الدنيا رواية

الدنيا رواية حقًّا في نظر أولئك الذين يؤمنون بنظرية حلول الروح … تلك النظرية التي تزعم أن عدد الأرواح في الكون محدود، كما أن عدد الممثلين في المسرح محدود … وأن الذي يتغيَّر هو الأدوار التي يتقمَّصها أولئك الممثِّلون … وهي أدوار لا حدَّ لها ولا نهاية، في تلك الرواية الاستعراضية العظمى!

إذا سايرنا أصحاب هذا الزعم في زعمهم، فإن الصورة التي يمكن رسمها للدنيا تبدو جديرة بالتأمُّل … ومن السهل تخيُّل الأرواح في ظهورها واختفائها فوق مسرح الدنيا، على الوجه الذي يحدث بالضبط في المسارح التمثيلية. فهناك، مثلًا، بعيدًا عن هذه الأرض وشمسها وقمرها، مكان خفي، يمكن أن نتصور فيه ملاكًا يقوم بوظيفة «الريجيسير» — أي مدير المسرح — يعطي الإشارة للشمس والقمر، فتُسلط الأولى أشعتها الذهبية القوية، والآخر أشعته الشاحبة الفضية على سطح الأرض … كما تُسلَّط مصابيح «البروجكتور» الكهربائية على خشبة دار التمثيل … ولا بأس من أن نتخيَّل ذلك «الملاك» في مكانه هذا يُباشر أعماله اليومية، وينظر في «اللوح» الذي أمامه، المسطورة فيه الأدوار والأقدار، ويستعرض ألوف الأرواح المهيَّأة للظهور على مسرح الدنيا، ويستقبل الألوف من الأرواح الخارجة منه … ولا ضير أيضًا في أن نطلق الخيال أبعد من ذلك، لينسج لنا قصة روح من بين تلك الأرواح العائدة.

•••

ظهر الروح الذي نروي قصته، خارجًا من الدنيا وهو مدهوش مذهول، كمن أفاق فجأة من نومٍ عميقٍ، وهو يُردد هذه العبارة: يقولون إني متُّ! … أَأنا الآن ميت حقيقة؟! … زوجتي التي تتحطم تفجعًا، تصيح بأني أموت، وأني مت … أخبروني أيها السادة … هل أنا حقًّا ميت؟!

ولم يلتفت إليه «الملاك» المنهمك في أعماله، الشاخص ببصره إلى اللوح الذي أمامه، والسجل الذي بين يديه، واكتفى بأن هزَّ رأسه وقال كالمخاطب لنفسه: كلكم هكذا … لا تريدون أن تُصدقوا أنكم متُّم … ماذا أصنع لكم؟ … أنا … ليس لديَّ وقتٌ أنفقه في إقناعكم وإقامة الأدلة والبراهين لحضراتكم … تَقدَّم يا … ماذا كان دورك في الدنيا هذه المرة؟

– كنت طبيبًا … وكانت لي زوجة … آه … إن زوجتي هي التي تموت الآن ولا شك حُزنًا عليَّ أنا … يا للمسكينة!

ونسي ذلك الطبيب — أو روحه — كل ما حوله، وراح يذكر كل دقيقة من دقائق حياته التي يؤكدون له أنها انتهت … كان طبيبًا جَراحًا، تَخرَّج في كلية الطب متفوقًا، وكل شيء يبتسم له، لقد كان من أولئك القلائل الذين ينالون دائمًا ما يريدون، كان حسن المنظر لطيف المعشر يظفر بنظرات كل ممرضة وطالبة، لكنه كان يعتقد أن هناك امرأة واحدة لا بد أن تستحوذ على كل قلبه وفكره وجسمه، ولا بد لها أن تأتي يومًا، إنه أرادها ولا بد له أن ينالها فالقَدَر قد عَوَّده أن ينيله كل ما يتمنى، فالنجاح في مهنته تمنَّاه ففاز به، وقد تمنَّى المال والترف، فجاءه المال من عمله ومن ميراث عائلي … وهو بعد ذلك يتمنَّى أن يلقى الزوجة التي يعطيها حياته وكَدَّه وكسبه … فوجدها ذات يوم في صورة مريضة، أتت ليجري لها عملية استئصال الزائدة الدودية، ما إن وقع بصره عليها حتى اضطرب … أتُرى الأرواح تتلاقى حقًّا؟ … كيف تلاقت روحاهما من النظرة الأولى؟! … وكان من المستحيل عليه أن يتصور أنه هو الذي يجري لها الجراحة بيده، ويشق جسدها بمديته … إن قلبه لن يحتمل ذلك … واعتذر لها ولأهلها بشتى الحجج، وعهد بأمرها إلى جَراح آخر قال إنه أمهر منه … ولم تدرك هي معنى ذلك الاعتذار إلا يوم فاتحها قائلًا: «لقد خُلقتُ لأكون زوجك لا جَراحك» … وكانت هذه الزوجة كل شيء في حياته … وكان هو كل شيء في حياتها … ما من كائنين اتفقا والتصقا وأصبحا كائنًا واحدًا مثل هذين الزوجين … كانت زوجته تقول له يوم ترى جُرحًا في إصبعه: «يا للعجب! … كأن الألم في إصبعي أنا … أهو وَهْم، أهو حقيقة؟ … كيف ينتقل الوجع المادي من إصبعك إلى إصبعي هكذا أيها العزيز؟» وكان هو يقول لها: «العجيب حقًّا هو أن كلامك هذا هو عين ما عندي … لقد شعرتُ فعلًا يوم جئتني لأشق جسدك، كأن المشرط سيشق جسدي أنا، وأنا بالطبع باعتباري جراحك لن أعطي مثلكِ البنج، فتصوري جراحة تُجرى لي بغير بنج، بينما أنتِ المريضة لا تحِسَّين الألم!» وعاش هذان الزوجان السعيدان أعوامًا كلها هناء … ولم ينجبا أولادًا … ولم يحل ذلك دون تعلُّق أحدهما بالآخر … بل لقد كرِها الأطفال حتى لا يسمحا لغيمة أسفٍ أن تُخيم على حبهما … إنهما هكذا ناعمان، أحدهما يكمل الآخر … ولا حاجة لهما بثالث … وجاء اليوم المشئوم … فقد نهض على عادته في الصباح المبكر لإجراء عملية جراحية، ولكن زوجته أحسَّت في ذلك اليوم خطرًا … وتنبَّأت بكارثة، كما تتنبَّأ آلة الرصد بكسوف الشمس … فتوسَّلت إليه أن يبقى معها ذلك النهار … فأبى التقصير في واجبه … إن مرضاه في انتظاره … فادَّعت المرض … فلاطفها، وداعبها حتى كشف بظرفٍ عن تحايلها، وقبَّلها قُبلة طويلة، وانفلت من بين ذراعيها المتشبثتين بعنقه … وتركها جامدة كالتمثال … وفي الظُهر عاد وفي جسمه السُّم … فقد شُرطَ قفازه في أثناء الجراحة، وسرى الداء في دمه من إصبع مجروحة، واجتمع حول فِراشه أساتذة الطب وأساطين العلم لينقذوه من الموت … ومن خلفهم زوجته تموت وتحيا مع كل نفس من أنفاس قرينها الحبيب … ولكن … كان الموعد محددًا لانتهاء دوره في الحياة عند هذا الموقف … وكان على الروح في ذلك الوقت أن يخلع الجسد كما يخلع الممثل ثياب التمثيل … وعندما كان يُسلم النفس الأخير، بين شهقات امرأته المكتومة، وبريق دمعها المنساب، ووقفتها المترنحة المتجلدة، وابتسامتها المموهة الدامية، خُيِّل إليه أن يرى الحقيقة تضطرب في الظلام خلف عتبة الحياة … نعم … الحقيقة هي أن الحياة ليست حقيقة … كان إحساسه إحساس ذلك الممثِّل الذي عاش دوره، ونسي أمره، وأبكى الحاضرين وبكى هو نفسه، إلى أن فرغ من الموقف الأخير، وشعر بنزول الستار، فالتفت، فإذا عينه تلمح في الظلام «الكواليس» بما فيها ومن فيها، فسكن ثائره، ورفع يده ليمسح دمعه، قبل أن يدلف إلى داخل المسرح فيسخر منه زملاؤه ويسخر هو من نفسه … ولكن عبرات المشاهدين كانت تَردُّه إليهم وإلى التعلُّق بهم وبدوره … فالعواطف في ذاتها حقيقة … كذلك الطبيب المحتضر … خطرَ له أن يبسم لزوجته الثكلى، وأن يهمس لها أن الأمر زيفٌ في زيفٍ، ولكن … كيف يكون كل هذا الحب زيفًا؟ … مهما يكن ما بعد الحياة، وما بعد التمثيل، فإن الدموع في ذاتها جديرة بالاحترام، والحب في ذاته أجلُّ من أن يُهزأ به. إن الحب حقيقة، وإن ما يربطه بزوجته لا يمكن أن يُخلَع مع رداء التمثيل، ولو اجتمعتْ عليه كل ملائكة السماء! … وهكذا ترك الميت خشبة «الأرض» وخلع رداء جسده، ودخل على «الملاك» المدير، روحًا عاريًا مجردًا … ولم يحس بعد فَرقًا كبيرًا بين ما كان منذ لحظة، وما يكون الآن … أين هو ذلك الموت الذي يقولون عنه؟ … ما الذي تَغيَّر فيه؟ … ها هو ذا يحب زوجته حبًّا جنونيًّا … وكل أمله أن يلقاها … ولكنه لا يستطيع … لأنه ميت، كما يقولون … إذ يراها، ويرى جزعها، ويريد أن يمدَّ يده إليها، وأن يُحادثها ليُهوِّن عليها … ولكن صوته لا يَبلغها، ويده لا تطيع إرادته … ما من أعضاء مادية تأتمر الساعة بأمره … كأنها أشياء منفصلة عنه … لا يملك تحريكها، حاله الآن كحاله عندما كان ينتابه في الدنيا كابوس فيريد وهو في فراشه أن يتحرك، ولكن إرادته لا تُطاع … إنه الآن إرادة مُطْلَقَة في الهواء لا تُسيطر على أجسام، ووعي مُطْلق في الفضاء لا يؤثر في أشخاص، عدا ذلك، فهو هو لم يتغير فمن يدريه أن هذا موت؟ … لعله نوم عميق أو حلم عابر أو كابوس مؤقت!

والتفت مرة أخرى إلى «الملاك» المنهمك في أعماله وقال له: أنا لا أحس أني ميت.

فنظر إليه «الملاك» نظرة شزراء وقال: أنت حر.

– أريد أن أعود إلى زوجتي.

– قل هذا لعزرائيل من فضلك.

– عزرائيل! … أتمزح؟

فلم يتمالك «الملاك» وقال نافد الصبر: ليس عندي وقت للمزاح يا سيدي … آه، لو درى عزرائيل! … ذلك الذي لا تبطل له شكوى من كثرة أعماله، لمجرد قبضه عدة أرواح كل يوم، ينفض بعدها يديه ويستريح … أما أنا فيجب عليَّ أن أقاسي من أرواحه وأتحمَّل حماقاتها، وأُصغي إلى ثرثرتها! … يا حضرة الفاضل. ألم يقبضك عزرائيل؟ … كيف تريد إذن مني أن أُعيدك إلى زوجتك؟ … وإذا كان كل روح يقبضها زميلي أُعيدها أنا، فما الفائدة إذن من قبض الأرواح؟!

– أنا شخصيًّا لا أرى فائدة … لقد كنت مع زوجتي في أتمِّ هناء … فلماذا تتدخلون أنتم لتفرقوا بين المحبين؟!

– لا نستطيع يا سيدي الفاضل أن نتركك في هذا الدور، أعني في هذا الجسد كما تحب أنت وتشاء، لأن روحك تلزمنا في عمل آخر.

– عمل آخر؟

– طبعًا … لا بد لك من جسدٍ آخر تحلُّ فيه، ودور آخر تقوم به … وهل تظن أن هذا كان أول أدوارك أو آخرها؟ … لقد سبق لك أن حللتَ في مئات الأجساد وقُمت بمئات الأدوار.

– أنا؟ … أنا سبق لي أن كنت شيئًا آخر غير زوج يحب زوجته، وطبيب جراح في …

فابتسم «الملاك» ابتسامة الساخر المتبرم، الراثي لجهل مُحدثه … أخذ يُقلِّب في صمتٍ صفحات سجله الضخم، إلى أن وقف على صفحة، نظر فيها لحظة، ثم قال: اسمع يا سيدي … قبل أن تكون زوجًا وطبيبًا، كنت لِصًّا سِكيرًا، فَتكَ براقصة في ملهى ليسرق حُليها … ومات على المشنقة!

– أنا؟!

– انتظر … ثم كنتَ قبل ذلك جنديًّا بسيطًا قُتِل في معركة … ثم كنتَ طفلًا مات بالدفتريا، ثم كنتَ امرأة ماتت في الوضع … ثم كنتَ رجل دين مات بالشيخوخة، ثم أميرًا مات مسمومًا … ثم كنتَ ساحرًا هنديًّا لدغته أفعى، ثم كنتَ فتاة انتحرت في حادثة غرامية …

– كفى … كفى … إني لست مجنونًا لأُصدق هذا الهراء … أنا طبيب جراح … ولي زوجة أحبها، وإذا لم ألحق بها فهي لا بد لاحقة بي … ولن أصدق أبدًا أني كنت أُمثِّل دورًا.

فنظر إليه «الملاك» بابتسامته الهازئة، وقال: كل مرة تقولون لي عين هذا الكلام، أنت وغيرك … إنكم لا تصدقون أن هذا كان تمثيلًا.

– تمثيلًا؟ … حُبها لي وحبي لها … وحياتنا معًا التي لا نتصور حياة غيرها! … لا … لا.

– إنك لم تزل واقعًا تحت تأثير دورك … إلى أن تذهب إلى البحر، فتغسل ذلك الطلاء، وتزيل ذلك «المكياج» عندئذٍ فقط تكون على استعداد لارتداء الدور الجديد.

وأشار «الملاك» إلى أحد مُساعديه العديدين، إشارات ذات معنى، فتقدم ليقود روح الطبيب، ولكنه وقف ونظر إلى عتبة الباب، وقال لرئيسه: عزرائيل أرسل إلينا روح امرأة.

ولم يكد يتم كلامه حتى ظهرت بالباب روح الزوجة، وما كاد روح الزوج الطبيب يرى روح زوجته، حتى صاح فرحًا: ألم أقل إنها لا بد لاحقة بي!

واندفع كلٌّ منهما نحو الآخر … وقالت روح الزوجة: آه يا زوجي العزيز … لم أستطع البقاء هناك بعدك، لقد كانت ليلة فظيعة … تلك التي رأيت نفسي فيها وحيدة بدونك، أُناديك في الظلام … ولم أتمالك نفسي عند الفجر، وأنا محطمة الأعصاب فتناولت كل ما كان بجواري من أقراص الأسبرين طالبة النوم الأبدي، والراحة السرمدية، أو اللحاق بك، وها هو ذا أملي يتحقق وأراك … كيف أنت أخبرني … إنك فيما أرى، كيف قالوا إذن إنك مت؟ … أنا أيضًا لست ميتة فيما أعتقد … كنت أتمنى الموت … وقد شعرت عندما استدعوا الطبيب والإسعاف بعد تناولي الأقراص، أنهم يهمسون حولي بكلمة «الموت» ولكن … أين هو الموت؟! … أين هو ذلك «الموت»؟!

ولم يستطع «الملاك» صبرًا … فنفخ صائحًا: أُف! … لعنة الله على هذه المهنة!

•••

طفق الروحان يُثرثران كالأطفال، وقد أعماهما الفرح عن كل ما عداهما، ولم يحفلا بمن حولهما، وأدرك «الملاك» أنهما لن يفرغا من الحديث، إذا تُرِكا وشأنهما، فأومأ إلى مساعده أن يقودهما إلى حيث يغسلان عنهما آثار دوريهما … إلى «بحر النسيان».

واتجه المساعد نحوهما ليذهب بهما، فجفلا منه وابتعدا عنه، والتفتا إلى «الملاك» صائحين: أيُراد التفريق بيننا ها هنا أيضًا؟

– لا بد من ذلك.

– نتوسل إليك … نتوسل إليك أن تدعنا معًا دائمًا … في كل مكان، وفي كل زمن، وفي كل دنيا … ماذا يُكلفك هذا أيها الملاك اللطيف؟

– هذا قد يُحدث لنا بعض الارتباك في العمل.

قالها بصوتٍ بدت فيه رنة لين، فمضى الزوجان في الإلحاح: نتوسل إليك … مثلك لن يعدم وسيلة … اجمعنا دائمًا ولا تفرق بيننا أبدًا.

– سأرى … سأرى … ربما دبَّرتُ لكما ذلك … لكن اذهبا الآن قبل كل شيء واغتسلا في البحر.

– شكرًا لك.

لفظها الروحان بحرارة وفرح … وذهبا في الحال مع المساعد صاغرين إلى بحر النسيان.

وهناك وجدا بحرًا هائلًا له شاطئ جميل مثل شواطئ المصايف الشهيرة … والبحر يعجُّ بالأرواح السابحة فيه، فخلب لُبَّهما المنظر، واندفعا إلى البحر ضاحكين سعيدين كما كانا في الدنيا.

وقفزا معًا إلى الماء، يتناغيان بأرق الأسماء، وغمرهما موج أبيض كأنه رغوة الصابون.

فإذا هما يحسَّان كأن شيئًا يزول عنهما رويدًا رويدًا … وإذا كلٌّ منهما يردد من أعماق نفسه متعجبًا متسائلًا: «من أنا؟ … ومن هذا الذي بجواري»؟ … وخرج من هذا البحر من خرج إذعانًا لأوامر المساعدين، وبقيا هما حتى أشار إليهما المساعد الموكل بهما، فخرجا كما تخرج اللوحة المكتوبة من الماء … لا أثر في نفسيهما لحرفٍ واحدٍ من حروف حياتهما الماضية … وأعادهما المساعد إلى «الملاك» وقد جاءت نوبتهما في المثول أمامه، لتوزيع الأدوار الجديدة، فسأل كلًّا منهما: هل تعرف من أنت؟ … وأين كنت؟ … وهل تعرف من هذا الذي بجوارك؟

فأشار كلٌّ منهما بالنفي … فقال «الملاك» كالمخاطِب لنفسه وهو يراجع سجله الضخم: إني وعدت مع ذلك أن أجمعكما مرة أخرى في دورين يصلحان لذلك، فلتكن أنت إذن طيارًا رياضيًّا … وأنتِ فتاة عاطفية … أيها المساعد … اقذف بهما إلى مسرح «الأرض».

•••

كل شيء كان قد أُعد ليصير «هو» طيارًا، فقد خرج إلى الدنيا طفلًا في أسرة متوسطة المركز طيبة المنبت، وشغف في حداثته بالألعاب الرياضية، وغدا فتًى وتعلم في المدارس، وأصبحت له ميول وموجهات، بعضها يدافع البعض، ولكن الظروف النهائية وجَّهته على الرغم من كل شيء إلى الطيران، فدرسه، والتحق بإحدى شركات الملاحة الجوية … أما «هي» فقد شبَّت خيالية النزعة مُدلَّلة مترفة في أسرة ميسورة الحال، مفككة الأخلاق … الأب مشغول بنفسه وملاهيه، والأم ساذجة ضعيفة الإرادة … وولعت الفتاة بالرقص والحياة الصاخبة الحديثة … وكان «هو» في طرف من المجتمع و«هي» في طرف، ولم يكن من السهل أن يلتقيا … فهو لا يرتاد المجتمعات التي ترتادها هي، ومع ذلك فقد كان لا بد من التلاقي، وقد حدث.

كان يقود طائرته ذات يوم … وكان الباب الصغير الذي يفصل بين مكان قيادته وبين مكان الركاب مفتوحًا على غير العادة، فلمح في أحد المقاعد فتاة تقرأ إحدى المجلات … ما كاد يراها حتى ارتجف، وارتجفت معه الطائرة بمن فيها، فقد غفلَ لحظة عن قيادتها … وانزعج الركاب قليلًا، ورفعت الفتاة أهدابها الطويلة … فتقابلت … عيناهما … وعجب مهندس اللاسلكي لما حدث، ونظر إلى الطيار بجواره، فألفاه يصيح بين ضوضاء المحركات قائلًا: «إني أعرفها … أين رأيتها؟ … متى رأيتها»؟ … وما كاد يهبط بالطائرة في مطار الوصول، حتى قفز منها وتبع الفتاة، وتقدم يخاطبها كأنه يعرفها من قبل … أما هي فلم تنهره ولم تغضب منه، بل أحسَّت الارتياح والرضا، وشيئًا من الاطمئنان الخفي إلى هذا الشاب … ومضى هو يقول بإخلاصٍ حارٍّ: إني آسف إذ أضطر أن أقول لكِ تلك العبارة التي ابتذلها الشبَّان اليوم: «أين رأيتك من قبل»؟ … ثقي أني لا أتخذها حجة لمحادثتك … ولكني … عندما وقع بصري عليكِ شعرت في الحال أني أعرفك وأني رأيتك في مكان ما، انتظري … ربما تلاقينا آخر مرة في … في بحر؟

فأجابت باسمة: من الجائز … في «بلاج» من هذه «البلاجات».

– ربما … أخشى أن تكون الطائرة قد أزعجتك عندما ارتجفت.

– لا … إني فقط عند هبوط الطائرة، أحس عادةً بعضَ الصداع … ولكن عندي دواء لذلك.

– قُرص واحد من الأسبرين يكفي.

فظهر فجأة الارتياع على وجه الفتاة، وهمست: أسبرين! … أرجوك … لا تلفظ هذه الكلمة، لا أمقت شيئًا مثلما أمقت الأسبرين … ربما اتهمتني بالخبل … ولكني منذ صغري أرتاع لمجرد رؤيته … سامحني … هنالك أشياء فينا ولا نستطيع لها تعليلًا.

– لا تؤاخذيني … إني آسف لم أقصد إيذاءك مطلقًا.

– أعلم ذلك … هذا ليس ذنبك … إنما هي نزوة من نزواتي ليس لها مبرر … ألا يتفق ذلك أحيانًا لكثير من الناس؟ … ألا يحدث لك أنت أيضًا أن تكره شيئًا بدون سبب؟

– نعم … نعم … أنا أيضًا في الصغر كنت أحس الإغماء كلما ذُكِرتْ أمامي كلمة «عملية جراحية» … وعبثًا حاول أهلي تعليل ذلك … ولكن هذه الحالة زالت بزوال عهد الصبا … وأصبحت بعدئذٍ شخصًا عاديًّا.

– أرأيت؟ … فينا أشياء كثيرة متقاربة.

– هذا من حُسن حظي.

•••

منذ تلك المحادثة الأولى، وهما يشعران كأن شيئًا يجذب أحدهما إلى الآخر … ولم يمضِ قليل حتى تمَّ بينهما الزواج، ولكن … مرَّت الأيام وكلٌّ منهما يلحظ أنه يسير في طريق غير طريق الآخر … هو يأتي من عمله متعبًا فيجد المنزل يصخب بأنغام «الرومبا» و«الفوكس تروت» و«الهوجي بوجي» فيُنبِّهها برفقٍ: أما تكفيني طول النهار ضوضاء المحركات؟

فتجيبه بتبرمٍ: محركات؟! … هذا كل ما تعرفه … أنت لست «رومانتيك».

وكان يبلع هذا الخلاف بينهما في الاتجاهات … وكان يعلِّل النفس بأن هذا طيش قد تمحوه الأمومة … وأنجب منها طفلين جميلين، ولكن الأمومة لم تقهر عندها المزاج … بل المزاج هو الذي قهر الأمومة … وأمسى الزوج الطيب يجد ليالي زوجته مشغولة كلها بالحفلات والسهرات … وتعدَّى الأمر إلى ما هو أَمَرُّ … فقد دخل عليها يومًا فوجد لديها شابًّا لا يعرفه … زعمت أنه من رفاق الطفولة، وأنه أخوها في الرضاع … وقام بين الزوج وزوجته شجار، حسمه الزوج بالحسنى مراعاة لأولاده … ولكنه أدرك عندئذٍ أن علة شقائه في الحياة هي هذه المرأة … وكرَّت الليالي حمراء بالنسبة إلى الزوجة اللعوب، بيضاء من السهاد، سوداء من الهم، بالنسبة إلى الزوج المنكود … ولم يعد يُحسن عمله لقلة نومه واعتلال صحته، وسمع همسًا في الشركة المتذمِّرة يُنذر بالشر، كما سمع همسًا عن سلوك امرأته يُندَى له الجبين الحر … وأكلت نفسه الهموم، ونخرت في قلبه الشكوك … وفي ذات ليلة دهم زوجته وهي في أحضان شاب … فارتاعت وقالت متلعثمة إنه مُعلم رقص يعلمها الرقصة الجديدة … وفَقَدَ الزوج صوابه فأخرج مسدسه وأطلق على زوجته رصاصة أردتها قتيلًا … وقفز «معلم الرقص» المزعوم قفزة «فوكس تروت» من أعلى السُّلم وهرب كما يهرب الثعلب من حظير الدجاجة … وسمع الجيران الطلق الناري، فصاحوا، وأقْبَل «البوليس» ينفخ في صفارته وثاب الزوج إلى رشده، وفطن إلى الفضيحة، فأفرغ في رأسه رصاصة أخرى أردته قتيلًا هو الآخر.

ورفع «الملاك» بصره من فوق سجله الضخم على شجار روحين داخلين عليه … أحدهما يقول للآخر: سخيف! … أُقسم إنك سخيف … تطلق عليَّ مسدسك لسببٍ تافه كهذا؟! … ما أضيق ذهنك أيها الزوج المغفل! … ولكن هل يُنتظَر من مثلك تصرف غير هذا؟! … إنك طول عمرك كنت زوجًا مغفلًا!

– اسكتي أيتها المرأة … لا داعي لسلاطة اللسان! … ولكن الذنب ليس ذنبك … الذنب ذنبي أنا … لا شك أني جننت حتى أقتلك وأقتل نفسي معكِ في نفس الوقت … ما الفائدة؟ … ماذا فعلت أنا إذن؟ … ها أنت ذي معي هنا أيضًا … يا للمصيبة! … يا للمصيبة!

ولم يجد «الملاك» بُدًّا من التدخل، فصاح فيهما طالبًا إليهما السكون واحترام المكان … فتقدم إليه الزوج — أو على الأصح روحه — صارخًا متوسلًا: يا ملائكة السماء! … يا شياطين جهنم! … يا عفاريت الجن … خلصوني من هذه المرأة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤