تمهيد

يجب أن يكون هذا الكتاب مطروحًا للقراءة أمام جميع أعضاء هيئة التدريس الذين يُدَرِّسون الكيمياء على مستوى المدارس الثانوية والكليات والجامعات؛ فهو يخاطب الطلاب الجامعيين في المقام الأول؛ ومن ثَم فهو يسد فجوة مهمة من خلال وجهة النظر التي يعرضها بلغة حوارية فيما يتعلق بمساهمات الكيمياء والكيميائيين المهتمِّين بتحسين حياة البشرية. كُتب كل فصل من الفصول على شكل رسالة إلى «أنجيلا»، وهي طالبة جامعية افتراضية في جامعة كاليفورنيا بسان دييجو، وهو الأمر الذي يشير إلى تحديات مثيرة في المجالات التي يُمثلها المؤلفون، وجميعهم كيميائيون. يستهدف الكتاب أربعة جوانب واسعة النطاق، وهي تطبيقات أساسيات الكيمياء، والكيمياء وعلوم الحياة، والمواد الوظيفية، والكيمياء والطاقة. يتضمن الكتاب عددًا من المساهمات الفردية، التي هي ذات طابع غير رسمي إلى حد كبير ولكنها تتفاوت إلى حدٍّ ما عبر المساهمات السبع عشرة؛ ما يعطي لمحةً عن توجُّه كل مؤلف من المؤلفين. ولإعطاء القارئ لمحةً عن هذا الكتاب، اخترت هنا أمثلة لتوضيح الكيفية التي تعامل بها بعض المؤلفين مع التحدي المتمثل في تحفيز عقل شاب لإدراك حجم الإثارة التي يجدها الكيميائيون في مَبْحثهم. بَيْد أنني أقدم أيضًا بعض التعليقات التمهيدية المستقاة من تجربتي الخاصة بصفتي معلمًا وباحثًا على مدى أكثر من أربعة عقود.

ربما يتميز مَبْحث الكيمياء بحجم الكيانات التي يتناولها بالدراسة والبحث، والتي تتراوح بين الفيزياء التي تدرس الجسيمات الأولية، والأحياء التي تركِّز على الجزيئات الضخمة والخلايا والكائنات الحية؛ لذا، يشير البعض إلى الكيمياء على أنها «علم مركزي». لكن هذا الوصف أعدُّه أنا شخصيًّا غير مناسب؛ ففي كثير من النواحي، يُعَدُّ التخليقُ قلبَ الكيمياء. وعند التفكير في تخليق مواد جديدة، ليس ثمة شيءٌ «مركزي» فيما يفعله الكيميائيون، كما أن هدفنا لا ينصبُّ على خدمة المجالات الشقيقة، على الرغم من أننا غالبًا نقوم بالتركيب التخليقي الذي قد يخدم هذا الغرض عن قصد أو بالمصادفة. إن هدفنا الجوهري هو فهم تكوين الروابط الكيميائية وكسرها، ونستطيع بذلك ابتكار طرق لتحضير جزيئات جديدة وتراكيب فوق جزيئية، بالإضافة إلى المواد الصُّلبة التي تُعرف الآن باسم الجسيمات النانوية؛ فمن خلال التخليق، يوفر الكيميائيون للمجتمع مواد جديدة يمكن أن تغيِّر طريقة تعاملنا مع مهامِّنا اليومية. وفي أثناء ذلك، نطبِّق طرقًا غير مباشرة لتركيب لقطات متحركة للتفاعلات الكيميائية التي تحدث في معظمها بمقياس فراغي أو زمني صغير للغاية، أو بمعدل سريع للغاية، بحيث لا يمكن رؤيته. ويمكن للمساهمات النظرية تقديم رؤًى كاشفةٍ لدعم النتائج التجريبية وتوسيع نطاقها. وتُعتبر الاكتشافات مثيرةً ومُرضيةً للغاية نظرًا لكمِّ المعرفة التي تُقدمها، ولكنها بقدر ما تُقدمه أيضًا لخدمة المجتمع، فإنها تبرر الإنفاق الكبير للأموال العامة اللازمة لبناء أو شراء الكواشف والأجهزة والمرافق الضرورية لإجراء الأبحاث الكيميائية. هذه الخدمة موضحة بتفصيل مسهب في الرسائل الموجَّهة إلى أنجيلا الواردة في هذا الكتاب، كما يمكن تبيُّنها من خلال المساهمات التعليمية للكيميائيين الذين يشاركون معرفتهم بالكيمياء مع الطلبة لتحميسهم لشغل وظائف في المجالات ذات الصلة، وفيها الطب، والهندسة، وعلم المواد، وعلم الأحياء، وحتى قانون براءات الاختراع، على سبيل المثال لا الحصر.

يقدم هذا الكتاب ذخيرةً كبيرةً لتحفيز أنجيلا كي تتخذ الكيمياء مهنةً لها. ويعرض الكتاب مجموعة متنوعة من الأخبار والروايات الشخصية التي كتبها مجموعة من أعضاء هيئة تدريس الكيمياء الذين يمثلون تقريبًا كل فرع من فروع هذا التخصص، ومجموعة كاملة من مختلف الأعمار والخبرات، ويُعَد تمثيلًا جيدًا لشريحة المرأة. وقد يبرِّر عدمَ مشاركة أعضاء هيئة التدريس في مؤسسات التعليم الأساسي في المقام الأول تركيزُهم على الأبحاث. ثمة العديد من الفقرات الملهمة؛ يكتب البروفيسور كارل وامسر من جامعة ولاية بورتلاند — الذي يؤدي شخصية «العم كارل»، عم أنجيلا، والذي يُعد واحدًا من بين كثيرين في عائلة كبيرة من الكيميائيين تشمل والده البالغ من العمر ٩٧ عامًا، والذي لا يزال يقرأ الدوريات الكيميائية لابنة أخيه الخيالية — فيقول: «الجزيئات والإلكترونات النظيفة ستُنقِذ العالم.» يدور موضوع الرسالة حول الطاقة، وينصبُّ التركيز على تحويل الطاقة الشمسية، وهو موضوع متداوَل بكثرة بين الطلاب اليوم. ويطلب العم كارل — متبعًا أسلوبًا تكتيكيًّا اكتسبه من الراحل ريك سمولي في إلقاء خُطبه على مسامع جمهوره — من أنجيلا والقارئ وضع قائمة بالقضايا العشر الرئيسية التي يجب معالجتها لتحسين نوعية الحياة بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين. وبالطبع، فإنَّ قضية الطاقة واحدة منها، وقد تصدَّرت بالفعل بقية رسالة كارل، لكن يجدر بنا أن نذكر بقية القائمة هنا؛ لأنه في العديد من الحالات، يمكن للمرء أن يدلل على أن الكيمياء ستكون ضرورة من ضروريات النجاح. وهذه القضايا مرتبةً على النحو التالي:
  • الديمقراطية.

  • المرض.

  • التعليم.

  • الطاقة.

  • البيئة.

  • الغذاء.

  • السكان.

  • الفقر.

  • الإرهاب/الحرب.

  • المياه.

قد يُفَسَّر المرض كي يشمل تطوير علاجات جديدة، وهو محور رئيسي للكيمياء التخليقية. وقد نُوقِش بالفعل التعليم والطاقة. وترتبط البيئة والغذاء والسكان والمياه ارتباطًا وثيقًا، وتُتَناوَل على عدة مستويات من قِبل الكيميائيين. هذه القضايا العشر هي التي وجدها سمولي من أهم اهتمامات جماهير محاضراته عندما سأل طلابه عنها، كما أنها تتعقب عن كثبٍ اهتمامات طلاب الجامعة الذين يهدف هذا الكتاب إلى إلهامهم. وربما ينبغي على أعضاء هيئة تدريس الكيمياء في محاضراتهم، خاصةً في المستويات التمهيدية، إيجادُ طرقٍ مبتكرة لطرح هذه القضايا وحلولها الممكنة.

لقد تناولت موضوع الكيمياء والطاقة بشكل خاص في أكثر من رسالة وُجِّهت إلى أنجيلا. والفصول الثلاثة الأخيرة، وفيها الفصل الذي اقترحه العم كارل، تُركِّز بشكل خاص على هذا الموضوع؛ إذ تُعرَض بيانات كميَّة مثيرة للاهتمام حول كمية الطاقة التي تصل إلى الأرض من أشعة الشمس، وعلاقتها بالاحتياجات العالمية من الطاقة لكوكبنا على مدى العقود القليلة القادمة، والتكنولوجيات الحالية والمستقبلية والعلوم التي ابتكرها مجتمع الكيمياء لالتقاط أشعة الشمس والاستفادة من الطاقة الشمسية. ووُصِف برنامج «توفير طاقة الكوكب» — الذي أطلقته كلية الكيمياء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، والمؤسسات الأخرى — لمعالجة هذه المسألة. ثمة فكرة جذَّابة للغاية، أسمعها كثيرًا من زميلي دان نوسيرا، وتتضمن «تقسيم» الماء إلى هيدروجين H2 وأكسجين O2 بواسطة ضوء الشمس في وجود عوامل حفازة مصمَّمة بشكل مناسب. يعمل هذا التفاعل القوي على تخزين الطاقة الشمسية في الروابط الكيميائية H—H وO—O لهذين الجزيئين من أجل إطلاقها واستخدامها لاحقًا عند إعادة تركيبها في خلية وقود لإنتاج الماء، وهو مركب صديق للبيئة، ولتوليد الكهرباء. تشبه العملية شبهًا لافتًا استخدامَ ضوء الشمس في الطبيعة بواسطة النباتات الخضراء، التي تستخدم الماء وثاني أكسيد الكربون والفوتونات الشمسية، لصنع الهيدروكربونات وجزيء الأكسجين، والتي تتحد في المملكة الحيوانية لتزويدها بالطاقة مع إطلاق ثاني أكسيد الكربون والماء مرةً أخرى في البيئة. يكثف الكيميائيون العمل لإنتاج عوامل حفازة جديدة لالتقاط أشعة الشمس بكفاءة، ولتحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربائية، وتوظيف هذه الأخيرة لتحويل الماء إلى هيدروجين وأكسجين كوسيلة لتخزين تلك الطاقة للتحويل اللاحق إلى الماء والطاقة في وقت و/أو مكان لا يتوافر فيه ضوء الشمس. والاستراتيجيات الأخرى الموضحة في الرسائل الموجَّهة إلى أنجيلا تعزز بعض الأفكار الأساسية ومناقشات علوم الحياة والمواد المذكورة في فصول سابقة من هذا الكتاب. سأنتقل الآن إلى أقسام أخرى.

غالبًا ما تُتخذ القرارات الأكثر أهمية في الحياة من خلال عملية عاطفية لا عملية ذهنية؛ إذا كان الخيار «يُشعِر بأنه صواب»، فإنه عادةً ما يتم اختياره. لكن الأفراد الذين يواجههم المرء على طول الطريق وهم ذوو تجارب شخصية مكثفة غالبًا ما يؤثِّرون في اختيار المهنة عامة، ويؤثِّرون في اختيار اتجاه البحوث بالنسبة إلى العلماء. وثمة رسائل من كلٍّ من ماري آن فوكس، وأبهيك جوش (حيث عملت أنجيلا في مختبره وهي طالبة، ضمن برنامج تبادل الطلاب)، وتيري كولينز؛ توضح جيدًا كيف أن أناسًا بعينهم هم من أثاروا رغبتهم في اهتمامهم بأساسيات الكيمياء وتطبيقاتها. وتحكي الرسالة المدهشة من الأخوين سسلر، وهما جوناثان ودانيال، عن القصة التي اختلقاها حول مرض أنجيلا، وكيف أن الأمر تطلَّبَ جراحةً عندما كانت في السابعة من عمرها. دان — وهو طبيب التخدير المقيم في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس في ذلك الوقت — أنقذ أنجيلا من مشكلة نادرة هدَّدت حياتها ظهرت خلال العملية. تصف الرسالة وسائلَ التخدير التي تعمل على إحداث حالة الغيبوبة وحجب الشعور بالألم، وذلك مع شرح تفصيلي للمبادئ الأساسية للكيمياء التي تُدرَّس في الغالب على مستوى الطلاب الجدد. لا يسع المرء إلا أن يتساءل: هل كان من الممكن لتجربة أنجيلا الشخصية، التي رُويت في رسالة الأخوين سسلر، أن تشجِّع على اختيار مهنة الكيمياء في العلوم الطبية؟ يصف خطاب شيتان خوسلا كيف أن تشخيص أمراض زوجته وابنه أثارَ اهتمامه بأن يُجرِي دراسة تفصيلية لأحد أمراض المناعة الذاتية الناجمة عن تناول الجلوتين.

إنَّ نطاق العلاقة بين الكيمياء وعلوم الحياة واسع وعميق، وتتناول ستٌّ من الرسائل الموجَّهة إلى أنجيلا جوانبَ محددة تختص بدراسة تلك العلاقة، والعديد منها في الأقسام الأخرى من الكتاب يحتوي على معلومات ذات صلة. تُمتعنا رسائل جوديث كلينمان وماري-ألدا جيلز-جونزاليس بدور جزيء الأكسجين في الكيمياء الحيوية، وعلى وجه التحديد كيف طوَّرت الطبيعة أنظمة من أجل اكتشاف ذلك والاستفادة منه. وهناك رسالتان لعالِمَين مختصَّين في الكيمياء العضوية الحيوية، هما ليز نولان (ابنة عم أنجيلا) وكارا برين، يصفان الكشف البيولوجي لأيونات الفلزات المشاركة في تأشير الخلايا، مثل الكالسيوم والزنك. كما يرويان استخدام أيونات الفلزات لاستطلاع صحة الإنسان عن طريق التصوير بالرنين المغناطيسي وأشعة جاما، ولعلاج أمراض مثل التهاب المفاصل والسرطان.

ثمة علاقة أخرى مهمة وموضوعية، وهي العلاقة بين علم الكيمياء وعلم المواد بما فيها تقنية النانو. ثلاث رسائل عُنيت بالمواد الحيوية والجزيئات الضخمة والجسيمات النانوية شملها الجزء الثالث؛ فتبدأ رسالة جذابة من مايكل سيلور بالإشارة إلى محاضرة الفيزيائي ريتشارد فاينمان بعنوان «ثمة حيز كبير في القاع»، التي يرى البعض أنها قد بشَّرت بظهور تكنولوجيا النانو. ثم يحكي سيلور عن كتاب الدكتور سويس بعنوان «عودة قط القبعة!» حيث يُطرح بذكاء مفهوم الحد غير القابل للتجزئة على الأطفال. ثم يناقش «جور-تكس»، نسيج الملابس التي تُرتدى خارج المنزل، وهو نسيج يطرد الماء السائل ولكن ليس بخار الماء، كمدخل آخر إلى العديد من الإنجازات النانوية وفيها النقاط الكمومية، والبلورات الضوئية القائمة على السليكون، و«الديدان النانوية» المستخدمة في اكتشاف الأورام داخل الجسم.

في الختام، يبدو من المناسب ملاحظة أن نشر هذا الكتاب في عام ٢٠١١ يتزامن مع السنة الدولية للكيمياء، وهو الوقت الذي يحتفل فيه العالم ﺑ «إنجازات الكيمياء وإسهاماتها من أجل رفاهية البشرية»، كما ذُكِر بالتفصيل في موقع السنة الدولية للكيمياء على شبكة الإنترنت؛ ففي حين أن السنة الدولية لعام ٢٠١١ تنظر إلى الإنجازات التي تحققت، فإن هذا الكتاب باقة مجمَّعة تطلُّعية للمستقبل، تمنح التحفيز والتشجيع للجيل القادم من الكيميائيين الذين يجب على المجتمع أن يعتمد عليهم للإسهام في حل المشكلات وتوفير الاكتشافات الرائعة المطلوبة للتعامل مع قضايا سمولي العشر، وكثير غيرها. يَدين المجتمع بامتنان لأبهيك جوش لإلهامه فيما يتعلق بتصوري لهذا المشروع، ولإصراره على التأكيد على تجميع الرسائل في إطار زمني معقول، خاصة بالنظر إلى الجداول الزمنية المزدحمة لكل المؤلفين. ومن المؤكد أنهم، مثلي، يشتركون في شغفِ أبهيك بالكيمياء ومستقبلها. نأمل أن يجد مجتمع القراء، وفيه الطلاب والمعلمون والجمهور بوجهٍ عام، أن الجهود المبذولة جديرة بالاهتمام.

ستيفن جيه ليبارد
قسم الكيمياء، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كامبريدج، ولاية ماساتشوستس ٠٢١٣٩، الولايات المتحدة الأمريكية

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤