الفصل الثامن

جيني تختلط بعِلْية القوم

يُقال إنَّ المرأة التي تهتمُّ بارتداء الثياب الفخمة تتفوَّق على كل المصاعب وتجتاز كلَّ الاختبارات. وكان هذا هو الحال مع جيني عندما غادرت عربتَها، وسارت على طول البساط المُمتدِّ عبر الرصيف تحت مِظلَّة، ودخلت القاعة الكبرى لمنزل دوق تشيزيلهورست، وهو أحد القصور الضخمة في غرب لندن. وهي لم تشهد أو حتى تتخيَّل شيئًا مُتألقًا مثل المشهد الذي شدَّ انتباهها عندما وجدت نفسها على وشك صعود الدَّرَج الواسع الذي وقفتِ المُضيفة عند قمَّته تستقبل ضيوفها الوجهاء. ورغم حضور جيني في وقتٍ مبكر، بدا أن الدَّرَج والقاعات التي يُؤدِّي إليها مُكتظَّة حقًّا. وقد وقف الخدم، وهم يرتدون زيًّا رائعًا قرمزيَّ اللون، على جانبَي كل درجةٍ من درجات الدرَج، كما أضْفَت الأزياء المتنوعة فخامةً وروعة على المظهر العام للحفل، فهي تتنوَّع بين الملابس الشرقية المُبهرة للأمراء الهنود والملوك الشرقيين، إلى الملابس الأكثر رصانة، التي مع ذلك نادرًا ما تكون أقلَّ ثراءً من أعضاء السلك الدبلوماسي، ووزراء الإمبراطورية، والضباط البحريين والعسكريين. وبدَت السيدات مثل الزهور المدارية في هذه الحديقة الغنية بالألوان؛ حيث يتنقَّلن ذَهابًا وإيابًا برشاقةٍ ورقة، يبتسِمنَ هنا ويهمِسْنَ هناك، ومع ذلك، وعلى الرغم من توتُّرها، فإن نظرةً سريعة مُختلسة لما حولها أقنعت جيني بأنها ربما كانت أكثرَهنَّ أناقة، مما هدَّأ من توترها إلى حدٍّ ما. بدا لها الجوُّ العام بأكمله غيرَ حقيقي، ومضت إلى الأمام كما لو كانت في حلم. ثم سمعتْ صوتًا يُناديها: «أيَّتها الأميرة فون شتاينهايمر.» ووجدَت صعوبةً في البداية في إدراك أنها هي المقصودة بالنداء، وأنَّ هذا اللقَب هو لقبُها في هذه اللحظة. وفي اللحظة التالية كانت يدُها في يدِ دوقة تشيزيلهورست، التي قالت لجيني إنها لفتةٌ كريمة منها أن تقطع كلَّ هذه المسافة وتُشرِّفها بحضور الحفل. فقدَّمت الفتاة ردًّا من نوعٍ ما، لكنها وجدَت نفسها عاجزة عن تذكُّره بعد ذلك، ولكن التوافُد السريع لجموع الضيوف الآخرين جعلها تأمُل أنها حتى إذا كانت قد استخدمت أيَّ عبارةٍ غير لائقة، فإما أنها لم تُسمَع أو نُسِيَت في ظلِّ وتيرة الأحداث المُتسارعة. ثم أفسحت الطريق ووقفت ضمن الكوكبة المُتألقة في أعلى الدَّرج، مُمتنةً أنَّ هذا الاختبار الأول قد مرَّ بسلام. ومن ثمَّ حصل قلبُها السريعُ الخفقان على فرصةٍ الآن للحدِّ من خفقانه، وبمجرد أنْ أدركَتْ أنَّ أحدًا لم يلحَظها تقريبًا، بدأت تستعيد هدوءَها الطبيعي، فتذكرت سبب وجودها هنا، وقد مكَّنتها عيناها الفَطِنة من أن تطبع في ذاكرتها القوية كلَّ التفاصيل المختلفة للمشهد غير المعتاد، الذي ترك بحداثةِ العهد به وعدَم أُلفتِه انطباعًا قويًّا في ذهن الفتاة. وابتعدت عن المجموعة، عازمةً على التجوُّل في القاعات العديدة التي فُتِحت لهذه المناسبة، وهكذا يُمكنها — بطريقةٍ أو أخرى — أن تحصل على مُبتغاها. وبعد وقتٍ قصير، تبدَّدت كلُّ مخاوفها من اكتشاف خدعتها، وبدأت تشعُر بارتياحٍ بالِغ بينما تتجوَّل في الصالونات الفخمة المزدحمة، حتى إنها توقَّفت للاستمتاع بالموسيقى التي تعزفها فرقة عسكرية، مَخفيَّة جزئيًّا خلف أوراق الشجر، وهم يعزفون ببراعةٍ تحت قيادة أشهر مايسترو آنذاك. وقد طمأنَها أن احتمال مُقابلة أي شخصٍ يعرف الأميرة هنا باتَ بعيدًا، وسرعان ما بدأت تشعر بالبهجة وسط مظاهر الترَف المتنوِّعة لهذا الحفل الرائع. كما لاحظَت أن كلَّ شخصٍ هنا لديه اهتمام بشخصٍ آخر، وهو ما جعلها تشعر بالارتياح الشديد، حيث وجدت نفسها متروكةً بمفردها تمامًا، مع التأكُّد بقدْرٍ معقول من أنها ستظل هكذا حتى لحظةِ التحدي الأخير عند المُغادرة؛ وهي تجربة لا مفرَّ من خَوضها، لكنها تجنَّبَت التفكير في الأمر بحزم، فهي واثقة من حظها الجيد الذي لم يتخلَّ عنها حتى الآن.

كانت جيني شاردة تُفكر في حظها الجيد؛ عندما انتبهت فجأة على صوتٍ يُخاطبها.

«آه، أيَّتها الأميرة، لقد كنتُ أبحث عنكِ في كل مكان، وقد لمحتكِ بين الحين والآخر وسط الزحام، لكني لم أستطع اللَّحاق بكِ، مثلما، للأسف الشديد، كان قدَري في مناسبةٍ أكثرَ وقارًا من هذه. هل لي أن أُبهج نفسي بالاعتقاد بأنكِ تذكُرينني أيضًا؟»

لم تتعرَّف عليه عيناها الواسعتان المُرتعبتان اللَّتان التفتت بهما إلى صاحب الصوت؛ حيث رأت شابًّا ينحني ليُقبل يدَها الرقيقة التي لا تُقاوَم. وهو ذو وجهٍ يدل بجلاءٍ على أنه رجل إنجليزي، وشعره قصير كستنائي اللون، وبينما كان رأسه يرتفع حتى يُجاوز رأسها، لم يسَع الفتاةَ، التي كانت مرعوبةً للغاية، إلا أن تُعجَب بشاربه الأشقر الكاسح الذي يحجب تحته ابتسامةً نصف حزينة ونصف مرحة، والتي أضاءت وجهه الوسيم. وكان يرتدي وشاحًا على صدره وثيابًا مَلكية، بدَت أنيقةً على هيئته وبِنيته القوية.

واستمرَّ في مُحادثتها قائلًا: «إنني أشعر بخيبة أملٍ لكونكِ قد نسيتِني بالفعل أيَّتها الأميرة، وهكذا يتلاشى وهمٌ عزيز آخَر عندي.»

أخفَت مِروحةُ يدِها الجزءَ السفلي من وجهها، ونظرت إليه من فوق مروحتها نصف الدائرية الناعمة.

ومع بريق لهوٍ دفين في عينَيها، قالت في خفوت: «عليك ألا تثِق في الأميرات.»

ضحك الشاب وهو يقول: «في الواقع، لو أنني خدمتُ بلدي بإخلاصٍ كما كنتُ مُخلصًا في تذكُّري لكِ أيَّتها الأميرة، لأصبحتُ سفيرًا منذ فترة طويلة، ومُغطًّى بالأوسمة. هل نسيتِ إذن كلَّ ذكريات ذلك الشتاء في واشنطن قبل خمس سنوات؟ تلك البهجة العارمة التي انتهت بانتقالكِ بعيدًا للعيش في بلدٍ أجنبي؟ إن ذلك الشتاء الحافل بالأحداث لا يُفارق ذاكرتي وكأنه إعصار غربي هادر. هل عليَّ حقًّا أن أُعيد تقديم نفسي إليكِ على أنني دونال ستيرلنج؟»

سألته جيني: «هل أنت اللورد دونال ستيرلنج؟» وتذكرَت بصعوبةٍ أنها قد سمِعت هذا الاسم فيما له صلةٌ بأمرٍ دبلوماسي، وتأكَّد تخمينُها أنه كان في هذه الخدمة من خلال ملاحظته السابقة حول كونه سفيرًا.

«نعم أنا اللورد دونال، إذا كنتِ ستُصرِّين بقسوة على مُناداتي بذلك؛ لكن هذا لا يُمكن أن يَسلبني ما يُواسيني، وهو أنكِ ذات مرةٍ في المشتل الزجاجي للبيت الأبيض، وأمام الرئيس، تنازلتِ وناديتِني باسم دون.»

«لا يُمكنك أن تتوقَّع أن يتذكَّر المرءُ ما حدث في واشنطن قبل خمس سنوات. أنت تعلم أن إدارة الحُكم نفسَها تتغير كل أربع سنوات، ونادرًا ما تبقى الذكريات عالقةً بالذهن إلى هذا الحد.»

«كنتُ آمُل أن يكون إعجابي الصريح قد تركَ ذكرياتٍ ربما تدوم لفترةٍ أطولَ من فترة الإدارة؛ ذلك لأن النسيان لم يكن بهذه السهولة بالنسبة لي.»

«هل أنت متأكد من ذلك يا لورد دونال؟» سألته الفتاة بخُبث، وهي تطوي مروحتها لتكشف له لأول مرةٍ عن وجهها بالكامل.

بدا الشابُّ مُرتبكًا للحظة، لكنها واصلَت ولم تمنحه سوى القليل من الوقت للتفكير. «هل أخذتك واجباتُك الدبلوماسية بعيدًا عن واشنطن؟»

«نعم، إلى الطرَف الآخر من الأرض. أنا الآن في سانت بطرسبرج، وآمُل بشدة أن أعمل في فيينا أيَّتها الأميرة. وقد تصادف وجودي في لندن هذا الأسبوع، وسمعتُ أنكِ ستحضرين هذا الحفل، ففعلتُ المُستحيل للحصول على دعوة.»

فقالت: «والتي ما كدتَ تحصل عليها حتى وجدت نفسك مَنسيًّا. يا له من عالمٍ أجوف بلا معنًى، أليس كذلك؟»

فأجابها: «للأسف، نعم. إن رجلًا في مثل مهنتي يرى قدرًا كبيرًا من الجانب البغيض للحياة، وأنا مُتيقن تمامًا أن ثقتي المتناقصة في صدق البشر سوف تتبدَّد مع قرار رؤسائي بإرسالي إلى إسطنبول. ولكن اسمحي لي أن أجد لكِ مقعدًا بعيدًا عن هذا الزحام حيث يُمكننا التحدُّث عن الماضي.»

«أنا لا أهتمُّ كثيرًا بالماضي مثلما أهتمُّ بالحاضر. دعنا ندخل إلى الشرفة، حيث ستُوضح لي أسماء هؤلاء المشاهير. أفترضُ أنك تعرفهم جميعًا، بينما أنا غريبة تمامًا عن مجتمع لندن.»

صاحَ الشاب بحماس: «هذه فكرة رائعة. نعم، أعتقد أنني أعرف معظم الناس هنا، على الأقل اسمًا. آه، ها قد أتى الجمع الملَكي؛ سنتمكَّن من مشاهدتهم عن قُرب.»

عزفَت الفرقة النشيد الوطني، وحصل اللورد دونال على كرسِيَّين وضعهما عند حافَة الشرفة، وأخفاهما جيدًا عن الجمع المارِّ بوضعهما خلف بعض النباتات المدارية.

صاحت جيني وقد تخلَّت تمامًا عن وقار الأميرة: «أوه، هذا أمر مبهج، لقد أخبرتَني عن سبب مجيئك إلى الحفل، فهل تعلم لماذا أتيتُ أنا هنا؟»

أجاب الشاب بجُرأة: «من أجل فرصة مُستحيلة للقائي؛ أنا الذي تظاهرتِ بأنكِ قد نسيتِه.»

ضحكت جيني قائلة: «بالطبع، ولكن بخلاف ذلك، جئتُ لرؤية الأزياء. كما تعلم، يُقال إننا نحن النساء يُقلد بعضنا أزياء بعض. وبعيدًا عن العالم، في تايرول، لديَّ فرصة ضئيلة لمطالعة الجديد في عالم الأزياء والموضة، ولذا قبلتُ دعوة الدوقة.»

«هل معكِ دعوة الدوقة؟»

«نعم، سأُدوِّن بعض الملاحظات على ظهرها. هل تريد أن تراها؟» سلمَته الدعوة ثم أراحت ظهرها للخلف على كرسيِّها، وهي ترمقه عن كَثب. وازدادت أمارات الحيرة على وجهه عندما نظر إلى الدعوة، ورأى أنها بالضبط كما زعمَت، فأعاد الدعوة إليها قائلًا:

«إذن أنتِ هنا لتُشاهدي الأزياء. إنه موضوعٌ لا أعرف عنه إلا القليل. ولكن، وَفْق ما أرى، يجب أن أقول إن الأميرة فون شتاينهايمر هي أكثرُ النساء أناقةً في هذا الحفل. ولا جديدَ يمكن أن يُضيفه أيٌّ من الحضور هنا. وإذا كان بوسعي أن أتطرَّق إلى موضوع شخصي للغاية، فإن فستانكِ هو ما يمكن أن نُسميه إبداعًا، أليس كذلك أيَّتها الأميرة؟»

قالت الفتاة وهي تنظر إلى ثوبها ثم تنظر إليه بفرح يرقُص في عينَيها: «إنه ليس سيئًا.» كان الرجل الدبلوماسي يستند بكوعه على الدرابزين، ورأسه متكئ على يده، وهو غافل تمامًا عن كل شيء آخر، بينما يُحدق بها باهتمامٍ بالغٍ لدرجة أن وجنتَي الفتاة قد احمرَّتا خجلًا وهي تنظر بعينَيها للأسفل. كان الإعجاب الشديد بمظهرها باديًا في عينَيه. ثم قالت بصوتٍ خافت إلى حدٍّ ما: «ومع ذلك، يتلقَّى المرء العديد من الإطراءات من الآخرين، وإبداع اليوم سوف يصير مجردَ قديم غدًا. والإبداع فيما يخصُّ أزياء المرأة والموضة لا نهاية له. والشعار القديم القائل: «لا تكترث بأمر الغد، حينما تختار ما سترتديه.» ربما كان شعارًا جيدًا في زمن سليمان، ولكنه لا يصلح في زمن فيكتوريا.»

«إنْ كان القول لسليمان، فإنه كان يُزيح العبءَ عن كاهله؛ إذ كانت لديه العديدُ من الزوجات، كما تعلمين.»

«حسنًا، كما كنتُ على وشك أن أقول، يجب أن تُحوِّل انتباهك الآن إلى بقية الضيوف، وتُخبرني مَن هم. لقد اعترفتُ بالفعل بجهلي بهم، وقد وعدتَني بأن تُخبرني بهوياتهم.»

وجَّه الشاب، بتردُّدٍ واضح، تفكيره المُنصبَّ عليها بمفردها إلى بقية الحضور، وأخذ يذكر اسم هذا الشخص وذاك، بينما تُدوِّن جيني الأسماء، بقلم رصاص على بطاقتها، مع ملاحظاتٍ غامضة بطريقة الاختزال، كي تقتصد في الوقت والمساحة، وبعد أن حصلَت أخيرًا على كل المعلومات التي يُمكن أن تكون مرغوبة، أرجعت ظهرَها للخلف على كرسيِّها وهي تُطلق زفرةَ ارتياحٍ ورضًا عن كمِّ المعلومات الهائل الذي جمعته. ومهما كان ما يُمكن أن يحدُث الآن؛ لا يهم، فقد أنجزت مهمتها، ويمكنها أن تُغادر الحفل بهدوء. لقد جمعت تحت يدَيها التفاصيل الكاملة لأهم حدثٍ مجتمعي شهِده الموسم. ومن ثمَّ أغمضت عينَيها للحظةٍ لتتمتَّع بالرضا الذي يبعثه النجاح في النفس، وعندما فتحَتهما مرةً أخرى وجدت اللورد دونال في وضعه القديم، مُستغرقًا في تأمُّل جمالها الفتان.

قالت مع ابتسامةٍ خَجْلى من نظرته التي تفيض بالعاطفة: «أرى أنك مصرٌّ على أن تجعلني لا أجد صعوبة في تذكُّرك في المرة القادمة التي نلتقي فيها.»

أجابها وهو يُعدِّل من جِلسته قليلًا: «كنتُ أفكر فقط أن السنوات الخمس التي تعاملتِ معي خلالها بمنتهى القسوة، لم تترك أثرها عليكِ حتى أنكِ تبدين أصغرَ بخمس سنوات.»

قالت له وهي تضحك: «إنَّ التقدُّم في السن له امتيازاتٌ كثيرة يا لورد دونال، لكن أعتقد أنك لم تحظَ بأيٍّ منها بعد. ولكن لا يبدو من وقفتك ومظهرك مُطلقًا أنك رجل قد بلغ المشيب قبل الأوان، مهما كانت القسوة التي عاملَتْك بها الفتاة التي قابلتَها في واشنطن.»

«آه، أيَّتها الأميرة، من السهل جدًّا عليكِ أن تتعاملي مع الأمور الجدية باستخفاف؛ فلا يهزأ بالنُّدوب إلا مَنْ لم يتجرع ألم الجرح. والزمن، كونه غادرًا قبل كل شيء، غالبًا ما يترك الوجه دون أن يَمسَّه؛ لكنه يترك آثار جراحه ندباتٍ في القلب؛ فالإيذاء غير الظاهر هو الأخطر بالتأكيد.»

«أتصوَّر أنه غير ظاهر للغاية، لدرجة أنه ليس بالعمق الذي تخيَّلتَه أنت.»

«أيَّتها الأميرة، أعترف لكِ أن الجرح في واشنطن ليس شيئًا إذا ما قورن بالجرح الذي تلقيتُه في لندن.»

«نعم؛ لقد أخبرتَني أنك هنا منذ أسبوع.»

«لا علاقة للأسبوع الذي قضيته بهذا. لقد كنت هنا لمدة ليلة؛ لمدة ساعتَين، أو ثلاث؛ لقد فقدتُ الإحساس بالوقت منذ أن التقيتُ بكِ.»

لن يُعرَف أبدًا ما الرد الذي يمكن للفتاة أن تُقدمه على هذا الكلام، الذي ألقاه رجل على مسامعها بكلِّ حماسةٍ وبجدية تامة؛ لأنه في تلك اللحظة قاطع خلوتَهما مرسالٌ يقول:

«سعادة السفير النمساوي يلتمس السماح له بتقديم تحياته إلى الأميرة فون شتاينهايمر.»

لاحظ اللورد دونال ستيرلنج، الذي لم يرفع عينَيه عن وجه رفيقته، شحوبًا سريعًا ينتشر فيه. فانحنى إلى الأمام وهمسَ قائلًا:

«أنا أعرفُ السفير؛ إذا كنتِ لا ترغبين في مقابلته، فسوف أعترضه.»

نهضَت جيني ببطءٍ، ونظرت إلى الشاب بهدوءٍ يُناقض تمامًا التوتر الذي نشب بداخلها، وقالت ببرود:

«لماذا قد لا أرغب في مقابلة سفير البلد الذي أعيش فيه؟»

«لا أعرف أي سببٍ لذلك. بل على العكس تمامًا، فلا بدَّ أنه صديقٌ قديم لكِ؛ حيث كان ضيفَكِ في قلعة شتاينهايمر قبل عام.»

تراجعَ للخلف بعد أن قال هذا، ووجدَت جيني صعوبةً في قمع شهقة الفزع التي تلقَّت بها تعليقه المُزعج، لكنها ثبتَت على موقفها دون أن تجزع. لقد أصبحت وجهًا لوجهٍ مع الأزمة التي توقعَتْها؛ مجيء شخصٍ يعرف الأميرة. وفي اللحظة التالية، كان الدبلوماسي العجوز ينحني على يدِها الممدودة، التي رفعها الرجل العجوز إلى شفتَيه بطريقةٍ رقيقة وهو يقول:

«يُسعدني أن أحظى بشرف الترحيب بكِ في هذه المدينة القديمة الكئيبة، أيَّتها الأميرة فون شتاينهايمر، التي أنَرتِها بحضوركِ. هل ستمكثين طويلًا في لندن؟»

«فترة الإنارة قصيرة يا صاحب السعادة؛ سأغادر إلى باريس غدًا.»

«هكذا سريعًا؟ دون زيارة السفارة؟ يُزعجني سماع خبر المغادرة السريعة، ومع ذلك، ولمعرفتي بمدى سحر قلعة شتاينهايمر، لا يُمكنني أن أتساءل عن سرِّ رغبتك في العودة سريعًا إلى هناك. أفترض أن الأمير ما زال مُولعًا بالصيد كما كان دائمًا. ويجب أن ألوم سموَّه، في المرة القادمة التي نلتقي فيها، لعدم قدومه معكِ إلى لندن؛ فأنا متأكد من أنكِ كنتِ ستمكثين معنا لفترةٍ أطول.»

قالت جيني مع نظرةٍ ماكرة نحو اللورد دونال، الذي زادت علامات الشكِّ على وجهه مع استمرار هذا الحوار: «إنَّ الأمير زوج مثالي يا صاحب السعادة، وكان في وسعه أن يأتي إلى لندن دون تذمُّر لو أن زوجته كانت أنانيةً بما يكفي لإبعاده عن بلدته الحبيبة ميران.»

قال الكونت العجوز، مع ضحكةٍ مكتومة: «زوجٌ مثالي! قليلون منَّا يتفوَّقون في هذا الصدد؛ ولكن هناك ما يُبرئ ساحتنا، وهو أن قلةً منَّا محظوظة في الزواج مثل الأمير فون شتاينهايمر. على أي حال، لم أكفَّ أبدًا عن الاشتياق إلى تَكرار الزيارة الساحرة التي شَرُفتُ بها إلى منزلكِ الرائع.»

«لو أنَّ سعادتك فقط تعرف كم أنت مُرحَّب بك لدَينا، لَما تأخَّرتَ عن زياتنا لفتراتٍ طويلة.»

«إنه لطفٌ منكِ أيَّتها الأميرة أن تُبهجي قلبَ رجلٍ عجوز بهذه الكلمات اللطيفة. ومن سوء حظنا أنَّ شئون الدولة تُبقينا مشغولين على الدوام، وفي الواقع، يبدو أن العمل الدبلوماسي يزداد صعوبة مع مرور السنين؛ لأنه يتعين علينا أن نتعامل مع عبقرية الشباب الصاعد مثل اللورد دونال ستيرلنج هنا، وهم أكثرُ مِن ندٍّ للجيل القديم الذي يجد أنه من المستحيل تعلُّمُ أساليب جديدة.»

قال اللورد، مُتحدثًا لأول مرة منذ أن بدأ السفير الحوار: «في الواقع يا صاحب السعادة، إنَّ الأمر عكس ذلك تمامًا. فنحن نجلس بتواضُع عند قدمَيك، ونطمح إلى مُحاكاتِك، ولكن دون أمل في إحراز أي تفوق.»

ضحك الرجل العجوز مرةً أخرى، والتفت إلى الفتاة، وبدأ في توديعها قائلًا:

«إذن غرفتي السابقة تنتظرني في القلعة؟»

«نعم يا صاحب السعادة، مع إضافة كرسيَّين هزَّازَين بلونٍ أحمر مجلوبَين من أمريكا، حيث ستجد فيها أكثر الأماكن راحةً عندما تأخذ عطلةً من مشاغل الدولة.»

«آه! الكراسي الهزازة! أتذكَّر الآن أنكِ كنتِ تنتظرين وصولها عندما كنتُ أنا هناك. إذن فقد وصلتْ بأمان، كما آمُل. لكنني أعتقد أنكِ طلبتِ عددًا كبيرًا، لتتأكدي من وجود واحدٍ أو اثنين على الأقل يعملان بكفاءة.»

«لا؛ عشرة فقط، وقد وصلت جميعًا دون ضرر.»

غمغم السفير مُنحنيًا مرةً أخرى ليُقبِّل اليد الممدودة إليه: «آه منكم أيُّها الشباب! تفعلون أشياءَ لم نسمع بها من قبل.»

وهكذا انصرفَ الرجل، تاركًا الكثير من المجاملات وراءه. ومن الواضح أنه لم يُساوره أدنى شكٍّ في أنه قد التقى بأي شخصٍ سوى الأميرة الحقيقية؛ فلم يكن بصرُه في أفضل حال، وأيُّ سفير عادةً ما يلتقي بالعديد من النساء الجميلات والمُتميزات.

جلست الفتاة بوقارٍ وهدوء، بينما ارتمى اللورد دونال على كرسيِّه، وبدَت على وجهه الصريح الصادق أماراتُ الحيرة التامة. وأخذت جيني تُحرِّك مروحتها الورقية ببطء؛ لأنها شعرت بارتفاع قليل في درجة حرارتها على أثر هذا الموقف الصعب، ولم يقُل أيٌّ منهما شيئًا لبضع لحظات. ثم كان الشاب هو أول مَن كسر حاجز الصمت.

«هل لي أن أتصوَّر أن يُحالفني الحظ كي أحظى بدعوةٍ لزيارة قلعة شتاينهايمر، هل لي أن آمُل في تخصيص كرسيٍّ هزاز أحمر لي؟ لم أجلس على مثله منذ أن كنتُ في الولايات المتحدة.»

قالت جيني وهي تضحك: «نعم، واحد من أجلك؛ واثنان من أجل السفير.»

«أودُّ كذلك أن أُمنِّي نفسي بأن كرَمكِ تجاه السفير الذي يفوقني بمقدار الضِّعف إنَّما ينبع فقط من مهابة منصبه، وليس لشخصه بأي حالٍ من الأحوال.»

«أنا مغرمة جدًّا بالسفراء؛ إنهم رجال مُهذبون، ويبدو أن الشك لديهم أقلُّ مما يُظهره البعض من غير المرموقين.»

«الشك! أنتِ بالتأكيد لا تعنين أنني أشكُّ بكِ أيَّتها الأميرة؟»

أجابت جيني بلا مُبالاة: «أوه، كنتُ أتحدث بصفةٍ عامة، يبدو أنك تُريد تطبيق ما أقوله على شخصك.»

«أعترف أيَّتها أميرة أنني قد راودَتْني حالةٌ من الحيرة والارتباك عدة مرات هذا المساء.»

«والأسوأ من ذلك يا لورد دونال أنك لم تستطع إخفاءها، وهو الخطأ الوحيد الذي لا يُغتفَر في مجال العمل الدبلوماسي.»

«أنتِ مُحقَّة تمامًا. لو كنتِ أنتِ من علمتِني العمل الدبلوماسي، لأصبحتُ سفيرًا خلال السنوات الخمس المقبلة، أو على الأقل وزيرًا.»

نظرت إليه الفتاة من فوق مروحتها، وفي عينيها مرحٌ خفي.

«عندما تزور قلعة شتاينهايمر، يمكنك أن تسأل الأمير عما إذا كان يُمانع أن أُعطيك دروسًا.»

وهنا حدثت مقاطعة أخرى، حيث جاء مَن يُخبرها بأن سفير الولايات المتحدة يرغب في رؤية الأميرة فون شتاينهايمر وتجديد أواصر الصِّلة بها. أبدى اللورد دونال احتجاجًا مُتسرعًا على نحوٍ حازم أكثرَ مما كان ينوي أن ينطق به، ولكن عندما نظر إلى رفيقته بقلق، رأى في نظرتها لمحةً سريعة من الامتنان الواضح كما لو كانت قد تحدَّثت وشكَّرته. وكان واضحًا تمامًا أن الفتاة لا ترغب في مقابلة معاليه، وهو أمرٌ غير مُستغرَب، حيث سبق أن قابلَته ثلاث مراتٍ بصفتها صحفية. فهو لم يكن يعرف الأميرة فون شتاينهايمر فحسب، بل يعرف جيني باكستر أيضًا.

فأرجعت ظهرها إلى الخلف وقالت بضجر:

«يبدو أن لديَّ عددًا كبيرًا من ضيوف المجتمع الدبلوماسي هذا المساء. هل تعرف السفير الأمريكي أيضًا يا لورد دونال؟»

صاحَ الشابُّ وهو يقف على قدَمَيه بحماس: «نعم؛ لقد كان سياسيًّا بارزًا في واشنطن عندما كنتُ هناك. إنه رجل ممتاز، ولن أجد صعوبةً في تقديم الاعتذار له إذا كنتِ لا ترغبين في مقابلته.»

«شكرًا جزيلًا. لديكَ الآن فرصة لاستعادة سُمعتك الدبلوماسية، إذا كنتَ تستطيع تأجيل المقابلة دون أن يشعر بإهانة.»

تركها اللورد دونال بهِمَّة، وفي اللحظة التي ابتعد فيها اختفت علامات التراخي عن ملامح الآنسة جيني باكستر.

وهمست في نفسها: «حانت فرصتي الآن، يجب أن أكون في عربتي قبل أن يعود.»

ورغم حرصها على المغادرة، علِمَت أنها ينبغي أن تتحرك بتروٍّ. وقد توقَّعت أن تجد دَرجًا في الطرف الآخر من الشرفة، فبحثت عنه، لكن لم يكن هناك شيء. ولِخشيتها من احتمال أنها قد تجد اللورد دونال قادمًا، واجهت صعوبةً في ضبط خطواتها بما يتناسب مع السير بتروٍّ الذي كان أمرًا لا بدَّ منه. ووصلت إلى أسفل الدَّرج بأمانٍ ودون أن يعترضها أحد، ولكن بمجرد وصولها إلى الطابق الرئيسي ظهرت مشكلة جديدة؛ فلا شيء يجذب الانتباه أكثر من سيدة شابة وجميلة تمشي بمُفردها تمامًا ودون مُرافق لمسافةٍ طويلة بين نهاية الشرفة والدَّرج المؤدي إلى المدخل. وقد وقفت هناك مُترددة ومتسائلة عما إذا كان بإمكانها المغامرةُ بالبحث عن مخرجٍ جانبي هادئ، وهو ما كانت على يقينٍ من ضرورة وجوده في هذا المنزل الكبير، وعندئذٍ وجدت اللورد دونال بجانبها مرةً أخرى، ممَّا أثار فزَعَها، وبدا لاهثًا كما لو كان يعدو وهو يبحث عنها. كما قطَّب حاجبَيه مع تعبير ينمُّ عن القلق قد ارتسم على وجهه.

وهمسَ قائلًا: «يجب أن أتحدَّث إليكِ على انفراد، اسمحي لي أن أصحبكِ إلى هذا المُختلَى المظلَّل الموجود أسفل الشرفة.»

«لا؛ أنا مُتعبة، وسأغادر إلى المنزل.»

«أنا أتفهَّم ذلك تمامًا، لكن يجب أن تأتي معي للحظة.»

قالت بنبرة تحدٍّ: «يجب؟»

أجاب بجدية: «نعم، أتمنَّى أن أكون عونًا لكِ. أعتقد أنكِ ستحتاجين ذلك.»

واجهت نظرته الصارمة بثباتٍ للحظة، ثم استسلمت، وقالت بصوتٍ مُنخفض: «حسنًا.»

عندما وصلا إلى المُختَلى المُظلَّل، استفسرت وهي ترتجف إلى حدٍّ ما — لأنها استنتجت أن شيئًا ما قد حدث وحسَم كلَّ شكوك الشاب — «هل هو السفير الأمريكي؟»

«لا؛ لقد تفهَّم الأمر. وهو ينتظر أن يُقابلكِ في وقتٍ لاحق من المساء. لكن هناك برقية جاءت من ميران تحمل توقيع الأميرة فون شتاينهايمر، تُعرِب فيها عن أملها في نجاح الحفل، وتُكرِّر أسفَ سموِّها لعدم تمكُّنها من الحضور. ولحسن الحظ، لم تصل إلى يد الدوقة. وقد أخبرتُ الدوق، الذي قرأها عليَّ لكونه يعلم أنني كنتُ معكِ طوال المساء، أنها على الأرجح مزحة ساذجة من جانب الأمير؛ لكن الدوق، الذي هو شخص جادٌّ إلى حدٍّ ما، لم يتقبل هذه النظرية بكياسة، ولو كان يعرف الأمير لرفضها على أنها غير معقولة، وهي كذلك بالفعل. لقد طلبتُ منه عدم إظهار البرقية لأي شخص، ومن ثمَّ لدينا القليل من الوقت للتفكير في أفضلِ ما يمكن فعله.»

قالت الفتاة مع ضحكة عصبية صغيرة تقترب من الهستيرية: «ليس أمامي سوى أن أنصرف بأسرعِ ما يمكن وبهدوءٍ قدْر الإمكان. لقد كنتُ على وشك الخروج عبر أي مخرج خاص إذا كنتُ تمكنتُ من العثور على مخرج بالفعل.»

«سيكون ذلك مُستحيلًا، وقد تؤدي المحاولة إلى تعقيداتٍ غير مُتوقَّعة. أقترحُ أن تستندي على ذراعي، وأن تُبلغي الدوقة برغبتكِ في الانصراف، مُتذرِّعة بالإرهاق كسببٍ لرحيلكِ المبكر. ثم تنتظريني في عربتكِ، وعندما أعود سأسعى للحصول من الدوق على تلك البرقية التي جعلَت الحظ يُعاندكِ، بإخباره أنني أودُّ معرفة ما إذا كان في الأمر خدعةٌ أم لا. وأظنُّ أنه على الأرجح سيكون قد نَسِي كل شيءٍ في الصباح. ومن ثمَّ، كل ما عليكِ فِعله هو استجماع شجاعتكِ لبضع لحظاتٍ أطول حتى تصلي إلى عربتكِ بأمان.»

تمتمت بنظرةٍ حزينة: «أنت طيب القلب للغاية.»

«وأنتِ ماهرة للغاية يا أميرتي، لكن المصاعب في مواجهتكِ كانت هائلة. يجب أن تُخبريني في وقتٍ ما لماذا خُضتِ غمار هذه المخاطرة.»

لم تَرُد، لكنها استندَت على ذراعه، وتجوَّلا معًا في القاعات حتى عثرا على الدوقة، فأبلغَت جيني مُضيفتها برغبتها في المغادرة بوقارٍ ورزانة حتى لا تُثير الشكوك. وسارت الأمور على ما يُرام حتى وصلا إلى أعلى الدَّرَج، عندما سارع الدوق، وقد انعقد على جبينه عبوسٌ يُنذِر بالسوء، وراءهما وقال:

«أيُّها اللورد، اسمح لي.»

استدار اللورد دونال بتعبيرٍ ينمُّ عن نفاد الصبر، لكنه كان مُجبرًا، لأنه خشي أن مضيفه قد يفتقر إلى حُسن التصرُّف الذي يجعله يتفادى حدوث فضيحةٍ حتى في قاعة قصره؛ إذ لو كانت الدوقة، لكان كل شيء على ما يُرام؛ فهي سيدة على قدرٍ كبير من الكياسة، أما الدوق — كما سبق أن قال — فإنه رجلٌ غبي، يحتاج إلى متابعة زوجته المستمرة له لمنعه من التخبُّط. فهمسَ الشاب: «استمرِّي في السير حتى تَصِلي إلى عربتكِ. سأطلبُ من مساعدي هنا أن يستدعيها من أجلكِ، لكن من فضلكِ لا تُغادري حتى آتي إليكِ.»

ثم استدعى مساعده على الفور.

وقال: «استدعِ عربة الأميرة فون شتاينهايمر.» وعندما نزلت السيدة على الدَّرج، استدار اللورد دونال، وهو غير راغبٍ حقًّا في سماع ما سيقوله مُضيفه.

«لورد دونال، إنَّ السفير الأمريكي قد أكَّد لي أن هذه المرأة ليست الأميرة فون شتاينهايمر، لكنها امرأةٌ من العامة وقد التقى بها عدة مراتٍ في لندن. ولا يستطيع تذكُّر اسمها. الآن، أريد أن أعرف مَن هي، وكيف قابلتَها؟»

«سيدي الدوق، لم يخطر ببالي أبدًا أن أُشكك في هوية الضيوف الذين قابلتُهم تحت سقفك المضياف. لقد عرفتُ الأميرة قبل خمس سنوات في واشنطن، قبل أن تتزوَّج، ولم أرها منذ ذلك الحين، ولكن إلى أنْ أريتَني البرقية، لم يكن هناك أي شكٍّ في ذهني بخصوصها.»

«لكن السفير الأمريكي أكَّد لي الأمر.»

«إذن يبدو أنه واثقٌ في بصرِه أكثرَ مني. إذا كانت تلك المسألة، شأنها شأن الصعوبات الدولية، يجِب تسويتها عبر السفارات، فلنُحِلْها إلى السفير النمساوي، الذي أجرى محادثة طويلةً مع السيدة في حضوري.» وتابع مُوجِّهًا حديثه إلى السفير النمساوي، الذي كان يقف على مقربةٍ منهما في انتظار التحدُّث إلى مضيفه: «يا صاحب السعادة، إن دوق تشيزيلهورست يشكُّ في أن السيدة التي غادرت للتوِّ ليست الأميرة فون شتاينهايمر. ولقد تحدثتَ أنت إليها، وبالتالي يُمكنك أن تُقرِّر بثقة؛ لأن سموه يبدو غير راغب في قَبول شهادتي.»

«ليست الأميرة؟ إنه كلام غير معقول. فأنا أعرفها جيدًا في الواقع، وهي سيدة جذَّابة للغاية. أتمنى أن أكون ضيفَها مرةً أخرى عمَّا قريب.»

«وهكذا يا سيدي الدوق، يُمكنك أن ترى أن كلَّ شيءٍ كما ينبغي أن يكون. وإذا أعطيتَني تلك البرقية السخيفة، فسأُجري بعض الاستعلامات الهادئة عنها. وفي غضون ذلك، كلما تكتَّمنا الأمر كان أفضل. وسوف أُقابل السفير الأمريكي وأُقنعه بخطئه. والآن لا بدَّ لي من تقديم الأعذار إلى الأميرة لتأخُّري عليها.»

ثم وضع البرقية في جيبه، وهُرِع إلى أسفل الدَّرج وخرج إلى الشارع. حيث كان مساعده قد تأخَّر بعض الشيء في إحضار العربة، ورأى السيدة التي ينشدها، تستقلها في تلك اللحظة.

وسمعها تقول للسائق: «إلى المنزل بأقصى سرعة.» من الواضح أنها لم تكن تنوي انتظار اللورد كما طلب منها، فقفز إلى الأمام، ودفع ذراعَه عبر نافذة العربة، وأمسك بيدها.

وصاح قائلًا: «أيَّتها الأميرة، لن تتركيني هكذا. يجب أن أراكِ غدًا.»

ففزعت وهي تنكمِش في زاوية العربة: «لا، لا.»

«لا تكوني بهذه القسوة. أخبريني على الأقل بعنوانكِ كي أراسلكِ. لن أترك يدكِ حتى تعِديني.»

وبحركة سريعة، خلعت الفتاة قفازها الطويل؛ وفي اللحظة التالية انطلقتِ العربة مُسرعة عبر الشارع، بينما وقف الشاب حزينًا بمُفرده على الرصيف مُمسكًا بقفازٍ طويل أبيض في يده.

وقال بعد فترة صمت، وهو يطوي القفاز بعناية ويضعه في جيب معطفه: «حسنًا يا سندريلا! إنَّه القفاز هذه المرة، بدلًا من الحذاء!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤