مقدمة

تجوَّلْ داخل مكتبة كبيرة في الجوار، وانتقلْ إلى قسم العلوم المبسَّطة، كما فعلت أنا في السنوات القليلة الماضية عددًا لا يُحصى من المرات، ومعظمها في الولايات المتحدة. من المحتمل أن تجد هناك العديد من الأرفف المخصصة للفيزياء وعلم الأحياء. على النقيض من ذلك، فمن المرجح أن تكون مجموعة كتب الكيمياء صغيرة، على نحوٍ مُحزِن، وقد لا تتعدى كتابًا أو كتابين عن ماري كوري (والذكرى المئوية لحصولها على جائزة نوبل في الكيمياء سنة ٢٠١١، التي عُدَّت السنة الدولية للكيمياء)، والجدول الدوري، وما شابه ذلك. وهي موضوعات مهمة، لكنها تكاد لا توصل شيئًا من الحماس الذي يشعر به الكيميائيون المعاصرون تجاه تخصُّصهم، خاصةً فيما يتعلق بمستقبل هذا التخصص. كما أن أدب العامة لا ينصف المساهمات الهائلة التي قدمتها الكيمياء ولا تزال تصب في مصلحة البشرية؛ ومن ثَمَّ فإن هذا الكتاب جهد مبكر لسد الفجوة الكبيرة في أدبيات العلوم المبسَّطة.

إنَّ المفاهيم الخاطئة حول أهمية الكيمياء ودورها وافرة؛ فغالبًا ما يُعلَن عن المنتجات الاستهلاكية على أنها «خالية من المواد الكيميائية»، كما لو أن المنتجات الصحية ليست مصنَّعة من مادة عادية. ومع ذلك، فإن الجهل بالكيمياء يتجاوز الاهتمام العام (وجزء كبير منه مبرَّر) بشأن التلوث، والمواد المسبِّبة للسرطان، والمطفرات، وما إلى ذلك. ونشرت مجلة الإيكونومست المحترمة عددًا من الأمثلة الفاضحة. ونظرًا لأن الجدول الدوري قد اكتمل بشكل أساسي، باستثناء بعض العناصر الفائقة الثقل التي تظهر بشكل عابر، فإن المجلة تدَّعي بسبب ذلك أن الكيمياء فقدت «جاذبيتها». وكذلك ما حدث في السنوات الأخيرة، عندما ذهبت جائزة نوبل في الكيمياء إلى موضوع يُعنى بالعلاقة المتبادلة بين الكيمياء والأحياء، نظرت مجلة الإيكونومست إلى المسألة على أنها طريقة لجأت إليها لجنة جائزة نوبل لمنح جائزتين في علم الأحياء. وتخيَّل الصدمة التي شعر بها فريق العمل المعني بالعلوم في المجلة عندما لم يُكتفَ بمنح جائزة نوبل في الكيمياء لعام ٢٠١٠ للتطورات الأساسية في مجال التخليق العضوي (تفاعلات الازدواج المحفَّز بالبلاديوم)، بل ذهبت أيضًا جائزة نوبل في الفيزياء إلى موضوع ذي توجه كيميائي، وهو اكتشاف الجرافين. حسنًا، نكتفي بهذا القدر عن مجلة الإيكونومست؛ فقد أردت ببساطة أن أوضح أحد المفاهيم الخاطئة الأكثر خطورةً الموجودة على الساحة. وللأسف، ثمة الكثير منها.

وللأسف، لا يقتصر الأمر على الصحفيين المختصِّين بالمجال العلمي الذين لا تكون لديهم في بعض الأحيان دراية كافية بالكيمياء. غالبًا ما يسألنا الفيزيائيون وعلماء الأحياء: ما التحديات الكبرى في الكيمياء؟ ونرد بأن ثمة العديد من التحديات؛ فقبل عدة سنوات (طبقًا لما أوردته دورية كيميكال آند إنجينيرينج نيوز، عدد ٧ أغسطس ٢٠٠٠)، جمع البروفيسور ستيفن ليبارد قائمة تتضمن نحو عشرين تحديًا من هذه التحديات الكبرى (في الواقع، هذا جزء من السبب الذي دفعني إلى أن أطلب من ستيف أن يكتب تمهيدًا لهذا الكتاب)، على الرغم من اعترافه بأن ثمة الكثير غيرها. وعلى عكس الفيزيائيين، فإننا لا نبحث عن وضع نظرياتٍ عن كل شيء، لكنه ليس بالأمر الذي نخجل منه، بل إنه علامة على أن علمنا زاهر ونابض بالحيوية ويزخر بالمسائل المثيرة التي ستتحدى أذكى العقول لأجيال قادمة. وحتى الممارسون للمجالات الوثيقة الصلة مثل الكيمياء الحيوية يفشلون في بعض الأحيان في إدراك قيمة أساسيات الكيمياء. منذ وقتٍ ليس ببعيد، قرأت حديثًا صحفيًّا أُجريَ مع بيولوجي وتربوي شهير في مجلة مشهورة أيضًا، ذكر فيه أنَّ موضوعات مثل الكيمياء غير العضوية اختفت تمامًا من الوجود! هل أصبح فعلًا ٩٥٪ من الجدول الدوري غير جدير بالدراسة؟ وكان أول رد فعل لي أن هذا ادعاءٌ سخيف للغاية لا يستحق أن يتكبَّد المرءُ عناءَ الرد عليه. لكنني أدركت أنه يجب علينا الرد والتفنيد. وهذا ما نتناوله في عدة فصول في هذا الكتاب؛ حيث نوضح أن دراسة أساسيات الكيمياء لا تزال عملية قائمة ومُفعَّلة.

لماذا لا تحظى الكيمياء بالاهتمام المناسب في وسائل الإعلام العامة؟ إنه ليس بسؤال سهل الإجابة؛ لأن السبب غالبًا ما يكون صعب التحديد. لكن من الواضح، على أي حال، أن الكيميائيين لم يبذلوا جهدًا — بالقدر نفسه الذي نجده عند الفيزيائيين وعلماء الأحياء — لنقْل الاهتمام بعالَم الجزيئات إلى العامة؛ فقد اعتُبرت لغة الكيمياء المتخصصة الفريدة من نوعها عائقًا أمام ذلك، وكذلك طبيعة المجال التي تميل إلى التفصيل. إنَّ اكتشاف كاشف فلز انتقالي ينشِّط (أي يتفاعل مع) رابطة C–H أو C–F خاملة بطبيعتها يُعد ممارسةً مبهرة حقًّا لا تقل فيما تستحقه من اهتمام عما قد يوليه شاب ذكي من اهتمام بنشأة الكون على سبيل المثال. على الكيميائيين أن يتقبلوا الأمر ويتحملوا العناء لتقديم شرح أفضل للعمل الذي يؤدونه والسبب في الأهمية التي يحظى بها على المستوى العلمي ولماذا يُعد أمرًا مُجزيًا ومُرضيًا على المستوى الشخصي. إذا وجد العامة متعةً في القراءة عن الثقوب السوداء ونظرية الأوتار — وهي موضوعاتٌ يصعب تناولها — فمن المؤكد أن القليل منهم سيكون لديه اهتمام بقراءة مقال عام (أو حتى كتاب) عن تنشيط الرابطة C–H، على سبيل اختيار مثال عشوائي إلى حدٍّ ما على إحدى مسائل الكيمياء المهمة.

في الفصول السبعة عشر التالية، حاولت أنا وزملائي المشاركون أن نحقق هذا الهدف على وجه التحديد، وهو شرح أبحاث الكيمياء المهمة بلُغة سلسة وفي المتناول. وقد فعلنا ذلك في شكل رسائل إلى فتاة افتراضية، تُدعى أنجيلا، وهي طالبة في جامعة كاليفورنيا في سان دييجو، وراسلتْنا تطلب معلومات عن فرص العمل في مجالات الكيمياء المختلفة. وتشكِّل الردود التفصيلية على لسان مراسليها الجزءَ الرئيسي من الكتاب. إن رؤية ستيف ليبارد الشاملة وإدراكه لمستقبل الكيمياء جعلاه الشخص المثالي لكتابة التمهيد، وهي دعوة تكرَّم بقبولها. وفي مقدمته، يقدِّم عينةً لما يمكن أن يتوقع القارئ إيجاده في هذا الكتاب. وبالنظر إلى العمل الممتاز الذي قام به ستيف، سأحجم عن التعليق على كل فصل على حدة. وبدلًا من ذلك، سأتحدث بإيجاز عن نشأة الكتاب.

أصبحت الكتب التي تحمل عنوان «رسائل إلى … شاب/شابة» نوعًا قائمًا بذاته. وبالطبع، فإن أول كتاب من سلسلة الكتب هذه هو كتاب «رسائل إلى شاعر شاب» لراينر ماريا ريلكه، بَيْد أن ثمة عدة كتب أخرى تثقيفية ومفيدة. وقد جعلني نشر كتاب «رسائل إلى رياضي شاب» لإيان ستيوارت قبل بضع سنوات أُغفل بكل أسف كتابًا مشابهًا لطلاب الكيمياء ودفعني إلى وضع تصوُّر للكتاب الحالي. وفي الوقت نفسه تقريبًا، ظهر كتاب ناتالي أنجير بعنوان «المبادئ: جولة في أساسيات العلم الجميلة» وكتاب بيل بريسون بعنوان «موجز تاريخ كل شيءٍ تقريبًا». لقد أحببت هذين الكتابين، لمضمونهما وأسلوبهما الأدبي على حد سواء. وأردت أن أقدم شيئًا للكيمياء يماثل ما قدمته أنجير وبريسون للعلم بوجهٍ عام، لكن للأسف، لم أكن في وضع يسمح لي بذلك. فمع الانشغال التام بالتدريس وفريقٍ بحثي متوسط الحجم، لم يكن لدي الوقت الكافي لتأليف كتاب، ناهيك عن كتاب في العلوم المبسَّطة. وكان أفضل ما فعلته بعد ذلك أنني توجهت إلى أصدقائي وزملائي، وكان من بينهم الكثير على الساحل الغربي للولايات المتحدة (وهو المكان الذي نضجتُ فيه بوصفي كيميائيًّا والذي ما زلت أزوره بانتظام)، وأخبرتهم بفكرتي عن وضع كتاب على غرار كتب الرسائل تلك وسألتهم إن كان في مقدور كلٍّ منهم المساهمة بفصل في هذا الكتاب. وأذهلني الرد الإيجابي عمومًا الذي لاقيته؛ فقد رحَّب كبار الأساتذة المخضرمين وشباب الأساتذة المساعدين على حد سواء، فضلًا عن كل التدرجات الواقعة بينهما، بتخصيص وقتٍ خارج جدول أعمالهم المزدحم للمساهمة في الكتاب. من الواضح أن ثمة دافعًا قويًّا نحو تعليم الجيل القادم من العلماء والتواصل معهم على نحوٍ إيجابي؛ ومن ثَمَّ فإن هذا الكتاب — على عكس الكتب الأخرى — هو نتاج جهد مشترك لعدة مؤلفين. قد نفتقر إلى شيء من الحاسة الأدبية لأنجير وبريسون، بَيْد أننا — بوصفنا علماء ممارسين — نأتي بعلم مباشر مستقًى من المصدر الأصلي، وهو ما يُفترض أنه أمرٌ مميَّز وجذَّاب في حد ذاته.

فيما يلي بضع كلمات عن أنجيلا، بطلة الكتاب. إن شخصيتها عبارة عن توليفة لمجموعة من الطلاب الشباب — رجالًا ونساءً على حد سواء — الذين قابلتهم ودرَّست لهم عبر السنين. وعندما أرسم ملامح الشخصية، فهي تنحدر من خلفية اجتماعية متواضعة إلى متوسطة؛ فوالدتها هي مدرسة اللغة الإنجليزية في إحدى المدارس الثانوية، ويحترف والدها رعاية الحدائق. وهي الأخت الكبرى لثلاثة أشقاء، وهي تذكر جيدًا بعض المصاعب المالية التي واجهت عائلتها خلال مرحلة شبابها؛ ولذلك فهي تقدِّر كثيرًا وضعها الحالي كطالبة جامعية في جامعة كاليفورنيا في سان دييجو. وبوصفها طالبة متحمسة وذكية، فقد شاركت بنَهم في البحث الجامعي. وخارج الكلية، تستمتع بقضاء الوقت مع الأصدقاء والعائلة والأجواء الخارجية الرائعة في جنوب كاليفورنيا. ومن نواحٍ عديدة، فهي مثل الآلاف، إن لم يكن الملايين، من أبناء جيلها في جميع أنحاء العالم. تحب العلم ولكنها تقدِّر أيضًا أهمية أن تعيش الحياة بكامل تفاصيلها. وجد عدد من المؤلفين، وأنا منهم، أنه من الطبيعي أن يزعم معرفته الشخصية بها (في عالمنا المختلَق إلى حد ما). وبالنسبة إلى الكثير منا، فلا يختلف وضعها عن وضع الطفل، أو الحفيد/الحفيدة، أو الأخ/الأخت، أو ابن/ابنة العم، أو الطالب المفضَّل، وغيرهم، بالنسبة إلى الكثيرين منا. فبينما كنت أكتب فصلي، تساءلت مرارًا وتكرارًا إن كان بإمكاني إسداء النصيحة نفسها لابني البالغ من العمر خمسة عشر عامًا، وهو الآن طالبٌ في المرحلة الثانوية، ويرى العلم جذَّابًا، ولكنه، مثل أنجيلا، غير متأكد من إمكانية أن يكون العلم جزءًا من حياتنا أو الكيفية التي يمكن أن يكون بها كذلك. وأستطيع أن أقول بصراحة إن الإجابة كانت «نعم» مدوِّية. وأنا على يقين أن الشيء نفسه ينطبق على جميع المؤلفين المشاركين معي.

ما الذي يجعل الكيمياء مهنة جديرةً حقًّا بأن نمارسها؟ مما لا يمكن إنكاره أنها ليست أسهل المهن على الإطلاق، ولكنها بالنسبة إلى عدد من الناس مهنة مثيرة على نحوٍ مذهل وتُشعرهم بتحقيق الذات. وكما ذكرنا في التمهيد الذي كتبه ستيف وفي عدد من الفصول، فإن الكيمياء هي المفتاح لحل العديد من المشاكل الأكثر إلحاحًا اليوم مثل المرض والطاقة والإمدادات الغذائية. وفي الوقت نفسه، سيكون من الخطأ النظر إلى الكيمياء باعتبارها ضربًا من الخدمة المركزية للمشروعات العلمية التقنية. وثمة اكتشافاتٌ مذهلة تحدث في أهم جوانب الكيمياء بوتيرة متسارعة. وأنصح بالتمتع بتصفح سريع لعدد أخير من مجلة الجمعية الأمريكية للكيمياء أو دورية أكونتس أوف كيميكال ريسيرش، أو الأفضل من ذلك (إن أمكن)، حضور اجتماع وطني للجمعية الأمريكية للكيمياء والاستماع إلى بعض المحاضرات الرئيسية في مجالات شتى. وحينها، ستدرك بلا شك أن الكيميائيين يعملون ويعيشون في عالم من الاكتشافات المثيرة التي تُحدِث تحولًا في طريقة نظرتنا إلى عالَم الجزيئات وتعاملنا معه، بل والحياة نفسها في واقع الأمر.

نظرًا للكيفية التي ظهر بها هذا الكتاب إلى النور، فإن غالبية مؤلفيه من الولايات المتحدة. ومع ذلك، من المفترض أن يحوز موضوعه الشامل الاهتمامَ من العالَم أجمع. وسواءٌ أكنت تقرأ هذا الكتاب من أمريكا الشمالية أو أوروبا أو أستراليا أو البرازيل أو الصين أو الهند أو روسيا أو أي دولة ناشئة أخرى، فينبغي أن تتمكَّن من فهم الآمال والأحلام المضمَّنة فيه. ولكن ماذا لو كنت تحب العلم ولكنك تعيش في إحدى البقاع الفقيرة من العالم؛ حيث لا يمكن إجراء أبحاث علمية هادفة وذات معنًى؟ لا شك أنه أمرٌ صعب ولست في وضع يسمح لي بتقديم حلول سحرية. ومع ذلك، ثمة علامات مُبشِّرة حولنا. فعمومًا، تنمو الاقتصادات النامية بوتيرة متسارعة؛ وتزداد إمكانات الإنترنت وتأثيره بعمق. وثمة فرص للحصول على منح دراسية في الخارج. وعن نفسي، فإن من أكثر ما يُشعرني بالرضا أن بعضًا من أفضل طلابي ومساعديَّ قد أتوا من أفريقيا، ومنهم من أتوا من بيئاتٍ محرومة تمامًا.

وختامًا، أودُّ أن أشكر مجددًا مؤلفي الفصول على مساهمتهم الكريمة بوقتهم ومشاركة آرائهم وتصوُّراتهم، وكذلك لإيمانهم بقدرتي على إنجاز هذا المشروع. وقد أدخلت تعديلاتٍ تحريرية بعناية واقتضاب للحفاظ على وجهات نظر المؤلفين الأصلية وأساليبهم. وبالفعل، فقد أعرب المؤلفون في بعض الأحيان عن آراء تختلف اختلافًا كبيرًا عن آرائي. كان ستيف ليبارد يقرأ كل فصل قبل أن يكتب التمهيد المحكَم والمدروس الذي وضعه. ورُوجعت كل الفصول مراجعةً نحوية وأسلوبية من قِبل ثلاثة من مساعديَّ/طلابي، وهم دكتور آدم تشامبرلين، والسيد هانز كريستيان نورهايم، والسيد سايمون لارسن، ولهم مني جميعًا كل شكر وامتنان. ولا يسعني التعبير عن مدى تقديري لأنيتا ليخواني، أحد المحررين البارزين في وايلي؛ فقد وجدت أفكاري أرضًا خصبة في اللحظة التي ذكرتها لها، ومنذ ذلك الحين، كانت اقتراحاتها وكلماتها التشجيعية حافزًا معنويًّا لي على مدار عملية التحرير. لقد جعل كلٌّ من كريستين بونزو، محررة الإنتاج المسئولة في وايلي، ومديرة المشروع جانيت هرونيك، والمهنيون شديدو البراعة، عملية الإنتاج سلسة بل وممتعة!

آمل أن تجدوا هذا الكتاب مفيدًا وممتعًا.

أبهيك جوش

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤