الفصل السادس عشر

جيني تزور ساحرًا عصريًّا في مَقره السحري

عندما استقلَّت جيني العربة؛ صاحت صديقتُها التي ظلَّت تنتظرها: «هيا أخبريني، هل قابلتِه؟» وهي تقصد رئيس الشرطة بالطبع.

«لا، لم أُقابله، لكنِّي تحدثتُ إليه عبر الهاتف. أتمنَّى لو كنتِ معي لتسمعي حديثنا؛ كان أطرف حوارٍ شاركتُ فيه على الإطلاق. اضطُرِرتُ مرتَين أو ثلاثَ مراتٍ إلى كتم السماعة؛ خوفًا من أن يسمع رئيس الشرطة صوت ضحكي. أخشى أنكِ قبل انتهاء هذه القضية ستشعُرين بالندم الشديد لكَوني ضيفةً في منزلكِ. وأعرفُ أنه قد ينتهي الحال بِزَجي في أحد سجون النمسا هنا. فقط تخيَّلي الأمر! لقد وقفتُ في وجه رئيس الشرطة في هذه المدينة الإمبراطورية كما لو كنتُ واحدًا من قطَّاع الطرق الهمجيِّين القادمين من الغرب. لقد أرهبتُ الرجل وأرعبتُه وهدَّدته، وهو الشخص الذي يملك زِمام الأمور في فيينا بين يدَيه، وله حرية التصرُّف في جميع شئونها، ويُمكنه أن يأخذني ويزجَّ بي في أي زنزانةٍ في أي وقت، كل ذلك رهن إشارةٍ منه.»

قالت الأميرة بحسمٍ: «ليس من قصر شتاينهايمر.»

«حسنًا، قد يتردَّد في فعل هذا، ومع ذلك، يُضحكني كثيرًا التفكيرُ في أنَّ مجرد صحفيَّة في جريدة، وهي غريبة في مدينة تضمُّ واحدةً أو اثنتَين فقط من صديقاتها، تجرؤ على التحدُّث إلى رئيس الشرطة كما فعلتُ الليلة، وإجباره على التوسُّل إليَّ كي أبقى في المدينة وأُواصِل مساعدته.»

قالت الأميرة بلهفة: «أخبريني بما قلتِ.» فأخبرَتْها جيني بكل ما دار بينهما عبر الهاتف.

«وهل تقصدين أن تقولي بكل هدوءٍ إنكِ ستُعطين هذا الرجل الحقَّ في استخدام المعلومات المُذهلة التي حصلتِ عليها، وتسمحين له بتلقِّي كل الثناء والتكريم الذي يمنحهما مثل هذا الاكتشاف؟»

أجابت جيني: «عجبًا؛ ما فائدة الثناء والتكريم بالنسبة لي؟ إنَّ التقدير الذي أطمح إليه سأحصلُ عليه في مكتب صحيفة دايلي بيجل في لندن.»

قالت الأميرة ذاتُ الطِّباع العمَلية، في تأكيدٍ واضح على أن المبادئ التي غُرسِت فيها خلال فترة نشأتها في شيكاجو؛ لم تَمحُها إقامتُها في فيينا: «ولكن، أيَّتُها الفتاة البلهاء، بعد توصُّلكِ إلى مثل هذا السِّرِّ عن مصير الذهب، كان بإمكانكِ جنيُ ثروةٍ طائلة؛ فلو أنكِ ذهبتِ إلى الحكومة وقلتِ «كم ستُعطونني إذا استعدتُ لكم الذهب المفقود؟» فلكِ أن تتخيَّلي الرد.»

«نعم، أعتقد أن المال قد يدخل ضمن المخطَّط لو أن الأمر سِرٌّ بالفعل. لكنكِ نسيتِ أنه في صباح الغد سيعرف رئيس الشرطة الأمر من الكيميائي. وبالطبع، لو كنتُ قد ذهبت وحدي إلى الخِزانة المُحصَّنة واحتفظتُ باكتشافاتي لنفسي، فلربما تمكَّنتُ من الوقوف في وجه حكومة النمسا والمجر بنجاحٍ مثلما وقفتُ في وجه رئيس الشرطة الليلة. ولكن مع مراقبة رئيس الشرطة لكل ما فعلتُه وذَهابه معي إلى الكيميائي، لم يعُد هناك مجالٌ لإبقاء الأمر سرًّا.»

«حسنًا يا جيني، كل ما يُمكنني قوله هو أنكِ فتاة حمقاءُ للغاية. ها أنتِ تجتهدين في عملك كما قلتِ في إحدى رسائلكِ لمجرد كسب لقمة العيش، وتسمحين الآن بلامبالاةٍ تامَّة أن تُفلِت ثروةٌ من بين أصابعكِ. وأنا ببساطة لن أسمح بذلك؛ سأُخبر زوجي بكل ما حدث وسيجعل الحكومةَ تتعامل معكِ بعدل، إن لم يكن بكرم. وأؤكِّد لكِ يا جيني أن اللورد دونال — لا، لن أذكر اسمه لأنكِ تحتجِّين بشدة — لكن زوجكِ المُستقبلي، أيًّا كان، لن يستخفَّ بقدركِ لأنكِ تأتين إليه بمهرٍ غالٍ. وها نحن قد وصلْنا إلى المنزل؛ ولن أتفوَّه بكلمةٍ أخرى حول هذا الموضوع إذا كان يُزعجك.»

عندما وصلَت جيني إلى جَناحها المُبهج الذي بدا مُريحًا حَدَّ الترَف، يشعُّ منه ضوءٌ هادئ ينساب من مصابيحَ مُتألقةٍ بدرجات ألوانٍ هادئة أكثرَ مما كانت عليه في ضوء النهار الأكثرِ توهُّجًا؛ أخذَت تسير ذَهابًا وإيابًا في غرفة جلوسها وهي هائمة في تفكيرٍ عميق. كانت في حَيرةٍ من أمرها، وكان السؤال الذي يطرح نفسه حينها هو ما إذا كانت تُخاطر بإرسال برقيةٍ مشفَّرة إلى جريدتها أم لا. فلو أنها متأكدة من أن الأخبار لن تصِل إلى شخصٍ آخر، فلعل من الأفضل الانتظار حتى تحصل على مزيدٍ من التفاصيل عن كارثة الخِزانة. سيعتمد جانبٌ كبير من الأمر على ما إذا كان رئيس الشرطة قد أخبر أي شخصٍ بالسرِّ الليلةَ أم لا. فإذا لم يفعل، سيُصبح متأكدًا أنه هو والفتاة فقط مَن يعلمان بهذا الخبر المهم. وإذا تصدَّرَت الرواية الكاملة للاكتشاف عناوينَ جريدة «دايلي بيجل» الصادرةِ في صباح اليوم التالي، حينَئذٍ عند وصول الصحيفة إلى فيينا أو حتى قبل وصولها، إذا أُرسِل مُجمل الرواية في برقية إلى الحكومة — كما هو مؤكَّد ومعتاد — فسيعرف رئيس الشرطة في الحال حقيقة أنها مُراسِلة الصحيفة التي كان حريصًا جدًّا على إخافَتِها كي تُغادر فيينا. ومن ناحيةٍ أخرى، أعطَتها صداقتُها مع الأميرة فون شتاينهايمر تأثيرًا كبيرًا لدى الشخصيات الأرفعِ مقامًا من رئيس الشرطة، لدرجة أنه بعد الدرس الذي لقَّنَته إيَّاه، قد يتردَّد في اتخاذ أي خُطوة ضدها. إذن، مرة أخرى، فإن الأخبار التي يعرفها الليلة شخصان فقط؛ قد تتسرَّب في الغد إلى جميع المُراسِلين في فيينا، وهكذا تضيع كل جهودها سُدًى، فيما له صلةٌ بعمل جريدة «بيجل». حسمت هذه النقطةُ قرارَ الفتاة بعدما تحرَّرت من كل دافعٍ للتردُّد، وجلست إلى مكتبٍ وبدأت الفصل الأول من حلِّ لُغز فيينا. استهلَّت كتابتَها بجملةٍ في غاية الدبلوماسية: «رئيس شرطة فيينا يتوصَّل إلى اكتشافٍ مذهل للغاية.» ومن هذه البداية؛ انتقلَت إلى تفاصيل الاكتشاف الذي حقَّقَته اليوم. وعندما أنهَت كتابة المقال، نزلت إلى مُضيفتها وقالت:

«أيَّتها الأميرة، أريد رجلًا جديرًا بالثقة، كي يأخُذ برقيةً طويلة إلى مكتب التلغراف المركزي ويُسدِّد ثمنها ثم يُغادر سريعًا قبل أن يسأله أي شخصٍ أسئلةً فضولية.»

«أليس مِن الأفضل أن نستدعيَ ساعيَ البرقيات؟»

«ساعي برقيات؟ هل هو موظَّف عُيِّن من مكتب التلغراف لخدمتكِ أو مجرد ساعٍ عادي؟ لا؛ لا تستدعيه. فهو عادة ما يحمل رقمًا مميزًا ويُمكن تتبُّعه.»

صاحت الأميرة: «أنتِ مُحقة! إذن سأُرسل سائقنا الخاص. سأجعله يرتدي ملابسَ عادية بدلًا من الزي الخاص، وهو أكثرُ رجلٍ موثوق به للغاية، ولن يُجيب عن أسئلةٍ فضولية، أو أيِّ أسئلة أخرى، حتى لو طُلِبَ منه ذلك.»

وبالإضافة إلى البرقية التي ترغب جيني في نشر محتواها، أرسلت جيني برقيةً خاصَّةً إلى رئيس التحرير، تُخبره فيها بأن نشرَ المقال في صباح اليوم التالي قد يضرُّ بوضعها، لكنها تركَت القرار له تمامًا. ها هي الأخبار في جُعبتِه، وإذا كان يعتقد أن الأمر يستحقُّ حقًّا المخاطرة بعدم النشر، فقد يُؤجِل النشر، وإذا لم يكن كذلك، فيُمكنه نشرُ الأخبار بغض النظر عن العواقب.

وفي واقع الأمر، أجَّل رئيس التحرير، على الرغم من خشيتِه فقدان السَّبْق الصحفي، نشر الأخبار ليومٍ واحد، حتى لا يُحرج وضعَ مندوبته المُتميزة، لكنه كان قلقًا للغاية، لدرجة أنه جلس طوال الليل مُنتظرًا إصدارات الصحف الأخرى، وتنفَّس الصعداء عندما ألقى نظرةً خاطفة؛ فوجد أن الصُّحف لم تتطرَّق إلى أي أخبارٍ عمَّا يُخفيه داخل مكتبه. ثم خلَد بعدها إلى النوم عند طلوع النهار. وفي الليلة التالية كان لديه نفسُ القدْر من القلق تقريبًا؛ إذ كان يخشى من حصول الصحف الأخرى على الخبر ونشرِه، رغم أنه ما زال في حوزة صحيفتِه «بيجل»، ومن ثمَّ انتظر للمرة الثانية في مكتبه حتى يرى ما قد تنشُره الصحف الأخرى؛ فوجد أن الحظ قد حالفه، وحصلَت صحيفته على السَّبْق الصحفي، وانفردَت بنشر الخبر قبل بقية الصحف.

في صباح اليوم التالي لحوارها مع رئيس الشرطة، أخذَت جيني حقيبة يدٍ صغيرةً ووضعَت فيها الزجاجات التي تحتوي على أنواع الغبار المختلفة التي استخلصها الكيميائي، وخرجَت بمفردها واستقلَّت عربة أجرة، ثم أعطت السائق عُنوان البروفيسور كارل سيجفريد. وقد كانت عربة الأميرة دائمًا تحت تصرُّف الفتاة، لكنها في هذه المناسبة لم تكن ترغب في أن تشعر بالحرج من هذه العربة الفخمة. فأقلَّتها العربة المُتواضعة إلى شارعٍ تصطفُّ على جانبَيه مبانٍ ضخمة مرتفعة، وتركَتها أمام العنوان الذي أعطته السائق. بدا المبنى مُكتظًّا بالشُّقَق. وأخذت تصعد سُلَّمًا بعد سُلَّم حتى وصلت إلى الطابق الأخير، فرأت اسم البروفيسور مكتوبًا على الباب. طرقَت الباب عدة مراتٍ دون أن تَلْقَى ردًّا، ولكن أخيرًا فَتَحَ جزءًا من الباب رجلٌ لم تشكَّ في أنه البروفيسور بشخصه. كان أبيضَ الشعر ذا وجهٍ مُجعَّد. نظر إليها من خلال نظارته ثم خاطبها بنبرةٍ حادة: «سيدة شابة، لقد أخطأتِ الشقة؛ هذه شقة البروفيسور كارل سيجفريد.»

ردَّت الفتاة على عجَلٍ والرجل العجوز يستعدُّ لإغلاق الباب: «أريد مقابلة البروفيسور كارل سيجفريد.»

«ماذا تُريدين منه؟»

«أريد بعض المعلومات منه بشأن المُتفجرات. قيل لي إنه خبيرٌ بالمتفجرات أكثرَ من أي رجلٍ آخر على قيد الحياة.»

«هذا صحيح تمامًا، وماذا بعد؟»

«لقد وقع انفجارٌ أسفر عن نتائجَ لافتةٍ للنظر للغاية، ويقولون إنه لا الديناميت ولا أي قوةٍ أخرى معروفة يُمكن أن يكون لها مثلُ هذا التأثير على المعادن مثلما فعلَت قوة ذلك الانفجار.»

صاح الرجل العجوز وهو يفتح الباب قليلًا ويُبدي اهتمامًا لم يكن ملحوظًا في أسلوبه حتى تلك اللحظة: «آه، إن الديناميت لا يعدو كونه لُعبة للأطفال! حسنًا، أين وقع ذلك الانفجار؟ هل تريدين منِّي أن أذهب لفحصه؟»

«ربما في وقتٍ لاحق. لكن في الوقت الحاليِّ أودُّ أن أُطلِعكَ على بعض آثاره، لكني لا أقترح القيام بذلك هنا في الممر.»

تراجَع العالِم العجوز على عجَلٍ وفتح الباب على مِصراعَيه وهو يقول: «صحيح تمامًا، صحيح تمامًا؛ بالطبع لستُ مُعتادًا على زياراتٍ من سيدات أنيقات، واعتقدتُ في البداية أنَّ هناك خطأ؛ ولكن إذا كانت لديكِ أيُّ مشكلةٍ علمية حقيقية، فسيُسعدني أن أُشارك في حلِّها. فما قد يبدو غير عاديٍّ لعقل الإنسان العادي يمكن بلا شك أن يُفسره العلماء تفسيرًا كاملًا. تفضلي، تفضلي.»

أغلق الرجل العجوز الباب خلفَها وقادها عبر ممرٍّ مُظلم إلى شقةٍ كبيرة كان سقفُها هو سقف المبنى. وللوهلة الأولى بدَت الشقة في حالة فوضى عارمة. وعلى الرغم من ضخامة المكان، فإنه كان مُمتلئًا بآلاتٍ وأدواتٍ غريبة الشكل؛ كُتَل من لفافات الأنابيب الزجاجية تبدو مُنحنِية في تشابُك رائع على طاولةٍ في منتصف المكان، ومن الواضح أنها كانت تَشغل انتباه البروفيسور في الوقت الذي قاطعَته فيه طَرَقات الباب. وقد تراصَّت الرفوف على الجدران ليحمِل كلُّ رفٍّ زجاجاتٍ وأجهزةً من مختلف الأنواع.

وأيًّا كان قدْر العناية التي يُوليها البروفيسور سيجفريد لأجهزته، فقد بدا أنه لا يُولي إلا قدرًا قليلًا من اهتمامه للأثاث. فلم يكن يُوجَد في الغرفة أيُّ كرسي لائق، باستثناء كرسيٍّ واحدٍ عميق بِمسند، وهو مُغطًّى بجلد النمر، كان البروفيسور من دون شكٍّ يجلس عليه مُتأملًا، أو أثناء مشاهدة تُقدم إحدى التَّجارِب. وفي الواقع، لم يدعُ السيدة الشابة إلى الجلوس عليه، ولم يُقدِّم لها أي مقعد على الإطلاق، بل جلس هو على جلد النمر بنفسه، ووضع أطراف أصابعه معًا، وأخذ يُحدِّق بها من خلال نظارته البرَّاقة.

ثم قال فجأة: «والآن، أيَّتها السيدة، ماذا أحضرتِ لي؟ لا داعيَ للبدء في الثرثرة؛ لأن وقتي ثمين. أرينِي ما أحضرتِه، وسأُخبركِ بكلِّ شيءٍ عنه؛ والأرجح أنه شيء بسيط للغاية.»

على الرغم من أسلوبه الفظ الذي أثار اهتمامها، ابتسمَتْ جيني وسحبت أقلَّ المقاعد تهالُكًا في المكان ثم جلست في ظلِّ الغَمْغمات الغاضبة من مُضيفها المُتوتِّر. ثم فتحت حقيبتها وأخرجَت قنينة الذهب الصغيرة وناولَته إيَّاها دون أن تنبس ببنت شَفة. تلقَّاها الرجل العجوز باستهانةٍ إلى حدٍّ ما وهزَّها إلى الخلف وإلى الأمام دون أن يُزيل سدادة الفِلِّين ثم ضبط نظارته، وبدا فجأةً وكأنه مُهتم بشدةٍ بالمادة التي تناولها. فنهض واقترب من الضوء. سحب سدادة الفِلِّين بيدَيه المُرتعشتَين، وصبَّ بعضَ المحتويات في راحة يدِه المفتوحة. كانت النتيجة مُذهلة بما فيه الكفاية؛ إذ نفضَ الرجل العجوز يدَيه لأعلى وترك القارورة تتحطَّم على الأرض إلى شظايا صغيرة. وترنَّح إلى الأمام وهو يصرخ: «آه، يا إلهي، يا إلهي!»

ثم انكفأ العالِم على وجهه وسقط على الأرض ممَّا أثار ذُعر جيني التي انتفضَت من كرسيِّها مذعورة. واجهت الفتاةُ صعوبةً في أن تكتم صرختها، ونظرت حولَها على عجلٍ باحثةً عن جرس لتستدعيَ خادمًا أو مساعدًا، لكن يبدو أنه لم يُوجَد أحد، فحاولت أن تفتح الباب وتصرخ طلبًا للمساعدة ولكن في ظل انفعالها لم تجد له مِقبضًا ولا مزلاجًا. ويبدو أنه مُقفَل والمفتاح بلا شكٍّ في جيب البروفيسور. ظنَّت في البداية أنه قد مات، لكنَّ أنينه المُستمرَّ وهو مُستلقٍ على الأرض أقنعها بخطأِ ظنها. فمالت عليه بقلقٍ وصاحت: «كيف يُمكنني مساعدتك؟»

تمتَم بصعوبة: «الزجاجة، الزجاجة، في الخزانة خلفك.»

هُرِعت لفتح أبواب الخزانة فوجدَت زجاجة براندي وكأسًا ملأَت بعضها. تمكَّن الرجل العجوز من النهوض في وضع الجلوس بعد مُعاناة، وأمسكت جيني بالكأس ووضعتها على شفتَيه الشاحبتَين. فتجرَّع ما فيها وشهق وهو يقول: «أشعر بتحسُّن الآن. ساعديني كي أجلس على كرسيِّي.»

فساعدَته كي يقِف على قدمَيه، وبينما تُجلِسه على الكرسي تملَّص منها، وصاح غاضبًا: «دعيني وشأني! ألا ترَين أني بخير؟»

تنحَّت الفتاةُ جانبًا وسقط البروفيسور على كرسيه ويداه المُتوتِّرتان ترتعشان على ركبتَيه. ولفترةٍ طويلة، لم يقُل أيٌّ منهما شيئًا، ثم جلست الفتاة أخيرًا على المقعد الذي كانت تجلس عليه سابقًا. وما قاله الرجل العجوز بعدها هو أن سألها: «مَنْ أرسلكِ إلى هنا؟»

«لا أحدَ، لقد جئتُ بمحض إرادتي. وكلُّ ما أردتُه هو مقابلة شخصٍ لديه معرفةٌ واسعة بالمتفجرات، وقد أعطاني الكيميائي السيد فيلتز عنوانك.»

كرَّر الرجل الاسم: «السيد فيلتز! السيد فيلتز! إذن هو مَنْ أرسلكِ إلى هنا؟»

قالت الفتاة بإصرار: «لم يُرسِلني أحدٌ إلى هنا؛ إنَّ الأمر كما أخبرتُك. أعطاني السيد فيلتز عنوانك فقط.»

«من أين حصلتِ على مسحوق الذهب هذا؟»

«إنَّه من ركام الانفجار.»

«أعلم، لقد قلتِ ذلك من قبل. أين حدث الانفجار؟ ومَن المُتسبِّب فيه؟»

«هذا ما لا أعرفه.»

«ألا تعرفين مكان الانفجار؟»

«أعرف مكان الانفجار، لكني لا أعرف مَن وراءه.»

«مَنْ أرسلكِ إلى هنا؟»

«أخبرتُك أنَّ أحدًا لم يُرسِلْني إلى هنا.»

«هذا ليس صحيحًا، إنَّ الرجل الذي تسبَّب في الانفجار هو مَنْ أرسلكِ إلى هنا. أنتِ عميلة له. ماذا تتوقَّعين أن تكتشفي مني؟»

«أتوقَّع أن أعرف نوع المتفجرات التي استُخدِمَت لتحقيق النتيجة التي بدا وَقعُها عليك غريبًا.»

«لِمَ تقولين هذا؟ لم يكن لها مِن وقعٍ عليَّ. كلُّ ما في الأمر أن قلبي ضعيفٌ؛ إني أتعرض لمثل هذه الأزمات القلبية وأُقاومها بتناول الشراب. ويبدو أنها يومًا ما ستقتلني. وعندئذٍ، لن تعرفي أيَّ أسرارٍ من رجلٍ ميت، أليس كذلك؟»

«أتمنَّى لكَ عمرًا مديدًا يا بروفيسور سيجفريد، وأودُّ أن أُضيف كذلك أني لم أتوقَّع مثل هذا الاستقبال من عالِمٍ مُتميز مثلك، كما قيل لي. إذا لم تكن لديك معلوماتٌ لتُعطيني إيَّاها، فعندئذٍ يكون قد انتهى الأمر؛ كلُّ ما عليك فعله هو أن تقول هذا.»

«مَنْ أرسلكِ إلى هنا؟»

«لا أحدَ، كما كرَّرتُ مرةً أو مرتين. لو أنَّ أحدًا قد أرسلني، لَكنتُ أعطيتُه رأيي في المهمة عندما أعود. هل ترفُض أن تُخبرني بأي شيءٍ عن المتفجرات التي حوَّلَت الذهب إلى مسحوق؟»

«أرفضُ؟ بالطبع أرفض! ماذا توقعتِ؟ أفترض أن الرجل الذي أرسلكِ إلى هنا يظنُّ أنه، لكونكِ فتاةً جذابة وأنا رجل عجوز، فسأخبركِ بنتائجِ أبحاثي التي أفنيتُ فيها عمري. عجبًا! لا، ولألف مرةٍ لا. أنا لستُ عجوزًا خرِفًا، وما زال لديَّ عُمرٌ كي أعيشه.»

«آمُل ذلك. حسنًا، تحياتي لك. سأبحث عن شخصٍ آخر.»

كشَّر الرجل العجوز عن أسنانه بابتسامةٍ ماكرة.

«لن تتمكني من ذلك. لقد كسرتُ زجاجتكِ وتناثر ما بداخلها في أرجاء المكان، فلم يبقَ له من أثر.»

لوَّح بيده الرفيعة الهزيلة في الهواء وهو يتكلم.

فقالت جيني: «لا يُهمني ذلك على الإطلاق؛ لديَّ زجاجاتٌ أخرى منها هنا في حقيبتي.»

وضع البروفيسور يدَيه على مسند كرسيه، ووقف ببطءٍ على قدمَيه.

وصاح: «لديكِ أخرى؛ زجاجاتٌ أخرى؟ دعيني أراها، دعيني أراها!»

ردَّت جيني: «لا، لن أفعل.»

وبسرعةٍ لم تكن تتوقَّعها جيني خاصةً بعد انهياره الأخير، استدار البروفيسور نحو الباب وسند بظهره عليه. وبدَت النظارة فوق عينيه مُتوهِّجة كما لو كانت تشتعل. وثنى أصابعه التي تُشبه المخالب بصرامة. وسمعت صوتَ أنفاسه المُتلاحقة؛ إذ كان من الواضح أنه قد أُصيبَ بحالة هياجٍ شديد.

وهمسَ بصوتٍ أجشَّ مُحدقًا بها: «مَنْ يعلم أنكِ أتيتِ لرؤيتي؟»

نهضت جيني ثم وقفت هناك وأخذت تضغط على قفازها وأجابت بهدوءٍ لم تكن في الواقع تشعر به:

«مَنْ يعرف أني هنا؟ لا أحدَ سوى رئيس الشرطة.»

«مَنْ؟ رئيس الشرطة!» ردَّد البروفيسور ما قالته وقد بدت عليه علاماتُ الاندهاش من إجابتها غير المتوقعة. وبعدها هدأ وتراجع عن موقفه الحاد، وعاد مرة أخرى إلى هيئة الرجل العجوز التي ظهر عليها عندما كان يجلس مُكوَّمًا على كرسيه. وغمغم قائلًا: «اعذريني؛ كنتُ منفعلًا.» ثم اتجه نحوَ كرسيه مرةً أخرى.

«لاحظتُ ذلك يا بروفيسور. ولكن قبل أن تجلس مرة أخرى؛ افتح هذا البابَ من فضلك.»

لكنه توقَّف قبل أن يصِل إلى كرسيه وسألها: «لماذا؟»

«لأني أريده مفتوحًا.»

فقال بنبرةٍ أعلى: «وأنا أريده أن يظل مُغلقًا حتى نتفاهم. لن أسمح لكِ بالخروج الآن. لكني سأترككِ وشأنكِ بمجرد أن تُقدِّمي لي بعض التفسيرات.»

«إذا لم تفتح البابَ فورًا، فسأُلقي بهذا الجهاز إلى الشارع عبر النافذة. ولا شك أنَّ صوت تحطم الزجاج سيُثير انتباه أي شخصٍ يتصادف مروره في الشارع، ومن ثمَّ سيُسرع لإنقاذي على الفور يا بروفيسور، كما أنَّ لديَّ صوتًا لا أتردَّد كثيرًا في الصراخ به، وبذلك لن أجد صعوبة في إرشاد الغرباء إلى مكاني.»

وبينما كانت جيني تتحدث، تحركت بسرعة نحو الطاولة التي وضع عليها مجموعةً غريبة من العاكسات والأنابيب الزجاجية المُلتوية.

فقفز البروفيسور حائلًا بينها وبين الطاولة وهو يصرخ: «لا، لا، لا! المسي أيَّ شيءٍ غير هذا، أي شيءٍ غير هذا. لا تُحركيه شبرًا واحدًا، هذا خطرٌ لدرجة الموت، ليس لكِ ولي فحسب، ولكن ربما للمدينة كلها. ابتعدي عنه!»

قالت جيني، وهي تتراجع على الرغم من محاولتها الحفاظَ على رباطة جأشها: «حسنًا، إذن، افتح باب الغرفة وباب الشقة أيضًا واتركهُما هكذا. وبعد ذلك، إذا بقِيتَ جالسًا على كرسيك، فلن ألمس الجهاز، ولن أُغادر حتى أُقدِّم لك التفسيرات التي تطلُبها وتُجيب أنت عن بعض الأسئلة التي سأطرحها. لكن يجب أن يكون لديَّ طريقٌ واضح إلى السُّلَّم، تحسبًا لانفعالك مُجددًا.»

أجاب الرجل العجوز مُرتجفًا مُتحسِّسًا جيوبه بحثًا عن مفاتيحه: «سأفتح البابَيْن، سأفتحهما؛ لكن ابتعدي عن هذا الجهاز، إلا إذا كنتِ تُريدين دمارًا سريعًا لنا جميعًا.»

توجَّه البروفيسور وهو يلتفِت لزائرته بتحفزٍ أبطأ من سرعته، ليفتح الباب الأول ثم الباب الثانيَ على عجل، ثم عاد إلى كرسيه مُترنحًا ليُلقي بنفسه على جلد النمر، مُرتجفًا ومُنهكًا.

وقال بنبرةٍ مُتذمرة: «قد يتصنَّت علينا أحد. لا يمكن أن نعرف مَنْ قد يتسلل بهدوءٍ عبر السُّلَّم. فأنا محاط بجواسيس يُحاولون معرفة ما أفعله.»

قالت جيني: «انتظر لحظة.»

وتوجهت بسرعة إلى الباب الخارجي، فوجدت أنه يُغلَق بمزلاجٍ زنبركي، ففتحَته وأغلقَته مرتين أو ثلاثًا حتى أصبحَت على درايةٍ كاملة بطريقة فتحه، ثم أغلقته، وبعد ذلك وارَبَت الباب الداخلي، وجلست.

قالت: «وهكذا، لن يستطيع أحدٌ أن يُقاطعنا يا بروفيسور سيجفريد؛ لكن أرجوك لا تبرح كرسيَّك.»

غمغم الرجل العجوز: «ليس لديَّ أي نية لذلك؛ والآن أخبريني، مَنْ أرسلكِ إلى هنا؟ قلتِ إنكِ ستُخبرينني. أعتقد أنكِ مَدينة لي بتفسير.»

ردَّت الفتاة: «أعتقد أنكَ أنت مَن تدين لي بتفسير؛ وكما أخبرتُك من قبل، لم يُرسِلني أحد. لقد جئتُ هنا بمحض إرادتي، وسأحاول أن أُوضِّح لك سبب مَجيئي بالضبط؛ منذ فترةٍ حدث انفجار هائل في هذه المدينة …»

صاح الرجل العجوز، واضعًا يدَيه على مسندَي كرسيه، وكأنه سيقِف على قدميه: «أين؟ متى؟»

قالت جيني بحزم: «اجلس مكانك، وسأُخبرك بكلِّ ما لديَّ من معلوماتٍ عن الأمر. فالحكومة، لأسبابٍ خاصة بها، ترغب في إبقاء حقيقة هذا الانفجار سرًّا، ومن ثمَّ قلة قليلة خارج الدوائر الرسمية تعرفُ بالأمر. وأنا أُحاول اكتشاف سبب تلك الكارثة.»

سألها الرجل العجوز بتحفُّز وبصوتٍ مرتعش: «هل تعملين لحساب الحكومة؟»

«لا. إنني أُجري تحقيقاتي بصفةٍ مُستقلة تمامًا عن الحكومة.»

«لكن لماذا؟ لماذا؟ هذا ما لا أفهمه.»

«أُفضِّل كثيرًا عدم الإجابة عن هذا السؤال.»

«لكن هذا السؤال … كلُّ شيءٍ مُتضمَّن في هذا السؤال. يجب أن أعرف سبب مجيئكِ هنا. إذا لم تكوني موظفة تابعة للحكومة، فلحساب مَنْ تعملين إذن؟»

قالت جيني ببعض التردُّد: «إذا أخبرتُك، فهل ستحتفِظ بما أقول سرًّا؟»

صاح العالِم وهو مُتلهِّف لا يستطيع صبرًا: «أجل، أجل، أجل!»

«حسنًا، أنا أعمل لحساب صحيفة يومية في لندن.»

«لقد فهمت، أجل لقد فهمت؛ وقد أرسلوكِ هنا لتنشُري للعالَم أجمع كلَّ ما يُمكنكِ اكتشافه عن أبحاثي. علمتُ أنكِ جاسوسة منذ أن رأيتُكِ. ما كان ينبغي أن أسمح لكِ بالدخول.»

«يا سيدي العزيز، إنَّ الصحيفة في لندن ليست على علمٍ بوجودك. ولم يُرسِلوني إليك على الإطلاق. لقد أرسلوني كي أتوصَّل، إن أمكن، لسبب الانفجار الذي أخبرتُك عنه. وقد أخذتُ بعضًا من ركام الانفجار إلى السيد فيلتز لتحليله، وقال إنه لم يرَ من قبل ذهبًا قد سُحِقَ إلى حبيباتٍ دقيقة غير محسوسة مثلما حدث مع العينة التي تركتُها معه. ثم سألتُه عن أفضل خبراء المتفجرات في فيينا، فأعطاني عنوانَك. هذا هو سبب وجودي هنا.»

«لكن ماذا عن الانفجار؟ لم تُخبريني متى وأين حدث!»

«كما أخبرتُكَ، إنه سرٌّ حكومي.»

«لكنكِ ذكرتِ أنكِ لستِ موظفة حكومية، ولذا لن تكون هناك خيانةٌ للثقة إن سمحتِ لي بمعرفة التفاصيل الكاملة.»

«هذا صحيح. حسنًا، لقد حدث الانفجار بعد منتصف ليل السابع عشر في قبو الخِزانة.»

نهض الرجل العجوز على الرغم من تحذيرها له ووقف على قدمَيه من أثر المفاجأة.

فقفزَت جيني واقفة وقالت بتهديد: «ابقَ مكانك!»

«لن ألمسكِ. إذا كنتِ مُتشككة لهذا الحدِّ في كل حركةٍ تصدُر مني، فاذهبي بنفسكِ وأحضري لي ما أريد. هناك خريطة لفيينا مُثبَّتة على الحائط هناك. أحضريها لي.»

ذهبَت جيني في الاتجاه الذي أشار إليه البروفيسور. فوجدت خريطةً عادية لمدينة فيينا. وبينما تُحاول جيني خلع الخريطة من الحائط، لاحظَت خطًّا شبه دائري مرسومًا بالقلم الرصاص يمر أفقيًّا عبر الجزء الجنوبي من المدينة. وعندما تحققَت عن كثب، وجدت أن الجزء الثابت من البوصلة قد وُضِعَ على مكان المبنى الذي تُوجَد به شقة البروفيسور. وتفحَّصت مسار القلم الرصاص، ولاحظَت أنه مرَّ عبر مبنى الخزانة.

فصاح البروفيسور وهو يضربُ الهواء بيدَيه: «لا تنظري إلى الخريطة! لقد طلبتُ منكِ أن تُحضريها لي. ألا يُمكنكِ تنفيذُ عملٍ بسيط كهذا دون أن تتجسَّسي؟»

نزعَت جيني الخريطة بسرعةٍ عن الحائط وأحضرتها إليه. فتفحَّصها العالِم عن كثبٍ وضبط نظارته ليراها بوضوحٍ أكبر، ثم مزَّق الخريطة عمدًا إلى عدة أجزاء صغيرة. ثم نهض — وهذه المرة لم تحتَجَّ جيني — وذهب إلى النافذة، وفتحها، وألقى بقِطَع الورق المتطايرة في الهواء، فحملتها الرياح القوية بعيدًا فوق أسطح فيينا. وأغلق النافذة، وعاد إلى كرسيه.

وبعد برهةٍ سألها: «هل أُصيبَ أحدٌ جراء هذا الانفجار؟»

«أجل، قُتِل أربعة رجال على الفور، وأُصيب عشرة بجروح خطيرة وهم الآن في المستشفى.»

صاح الرجل العجوز، وغطَّى وجهه بيدَيه مُتمايلًا من جانب إلى آخر في كرسيه وكأنه يتوجَّع من الألم والندم: «يا إلهي! يا إلهي!» وفي النهاية، رفع وجهه الذي أصبح شاحبًا مُصفرًّا أكثر ممَّا كان عليه خلال الدقائق القليلة الماضية.

ثم قال وهو يُبلل شفتَيه الجافَّتَين: «لا يُمكنني أن أُخبركِ بشيء.»

«لا بدَّ أن تُخبرني؛ لأنه من الواضح أنك تعرف كل شيء.»

«لم أكن أعرف شيئًا عن أي انفجارٍ حتى أخبرتِني أنتِ عنه. فما شأني أنا بالخِزانة أو الحكومة؟»

«هذا هو بالضبط ما أريد أن أعرفه.»

«هذا غير معقول. إنني لستُ متآمرًا، بل أنا رجل عِلم.»

«إذن ليس لديك ما تخشاه يا سيد سيجفريد. إذا كنتَ بريئًا، فلماذا لا تُقدِّم المساعدة في هذا الأمر؟»

«لا علاقة لي بهذا الأمر؛ أنا عالِم، أنا عالِم. كلُّ ما أريده هو أن أُترَك وحدي مع أبحاثي. لا علاقةَ لي بالحكومات أو الصحف أو أي شيء يخصُّها.»

أخذَت جيني ترسم نمطًا بطرف مظلتها على الأرضية المُغبرة للغرفة. ثم تحدَّثت بهدوءٍ شديد:

«إنَّ الخط الذي رسمْتَه على خريطة فيينا مرَّ عبر مبنى الخِزانة؛ وكان مركز الدائرة هو هذه الشقة. لماذا رسمت نصف دائرة بالقلم الرصاص على الخريطة؟ ولماذا كنت قلقًا من أن أرى أنك قد فعلت ذلك؟ ولماذا مزَّقت الخريطة إربًا إربًا؟»

جلس البروفيسور سيجفريد هناك ينظر إليها مشدوهًا، لكنه لم يرد.

واستطردت الفتاة: «اعذرني فيما أقوله، تصرُّفاتك صبيانية للغاية. من الواضح أنك لستَ مُجرمًا، لكن لو كان رئيس الشرطة في مكاني لاعتقلك منذ فترةٍ طويلة، لمجرد أنك ترتكب أفعالًا حمقاء.»

قال مُترددًا بعد فترة: «الخريطة لا تُثبت شيئًا، وبات من الصعب الآن أن تعثري عليها أنتِ أو رئيس الشرطة.»

«هذا دليل آخر على حماقتك. لا يحتاج رئيس الشرطة إلى العثور عليها. أنا هنا شاهدة على ما رأيته في الخريطة وعلى الخط المنحني الذي يمرُّ عبر الخِزانة، وشاهدتُك وأنت تمحو ما كنتَ تعتقد أنه دليل إدانة. من الأفضل كثيرًا أن تتعامل معي بصراحةٍ مثلما تعاملتُ معك. وسأُقدم لك أفضل نصيحةٍ يُمكنني تقديمها، إذا كانت نصيحتي ستُفيدك.»

«أجل، وانشريها في جميع أنحاء العالَم.»

«سيتعيَّن نشرُها للعالم بأسره على أي حال؛ لأنني إذا غادرتُ هذا المكانَ دون أنا أعرف كل ما حدث، فسأذهب ببساطةٍ إلى الشرطة وهناك سأُخبرهم بما توصَّلتُ إليه في هذه الغرفة.»

«وإذا تحدثتُ، فستذهبين أيضًا إلى رئيس الشرطة وتُخبرينه بما اكتشفتِه.»

«لا، أعِدُكَ ألا أفعل.»

سأل الرجل العجوز بارتياب: «وما الذي يضمن لي ذلك؟»

«لا ضمان على الإطلاق باستثناء وعدي لك!»

«هل تتعهَّدين بعدم نشْر ما سأقوله لكِ في صحيفتك؟»

«لا، لا يُمكنني أن أعِدَك بذلك!»

تابع العالِم قائلًا: «ومع ذلك، فإنَّ الصحيفة لا تُهم، ستُصبح القصة عديمة القيمة بالنسبة لكِ؛ لأن أحدًا لن يُصدِّقها. ليس هناك فائدة تُذكَر في أن تنشر صحيفة قصة ستُقابَل بالسخرية والحط من قدرها، أليس كذلك؟ وعلى كل حال، أعتقد أنكِ صادقة، وإلا كنتِ ستَعِدين بعدم نشر سطرٍ مما سأُخبركِ به، وعندها كنتُ سأعرف أنكِ تكذبين. وكذلك كان من السهل أن تعدي بذلك مثلما قلتِ إنكِ لن تُخبري رئيس الشرطة. لقد اعتقدتُ في البداية أن بعض المنافسين من العلماء أرسَلوكِ إلى هنا لتتجسَّسي عليَّ، وتعرِفي ما كنتُ أفعله. وأؤكِّد لكِ أني لم أسمع شيئًا عن الانفجار الذي تتحدثين عنه، لكن كنتُ متأكدًا من وقوعه في مكانٍ ما على امتداد هذا الخط الذي رسمتُه على الخريطة. كنتُ آمُل ألا يكون الأمر خطيرًا، وبدأتُ أعتقد أنه ليس كذلك. لقد دفعني القلق خلال الشهر الماضي إلى حَدِّ الجنون تقريبًا، وكما قلتِ تمامًا، كانت أفعالي صبيانية.» ثم نهضَ الرجل العجوز من كرسيه منفعلًا وأخذ يسير في الغرفة ذهابًا وإيابًا، ويُمرِّر أصابعه وهو شارد الذهن في شعره الأبيض الطويل، ويتحدث إلى نفسه أكثرَ مما يتحدَّث إلى جيني التي ظلَّت تستمع إليه.

كانت جيني قد وضعت كرسيها بالقُرب من الباب دون أن تحتجَّ على قيامه؛ خوفًا من مقاطعة حديثه، وإثارة شكوكه مرةً أخرى.

«لا أرغب في حماية اختراعاتي. ولم أحصل على براءة اختراع في حياتي. فما أكتشفه؛ أمنحه للعالَم بلا مقابل، لكن لن يُجرِّدني أحدٌ من سُمعتي كعالِم. أريدُ أن تتناقل الأجيال القادمة اسمي ضمن المُكتشفين العِظام. لقد تحدَّثتِ للتوِّ عن الذهاب إلى الشرطة وإخبارهم بما تعرفينه. يا لكِ من حمقاء! لقد بات ذَهابكِ إلى مركز الشرطة الرئيسي من دون إذني أو رغمًا عني مُستحيلًا تمامًا مثل استحالة أن تذهبي إلى النافذة وتستعيدي تلك القطع من الورق التي ذهبَت أدراج الرياح. فقبل أن تصلي إلى نهاية السُّلَّم، يُمكنني أن أُحوِّل فيينا كتلةً من الأنقاض. أجل، يُمكنني على الأرجح نسفُ إمبراطورية النمسا بأكملها. إنَّ الحقيقة هي أنني لا أعرف حدود قوتي، ولا أجرؤ على اختبارها.»

قالت جيني لنفسها وهي لا تزال تقترِب من الباب: «يا للهول، رجلٌ مجنون!» فتوقف الرجل العجوز عن السير والتفتَ إليها بشراسةٍ وهو يقول:

«أنتِ لا تُصدقينني؟»

فأجابت وقد شحب وجهها: «أنا لا أُصدقك.»

ضحك الساحر العجوز ضحكةً خافتة مُخيفة. وأخذ من أحد الرفوف رأسَ مطرقة بدون مقبض، وظنت جيني للحظة أنه سيُهاجمها؛ لكنه فقط ناولها الرأس المعدنيَّ وقال:

«اكسري هذه إلى نصفَين. وضَعِيها بين راحة يدكِ واطحنيها حتى تُصبح مسحوقًا.»

«تعرف جيدًا أن هذا غير معقول؛ لا أستطيع أن أفعل ذلك.»

«لماذا لا يُمكنكِ فعلُ ذلك؟»

«لأنها من الفولاذ.»

«هذا ليس سببًا. لماذا لا تستطيعين أن تفعلي ذلك؟»

نظر إليها بحِدَّة من فوق نظارته، ورأت عينَه الثائرة يتَّقِد منها حماسُ المُعلم بينما يُرشد تلميذه إلى ضوء الحقيقة.

«سأُخبركِ لماذا لا يُمكنكِ فعل ذلك؛ لأنَّ كل جزيء دقيق مُتَّحِد مع الآخر بقوة هائلة. ويمكن تسخينُه حتى الاحمرار وطَرْقُه وتشكيلُه على هذا النحو وذاك، ومع ذلك تظل القوة بين الجزيئات مُتماسكة مثل قبضة عملاق. لنفترض الآن أن لديَّ مادةً ما، إذا وُضِعَت قطرةٌ منها على قطعة الحديد هذه، فإنها ستُؤدي إلى تحرير القوة التي تربط بين الجزيئات وانطلاقها، ماذا سيحدث عندئذٍ؟»

أجابت جيني: «لا أعرف.»

صاح البروفيسور بصبرٍ نافد: «لا، بل تعرفين! مثلُكِ مثلُ أي امرأةٍ أخرى، لن تُكبِّدي نفسَكِ عناءَ التفكير. إنَّ ما سيحدث كالتالي؛ ستتحرَّر القوة التي تربط الجزيئات بعضها ببعض وتتحوَّل المطرقة إلى مسحوقٍ مثل الذهب الذي أحضرتِه إليَّ. والانفجار الذي سيعقب ذلك، بسبب الإطلاق المفاجئ لهذه القوة الهائلة، من المُحتمَل أن يُدمِّر هذه الغرفة ويُودي بحياتنا. أنتِ تفهمين هذا، أليس كذلك؟»

«أعتقدُ ذلك.»

«حسنًا، سأُخبركِ بشيءٍ لن تفهميه، وربما لن تُصدقيه عند سماعه. لا تُوجَد سوى قوةٍ واحدة في هذا العالم وجزيءٍ واحد من المادة. لا يُوجَد سوى عنصرٍ واحد، وهو أساسُ كل شيء. كلُّ الأشكال والظروف المختلفة للأشياء التي نراها ناتجة عن مجرد تغيُّر في تلك القوة فضلًا عن أعداد ذلك الجسيم. هل تجاوزتُ قدرتكِ على الفهم؟»

«أظن هذا يا بروفيسور.»

«بالطبع؛ أعلم أن عقل المرأة العادية ضعيفٌ وواهِن، ومع ذلك، حاولي أن تفهمي ما سأقول. لقد اكتشفتُ كيفية تفكيك هذه القوة وتلك الجسيمات. ويُمكنني، بلمسةٍ واحدة أن أُطلق على هذه الأرض عملاقًا قوتُه لا حَدَّ لها ولا يُمكن ردعها.»

«لماذا تعترض إذن على أن يعرف العالَم بأمر اكتشافك؟»

«السببُ الأول أنه لا يزال هناك آلاف الأشياء يُمكن تعلُّمها على مدار هذه السلسلة من الأبحاث. وفي اللحظة التي يُعلن فيها المرءُ اكتشافاته، يُقابَل بالاستهزاء أولًا، ثم عندما تثبُت صحة ما توصَّل إليه، يظهر في كل جزءٍ من العالَم أناسٌ آخرون يقولون إنهم يعرفون كل شيءٍ عن هذا الاكتشاف منذ عشرات السنين، وسيُثبتون ذلك أيضًا؛ على الأقل بما يكفي لخداع عالَم ساذَجٍ سهل الانخداع. والسببُ الثاني أنني رجل تُحرِّكه المشاعر الإنسانية، أتردَّد في نشر معرفةٍ من شأنها أن تُمكِّن أي أحمق من تدمير الكون. ثم إنَّ هناك سببًا ثالثًا. هناك شخص آخر، على ما أعتقد، اكتشفَ كيفية إضعاف قوة تماسُك الجزيء؛ وهو العالِم كيلي من فيلادلفيا، في الولايات المتحدة …»

صاحت جيني ضاحكة: «ماذا! أنت لا تقصد كيلي الرجل المُحرِّك؟ ذلك الدجَّال! عجبًا، لقد كشفَتْ كلُّ الصحف في العالَم ادعاءاته السخيفة. إنه لم يفعل شيئًا سوى إهدارِ أموال الآخرين.»

«أجل، لقد سخِرَت منه الصحف. فمنذ الأزل؛ يَرجُمُ البشر أنبياءَهم بالحجارة. ومع ذلك، فقد حرَّر قوة لا يستطيع مقياسٌ من صُنع الإنسان أن يقيس مقدارها. لقد كان متفاخرًا، إذا أردتِ القول، وقال إنه باستخدام كوبٍ من الماء سيقود باخرةً عبر المحيط الأطلسي. التزمتُ حينها الصمت، وظَللتُ أعملُ بعيدًا ولكني أُتابعه، وكان يعمل هو بعيدًا عني ولكن يُتابعني؛ لأن كلًّا منا يعرف ما يفعله الآخر. وإذا اكتشف أيٌّ منا كيفية التحكُّم في هذه القوة، فسوف يُخلَّد اسمُ المكتشِف عبر الأجيال القادمة إلى الأبد. وهو غير قادر على فعل ذلك بعد، وكذلك أنا. لكن لا يزال هناك فرقٌ آخر بيننا؛ يبدو أنه قادر على إطلاق تلك القوة في وجوده؛ بينما لا يُمكنني القيام بذلك إلا عن بُعد. كانت كل تجارِبي مؤخرًا موجَّهة نحوَ إجراء تعديلاتٍ على هذه الآلة؛ وذلك لتحرير القوة داخل النطاق المُحيط بي في هذه الغرفة، على سبيل المثال، لكن المسألة حيَّرَتني. فلا بدَّ أن تتَّحِد عند بؤرةٍ مُحدَّدة هذه الأشعة غير المرئية التي تُرسلها هذه الآلة، التي من شأنها أن تخترق الحجر أو الحديد أو الخشب أو أي مادةٍ أخرى، ولم أتمكن من جعل هذه البؤرة قريبةً منِّي إلا لمسافةٍ تزيد عن نصف ميل. لقد ذهبتُ الصيف الماضيَ إلى منطقةٍ غير مأهولة في سويسرا وواصلتُ تجارِبي هناك. وفجَّرتُ صخورًا على جوانب الجبل اخترتُها عن عمد، وكانت المسافات متفاوتة تتراوح ما بين ميلٍ ونصف ميل. ثم فحصتُ الصخور المتفككة، وبمجيئكِ إلى هنا وإعطائي هذا الذهب، أدركتُ على الفور أن شخصًا ما قد اكتشف السِّرَّ الذي كنتُ أُحاول فهمَه طوال السنوات العشر الماضية. واعتقدتُ أنكِ ربما أتيتِ من عند كيلي. والآن أنا على قناعةٍ بأنَّ الانفجار الذي أخبرتِني عنه في الخِزانة حدثَ بسببي. إنَّ هذه الآلة، التي هدَّدْتِ باستهتارٍ أن تُلقيها من النافذة، انزلقت عن غير قصدٍ من دعامتها أثناء عملي هنا بعد منتصف الليل في يوم السابع عشر. لقد أعَدتُها فورًا إلى وضعها الصحيح كما ترين الآن بحيث تُطلِق أشعتها في الهواء، ومن ثمَّ لا تُسبِّب ضررًا؛ لكن كنتُ على علمٍ بأن انفجارًا ما سيحدُث في فيينا في مكانٍ ما داخل دائرةٍ نصف قُطرها يبلغ نصف ميل. لقد رسمتُ نصف الدائرة بالقلم الرصاص كما رأيتِ على خريطة فيينا؛ لأنني وسط انفعالي بإعادة الآلة إلى وضعها لم ألحظ بالضبط المكانَ الذي أشارت إليه، لكني كنتُ أعرف أنه على امتداد الخط الذي رسمتُه قد وقع انفجارٌ ما. وكنت آمُل ألا يكون خطيرًا، لكنه على ما يبدو كان خطيرًا للغاية. فانتظرتُ وانتظرت، ولم أجرؤ على ترك الشقة، لكن لم أسمع أيَّ خبرٍ عن أي كارثة، كنتُ مُمزَّقًا بين القلق الذي من الطبيعي أن يُصيب أيَّ امرئٍ تُحركه مشاعرُ إنسانية في مثل موقفي ولا يريد تدمير الحياة، والخوف من ألا يحدُث شيء، وبذلك لا أكون قد توصلتُ بالفعل إلى الاكتشاف الذي اعتقدتُ أني قد توصلتُ إليه. لقد تحدَّثتِ عن أفعالي كونها صبيانية؛ لكن الحقيقة أنني حين أدركتُ أنني كنتُ السببَ في هذا الانفجار، راوَدَني خوفٌ من الملاحقة الجنائية. لا يعني هذا أنني سأعترضُ على سجني إذا سمحوا لي بمُواصلة تَجارِبي هناك؛ لكنهم، بلا شك، لن يفعلوا ذلك؛ لأن السلطات لا تعرف شيئًا عن العِلم، ولا يعنيها الأمر كثيرًا.»

على الرغم من الشكوك التي انتابت جيني في البداية، وجدَت نفسها تدريجيًّا تُؤمن بكفاءة آلة الزجاج والحديد التي تبدو غير ضارَّةٍ والتي رأَتها على الطاولة أمامها، وشعرت بالرُّعب من سحرِها وهي تُحدِّق بها. ثم بدأت احتمالاتٌ مُروعة تتسلَّل إلى تفكيرها، وسألت لاهثة: «ماذا سيحدُث إذا أدرتُ هذه الآلة ووجَّهتُها نحو مركز الأرض؟»

«لقد أخبرتُكِ بما سيحدث. سوف تتحوَّل فيينا إلى أنقاض وربما تُصبح الإمبراطورية النمساوية بأكملها، وربما بعض الدول المجاورة، كتلةً من الغبار غير المحسوس. قد يتلاشى العالَم نفسُه. لا يُمكنني تحديد حجم الخسائر ولا أجرؤ على المُخاطرة بالتجرِبة.»

صاحت جيني قائلة: «يا إلهي، إنَّ التفكير في هذا الأمر مُخيفٌ للغاية؛ يجب أن تتخلَّص من هذه الآلة يا بروفيسور ولا تصنع آلةً أخرى مثلها.»

«ماذا! وأتخلى عن الأمل في أن يُخلَّد اسمي عبر الأجيال القادمة؟»

«يا بروفيسور سيجفريد، بمجرد أن تُصبح هذه الآلة معروفةً للعالَم، لن يكون هناك أجيالٌ قادمة لتُخلِّد اسمَك. ومع انتشار الكراهية التي سوف تسود حينئذٍ بين الدول، ومع وجود دول مختلفة مليئة بمجانين مُطلَقٍ سراحُهم ممن نُطلِق عليهم المُتطرفين المُتعصبين — رجال يُنذرون بنشر الكراهية بين الشعوب — إلى متى في رأيك سيُواصِل العالَم مسيرته عندما تُقدم إليه مثل هذه الآلة؟»

نظر البروفيسور باعتزاز إلى الآلة التي صنعها بتفانٍ وبذَل فيها جهدًا كبيرًا.

«ستُصبح مفيدةً جدًّا للبشرية إذا وُظِّفَت جيدًا. ومع تضاؤل مناجم الفحم في كل مكان، ستُوفر قوةً دافعة للكون ستستمر عبر العصور.»

صاحت جيني بحزم: «يا بروفيسور سيجفريد، عندما تسمح مشيئة الرَّب أن تُصبح تلك الآلة ملكيةً عامة يتشارك فيها كلُّ البشر، فإنها إرادته إذن بأنْ تَحين نهاية العالَم.»

لم ينبس البروفيسور بكلمة، لكنه وقفَ عاقدًا حاجبَيه تمامًا ومُحدقًا بشدة في الآلة. بينما يحمل في يده رأس المطرقة التي سبق أن أعطاها للفتاة؛ ويُؤرجح ذراعه إلى أسفل وإلى أعلى كأنه يُقدِّر وزنها. ثم فجأة، دون كلمة تحذير، قذَفها نحو الآلة كي يُحطمها، فتحطَّم زجاجها وسقطَ مُصدِرًا رنينًا على الأرض.

صرخَت جيني مذعورةً وهي تَئِنُّ في الوقت الذي جاهدَ البروفيسور كي يصِل إلى كُرسيه ثم سقط عليه بدلًا من الجلوس. واستشرى شحوبٌ مُروِّع في وجهه، وركضت الفتاة المُنزعجة مرةً أخرى إلى الخِزانة، وسكَبَت بعض البراندي وقدَّمته إليه، ثم حاولت أن تسكبه في حلقه، لكن أسنانه المنطبقة قاومَت محاولتها. ففركَت يدَيه المُتيبِّستَين، وبمجرد أن فتح عينَيه، هزَّ رأسه ببطءٍ.

قالت وهي ترى فكَّيه يسترخيان: «حاوِلْ أن تتناوَل هذا الشراب.»

فتمتم بصعوبة: «لا فائدة منه، إنَّ حياتي في هذه الآلة؛ وهي هَشَّة مثل الزجاج. أشعرُ …»

ولم يستطع أن يقول أكثر من ذلك. فنزلت جيني بسرعةٍ إلى عيادة طبيبٍ في الطابق الأول لاحظَتْها عند صعودها.

هُرِعَ الطبيب، الذي كان على معرفةٍ بالبروفيسور لكن ليس بصفةٍ شخصية؛ إذ كان لديه عددٌ قليل من الأصدقاء. أخذ الطبيب يصعد السُّلَّم ثلاث درجاتٍ في كل مرة، وتبِعَتْه جيني بسرعة أقل. ثم التقى بالفتاة وهو خارجٌ عند باب الشقة.

وقال: «لا فائدة، لقد انتهى الأمر، مات البروفيسور سيجفريد، وأنا على يقينٍ من أنَّ النمسا قد فقدت بوفاته أعظمَ علمائها.»

ردَّت الفتاة بصوتٍ مرتجف: «أنا متأكدة من ذلك. ولكن ربما أن هذا، في نهاية المطاف، هو الأفضلُ للجميع.»

قال الطبيب: «أشكُّ في ذلك. لا تُخالجني الرغبة أبدًا في الاعتراض على العناية الإلهية إلا عندما يُتَوفَّى رجل مُتميز وهو يُقدِّم الخير للبشرية.»

ردَّت جيني بإجلال: «أخشى أننا لم نصِل إلى حالةٍ من التطوُّر تُبرِّر لنا انتقاد حِكمة العناية الإلهية. خلال حياتي القصيرة، رأيتُ عدة حالاتٍ بدا فيها أن العناية الإلهية قد تدخَّلَت لحماية مخلوقاتها. وحتى الموت المفاجئ للبروفيسور سيجفريد لا يُزعزع إيماني بأنَّ العناية الإلهية تعلَم ما لا نعلَم.»

ثم استدارت بسرعةٍ ونزلَت السُّلَّم على عجل. وعند الباب الخارجي سمعت الطبيبَ يُنادي: «من فضلكِ، يجب أن أعرف اسمكِ وعنوانكِ.»

لكن جيني لم تتوقَّف للإجابة. لم تكن ترغب في الخضوع لاستجواب، فهي تعلَم أنها إذا قالت الحقيقة فلن يُصدِّقها أحد، بينما إذا حاولَت إخفاءها، فقد يتسبَّب لها هذا التصرُّفُ في عواقب وخيمة لا يمكن توقعها؛ فركضت بسرعة إلى ناصية الشارع، وأشارت لعربة أجرة وتوجَّهت إلى مكانٍ في أقصى المدينة، ثم نزلت منها، وذهبت إلى شارع رئيسي، واستقلَّت عربة ترام إلى وسط المدينة، ومن هناك استقلت عربة أجرة أخرى إلى القصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤