشاعر جوته في قصيدة من أعذب قصائدِه في الديوان الشرقي، وهي «حنين مبارك»، في هذين البيتين المعروفين: «إن لم تحقق هذا، أن تموت لكي تكون أنت نفسك، فسوف تبقى ضيفًا متعبًا يهيم على الأرض المظلمة …» (من كتاب المغني).
١٣٦  Das Sein schlechthin.
١٣٧  وردت هذه العبارة في مخطوطة محاضرات هيدجر التي ألقاها سنة ١٩٤٤م عن المنطق، وهي محاضرات لم يبلغ إلى علمي أنها نشرت في كتاب، وقد أوردها المترجمان الفرنسيان لماهية الحقيقة، ص١٩-٢٠.
١٣٨  الوجود والزمان، ص٢٢٦، وراجع كذلك «السؤال عن الحقيقة» في هذا الكتاب.
١٣٩  أي كتاب اﻟ θ (الثيتا) من ميتافيزيقا أرسطو.
١٤٠  باليونانية: ἀληθεύειν (اليثوين) أو الكشف واللاتحجب.
١٤١  باليونانية: ὁμοίωσις (هومويوزيس) أو التوافق والتطابق.
١٤٢  باليونانية: ἀλήθεια.
١٤٣  وترك الموجود هنا لا يفيد التخلي عنه ولا عدم الاكتراث به، بل يفيد التوجه إليه والانفتاح عليه، وليس الترك فعلًا يقوم به الإنسان على هواه، بل هو الذي يجعله موجودًا إنسانيًّا بحق، أي يجعله كائنًا محددًا بعلاقته بالمفتوح وانفتاحه الذي يغمر كل الموجودات، أي «بالحق» كما فهمه اليونان بمعنى المتكشف اللامتحجب.
١٤٤  الوجود والزمان، ص١٣٣.
١٤٥  يلاحظ بهذه المناسبة أن كلمة التأثُّر Stimmung وفعل التحديد bestimmen من جذر واحد.
١٤٦  هنا نجد نوعًا من التلاقي بين هيدجر وهيجل في رفض «المباشر»، على الرغم من اختلاف رؤيتهما، فهيدجر يهاجم الحس السليم أو الفكر الشائع الذي يجد كل شيء واضحًا لا يحتمل السؤال ويضيق بالبحث عن السر والماهية، أمَّا هيجل فيؤكد في الفصل الأوَّل من ظاهريات الروح أن النظر المباشر — للهذا-وال-ذاك — يعجز عن بلوغ مستوى الوعي أو الشعور، وأن بطلان المباشر ينتج عن طبيعة الروح نفسها التي هي في صميمها توسط (انظر الترجمة الفرنسية، ص٤٠-٤١).
١٤٧  عن المحاضرات التي ألقاها هيدجر سنة ١٩٤٤م واقتبسها المترجمان الفرنسيان في طبعتهما لماهية الحقيقة (ص٤١) ولعلها أن تكون محاضراتها التي نشرها بعد ذلك تحت عنوان «ما هو الفكر؟».
١٤٨  هل الموجود بكليته مرادف للوجود؟ لقد قرر هيدجر في بعض كتبه (ما الميتافيزيقا ونظرية أفلاطون عن الحقيقة) أن الموجود بكليته هو موضوع الميتافيزيقا، فإذا صحَّ أن الكشف عن الموجود يعمل على حجب الموجود بكليته، فهل يصدق هذا على الميتافيزيقا؟ وهل يمكن بعد ذلك أن نقول إن الميتافيزيقا تسأل عن الموجود بكليته؟ إن طرح الميتافيزيقا لهذا السؤال لا يعني بالضرورة أنها تحله أو أنها تقدِّم له الحل الوحيد الصائب، وإذا كانت الميتافيزيقا على مدى تاريخها الطويل قد نظرت إلى ماهية الموجود بكليته على أنه هو (الفيزيس) أو الواقع المادي أو المثال أو الذات أو الروح المطلق إلخ، فهل يعني هذا أنها ماهيته؟ الواقع أن هيدجر — في بحوثه المختلفة — يرى أن هذه الصفات والأسماء المختلفة دليل على أن الميتافيزيقا قد أخطأت ماهية الموجود بكليته (أو ماهية الوجود) وأساءت فهمها كما أساءت في نفس الوقت فهم «السر»، ولهذا يذهب إلى أن الميتافيزيقا أسيرة هذا «السر» الذي عجزت حتى عن صياغته صياغة واضحة، (إذ لا يكفي — كما توضِّح فلسفة هيدجر كلها — أن نُكثر من الكلام عن شيءٍ لكي نتصوَّر أننا فهمناه!) والمهم في هذا السياق أن احتجاب الوجود بكليَّته لا يمنع أن نضعَه موضع السؤال — وطبيعي أيضًا أن قهر الميتافيزيقا — وهو شغل هيدجر الشاغل! — لا يحول دون طرح هذا السؤال بل لعله يدعو إليه.
١٤٩  أي ترك-الموجود-يوجد-على ما هو عليه، وهو يمثل جوهر الحرية كما سبق القول.
١٥٠  نقول «التعالمية» ونريد بها الفهم السطحي السيئ لروح العلم ومنهجه، تمييزًا عن الروح العلمية الحقة التي لا تنكر السر والمجهول، ولا تتصلب على أرض الواقع المجرب، ولا تعادي الروح الميتافيزيقية والدينية، ولا تصب في مستنقع الغرور والتزمت.
١٥١  أي ترك-الموجود-يوجد على ما هو عليه وبكليته.
١٥٢  نشرت هذه الدراسة في كتابه «متاهات» (أو دروب مسدودة) سنة ١٩٥٠م لدى الناشر فيتوريو كلوسترمان في مدينة فرانكفورت، من ص٧ إلى ص٦٨، وتجد عرضًا قيِّمًا لهذا المقال الهام في كتاب فلسفة الفن في الفكر المعاصر، للمرحوم الدكتور زكريا إبراهيم الفصل العاشر، ص٢٥٨–٢٧٣، القاهرة، دار مصر للطباعة، ١٩٦٦م، كما تجد له تضمينًا أمينًا في كتابي «مدرسة الحكمة»، تحت عنوان حذاء فان جوخ، ص٢٩٤، دار الكتاب العربي، ١٩٦٧م.
١٥٣  راجع إن شئت مقالًا لي بهذا العنوان في كتابي «مدرسة الحكمة»، ص٢٨١–٢٩٣.
١٥٤  يبدو أن فكرة «الأرض» ظهرت عند هيدجر في هذه الفترة من سنة ١٩٣٥م عندما ألقى محاضرته الكبرى عن هلدرين وفسَّر فيها قصيدتيه «جرمانيا» و«الراين» وتناول مشكلة العلاقة بين الشعر والفلسفة، راجع إن شئت كتابي عن هلدرين «دار المعارف بالقاهرة»، ١٩٧٤م، ومحاضرة هيدجر وماهية الشعر في ترجمة أستاذنا الدكتور عثمان أمين أو ترجمة المرحوم الأستاذ فؤاد كامل.
١٥٥  الأصل في العمل الفني، ص٢٠.
١٥٦  نفس المرجع، ص٣١.
١٥٧  نفس المرجع، ص٣٣.
١٥٨  الأصل في العمل الفني، ص٣٤.
١٥٩  الأصل في العمل الفني، ص٣٦.
١٦٠  Ratio بمعنى ملكة الحساب والتقدير والتفكير المنطقي السليم بأساليبِه «الأداتية» المختلفة.
١٦١  وهذا هو المعنى الأصلي لكلمة «أيديا Idea» اليونانية التي تأتي من كلمة Eidos التي تدل على المنظر أو المظهر المرئي، راجع «نظرية أفلاطون عن الحقيقة» مع النصوص الواردة في هذا الكتاب.
١٦٢  أو Ex-sistence راجع ما سبق قوله عن هذا المصطلح في الفصل الخاص بماهية الحقيقة وفي نص المحاضرة نفسها.
١٦٣  علامات على الطريق، ص١٤٨ وما بعدها.
١٦٤  على الطريق إلى اللغة، بفولنجن ١٩٥٩م، ص٢٧٠.
١٦٥  هي اللغة التي تنصب على دراسة لغة أخرى (طبيعية كانت أو فنية مصطنعة كالحساب المنطقي أو نظرية علمية محددة) بحيث تكون اللغة الأخيرة متميزة عن اللغة التي هي موضوع دراستنا، وهذه اللغة البعدية تضم نظريات بعدية عن الخصائص البنائية والدلالية والصورية للغة التي تدرسها، ولهذه النظريات أهمية كبرى في تطور السبرنيطيقا والعقول الحاسبة أو الحاسوبات.
١٦٦  ارجع إن شئت إلى الجزء الثاني من كتابي عن ثورة الشعر الحديث لتجد فيه بعض قصائد هذا الشاعر ونبذةً عن حياته وأعماله، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، ١٩٧٤م، ص٢٤٣–٢٤٧، ٣٨٠–٣٨٢، وكذلك الطبعة الثانية، القاهرة، أبوللو، ١٩٩٧م.
١٦٧  أو ربة القدر الجرمانية نورنه.
١٦٨  أي ربة القدر.
١٦٩  الطريق إلى اللغة، ص١٩٣، ويُلاحَظ أن الكلمة الألمانية تفيد أيضًا أنها توجد Es gibt.
١٧٠  يحاول هيدجر أن يرجع بالقول Sagen إلى كلمة Sage وSaga وهي الحكاية الخرافية المأثورة — دون أساس تاريخي — عن خوارق الأبطال في آداب الشعوب الشمالية.
١٧١  راجع لكاتب السطور مقالًا بعنوان: ما هو الشيء؟ في «كتاب مدرسة الحكمة»، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ص٢٨١–٢٦٣.
١٧٢  راجع إن شئت كتابي عن هلدرين، القاهرة، دار المعارف، ١٩٧٤م، مجموعة نوابغ الفكر الغربي، ص٢٢٨.
١٧٣  كما يقول عنوان المدخل الذي كتبه هيدجر وقدم به لمحاضرته الشهيرة: «ما الميتافيزيقا» وقد نقله الدكتور محمود رجب إلى العربية ونشر في كتاب يضم محاضرات هيدجر الثلاث: «ما الفلسفة؟»، «ما الميتافيزيقا؟»، «هلدرين وماهية الشعر»، بالاشتراك مع المرحوم الأستاذ فؤاد كامل ومراجعة أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي ونشرته دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٧٤م، ص٧٧–٩٧.
١٧٤  موضوع الفكر، توبنجن، ١٩٦٩م، ص٦٢.
١٧٥  أو الكبيرنيطيقية (من كوبرنيقيس أي الملاح في اللغة اليونانية وقد استعملها أفلاطون في محاوراته وأمبير سنة ١٨٣٤م في تصنيفه للعلوم)، ولكنها اشتهرت في السنوات الأخيرة وارتبطت ببحوث التحكم الذاتي في الآلات والأجهزة المزودة بما يُشبه العقول التي تضبط حركتها كالحاسوب الإلكتروني وأجهزة إطلاق الصواريخ ومركبات الفضاء وأجهزة التفتيش والكشف.
١٧٦  الكلمتان على الترتيب Clairière – Lichtung.
١٧٧  موضوع الفكر. ص٧٢.
١٧٨  لعل فوير باخ — في كتابه معالم فلسفة المستقبل — أن يكون قد لمح هذه الفكرة وسبق هيدجر — بشكل آخر وفي سياق مختلف — إلى القول بأن تاريخ الفلسفة كله حتى هيجل كان في الواقع تاريخًا لاهوتيًّا وقد آن الأوان لتأسيس فلسفةٍ للمستقبل هي الفلسفة الإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤