الفصل الرابع عشر

جيني تُصبح ضابطًا في الشرطة الخاصة

عندما عادت جيني إلى فيينا، واستقرَّت مرة أخرى في جناحها الفاخر بقصر شتاينهايمر، تلقَّت نسخةً من صحيفة «دايلي بيجل»، أُرسِلَت إليها في الخفاء كرسالةٍ مُسجَّلة، وجاءت في حينها. ولاحظت الفتاة أن رئيس التحرير قد نجح في تحقيق الاستفادة القصوى من الأخبار التي أرسلَتْها إليه. فعندما طالعَت الصحيفة، رأت العناوينَ السوداء الكبيرة التي امتدَّت عبر عمودين، وذُكِرَ أن الأخبار لم تَرِدْ من البندقية، وإنما من فيينا، وكُتِبَ متن الخبر بحجمٍ أكبرَ بكثيرٍ من المُستخدَم عادةً في الصحيفة، وبضعف السماكة. وكانت العناوين مُذهلةً للغاية:
«ذهبٌ يختفي كالسراب»
«أضخم عملية سرقة في العصر الحديث»
«تفجير صندوق الحرب النمساوي»
«نهبُ عشرين مليون جنيه من العملات الذهبية»
«كارثة مُروِّعة في خِزانة فيينا»
«مصرع أربعة رجال، وإصابة ما يقرُب من ستة عشر آخرين بجروح خطيرة»

صاحت الأميرة وهي تنظُر من فوق كتف جيني إلى هذه العناوين المذهلة: «عجبًا! هذه العناوين تُشبه عناوين الصحف في موطني. إنَّ أسلوب صحيفة بيجل يختلف عن أساليب الصحف المُتبَعة في لندن؛ فهي تُذكِّرني بأسلوب تغطية إحدى صحف شيكاجو لمباراة بيسبول، عندما فازت شيكاجو، بالطبع، وعندما ضرب أنسون الكرة من القاعدة وطارت إلى خارج الحاجز، فأخرج ثلاثة رجال مُسجِّلًا بذلك نقطةً في لحظةٍ حرجة من المباراة.»

صاحت جيني: «عجبًا! أيَّ لغة تتحدثين؟ هل هي لهجة عامية أم لغة أجنبية؟»

«إنها لهجة أهل شيكاجو الخالصة يا جيني، التي أتحدثُ بها أحيانًا حتى هنا في فيينا المُتزمِّتة. كم أودُّ أن أشاهد مباراة بيسبول مُمتعة، تنتهي بفوز فريق شيكاجو. دعينا نرحل عن هذه الأجواء المَلَكية الواهنة يا جيني، ونذهب في زيارة إلى أمريكا.»

«يُسعدني الذَّهاب بالطبع إذا أخبرتِني أولًا مَنْ سرق صندوق الحرب. إذا تمكَّنتِ من وضع سَبَّابتكِ الرقيقة على المكان الذي يُخفي بين طياته مائتَي مليون فلورين من الذهب، فسوف أذهبُ معكِ إلى أي مكان.»

«أوه، نعم، ذكَّرتِني بشيء. لقد تحدثتُ إلى زوجي صباح اليوم، وسألتُه عما إذا كان يُمكنه تعيينُكِ كمُحقِّق خاص، وقال إنه سيكون من الصعب نوعًا ما تعيينُ امرأة في هذا المنصب. هل لديكِ أي اعتراضٍ على التنكُّر في هيئة شابٍّ لطيف يا جيني؟»

«أنا لا أُفضِّل ذلك كثيرًا؛ آمُل أنكِ لم تقترحي ذلك على الأمير.»

ضحكَت الأميرة بمرحٍ وهزَّت رأسَها.

«لا، لقد أخبرتُه أنني متأكدة من قدرتكِ على حلِّ اللغز أكثرَ من أي شخصٍ آخر، وذكَّرتُه بما فعلتِه في قضية الماس؛ فأكَّد لي زوجي أن لديه ثقةً كبيرة في قدراتكِ كمُحققة؛ لكنه يخشى أن ترفض السلطات هنا السماحَ لامرأةٍ بالاضطِلاع بأي دورٍ في عملية البحث. إذ إن لديهم أفكارًا مُتحفِّظة جدًّا بشأن النساء في النمسا، ويعتقدون أن مكان المرأة المناسب هو الإشراف على حفل شاي.»

قالت جيني بدهاء: «آهٍ لو يعلمون، فكم من أشياءَ مُذهلة يُمكن اكتشافُها أثناء حفل شاي.»

أجابت الأميرة: «معكِ كلُّ الحق، لكننا لا نستطيع الاستشهاد بهذا الحادث كتوصيةٍ إلى السلطات النمساوية. وبالمناسبة، هل لاحظتِ أنه ما من صحيفةٍ في فيينا ذكرَت كلمةً واحدة عن سرقة صندوق الحرب؟»

«لا بدَّ أن مُراسليهم قد أبلغوهم بالخبر من لندن عبر البرقيات، ومع ذلك فإنهم حتى لم يَنفوا الخبر، وهي الطريقة المعتادة لمواجهة الحقيقة.»

وبينما هما يتجاذبان أطراف الحديث، جاءت رسالة من سموِّه يستأذنهما في مقاطعة حديثهما. وبعد لحظاتٍ قليلة، دخل الأمير نفسُه إلى الجناح وانحنى باحترامٍ شديد للسيدتَين.

وقال: «لقد نجحتُ، بما يتجاوز توقُّعاتي؛ إذ يبدو أن إحدى الصحف في لندن قد نشرت تقريرًا عن القضية، ورجال الشرطة، الذين كانوا في حيرةٍ من أمرهم ولا يدرون ماذا يفعلون، ازدادت حيرتهم وارتباكُهم الآن بعد أن نُشِرَ خبر السرقة على الملأ. بالمناسبة، كيف علمتِ بأمر هذه السرقة؟ في الواقع، لم يسترعِ الأمر انتباهي عندما تحدثتِ عن تعيين الآنسة باكستر هذا الصباح، لكني ظللتُ أتساءل منذ ذلك الحين.»

قالت الأميرة بعُجالة: «تلقَّت جيني برقية من لندن، قالت إن صندوق الحرب النمساوي قد سُرق وبه ما يقرُب من مائتَي مليون فلورين، لكن لا يُوجَد شيء عن الخبر في صُحف فيينا.»

أجاب الأمير: «بالفعل لا يُوجَد، ولا يُحتمَل أن يُنشَر شيء عن الأمر. إن السرقة معروفة الآن للعالَم بأسره باستثناء النمسا، وأتصوَّر أنه لن يُقال أيُّ شيء عنها هنا.»

سألت الأميرة ببراءة: «هل التقرير حقيقي إذن؟»

«حقيقي! إنه الحقيقة كاملة. وهذه هي المشكلة. ولا فائدة من إنكارِنا للأمر؛ لأنَّ من الواضح أن تلك الصحيفة اللندنية لديها معلومات مؤكَّدة. ولتكذيبِ الخبر علينا نشْر شيءٍ عن السرقة نفسِها، وهو ما لا نميل إلى القيام به. ومع ذلك، من المعروف مَنْ هما مراسِلا هذه الصحيفة اللندنية، وأعتقد أن الشرطة سوف تتعامَل مع هذين السيدَين الجليليْن على نحوٍ مُمتع للغاية، حتى إنهم سوف يُسعِدهم مغادرة فيينا، لبعض الوقت على الأقل. وبالطبع، لا يُمكن فعل أي شيءٍ علنًا؛ لأن الإنجليز يُثيرون حالةً من الضجة عندما يُعتدَى على حُرياتهم. وقد استُدرِج أحد المُراسِلَيْن الشابَّيْن عبر الحدود بواسطة برقية مُضلِّلة، وأعتقد أن السلطات ستعمل على ألا يعود سريعًا؛ والآخر نتوقَّع التخلُّص منه في وقتٍ قريب. وبالطبع، يُمكننا طردُه، ولكن إذا فعلْنا ذلك، سيَسُود الاعتقاد بأننا طردناه لأنه اكتشفَ حقيقة الانفجار.»

سألَت الأميرة: «وكيف علمتَ بالانفجار؟»

«أوه، لقد كنتُ أعلم كل شيءٍ عن هذه القضية منذ حدوثها.»

رمَقَت الأميرة جيني بنظرةٍ سريعة، وكأنها تقول لها: «ها هي الأخبار التي كنَّا نُريد معرفتها قابعة في عُقر دارنا، ولم نشكَّ في ذلك أبدًا.» صاحت الأميرة بسخط: «لماذا لم تُخبرني؟»

«حسنًا، يا عزيزتي، أنتِ لم تهتمِّي بالسياسة أبدًا، وظننتُ أن الأخبار لن تستهويَكِ على أية حال.» وأضاف بابتسامة: «وفوق ذلك، فقد تلقَّينا جميعًا تعليماتٍ بإبقاء الأمر طيَّ الكتمان قدْر الإمكان.»

صاحت الأميرة: «وقد تمكَّنتم من الحفاظ على السر ببراعة! هذا يُثبت عواقبَ ائتمان العديد من الرجال على سر؛ ها هو مُذاع في العالَم بأسره.»

«ليس كل العالَم يا عزيزتي. كما قلتُ، النمسا لن تعرف أيَّ شيءٍ بخصوص ذلك.»

قالت جيني: «لقد أخبرَتني الأميرة أنكَ تكرَّمت بمحاولةٍ لإعطائي تصريحًا لإجراء بعض التحقيقات حول هذا اللغز. فهل نجحت؟»

«أجل يا آنسة باكستر، كما قلتُ، لقد نجحتُ بما يتجاوز توقعاتي؛ إذ إن الاستعانة بمُحققة هي أمرٌ غير معهود في فيينا. ومع ذلك، فإن الحقيقة هي أن الشرطة مُشوَّشة الذهن تمامًا، وهم على استعدادٍ للترحيب بالمساعدة من أي جهة. وها هو تصريحٌ مكتوب من أعلى سلطة، ويجب ألا تستخدميه إلا في حالة الطوارئ. وهذا أيضًا تصريحٌ من رئيس الشرطة، سيفتح لكِ كلَّ الأبواب المُوصَدة في فيينا؛ وأخيرًا، هذه شارة يُمكنكِ تثبيتُها على جزءٍ غير واضح جدًّا من ملابسك. وهذه الشارة، كما فهمتُ، نادرًا ما تُمنَح لأحد؛ فهي تحمل شِقًّا مَدنيًّا وآخرَ عسكريًّا. يُمكنكِ إظهارُها لأي حارس، وبموجبها، سيمنحُكِ حقَّ المرور، وفي حال عدم قيامه بذلك، صعِّدي الأمر إلى رئيسه وأطلِعيه على تصريح الشرطة الذي في حوزتك. وإذا فشل ذلك، أظهري ورقتَكِ الرابحة، وهي هذه الوثيقة البالغة الأهمية. وقد أبدى رئيس الشرطة، وهو رجل بارعٌ للغاية، حرصَه الشديد على التعرُّف إليكِ قبل أن تَشرعي في التحقيق. وطلب مُقابلتكِ أولًا، لكنه اندهش عندما أخبرتُه أنكِ صديقةُ زوجتي، وتنزلين ضيفةً في منزلنا، فاقترح أنكِ على الأرجح سترغبين في رؤية مكان الانفجار أولًا، وطلب أن يأتيَ هنا مع عربته ويُرافِقَكِ إلى مبنى الخِزانة. ويُريد معرفة ما إذا كانت الساعة الرابعة بعد الظهر ستُناسبكِ!»

أجابت جيني: «نعم بالتأكيد! أنا مُتحمِّسة للبدء فورًا، وبالطبع سأكون مُمتنَّةً له كثيرًا إذا تكرَّم بمُرافقتي وإرشادي عبر مبنى الخزانة، وإطلاعي على المعلومات التي توصَّلوا إليها بالفعل.»

«يجب ألا تتوقَّعي الحصول على الكثير من المعلومات من الشرطة؛ ففي الواقع، أشكُّ في أنهم قد اكتشفوا أيَّ شيء. ومع ذلك، إذا كانت لديهم معلومات، فمن المُرجَّح أن يحتفظوا بها لأنفسهم، وأتصوَّر أنهم سيُراقبونكِ عن كثب، وسيكونون أكثرَ حرصًا على معرفة ما اكتشفتِه، ومن ثمَّ يَنسِبون الفضلَ فيه لأنفسهم إذا استطاعوا، بدلًا من تزويدكِ بأي معلوماتٍ في حوزتهم عن القضية.»

«هذا أمرٌ طبيعي تمامًا، ومُتوقعٌ أيضًا. ومن جانبي، لا تُراوِدُني أية رغبة في سلْب السُّمعة والصِّيت الذي يُمكن للشرطة أن تحوزه جراء هذا التحقيق، وأنا على أتمِّ استعدادٍ لإعطائهم أيَّ أدلةٍ قد أُصادفها خلال البحث.»

«حسنًا، إذا تمكَّنتِ من إقناع رئيس الشرطة بذلك، فستحصُلين على كل المساعدة التي يُمكنه تقديمُها لكِ. ولن يكون من السيئ أن تُخبريه بأنكِ تُمارسين الأمر كهواية، وأنكِ لا ترغبين في سلب الشرطة مَجدَها فيما يتعلق بحلِّ القضية.» وفي تمام الساعة الرابعة وصل رئيسُ الشرطة إلى قصر شتاينهايمر. وهو رجل نبيل مُجامل ومتأنِّق للغاية، يرتدي الزيَّ الرسمي لشرطة فيينا، ولم يستطع إخفاء دهشته عندما عَلِمَ أن المُحقِّقة هي امرأة شابة وجميلة للغاية. وكان مُبتهجًا لأنه وجد نفسه في صحبة امرأةٍ جذابة للغاية، ومع ذلك كان من الواضح لجيني أنه لا يُعوِّل كثيرًا على المساعدة التي ربما يكون بوُسعها أن تُقدمها لحل لُغز الخِزانة. ورأت أنَّ هذا التوجُّه الذهني له مزاياه؛ إذ إن رئيس الشرطة سيكون أقلَّ تحفُّظًا عند تقديم التفاصيل الكاملة لما أنجزته الشرطة بالفعل.

ومن ثمَّ رافقَت جيني رئيسَ الشرطة إلى الركام الهائل من المباني التي تُشكِّل الخزانةُ جزءًا منها. وتوقفت العربة عند المَدْخل، ونزلَت برفقة رئيس الشرطة، ودخلا إلى المبنى الضخم مُتقدِّمًا إيَّاها، ثم نزلا سُلَّمًا، ودخلا ممرًّا مُقبَّبًا، وقفَ عند بابه جنديَّان للحراسة، وقد ألقَيَا التحية عند مرور رئيس الشرطة عليهما.

سألت جيني: «هل يقودنا هذا إلى الغرفة التي وقع فيها الانفجار؟»

«أجل.»

«وهل هذا هو المَدْخل الوحيد؟»

«أجل هو المَدْخل الوحيد يا سيدتي.»

«هل أُصيبَ رجال الحراسة في هذا المَدْخل جرَّاء الانفجار؟»

«أجل. إصاباتهم ليست بالخطيرة، لكنهم لن يتمكَّنوا من أداء واجباتهم لفترةٍ من الوقت.»

«إذن من المُحتمَل أنَّ شخصًا قد لاذ بالفرار دون أن يرَوه؟»

«من المُحتمَل أن فرقةً بأكملها من الأشخاص قد لاذت بالفرار. ستفهمين الموقف بالضبط إذا قارنتِ هذا الممر بمدفعٍ طويل، والغرفة في نهاية الممر هي غرفة التلقيم. كان هناك حارسان داخل الغرفة، ووقف اثنان آخران خارج الباب المُتصِل بهذا الممر. وقد لقيَ هؤلاء الرجالُ الأربعة حتفَهم على الفور. ولم يُعثَر على أي أثرٍ للحرَّاس داخلَ الغرفة. أما الباب، وهو أحد أقوى الأبواب التي يُمكن صُنعها، والذي يُشبه إلى حدٍّ ما بابَ خزانة، فقد قُذِفَ إلى الخارج، ومن ثمَّ سحقَ الحارسَين اللذين كانا يقفان خارِجَه في الممر، فجعلهما وأرضية الحجرة سواءً. وفي الحيز ما بين الحُجرة التي يُوجَد فيها الصندوق والمَدْخل الخارجي كان هناك ستةَ عشر رجلًا في مُناوَبة الحراسة. قُذِفَ كل واحدٍ من هؤلاء أرضًا، جرَّاء الانفجار، إذا جاز لي أن أُسمِّيَه كذلك، فانطلق عبر هذا الممر المُستقيم مثل شحنة ذخيرة تنطلق عبر فوهة المدفع إلى الخارج. وبطبيعة الحال، أُصيبَ الحرَّاس الأقرب إلى غرفة الصندوق بإصاباتٍ خطيرة، ولم يُفلِت مَنْ كانوا في الخارج من الصدمة. وعلى الرغم من أن الباب الذي دخلْنا منه إلى هذا الممر لم ينفجر مُنفصلًا عن مفصلاته، فقد فُتِحَ بعُنف. وتكسَّرت البراغي مثل أعواد الثقاب. ولذا، عندما ترين المسافة الكبيرة التي تتوسَّط ما بين الغرفة وهذا الباب، سيكون في استطاعتكِ تصوُّر قوة الانفجار.»

«إذن لا يوجد مَخْرج من غرفة الخزانة إلا عبر هذا الممر؟»

«نعم، يا سيدتي. فالجدران الموجودة خارج الغرفة ذات قوةٍ هائلة؛ إذ كان من المُتوقَّع بالطبع أنه إذا حدثت محاولة سرقة، فستكون من الخارج، ومن النادر أن يتمكن حتى أكثرُ اللصوص خبرة من اجتياز حارسَيْن عند الباب، وستة عشر ضابطًا وجنديًّا على طول الممر، واثنين خارج باب الخزانة، واثنين في غرفة الخِزانة نفسِها. لقد وُضِعَ هذا العدد الكبير من الجنود هنا حتى تُصبح أي محاولةٍ للرشوة مُستحيلة. ومن المؤكَّد أنه يُوجَد بين هذا العدد واحد أو اثنان لا يرضخ للفساد، كما أن الحرَّاس يتغيرون باستمرار. ونادرًا ما يُوضَع ضابط أو جندي مرتَيْن في الخدمة هنا خلال الشهر الواحد. مع وجود مثل هذا المبلغ الضخم على المحك، فقد اتُّخِذَت كل الاحتياطات الواجبة.»

«هل تُوجَد أي غرف على يمين هذا الممر أو يساره، يمكن أن يكون اللصوص قد اختبَئوا فيها أثناء تفجير اللَّغَم؟»

«لا، الممر يُؤدي إلى غرفة الخزانة وحدَها.»

قالت جيني: «إذن، لا أستطيع أن أفهم كيف تمكَّن عدد من الرجال من تدمير غرفة الخزانة، وسرقةِ محتوياتها، واللَّوذ بالفرار، في ظل الظروف الموجودة هنا.»

«ومع ذلك، سيدتي الشابة، فقد سُرِقت الخزانة. ونعتقد أن اللغم قد زُرِعَ بالتواطؤ مع ضابط أو أكثر ممَّن في مناوبة الحراسة هنا. فالمبلغ المسروق هنا ضخمٌ للغاية، لدرجة أن حصةً منه من شأنها أن تكون مصدر إغراءٍ لأيِّ تسعة أشخاص من بين كل عشرة. في رأينا أنَّ اللغم قد زُرِعَ، وربما استُخدِمت أسلاك كهربائية، وهو أمر لن يُلاحظه أحد، على طول حافة الممر، وأنَّ الضابط المُرتشي قد فجَّر الديناميت عن طريق توصيل طَرفَي الأسلاك. ونعتقد أن الانفجار كان أشدَّ بكثيرٍ مما هو مُتوقَّع. وعلى الأرجح، كان من المتوقع أن تُؤدي الصدمة إلى إحداث فتحةٍ في غرفة الخزانة ومنها إلى الشارع، ولكن الجدران قوية للغاية، لدرجة أنه لم يترك أيَّ أثر عليها، وكان هناك سائقُ عربةٍ قد مرَّ بالمصادفة في ذلك الوقت، ولكنه لم يسمع شيئًا من صوت الانفجار، على الرغم من أنه شعر باهتزاز الأرض، واعتقد للحظةٍ أنها كانت هزَّة أرضية.»

«هل تعتقد، إذن، أن اللصوص كانوا في الخارج؟»

«يبدو أن هذا هو الرأي الوحيد الذي يمكن الاعتداد به.»

«لقد كانت الأبواب الخارجية مُوصَدة بإحكام، أليس كذلك؟»

«نعم، بالتأكيد، ولكن إذا افترضنا أنَّ لديهم شريكًا أو اثنين في الرَّدهة الكبيرة بالطابق العلوي، فقد تأكَّد هؤلاء الخونة من أنهم لن يجدوا مشكلة في الدخول. وبمجرد دخول الرَّدهة الكبيرة، مع الحرَّاس المذهولين من وَقْع الصدمة، فإن الطريق إلى غرفة الخزانة يُصبح مُمهَّدًا تمامًا.»

«كان هناك حرَّاس خارج المبنى، أليس كذلك؟»

«أجل.»

«هل رأَوا أي مَركبةٍ تسير بالقُرب من الخزانة؟»

«لا، باستثناء العربة التي أخبرتُكِ عنها، وقد قدَّم السائق تبريرًا مُرضيًا لسبب مروره في ذلك التوقيت في تلك الليلة. إنَّ عدم وجود وسيلة نقل في هذه الجريمة هو أغربُ ما فيها. وعلاوة على ذلك، فإن الحرَّاس، على الرغم من أنهم كانوا يَجُوبون الأرجاء خارج جدران هذا المبنى، لم يسمعوا شيئًا من الانفجار بخلاف دَمدَمَةٍ منخفضة، وأولئك الذين جال بخاطرهم احتمالُ كونه انفجارًا تخيَّلوا أنه انفجار وقعَ في جانبٍ بعيد من المدينة.»

«إذن لم تنفتح الأبواب الخارجية في الرَّدهة الكبيرة بالأعلى على أثر الانفجار؟»

«لا؛ أفادَ الضابط المسئول أنها كانت مُوصَدة بإحكام عندما فحَصَها، وذلك بعد بضع دقائق بالطبع بعد وقوع الكارثة؛ إذ كان قد طُرِحَ أرضًا وهو مشدوه، على ما يبدو، جرَّاء ارتجاج الهواء الذي حدث.»

وبينما كانت جيني تسير في الممر، رأتِ المزيدَ والمزيد من شواهد الاختلاج. كان البابُ السميك المُصفَّح بالحديد مُلقًى في موقع سقوطه، ولم يُنقَل منذ أن رُفِعَ لسَحْب الجنديَّين الراقدَين تحته. وقد انثنَت مفصلاته الضخمة كما لو كانت مصنوعةً من الصمغ، وكُسِرَت براغيها الضخمة مثل شظايا الزجاج. وعلى طول أرضية الممر كانت هناك طبقةٌ سميكة من الغبار والركام، المسحوق تمامًا، والتي يزداد سُمكها فتُصبح أعمقَ وأعمق كلما تقدَّمَا إلى الأمام حتى وصلا إلى مَدْخَل الغرفة. ولم تكن هناك أيُّ نافذةٍ في الممر أو الغرفة، ولم يكن يُضيءُ الطريقَ سِوى وَهَج الشموع التي حَمَلها الجنود المُرافقون لهم. وانسحقت مُخلَّفات الانفجار تحت أقدامهم أثناء السير مُحدِثةً صوتًا كالقرقشة، وفي داخل الغرفة نفسِها تراكمت أكوامٌ كبيرة من الغبار والرمل والجَصِّ، وكلُّها مسحوقة إلى جزيئاتٍ دقيقة، مُلقاة في أركان الغرفة، ومكدَّسة على جانب واحد وتفُوق في ارتفاعها رأسَ رجُل. بدا أن هناك أطنانًا من هذا الركام، وبينما نظرت جيني إلى السقف المُقوَّس، الذي يُشبه سقف زنزانةٍ مُقبَّبة، رأتْ أنَّ الحجارة نفسها قد طُحِنَت وتحوَّلت إلى غبارٍ ناعم بفِعل قوة الانفجار الهائلة.

ومن ثمَّ سألت: «أين بقايا صندوق الخزانة؟»

هزَّ رئيسُ الشرطة رأسَه وهو يقول: «لا تُوجَد بقايا. لم يُعثَر على أي أثرٍ لها.»

«ما هي المادة التي صُنِعَ منها؟»

«كان لدينا هنا صندوق خِزانة قديمٌ مصنوع من خشب البلُّوط ومُصفَّد بالحديد. ولكن منذ بضع سنواتٍ، دعت الحاجة إلى جلب صندوقٍ جديد، فصنعْنا واحدًا مخصوصًا من الفولاذ المُقوَّى، طبقًا للمواصفات الحديثة لتلك الخزائن المُقاوِمة للسرقة والحريق.»

«هل تقصد أن تقول إنه لم يبقَ شيءٌ من هذا؟»

«لم نتمكَّن من اكتشاف شيءٍ على الإطلاق.»

«حسنًا، لقد رأيتُ أماكن حدثت فيها انفجارات بالديناميت، لكنني لم أُصادف شيئًا يُمكن مقارنته بهذا. أنا متأكدة أننا إذا افترضْنا استخدام الديناميت، أو أيٍّ من المتفجرات الأخرى المتاحة الآن على نطاقٍ واسع، لكُنَّا عثرنا — على أقل تقدير — على شيءٍ من بقايا الخزينة. ألم تُزحزَح هذه الكومة من الركام منذ الانفجار؟»

«أجل، لقد فُحِصَت من جنبٍ إلى آخر؛ حيث بحثْنا عن الجندِيَّين، لكننا لم نعثُر على أيِّ أثر لهما.»

«ألم تجدوا أيَّ شظايا من الحديد أو الفولاذ؟»

«إنَّ الكومة بكاملها، كما ترَينها على السطح، عبارة عن غبار ناعم للغاية، يكاد لا يُدرَك باللمس. كان علينا أن نتوخَّى أقصى درجات الحرص أثناء التفتيش فيها؛ إذ إنها في اللحظة التي حُرِّكَت فيها بواسطة مِجْرَفة ملأَت الهواءَ بغيومٍ خانقة. وكان ينبغي بالطبع أن نُزيلها في الحال، ولكنني رأيتُ أنَّ من الأفضل ترْكها هنا حتى نُحرِز تقدُّمًا أكثرَ نوعًا ما في حل هذا اللغز عمَّا أنجزناه حتى الآن.»

انحنت جيني والتقطت حفْنةً من الكومة، وتسبَّب ذلك في ارتفاع رذاذٍ دقيق في الهواء جعلهما يختنقان ويسعلان، ومع ذلك فقد استرعى انتباهها على الفور حقيقةُ أن حفنتَها بدت ثقيلةً على نحوٍ غير عادي مقارنةً بحجمها.

وسألت: «هل يُمكنني أخذُ بعضٍ من هذا معي؟»

أجاب رئيس الشرطة: «بالطبع، سوف أحصل لكِ على عبوة منها.»

قالت جيني: «أودُّ أن آخُذها معي الآن؛ إذ إنَّ لديَّ فضولًا لمعرفة محتوياتها بالضبط. مَن هو المُحلِّل الحكومي؟ أو هل لديكَ موظفٌ يحمل هذا المُسمَّى من الأساس؟»

«إنه السيد فيلتز، في جراوبن شتراسا، وهو كيميائي تحليلي مشهور، ومن ثمَّ فإنه أفضلُ مَنْ يُمكنكِ الاستعانةُ بهم.»

«هل تعتقد أنه يعرف أيَّ شيء عن المتفجرات؟»

«أظنُّ ذلك، ولكن إذا لم يكن يعرف، فسيكون في مقدوره بالتأكيد أن يَدُلَّكِ على أفضل رجالٍ في هذا المجال.»

أمر رئيس الشرطة أحد الجنود المُرافقين له بإحضار كيسٍ ورقي صغير ومَلئِه ببعض الغبار من حجرة الخزانة. وعندما فرَغ من ذلك، سلَّم العبوة إلى جيني، التي قالت: «سأذهب فورًا لمقابلة السيد فيلتز.»

«عرَبتي تحت تصرُّفكِ يا سيدتي.»

«أوه، لا، شكرًا لك، لا أُريد أن أُزعجك أكثرَ من ذلك. أنا مُمتَنَّة جدًّا لك أن سمحتَ لي بكل هذا القدْر من وقتك. سآخُذ عربة أجرة صغيرة.»

قال رئيس الشرطة بإصرار: «عربتي عند الباب، وسأُصدِر تعليماتٍ إلى السائق ليأخذَكِ مباشرةً إلى متجر السيد فيلتز؛ وهكذا لن يُهدَر الوقت، وأعتقدُ أنني إذا ذهبتُ معكِ، فسوف تتأكَّدين أكثر من أنكِ ستحظَين باهتمام الكيميائي، الذي هو رجلٌ مشغولٌ للغاية.»

أدركَت جيني أن رئيس الشرطة لا يريد أن يتركها تغيب عن عينَيه، وعلى الرغم من ابتسامتها في مواجهة شكوكه، ردَّت بأدب:

«إنَّه كَرَم منك أن تتحمَّل الكثير من المتاعب وتُخصِّص الكثير من وقتك لي. تُسعدني رفقتك إذا كنتَ متأكدًا تمامًا من أنني لن أُعطِّلكَ عن شيءٍ أكثر أهمية.»

ردَّ رئيس الشرطة بجِديَّة: «لا شيءَ أكثر أهمية من التحقيق الذي نحن بصدده.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤