الفصل السابع عشر

جيني تحجز كابينة في عربة النوم

لقد وعدَت جيني البروفيسور سيجفريد ألا تتواصَل مع رئيس الشرطة بشأنه، وما يدور في ذهنها الآن: هل بتواصُلها ستُخلِف وعدَها أم لا؟ فإذا سمحَت لهذا المسئول بمعرفة نتيجة تحقيقها، فلن يُشكِّل الأمرُ حينها أي فارقٍ بالنسبة إلى البروفيسور. وقد سألت نفسَها؛ لو أن البروفيسور سيجفريد كان بإمكانه أن يتوقَّع موته المفاجئ، فهل كان سيُفضِّل أن تُعلِن عن كل ما تعرِفه عنه؟ ألم يقُل مِرارًا وتَكرارًا أنه يعمل من أجل الشهرة وتخليد اسمه عبر الأجيال القادمة؟ ثم إنَّ هناك أمرًا آخر يجِب أن يُؤخَذ بعين الاعتبار: إذا لم تُبلِغ رئيس الشرطة عن سبب الانفجار، فسوف يستمرُّ بلا جدوى في بحثه غير المُثمر، ولا شكَّ أنه سيُقبَض على العديد من الأبرياء خلال سَير تحقيقات الشرطة، وهو وضعٌ سيجلب متاعبَ كثيرةً ونفقاتٍ طائلة، ومن الوارد أن يُسجَن شخصٌ أو أكثرُ مدى الحياة دون أن تكون له أيُّ علاقة بالقضية على الإطلاق. ومن ثمَّ قرَّرت جيني أن تُخبر رئيس الشرطة بكل ما تعرفه، وهو ما لم تكن لتفعله لو أن البروفيسور سيجفريد ما زال على قيد الحياة. ولهذا، أرسلَت مرسالًا إلى المسئول الكبير، وبمجرد أن بدأت تحكي للأميرة المُتلهِّفة شوقًا إلى سماعها عمَّا حدث، وصل الرجل إلى القصر، وجلس الثلاثة في غرفة جلوس جيني مع غلق الأبواب.

بدأت جيني قائلة: «لقد تمكَّنتُ من معرفة مُلابَسات وقوع الانفجار في مبنى الخِزانة ومَنْ وراءه، ولكن قبل أن أُكمِل حديثي يجب أن تعِدَني بتقديم خدمتَيْن، وفي وُسعِك فعلُ كلٍّ منهما دون عائق.»

سألها رئيس الشرطة بحذَر: «ما هما؟»

أجابت جيني: «سأُخبرك بهما أثناء رواية قصتي؛ فهُما جزءٌ منها، ولكن يجب أن تعِدَني أولًا دون شروط، وأن تفيَ بوعدك الذي قطعته على نفسك.»

قال رئيس الشرطة: «هذه بالأحرى شروطٌ غريبة يا آنسة باكستر، ولكنني أقبل بها عن طيب خاطر لثقتي بكِ؛ فأنتِ مَن اكتشف أنَّ كل الذهب لا يزال في الخِزانة.»

«حسنًا، إذن أول خدمة هي ألا تستدعِيَني للإدلاء بشهادتي عند إجراء تحقيقٍ حول ملابسات حادث وفاة البروفيسور كارل سيجفريد.»

صاح الرئيس: «أنتِ تُدهشينني! كيف علمتِ أنه قد مات؟ لقد وصلَني الخبر قبل أن أُغادر مكتبي بلحظاتٍ قليلة.»

ردَّت جيني ببساطة: «لقد كنتُ معه عندما وافتْهُ المَنيَّة.» وقد أثار كلامُها دهشة الأميرة ورئيس الشرطة، لكنها تابعت قائلة: «طلبي التالي هو أن تُدمِّر تمامًا آلةً موضوعة على طاولةٍ في منتصف غرفة البروفيسور تقريبًا، ربما تكون الآلةُ مُعطَّلةً بالفعل — أعتقد أنها كذلك — إلا أنني لن يهنَأ لي بالٌ حتى يُمحَى أثرها تمامًا؛ لأن دراسةَ ما يتبقى منها قد تُمكِّن عالِمًا آخرَ من تشغيلها مرةً أُخرى، وأرجو أن تهتمَّ بهذا الأمر بنفسك، سأذهب معك، إذا كنتَ ترغب في ذلك، وأُرشِدك إلى الآلة إذا كانت قد نُقِلَت من موقعها.»

قال رئيس الشرطة: «الغرفة مُغلقة، ولن يُمَسَّ أي شيءٍ حتى أصل إلى هناك. لكن ما نوع تلك الآلة؟»

أجابت جيني: «إنها من النوع المُميت والمُدمِّر للغاية، وإذا وقعتْ في أيدي أحد الفوضويِّين، فيُمكنه وحدَه أن يُحوِّل مدينة فيينا إلى حطام.»

صاح المسئول مذعورًا: «يا إلهي!» فهو ينزعج للغاية من الفوضويين، وقد أثَّرَت فيه جيني تمامًا عند ذكرها هذا النوع من المُجرمين؛ إذ إنها لو أخبرته أن اختراع البروفيسور قد يُمكِّن النمسا من غزو كل الدول المُحيطة، لكان الاحتمالُ الوارد جدًّا هو الحفاظ على الآلة بعناية.

وتابعَت جيني: «إنَّ الانفجار الذي حدث في مبني الخِزانة وقع عن غير قصدٍ بسبب هذه الآلة، على الرغم من وجودها في ذلك الوقت في غرفةٍ عُلوية على بُعد نصف ميل. وقد رأيتَ الأثر الرهيب الذي خلَّفه ذلك الانفجار، ولك أن تتخيَّل إذن الدمار الذي قد تُسبِّبه إذا وقعَت في أيدي أحد هؤلاء الفوضويين الذين لا يُقدِّرون العواقب.»

أكدَّ رئيس الشرطة بحماس؛ وهو يمسح جبينه الشاحِب: «سأُدمر هذه الآلة بيدَيَّ.»

ثم واصلَت جيني حديثها، وسط دهشةٍ متزايدة من جانب الأميرة ورئيس الشرطة، وسردَت كل تفاصيل مُقابلتها مع البروفيسور الراحل كارل سيجفريد.

قال رئيس الشرطة وهو ينهض بعد الانتهاء من سرْد كل التفاصيل: «سأذهبُ في الحال وأُبيدُ تلك الآلة، وسأفعل ذلك بنفسي. وبعد انتهاء التحقيق، سأُصدر أمرًا بتدمير كلِّ شيءٍ في الغرفة العلوية. أتمنَّى أن يُزَجَّ بجميع العلماء على وجه الأرض في غياهب السجون كي نأمنَ مكرهم.»

ردَّت جيني: «أخشى أن هذا لن يُجدِيَ نفعًا، إلا إذا تمكَّنتَ من منع تهريب المواد الكيميائية إلى داخل البلاد؛ إذ قد يُحوِّل العلماءُ سجنك إلى رماد، ويَنسَلُّون بهدوءٍ قبل أن تشعر بهم.»

كان السيد هاردويك قد أخبر جيني بأنها إذا تمكَّنَت من حلِّ لُغز فيينا فإنها ستُعزِّز من سُمعة صحيفة «دايلي بيجل» في أوروبا، وقد فعلَت جيني أكثرَ مما كان مُتوقَّعًا منها، لكن السُّمعة التي حصدتها الصحيفة في أوروبا لم تكن بالقدر المُتوقَّع؛ فصحيحٌ أن المقال المنشور عن سبب الانفجار الذي اكتمل على نحوٍ دراماتيكي مع وفاة البروفيسور المأساوية المفاجئة قد أحدثَ ضجَّةً كبيرة في لندن، بيْدَ أن الصحف الهَزلية لهذا الأسبوع قد امتلأت بالرسوم التوضيحية التي تسلط الضوء على أوجه الاستخدام المُمكنة لآلة البروفيسور. كما أن القول بأنَّ أي رجلٍ عاقل في إنجلترا قد صدَّقَ كلمةً واحدة مما ورد في هذا المقال سيكون بمثابة إهانةٍ غير مُستحَقة لذكاء جمهور القرَّاء البريطاني. ولم يتوقَّف أحد ليُفكِّر أنه إذا نشرَت صحيفةٌ ما مقالًا عما يُمكن أن تفعله أشعَّة رونتجن دون التمكُّن من إثبات حقيقة التصريحات عمليًّا، فإنه سيكون موضع سخرية الجميع. ولو ذكرت إحدى الصحف قبل بضع سنواتٍ أن رجلًا في يورك استمع إلى صوت صديقٍ له في تلك اللحظة وهو موجود في لندن، ولم يتمكَّن من سماع ما قاله صديقه فحَسْبُ، بل تمكَّن أيضًا من تمييز نبرة صوته العادية، فإذا أضافت الصحيفة أن الآلة التي أنجزت ذلك كلَّه قد دُمِّرَت مع الأسف، لاستنكر الناسُ الطبيعة المُثيرة للصحافة الحديثة.

وهكذا انهالت الرسائل على رئيس التحرير، لتُوضِّح أنه في حين أن الكُتَّاب يرغبون — بصفةٍ عامة — في نشر الأكاذيب المُعتادة والمُتاجَرة بها يوميًّا في الصحف، فإن هناك حدًّا لسذاجة القراء، وقد اعترضوا على التعامُل معهم على أنهم أغبياء بُلَهاء. واستكمالًا للحرَج الذي أصاب صحيفة «دايلي بيجل»، نشرَت حكومة النمسا بيانًا رسميًّا، نشرته وكالة «رويتر» ومُراسِلوها المتميزون المُنتشِرون في كل أنحاء العالم. وقد صِيغَ البيان بتلك النبرة الهادئة والجادة والمُتَّسِقة التي يستخدمها الدبلوماسيُّون عند سرد أكذوبةٍ عاريةٍ تمامًا من الصحة.

انتشرت شائعاتٌ غيرُ مسئولة (هكذا بدأ البيان الرسمي) مفادها أنَّ انفجارًا قد وقعَ في مبنى الخِزانة في فيينا، وقيل إنَّ كميةً كبيرة من الذهب قد سُرِقَت، وإنَّ كارثةً من نوعٍ ما قد أصابت الخزانة، ثم نُشِرت قصة سخيفة أكَّدَت أن البروفيسور سيجفريد، وهو إحدى الشخصيات النمساوية المُشرِّفة الذي وافته المنية مؤخرًا، هو مَنْ تسبَّب في وقوع هذا الدمار الشامل باستخدام أحد أساليب السِّحر الأسود. ومن ثمَّ، نُوشِدَت الحكومة بإصدار التصريحات التالية؛ أولًا: لم يُسرَق بنسٌ واحد من الخزانة. ثانيًا: إنَّ ما يُسمَّى بصندوق الحرب لم يَمسَسْه أحد. ثالثًا: إنَّ مبلغ المائتي مليون فلورين موجود بأمانٍ خلف أبواب الخزانة المُغلَقة بإحكام. رابعًا: لم تكن العملات الذهبية تنتمي إلى دولٍ مختلفة كما زُعِم، وهو ما كان بمثابة تلميحٍ خفي بأن النمسا لديها نية عدائية ضدَّ إحدى هذه الدول الصديقة. وكلُّ العملات الموجودة في هذا الصندوق — الذي يُوصَف على نحوٍ مغلوط بأنه صندوق حرب، بينما هو ليس صندوقَ حرب على الإطلاق، ولكنه مجرد صندوق يحوي الاحتياطيَّ النقديَّ الذي تمتلكه النمسا — تتألَّف بالكامل من العملات النمساوية. خامسًا: من أجل وضع حَدٍّ لهذه الفضائح المُدوِّية والمُغرِضَة، أعلنت الحكومة أنها تنوي وزن هذا الذهب في تاريخ مُعيَّن، ودَعَتْ مُمثِّلين عن الصحافة من روسيا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا؛ كي يشهدوا عملية الوزن هذه.

وفي اليوم التالي لعملية وزن الذهب التي تمَّت في فيينا، نُشِرَت عنها مقالاتٌ طويلة مُرسَلة عبر التلغراف في الصحافة الإنجليزية، فضلًا عن نشر العديد من المقالات الرنَّانة في المقالات الافتتاحية، من دون التطرُّق إلى صحيفة «دايلي بيجل» التي استنكرَتْ شَرَهَ رئيس التحرير ونهَمَه الشديد تجاه الإثارة الذي لم يُبدِ احترامه للصداقة التي ينبغي أن تُوجَد بين الدول الصديقة، ولا السُّمعة الطيبة للمَوتى المُحترمين والمُشرِّفين، وغايته هي إحراز النجاح حتى وإن كانت الوسيلة هي نشر الفضائح اليومية، ولم يتورَّع عن نشر ما هو زائد عن الحَدِّ أو غير مُحتمَل، وقد راهنَ على السذاجة المفترَضة في جمهوره من القرَّاء. ولكن، لحُسن الحظ، أكَّدَت الصحف ذات المصداقية أنَّ السحر انقلب على ساحره وطَالَته الفضيحة. إنَّ صُحف الإثارة تستحقُّ الازدراء اللاذع من جميع الرجال الشرفاء. وفي وقتٍ لاحق، نشرَت إحدى المجلَّات النقدية مقالًا بعنوان «بعضُ ملامح الصحافة الحديثة»، هاجمَت من خلاله صحيفة «دايلي بيجل» بضراوة، وفي إحدى المجلَّات رُبع السنوية، أوضحَ أستاذٌ في جامعة كامبريدج عبثية الاختراع المزعوم وعدَمَ معقوليته من وجهة نظرٍ عِلمية.

صاح السيد هاردويك وهو يجوب غرفته ذهابًا وإيابًا بخطًى سريعة: «أُقسِم أنني سأتوخَّى كل الحذر بعد ذلك في التعامل مع الحقيقة؛ إذ إنها من الأمور الخطيرة للغاية التي يصعب التدخل فيها. فإذا صرَّحتَ بالحقيقة بشأن إنسانٍ ما، فإنك ستُواجه غرامةً وقضية تشهير، وإذا صرَّحت بالحقيقة بشأن دولة، فستُهاجمك الصحافة المُوحَّدة فيها. حسنًا، إنه لأمرٌ يجعل معركة الحياة أكثرَ إثارةً للاهتمام، ونحن نحتال ونمكر لنُناضل نضالًا أفضل، كما يقول براوننج.»

استدعى رئيس التحرير الآنسة باكستر، وهي تجلس الآن بجانب مكتبه بينما هو يسير بعصبيةٍ ذهابًا وإيابًا. وأُغلِقَت الأبواب حتى لا يُقاطعهما أحد، وعرَفَت من أسلوب رئيس التحرير أن هناك موضوعًا مهمًّا يجري التعامل معه. وقد عادت جيني إلى لندن بعد قضاء شهرٍ في فيينا، وانشغلت كسابق عهدها لمدة أسبوع في عملها الروتيني في الصحيفة.

قال رئيسُ التحرير، بعدما أعلن عدم ثقته في الحقيقة كمادةٍ سائغة وقابلة للتطبيق في مجال الصحافة: «لديَّ خُطة أودُّ أن أعرضها عليكِ يا آنسة باكستر. أريدكِ أن تعرفيها أولًا، ولكِ الحق بعد ذلك في المواقفة عليها أو رفضها. وتذكَّري، إذا وافقتِ عليها، فإنَّ فرصة نجاحكِ فيها هي واحد في المليون. وعلى ضوء الفرصة الوحيدة التي أمامنا، أقترحُ الآن إرسالكِ إلى سانت بطرسبرج.»

هتفت الفتاة في ذعر: «إلى سانت بطرسبرج!»

قال رئيس التحرير، وقد أخطأ في فهم مغزى هتافها: «إنَّها رحلة طويلة للغاية، لكن يُمكنكِ السفر إلى هناك مع أقصى درجات الراحة المُمكنة، وأريد منكِ ألا تدَّخري أيَّ نفقاتٍ في سبيل حصولكِ على كل سبل الرفاهية التي تُقدِّمها قطارات السكك الحديدية المختلفة أثناء رحلتكِ إلى سانت بطرسبرج، وعودتكِ منها.»

تمتَمَت جيني بصوتٍ خافت: «ولماذا عليَّ الذهاب إلى سانت بطرسبرج؟»

أجاب رئيس التحرير: «من أجل رسالةٍ فحسب. سأُخبركِ بما حدث وما يحدُث. ولن أذكر أيَّ أسماء، ولكن في الوقت الحاليِّ كتبَتْ شخصية رفيعة المستوى في روسيا، وهي شخصية صديقة لبريطانيا العظمى، رسالةً خاصة، تُقدِّم من خلالها بعض المقترحات إلى شخصيةٍ رفيعة المستوى في إنجلترا، التي تُعَدُّ صديقة لروسيا. وهذا التواصل ليس بصفةٍ رسمية؛ إذ ليس من المفترَض أن تعرف أيٌّ من الحكومتَين أيَّ شيءٍ عنه على الإطلاق. وفي واقع الأمر، فإنَّ الحكومة الروسية لديها شك، والحكومة البريطانية على يقين، أنَّ هذه الوثيقة ستُصبح قريبًا قيد التوصيل. وهي إما ألا تُسفِر عن شيءٍ أو أن تسفر عن أشياء عظيمة. والآن في ليلة الحادي والعشرين، وفي إحدى عربات النوم بقطار نورد السريع الذي يُغادر سانت بطرسبرج مُتوجهًا إلى برلين، سيُسافر مبعوثٌ خاص حاملًا هذه الرسالة في حوزته. وأريدكِ أن تستقلِّي القطارَ نفسَه، وتحجزي كابينة بالقُرب من كابينة المبعوث، إذا أمكن. إنَّ هذا المبعوث هو رجل تثق فيه الأطراف المَعنية في المفاوضات ثقةً مطلقة. أتمنَّى لو أنَّني أعرف اسمه، لكنني لا أعرفه. ومع ذلك، هناك احتمالات أنه سيُغادر لندن مُتوجهًا إلى سانت بطرسبرج في هذا الوقت تقريبًا، ولذا ينبغي أن تُبقي عينَيك يقظتَين خلال رحلتكِ إلى هناك؛ لأنكِ إذا استطعتِ السفر معه على متن القطار نفسِه، فقد يُسهِّل هذا مهمتَكِ بعد ذلك. ولتأخُذي هذه الرسالة.» تابع رئيس التحرير حديثه، وهو يأخذ من دُرج مكتبه مظروفًا كبيرًا مُغلقًا بقطعة كبيرة من الشمع المختوم: «إنَّ كل ما بها هو نسخة عادية متواضعة من إصدار اليوم من صحيفة بيجل، ولكن بناءً على مظهرها الخارجي يُمكن وضعها مكانَ الرسالة التي ستُغادر سانت بطرسبرج يوم الحادي والعشرين. والآن، ما أودُّ منكِ أن تفعليه هو أن تأخذي هذا المظروف في حقيبة يدكِ، وإذا تمكنتِ خلال رحلة العودة إلى لندن من الحصول على الرسالة الحقيقية، وترك هذه في مكانها، فستكونين بذلك قد أنجزتِ أعظمَ خدمة للصحيفة.»

صاحت جيني، وهي تنهض: «ماذا! لا يسَعُني حتى مجرد التفكير في الأمر، كيف تطلُب مني ذلك يا سيد هاردويك. إنَّ الأمر أشبهُ بحادث سطوٍ على الطرُق السريعة!»

قال هاردويك مُدافعًا عن موقفه: «أعلم أنَّ الأمر يبدو هكذا، لكن أنصتي إليَّ. لو أني أنوي فتح الرسالة واستخدام محتوياتها، لكان يحقُّ لكِ عندئذٍ أن تتَّهِميني بالتحريض على السرقة، لكن الحقيقة هي أن الرسالة لن تتأخَّر؛ سوف تصِل إلى يد الشخصية الرفيعة المستوى في إنجلترا دون أن تُمسَّ تمامًا. والفارقُ الوحيد هو أنكِ مَنْ سيحملها بدلًا من ذلك المبعوث الذي سيُرسلونه.»

فردَّت جيني: «تريد إذن أن تُفتَح الرسالة بطريقةٍ خفية لا يُمكن ملاحظتها فيما بعد، أليس كذلك؟ لا، لا أستطيع فعل ذلك يا سيد هاردويك.»

«يا عزيزتي، أنتِ تقفزين إلى استنتاجاتٍ مُتسرِّعة غير صحيحة. ولدَهشتكِ فأنا أعرف بالفعل محتويات الرسالة.»

فسألت جيني: «إذن ما فائدة تكبُّد كل هذه النفقات والمَشقَّة في محاولة سرقتها؟»

أجاب هاردويك: «لا تقولي «سرقتها» يا آنسة باكستر. سأُخبركِ بدافعي. هناك مسئول في إنجلترا بذل قصارى جهده لإلقاء العقبات في طريقي. هذا أمرٌ غير ضروري ويُثير استيائي؛ لأنني بصفةٍ عامة أتمكن من الحصول على الأخبار التي أبحث عنها، لكنني بسبب مُعارضته في عدة حالاتٍ لم أتمكن من الحصول على الأخبار، وليس هذا فحسْب، بل حصَلَت عليها الصحف الأخرى. والآن، منذ النقد اللاذع الذي طالنا بشأن ذلك التحقيق النمساوي، وبصرْف النظر عن أنَّنا لم ننشُر سوى الحقيقة، يُكِنُّ لي هذا المسئول العجوز الغبي السخرية والبغضاء، ولأصدُقكِ القول فأنا أرغب حقًّا في أن أحطَّ من قدره. وهو لا يدري مُطلقًا أنني أعرف ما أعرفه عن تلك الرسالة؛ إذ إنه يعتقد في الواقع أنها سِرٌّ مُطلَق. ومع ذلك، يُمكنني غدًا — إذا أردتُ — أن أُلغي كل الترتيبات ببساطةٍ من خلال نشر ما هو في حوزتي بالفعل، وهو تصرُّفٌ سيُحدِث ضجةً في هذا البلد لا تقلُّ عن الضجة التي سيُحدثها في روسيا. ومن أجل الصداقة بين الدولتَين، اللتين يتهمونني بازدرائهما، كفَفتُ يدي عن فعل ذلك.

والآن، إذا تمكَّنتِ من الحصول على هذه الرسالة، أريدكِ أن تُرسلي إليَّ برقيةً وأنتِ في طريقكِ إلى لندن، وسألتقي بكِ في المحطة، ثم سآخُذ الوثيقة مباشرةً إلى هذا المسئول، حتى قبل أن يتمكن مبعوثه من الوصول إليه.» وسأقول للمسئول: «هذه هي الرسالة المُنتظرة من الشخصية الرفيعة المستوى في روسيا إلى الشخصية الرفيعة المستوى في إنجلترا. وإذا كنتَ تريد الوثيقة، فسأُعطيها لك، ولكن ينبغي أن يكون مفهومًا أنَّ حجم تعاونك مع بعض الصحف الأخرى يجب أن يقل، وأن يَزيد في المقابل حجمُ تعاملك مع صحيفتي مُستقبلًا.»

«وماذا ستفعل إنْ رفض شروطك؟»

«لن يرفضها. ولكن إذا فعل فسأُعطيه المظروف كما هو.»

«حسنًا، بصراحةٍ يا سيد هاردويك، أعتقد أن مُخطَّطك لا يستحقُّ المبلغ الذي سيُنفَق فيه، بالإضافة إلى صعوبة حصولي على الرسالة، التي ستكون بلا شكٍّ في مأمنٍ تام داخل صندوق المُراسَلات، وستكون دائمًا تحت مراقبة المبعوث.»

«أنا على أتمِّ استعدادٍ للمخاطرة بكل ذلك إذا وافقتِ على القيام بالرحلة. أنتِ تستهينين بمُخططي؛ ولكن هذا لأنكِ لا تُدركين حجم الموقف فحسْب. إنَّ كل ما فعَلتِه حتى الآن كان ذا فائدةٍ مؤقتة للصحيفة؛ ولكن إذا نجحتِ في هذه المهمة، فأنا أتوقَّع أن الفائدة التي ستعود على بيجل ستدوم إلى الأبد. سيمنحني هذا مكانةً لدى بعض المسئولين لم أحظَ بها من قبل. وفي المقام الأول، سيجعلهم ذلك يهابونني، وهذا في حدِّ ذاته دافعٌ قوي عندما يتعلق الأمر بمحاولة الحصول على المعلومات التي يتوقون إلى تقديمها لبعض الصحف الأخرى.»

«حسنًا يا سيد هاردويك، سأحاول، ولكني أُحذِّرك من أن هذه المهمة لا يُمكن أن تُكلَّل بالنجاح. ففي أي مهمةٍ أخرى حاولتُ تنفيذها، كنتُ على ثقةٍ تامة في النجاح منذ البداية، ولكن هذه المرة، أنا مُتيقنة من الفشل.»

«كما أخبرتكِ يا آنسة باكستر، فإنَّ الخطة صعبة للغاية لدرجة أنكِ إذا فشلتِ، فسيُثبت فشلُكِ أنها كانت مُستحيلة؛ لأنني مُتيقن من أنه إذا كان بمقدورِ أي شخصٍ على وجه الأرض تنفيذها بنجاح، فهو أنتِ، وعلاوة على ذلك، فأنا مُمتنٌّ للغاية لموافقتكِ على الاضطلاع بمثل هذه المهمة.»

وهكذا وجدَت جيني باكستر نفسها في الوقت المُحدَّد في العاصمة الكبرى للشَّمال، داخل غرفةٍ في فندق «دي لو يوروب» تُطِل على شارع نيفسكي بروسبكت، لو أنها في الظروف العادية لاستمتعَت بزيارة سانت بطرسبرج، لكنها الآن تخشى الخروج مخافة أن تلتقي باللورد دونال ستيرلنج وجهًا لوجهٍ في أي لحظة، ويتعرَّف عليها، ولذا مكثت في غرفتها مُتوخيةً الحذَر، وأخذت تُشاهد مناظر الشوارع الغريبة من نافذتها. وقد وجدت نفسها تُدقِّق النظر في كلِّ مَن بدا وكأنه رجلٌ إنجليزي، وكان عليها أن تعترِف بشعورها بقليلٍ من خيبة الأمل عندما يتأكَّد لها أن الشخص المعنيَّ ليس اللورد دونال، في الواقع، خلال إقامتها القصيرة في سانت بطرسبرج، لم ترَ مُطلقًا مَنْ يُشبه هذا الشاب.

ذهبَت جيني في مساء يوم وصولها إلى مقرِّ شركة عربات النوم، لحجز مكانٍ في إحدى العربات التي ستُغادر في تمام السادسة مساء يوم الحادي والعشرين. وكانت أول الصعوبات التي واجهتها عندما علمت أن هناك عدةَ عربات نوم في هذا القطار، فكانت في حيرةٍ من أمرها لمعرفة أيها تختار. وقفت هناك مُتردِّدة ودليل حجز العربات على الطاولة أمامها.

فقال الموظف: «لديكِ مجالٌ كبير للاختيار، عادةً لا تُحجَز المقاعد مُقدمًا بسابق وقتٍ طويل، وقد حُجز مكانَان فقط في القطار، حتى الآن.»

قالت الفتاة، وهي لا تعرف العُذر الذي يجب أن تُقدمه لتردُّدها: «أودُّ أن أكون في عربةٍ بها بعض الإنجليز.»

«إذن اسمحي لي أن أوصي بهذه العربة؛ لأن السفارة البريطانية قد حجزت الكابينة «ﺟ»، بالقُرب من منتصف العربة، وهي تلك الكابينة المظلَّلة بعلامة زائد.»

قالت جيني: «حسنًا، سآخُذ الكابينة المجاورة لها، كابينة «د»، أليس كذلك؟»

ردَّ الموظف: «يؤسِفني أن أبلغكِ بأنها محجوزة أيضًا، هاتان هما المحجوزتان. سأرى تحت أي اسم حُجِزت الكابينة «د»؛ ربما يكون شاغلها إنجليزيًّا أيضًا. لكن يُمكنني أن أحجز لكِ الكابينة «ب»، على الجانب الآخر من الكابينة المحجوزة للسفارة. إنها كابينة مزدوجة، رقم ٥ ورقم ٦.»

قالت جيني: «هذه ستفي بالغرض.»

بحث الموظف في دفتر الحجز، ثم قال:

«غير مُسجَّل هنا اسم مَنْ حجز الكابينة «د».» ثم تابع، وهو يتحدَّث بصوتٍ مهموس مُتلفتًا حوله: «المُعتاد عندما لا يُسجِّل أحدهم الاسم أن يعني هذا الشرطة الروسية. ولذا، كما ترين، بحجزكِ الكابينة الثالثة لن تُصبحي تحت كَنَفِ السفارة البريطانية فحسب، ولكن أيضًا في حماية روسيا. هل ترغبين في حجز سريرٍ واحد فقط أم الكابينة كلها؟ إنها كابينة مزدوجة.»

«سأحجز الكابينة بأكملها، إذا سمحت.»

دفعَت مقابل الحجز وغادرت، مُتسائلةً عما إذا كانت الشرطة قد حجزت الكابينة الأخرى بالفعل، وما إذا كانت السلطات حريصةً للغاية على سلامة المبعوث الخاص، لدرجة أنها اعتبرت أن من الضروري حمايتَه حتى الحدود. وإذا أُضيفت إلى الاحتياطات الطبيعية للمبعوث، يقظةُ رجلٍ أو اثنَين من رجال الشرطة الروسية المُتشكِّكين، فهل يُصبح مشروعها الصعب بالفعل مُستحيلًا. لكن من ناحيةٍ أخرى، قد يكون رجال الشرطة الذين يتقاضَون رواتبَ منخفضة عُرضةً لتأثير المال، وبما أنها تحمِل معها قدرًا كبيرًا من العملات الذهبية، فإنَّ وجودهم قد يكون عَونًا وليس عائقًا. وعمومًا، فإنها لم تكن مُتحمِّسة للمهمة التي أُسنِدَت إليها، وكلما فكرت في الأمر فَتَرَتْ همتُها شيئًا فشيئًا. ومع ذلك، بما أنها مُلتزمة بكلمتها مع رئيس التحرير، إذا فشلت المهمة فلن يكون ذلك بسبب تقصيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤