نصيب

في حياة كل رجل لحظة يشعر فيها فجأة بأنه مثل غطاء الطبق الذي لا يجد طبقه، والويل لمن لا يفطن إلى هذا الشعور إلا متأخرًا، إنه يترك عندئذٍ كل شيء وينقلب مجنونًا بتلك الفكرة المُسيطرة: البحث عن شطره الآخر … كان بطل هذه القصة من هذا النوع من الرجال … شابٌّ مُجدٌّ طموح … تخرَّج في الجامعات مهندسًا بارعًا … درس في مصر ثم في الخارج، وكان في مقدمة أقرانه دائمًا … لا يعرف غير العمل ولا تنظر عيناه غير طريق مستقبله الناجح … وقد ركض في هذا الطريق بالفعل حتى بلغ درجة «مدير أعمال» وكاد يُشرف على الخامسة والثلاثين وهو مستغرق هذا الاستغراق في عمله الهندسي … وإذا بغتة تدهمه هذه اللحظة الحاسمة … وإذا هذا الغطاء الذي كان يجري على «سِنه» ناهبًا الأرض كأنه كل شيء، قد اصطدم بجدار تلك اللحظة العجيبة فوقف ودار حول نفسه دورات، ثم انبطح على ظهره ورنَّ معدنه رنينًا مكتومًا، وكأنه يهمس: «ما أنت إلا غطاء الطبق»! … وأفاق المهندس بعدئذٍ وليس في رأسه غير فكرة واحدة: الزواج …

ودُهِش أصدقاؤه لرنين هذه الكلمة في فمه، فهُم لم يسمعوها قطُّ منه، ما الذي حدث؟ … وهم الذين طالما فاتحوه من قبل في هذا الأمر، فلم يجدوا منه غير الصدوف واللامبالاة … لقد كان كلما ذُكِرت أمامه «الزوجة» — أو النصف الآخر، أو «شريكة الحياة» — يبدو عليه كأن الموضوع لا يعنيه ولا يفهم مغزاه، ويبتسم أحيانًا ابتسامة المتعجب لغلو الناس في الوصف وإسرافهم في التعبير … لقد كان يحسُّ إحساسًا أكيدًا أنه كامل بنفسه … وأنه واحد صحيح، لا نصف، ولا ثُلث، ولا كسر من عددٍ، إنه درس الحساب والجبر والرياضيات العليا فمَن ذا يقنعه بأنه أقل من رقم، وأنه نصف فقط، وأن هنالك نصفًا آخر في مكان ما ينقصه ليكون الناتج واحدًا صحيحًا؟ … هذه المسألة الحسابية الآدمية من الذي وضعها؟ … ولماذا؟ … ولمصلحة من؟ … لا … لا … إنه لا يظن الطبيعة مشغوفة إلى هذا الحد هي الأخرى بعلم الحساب؛ لتجعل من الرجال والنساء أرقامًا أو كسورًا من أرقام تجمع بينها وتطرح … كان هذا كلامه فيما مضى … أما الآن فهو يقول لأصحابه: «صدقتم … الحياة حساب … الحياة مسألة حسابية … أنا كسر … أنا نصف … اجمعوني من فضلكم على النصف الآخر»! … لكن بقيت المعضلة الكبرى: كيف العثور على ذلك النصف؟ … هل يترك الأمر للمصادفة، أو عليه هو بالسعي؟ … هل القدر هو الذي يخطُّ على لوح الوجود — بالطباشير — جامعًا الأنصاف بعضها إلى بعض؟ … أو أن على الرقم المشطور أن ينفلت هو بنفسه من تحت إصبع القدر وطباشيرته ويُسرع زاحفًا على اللوح بحثًا عن بقيته؟ … ولبث المهندس أيامًا لا يلقي على معارفه المتزوجين غير هذا السؤال الذي لا يتغيَّر: «كيف عرفت زوجتك؟»، وكانت الإجابات مختلفة، فمنهم من يقول: «رأيتها في سهرة عند بعض الأقارب أو الأصدقاء»، ومنهم من يجيب: «قابلتها في سوق خيرية فأعجبتني، فسألت عنها»، ومنهم من يذكر: «كانت على البلاج، فتبعتها وعرفت عنوانها» ومنهم — وهم الندرة في هذا الزمان ممن يؤمنون بالنصيب، أو اليانصيب، ولا يرضون بطرائق الاختيار الحديثة — من همس له: «والله، البركة في الخاطبة أم شلبي» … وحار المهندس في هذه الأساليب، جديدها وقديمها، لكنه لم ينكر ولم يرفض ولم يعترض … لقد قَبِلها كلها … كل سبيل يؤدي إلى شطره الآخر لن يتردد في سلوكه … لقد فتح عينيه الواسعتين، وذهب بهما يجوس خلال السهرات والطرقات والشواطئ والأسواق … لكن … وا أسفاه: أما هذه فقصيرة وأما تلك فطويلة … والأولى أنفها لا يروقه، والثانية فمها لا يعجبه … ثم إذا هو أغضى عن المظهر فمن يدريه بالمخبر؟ … لقد جَنَّد كل أصدقائه وزوجاتهم للبحث معه … ذلك أنه لم يكن له أقارب في القاهرة … فإن أهله في الريف … وليسوا ممن يحسنون فهم ما يريد … ولم تكن صلته بهم تُبيح لهم التدخل في شئونه، فقد كانوا أقارب من درجة بعيدة … لأن والديه ماتا بعد تخرجه في الجامعة بقليلٍ … لذلك كان اعتماده على معارفه … وأغلبهم كان يرتاب في أنه يأخذ الأمر اليوم على سبيل الجد … فكانت معاونتهم له ضئيلة فاترة في أكثر الأحيان، ثم زادهم فتورًا وانفضاضًا من حوله ما رأوه من تردُّده في الاختيار وعدم بتِّه في الأمر، ونبذه كل فتاة عُرضت عليه بحججٍ مختلفة … على أنه لم يكن في الحقيقة متعنتًا ولا متعللًا، إنما هو ذهنه كان قد صوَّر له امرأة بملامحها وخصالها، وأوهمه أن تلك هي نصفه الذي لا يرضى به بديلًا … فهو لا يريد أن ينتقي إلا طبقًا للنموذج الموضوع في رأسه … وطال بحثه عبثًا وذهب جريه سُدى … فقعد ذات مساء يائسًا، ونظر إلى السماء قائلًا: «تعبت أيها القدر! … الكلمة لك أنت الآن … سأغمض عيني وأمدُّ يدي، فضَع فيها من تشاء!» وما جاء الصباح حتى أرسل في طلب الخاطبة أم شلبي، نعم … ولِمَ لا؟ … ما دام قد نزل عن نماذجه وصوره، وقنع بالنصيب المكتوب في اللوح، وأسلم قياده للقدر يخطُّ بيده ما يريد … فماذا يصنع غير ذلك؟ … أليست أم شلبي من عملاء القدر أو من أدواته؟ … من يدري؟ … لعلها هي الطباشيرة في إصبعه … إذ لا يمكن للقدر أن تكون له وسيلة أخرى يفرض بها في مثل هذا الأمر إرادته السماوية … وأقبلتْ تلك «الطباشيرة» فإذا هي امرأة ضخمة بدينة سمينة جسيمة كأنها فيل … وهل ينتظر أن يملأ يد القدر أو يليق بإصبعه حجم أقل من هذا الحجم؟! … وعرض المهندس الخاطب طِلْبته، ووصف لها على الإمكان بغيته … فمضت المرأة واختفت أيامًا ثم عادت ومعها سجل حافل بأسماء الأُسر، ومنديل كبير يضم عددًا من الصور الفوتوغرافية لفتياتٍ على كل طراز … فوقع في حيرة جديدة: كيف يتخيَّر وأيها يختار؟ … وحدَّثته الخاطبة فيما حدَّثت عن فتاة تصلح له … ولكن — يا خسارة — ! … تَقدَّم إليها خاطب طيب ليس من السهل رفضه … تصلح لي؟ … وأين صورتها؟ … وخُيِّل إلى المهندس في تلك اللحظة أن هذه الفتاة هي امرأته ونصفه وحلمه، وأن عليه أن يختطفها من منافسه اختطافًا … وأين صورتها؟ … فقالت الخاطبة إن أهلها رفضوا كلَّ الرفض أن يعطوها أية صورة لها … ولكنها جميلة وأي جمال … فتشبَّث المهندس بأذيال الخاطبة، وصاح: «لا بد من الصورة» … ففكرت مليًّا ثم نظرت إليه نظرة دهاء فمثلها لا يعجز عن الحيلة … لقد لمحت في بهو الدار صورة الفتاة معلقة على الحائط … فهي ستذهب إليهم لتخبرهم بأمره … ثم تغافلهم وتخطف الصورة المعلقة وتأتي بها إليه … نهضت من فورها، وذهبت وتركت المهندس فريسة ذلك الإحساس … إنها هي … إنها هي … لقد وجدها أخيرًا ما سر هذا الشعور؟ … أتراه الغموض الذي يشملها؟ … إنه لم يرها وينازعه فيها منذ الآن منازع … كيف هي؟ … وهل يفوز بها؟ … إنه واثق أن صورتها هي صورة المرأة التي بحث عنها … ولبث يفكر في ذلك طول مسائه … وتَقدَّم الليل وأراد أن يأوي إلى فراشه … ولكن النوم استعصى عليه فقام وأضاء المصباح الكهربائي الصغير فوق رأسه، وتناول كتابًا يهدِّئ من أعصابه الثائرة … وإذا نظره يقع على صفحة تحتوي قصة قديمة لرجلٍ من بلاد السِّند كان يبحث هو أيضًا عن زوجة أحلامه، فكان بحثًا ممضًّا على غير طائلٍ، فقال له قائل: «لا تيأس … ابحث عن الزوجة ولو في الصين، فلم يبطئ الرجل … وركب في الحال البحر إلى بلاد الصين فكُسِر المركب به وبمن معه في وسط البحر … فنجا مع بعض القوم على خشبة من خشب المركب، ووقعوا في مكان لا يدري أي مكان هو، فأقاموا فيه أيامًا لا يجدون قُوتًا حتى أشرفوا على الموت، فقال بعضهم لبعض: «تعالوا نُعاهد الله على أنفسنا أن ندع له شيئًا فلعلَّه يرحمنا ويُخلصنا من هذه الشدة.» فقال بعضهم: «أصوم في كل عام شهرين.»، وقال البعض: «أُصلِّي في كل ساعة ركعتين.»، وهكذا … إلى أن قال كلٌّ منهم شيئًا، والرجل طالب الزوجة ساكت فقالوا له: «قل شيئًا.»! … فحار ولم يجئ على لسانه إلا قوله: «لا آكل لحم فيل أبدًا!» … فصاحوا به: «الهزل في مثل هذه الحال؟!» … فأجابهم: «والله ما تعمدتُ الهزل، ولكني منذ بدأتم وأنا أعرض على نفسي شيئًا أدعه لله فلا يخطر على بالي غير الذي لفظت به.» … ومرَّت اللحظات بهم، فقال أحدهم: «لِمَ لا نطوف في هذه الأرض متفرقين بحثًا عن القوت، فمن وجد شيئًا أنذر به الباقين، والموعد هذه الشجرة؟» … فتفرَّقوا في الطرق، وإذا أحدهم يرجع بعد قليلٍ بولد فيل صغير، فلوَّح بعضهم لبعض فاجتمعوا … وأخذوا الفيل الصغير واحتالوا فيه حتى شووه وقعدوا يأكلون، وقالوا للباحث عن الزوجة: «تَقدَّم وكُل معنا»، فقال: «أنسيتم أني منذ ساعة تركته لله؟ … إني لن أرجع في شيء تركته لله أبدًا … ولو كان في ذلك موتي جوعًا.»، وأكل أصحابه بدونه، وأقبل الليل، فتفرَّقوا إلى مواضعهم التي كانوا فيها يبيتون … وأوى هو إلى أصل شجرة كان يبيت عندها، فلم يكن إلا لحظة، وإذا بفيلٍ عظيمٍ قد أقبل وهو ينعر والخلاء كله يندك بنعيره، وهو يطلب القو … فقال بعضهم: «قد حضر الأجل»، فاستسلموا وتشهَّدوا وأخذوا في الاستغفار والتسبيح، وطرحوا أنفسهم على وجوههم، فجعل الفيل يقصد واحدًا واحدًا. فيشمُّه من أول جسده إلى آخره فإذا لم يبقَ فيه موضع إلا شمَّه، شال إحدى قوائمه فوضعها عليه ففسخه ثم تركه كالعجين، وقصد آخر ففعل به مثل ما فعل بالأول … إلى أن لم يبقَ من القوم غير الباحث عن الزوجة، وهو جالس منتصب يُشاهد ما يجري ويستغفر ويُسبِّح، ويقول: قاتل الله ذلك الذي نصحني هذه النصيحة الشؤم، وأخرجني من بلادي في طلب …» ولم يتم كلامه … فإن الفيل لم يمهله وقصده للفور … فارتمى الرجل على ظهره مستقبلًا الموت، وجعل الفيل يشمُّه كما شمَّ أصحابه من قبل، ثم أعاد شمَّه مرتين أو أكثر، ولم يكن فَعل ذلك بأحدٍ من الآخرين، وروح الرجل في خلال ذلك تكاد تخرج فزعًا … ثم لفَّ خرطومه عليه فشاله في الهواء، فظنه الرجل يريد قتله بقتلة أخرى، فجهر بالاستغفار ولكن الفيل رفعه بخرطومه وأجلسه فوق ظهره، وانطلق به يهرول تارة، ويتهادى أخرى … إلى أن طلع الفجر واشتدَّ ضوءُه، فإذا الفيل قد أنزله عن ظهره، وتركه على الأرض أمام باب قصر فخم … ورجع إلى الطريق التي جاء منها … ولبث الرجل في موضعه لا يعقل ولا يعي من الفزع والجزع … ولم يثب إلى رشده إلا وهو داخل القصر … فانتبه إلى نفسه … فإذا هو في فراشٍ وثير وثياب جديدة وإلى جواره فتاة كالبدر هي ابنة صاحب الدار … طفقت تعنى به وهو ينظر إليها ويهمس قائلًا: «أَمِن الموت إلى الحياة … وأي حياة! … إنها هي … هي!» نعم … كانت هي ضالته التي تجشَّم من أجلها السفر والبحر والخطر … فقد تزوَّجها بعد ذلك وكانت نِعمَ الزوجة والخَدين والشريك.

وانتهى المهندس من مطالعة هذه القصة القديمة، وهو يقول لنفسه: أم شلبي … هذا الفيل الآدمي … من يدري … لعلها هي الأخرى تحملني غدًا إلى تلك الأسرة التي أجد في فتاتها ضالتي! … وطلع الصبح … وانتصف النهار … وجاءت الخاطبة تحمل في ملاءتها، صورة في إطار، أمسك بها المهندس متلهفًا وتَفرَّس فيها مليًّا … ثم طفق يقول كالمخاطب لنفسه: «نعم … لا بأس … حقيقة إني أردت امرأتي هكذا!» وسحبتْ أم شلبي الصورة من يده برفقٍ، قائلة له إنها ستقع في الحرج إذا تفقَّدوا الصورة قبل ردِّها … وأن عليها الآن أن تعود بها فورًا لتضعها في مكانها … وأن ما يجب عليه عمله منذ الساعة وقد راقته الفتاة أن يمضي قُدمًا إلى أهلها فيعرض طلبه، قبل أن يرتبطوا بالخاطب الآخر، وإذا شاء فإنها تُدبِّر له موعد المقابلة مع أبيها في أقرب وقت … فقال لها: «نعم … أسرِعي … الخير فيما اختاره الله.»

لم يمضِ يوم حتى عادت أم شلبي تلهث، وتدعوه إلى زيارة والد العروس، عصر ذلك اليوم، وتوصيه أن يكون حريصًا على الذهاب في الموعد المحدد بغير إبطاء ولا تأخير، فإن أهل الفتاة رفضوا بادئ الأمر الكلام في شأن أي خاطب جديد فهم قد رضوا عن الخاطب الأول، ولم يروا مبررًا لترك هذا الباب مفتوحًا بعد ذلك، ولكن الخاطبة بذلت أعظم الجهد في إقناعهم بمقابلة هذا المهندس الكفء، فمن يعلم أين النصيب؟ … وما ضرهم أن يأذنوا له في زيارة قصيرة، لقد احتالت وصنعت ما استطاعت لتفتح له ذلك الطريق المغلق، فلم يبقَ إلا أن يصنع هو ما يستطيع ليقنع والد البنت، وهو شيخ وقور متقاعد من رجال الجيش، دقيق في نظامه، صارم في أحكامه، فقال المهندس للخاطبة: «لا تخافي … في الساعة الخامسة بالضبط أكون هناك!» وقد برَّ بوعده، فما أزفت الرابعة والنصف حتى كان قد تهيَّأ وتجهَّز وارتدى خير ثيابه، ووقف أمام المرآة يضع منديله الحريري في جيب الصدر، وينظر إليه وقد تدلَّى وتهدل، فرأى أن يخفي بعضه ولا يُبرز غير طرفه، اعتدالًا في ادعاء الأناقة، واقتصادًا في إبداء الخيلاء، ورضي عن مظهره … فنزل إلى الطريق قاصدًا بيت العروس، وسار في الشارع وكل شيء فيه مبتهج فرِح، وقد غمر الاطمئنان قلبه فبدَّد حيرته، لقد انتقى له القدر شريكته، فلم يبقَ إلا أن يتقبَّلها منه شاكرًا، آه للإنسان! … ما أشدَّ عجزه! … هنالك مسائل لا يرتاح إلى حلها إلا إذا سقط عليه المفتاح من السماء! … وهنالك مواقف يواجه فيها الإنسان مفرق طرق، فلا يسعفه إلا دَفعة في ظهره من يد القدر نحو إحداها … كانت مثل هذه الخواطر تجول في ذهن المهندس وهو يواجه مفرق طرق «ميدان سليمان باشا» وإذا هو فجأة يحس دَفعة في ظهره شديدة قاصمة قد طرحته على الأرض، وإذا شيء كالعجلات يمرُّ فوق جسمه … وكان هذا مبلغ وعيه لكل ما حدث.

ليس يدري على التحقيق كم من الزمن مضى عليه وهو في إغمائه، لكنه عندما تنبَّه وجد نفسه على فرشٍ وثير في سرير مستشفى، وجسمه كله مغلَّف بالأربطة الصحية، وقد سمع من يهمس حوله قائلًا: «لا تتحرك» فحوَّل بصره جهة الصوت، فرأى طبيبًا وممرضًا وممرضة في ثيابهم البيضاء، وقد علم منهم أنه قد أُجريت له عملية «جراحية»، وأنه قد كُسِر له ضلع، وأنه في هذا المستشفى منذ أيام، وأن حالته كانت خطيرة بادئ الأمر، ولكن الخطر زال عنه الآن … وأنه سائر في طريق الشفاء … وأراد المريض أن يتكلم وأن يستفسر، فمنعه الطبيب من بذل أي حركة أو جهد … ولم يسمح له إلا بالرد المقتضب على أسئلة رجال الضبط الذين جاءوا لسماع أقواله في الحادث، وقد أجابهم بأنه لم يرَ شيئًا … لا السيارة التي صدمته ولا لونها ولا سائقها … فختموا محضر تحقيقهم وانصرفوا عنه، وتأمَّل هو حاله لحظة، واكتفى بالهمس في أعماق نفسه:

ضلع مكسور! … هذا كل ما وصلتُ إليه … أنا الآن كسر بحقٍّ … دون أن أظفر مع ذلك بالتي تُكملني!

ثم ذكر آخر يوم كان فيه صحيحًا … وكان سائرًا إلى بيت العروس … ترى ماذا تمَّ في هذا الأمر؟ … أترى الفتاة ما برحت من نصيبه؟ أم أن الخاطب الأول قد سبقه إليها، بينما هو طريح، كالجواد الذي سقط من ميدان السباق؟ كيف السبيل إلى معرفة النتيجة؟ لو استطاع على الأقل أن يبعث في طلب «أم شلبي» ليعلم منها … ولكن ما الحيلة في هذا الطبيب الذي يمنعه من الكلام والحركة؟ فليصبر يومًا آخر أو يومين … يا لسوء حظه إذا كان قد فقدها بسبب هذا الحادث! الويل للجاني الذي صدمه عند ذاك … إنه لن يغتفر له أبدًا … لا كسر ضلعه، بل تلك الطامة الأخرى، ضياع نصفه الآخر بعد أن عثر عليه.

وحانت منه التفاتة إلى ما حوله، فوجد ما أدهشه: باقات من الورد والأزهار الغالية في الآنيات، وقارورات فاخرات من ماء «الكلونيا»، وكُتبًا مُجلَّدة مُذهَّبة لقتل الوقت، وصناديق ثمينة مفعمة بالحلوى ومملوءة بالسجاير … وكل ما يمكن أن يُهدى إلى مريض مُعزَّز مُدلَّل … عجبًا! من هذا الذي يهتم بترفه كل هذا الاهتمام، ويعنى بشخصه كل هذه العناية؟! … وسأل طبيبه بإيماءة من عينه عمن أحضر كل هذه الهدايا … فلم يزد الطبيب على أن قال بسرعة وبلهجة من يقول شيئًا معروفًا للجميع: الست.

والتفت الطبيب إلى مرءوسيه يصدر إليهم الأوامر الأخيرة قبل انصرافه … وغادر الجميع الحجرة من فورهم، تاركين المريض مستغرقًا في الدهشة: «الست» … ومن هي هذه «الست»؟! وعادت الممرضة وفي يدها أنبوبة زجاجية وحُقنة، ملأتها ثم وخزت المريض بإبرتها … فانتظر حتى فرغت من عملها، فسألها أن تُحدِّثه قليلًا عن تلك «الست» … وكانت الممرضة ثرثارة … فتدفقت تصفها بأنها أجمل وأكرم سيدة رأتها.

وطفقت تُخبر المهندس المريض بطائفة من التفاصيل لم تزده إلا عجبًا واستغرابًا، فهذه «الست» الحسناء تأتي كل يوم لتسأل عن صحته … وهي في كل مرة تأتي بالأزهار الجميلة، وتضع النقود في أيدي ممرضيه بسخاء، وترجوهم أن يخصُّوه بكل عنايتهم، وأنها كانت في ساعات الخطر الأولى تسأل عن تطورات حالته في جوف الليل بالتليفون عدة مرات … وأنها حضرت «العملية الجراحية» منتظِرة في حجرة مجاورة كي تطمئن على عواقبها … وأنها أصرَّت على استدعاء «كونسولتو» من الأطباء قبل إجرائها لتزداد اطمئنانًا … وأنها دفعت نفقات كل ذلك من جيبها بدون تردد … بل الأعجب أن وجوده في هذا المستشفى في هذه الحجرة من الدرجة الأولى الممتازة بكل ما يلزم له من علاج وغذاء ورفاهية وترف هي التي تتولَّى نفقاته، وأن المال يسيل من بين أصابعها كالماء في هذا المستشفى من أجله … ولا هَمَّ لها ولا تفكير إلا في شيء واحد: «إنقاذ حياته بأي ثمن» … تلك هي كلمتها التي ترددها كل يوم وكلما جاءت … ولكل من تقابل من أطباء وممرضين … وختمت الممرضة حديثها قائلة ببساطة: طبعًا … زوجتك … طبيعي أنها تهتم بحالتك وتُضحي بكل شيء! إن شاء الله أُبشرها بالأخبار السارة عن قريب!

وخرجت من الحجرة مُسرعة، وتركته يقول كالمخبول: زوجتي؟!

وجعل يعالج حل هذا اللغز، إلى أن اهتدى إلى رأي شِبه معقول:

لعلَّ هذه «الست» التي يحسبونها هنا زوجته ليست في حقيقة الأمر سوى تلك الفتاة «العروس» التي كان ذاهبًا لخطبتها … ولعلَّها علمت بالحادث، وأثَّر في نفسها ما وقع له وهو في طريقه إليها … فحملها ذلك التأثر الشديد لهذا الإخلاص كله على العناية به … إذا كان ذلك حقًّا فهي إذن الشريكة المنشودة … نعم … ما أكرم نفسها! وما أسعده بمثلها! ثم لماذا تتحمَّل هي نفقات علاجه؟ أتراها اعتبرت نفسها زوجته منذ الآن، لمجرد أنه كان ذاهبًا يطلب يدها؟ … إذا كان هذا ما وقع في نفسها، فإنه ليقرها عليه … فهو أيضًا يعُدها زوجته من الآن … بل منذ اللحظة التي سقط فيها تحت السيارة من أجلها … يا لها من زوجة عزيزة … إن رسمها في رأسه الساعة مشوَّش مختلط … ولكنه مع ذلك يذكر بعض ملامحها التي شاهدها في الصورة ذات الإطار … لا بد له على أي حال أن يراها سريعًا، ليشكرها على الأقل … وانتظرَ حتى جاءت الممرضة، فقال لها: أريد أن أرى … زوجتي.

فأجابته الممرضة بأنها لم تحضر بعدُ، ووعدته بأن تُدخلها عليه توًّا عند حضورها … ولبث المريض يعد في انتظارها الدقائق ثم الساعات، ثم جاءه الليل، ثم مرَّ يوم وثلاثة وأربعة … دون أن يسمع من الممرضة سوى ألفاظ الدهشة والاستغراب … فهي أيضًا تعجب لاختفاء هذه السيدة الآن … بعد أن كانت تجيء المستشفى في اليوم مرتين … ووقع المهندس لا في الهم والغم وحدهما بل في الحيرة أيضًا والحرج … بماذا يُعلِّل للممرضة وللآخرين هذا التصرف العجيب من زوجته المزعومة؟ … فآثر الصمت أمامهم والإقلاع عن ذكرها … ولكنه ظل الأيام يحاول عبثًا أن يكشف لنفسه حقيقة هذا السر … إلى أن بدرت ذات يوم من الطبيب بادرة أنارت قليلًا هذا الأمر … فقد قال له وهو يفحص ضلعه المكسور: حالتك الآن على ما يرام … تستطيع الآن أن تضطجع على وسادة خلف ظهرك، وأن تتكلم كما تشاء … وأن تقرأ هذه الكتب والصحف والمجلات التي ترسلها لك الست.

فصاح المريض كالغريق الذي وجد خشبة: الست؟ أين الست؟

فقال الطبيب باسمًا: إنها الآن مطمئنة غاية الاطمئنان بعد أن أكدتُ لها منذ أسبوع زوال كل خطر.

– ولكني … أعني … هل حضرتْ؟

– لا … لقد قالت لي آخر مرة إنها لم تعد ترى ضرورة للحضور، ما دام الخطر قد زال … وإنها تكتفي الآن بالسؤال عن الحالة بالتليفون مرة كل يومين أو ثلاثة.

– هل أستطيع أن أُكلِّف أحدًا بطلبها بالتليفون؟

– بالتأكيد … أعطِ رقم التليفون للممرضة وهي تقوم بذلك في الحال إذا شئت.

– رقم تليفون «الست» معروف هنا طبعًا.

– لا أظن … إنها هي التي تطلبنا دائمًا … ومع ذلك ألا تعرف أنت الرقم؟

– آه … طبعًا … طبعًا.

وضحك ضحكة يخفي بها ورطته … وانصرف الطبيب، وتركه يتخبَّط في ظلام أكثف مما كان فيه … من هذه السيدة التي تعطف عليه كل هذا العطف وهو في الخطر، فإذا انقشعت غمته وتحسَّنت حالته، انصرفتْ عنه في غير اكتراثٍ كأنها لا تعرفه؟! ثم كيف يتصل بها الآن والمسالك دونها موصدة؟ ونادى الممرضة ورجا منها أن تبحث في إدارة المستشفى وفي كل مكان عن عنوان «الست» أو رقم تليفونها … موهمًا إياها أن زوجته هذه تتعمَّد إخفاء مكانها عنه، وتتكلَّف هذا التصرف معه، لأسباب خاصة، لكن الممرضة لم تعثر لهذه السيدة على عنوان معروف ولا على رقم تليفون … وكل ما يعلمونه في المستشفى أنها هي التي تحضر وهي التي تستفسر دون أن تترك خلفها أثرًا … ولم يجد المريض آخر الأمر غير وسيلة واحدة … ما كاد يهتدي إليها حتى صاح فرحًا كمن وجد الفرج … والتفت إلى الممرضة قائلًا: اسمعي! … أرجوكِ … إذا سألتْ عني «الست» بالتليفون في المرة القادمة، فأخبريها أنه قد حدثت لي نكسة، وأني لن أعيش أكثر من ساعتين!

فتردَّدت الممرضة … فأقنعها بورقة مالية دسَّها في كفِّها … فقبِلت المجازفة بهذه الأكذوبة لوقت محدود … ومضى يومان … وإذا الممرضة تدخل على المهندس مهرولة لاهثة وهي تقول: تكلمت.

– صحيح؟ … تكلمت؟

قالها وقد كاد قلبه يثب من جوفه … فأكدت له الممرضة أن «الست» تكلمت الساعة بالتليفون لتستفسر، فأجابتها بالرد المتفق عليه، فذعرت وألقت بالسماعة وهي قادمة بعد دقيقتين … فلم يدرِ المريض ما يصنع من الفرح … ومدَّ يده على غير وعي منه يلتمس زجاجة عطر الكلونيا ليتطيَّب … وهو يوصي الممرضة أن تُدخلها عليه للفور، وألا تنسى أنه يحتضر … وخرجت الممرضة تستقبل القادمة … ولم يمضِ قليل حتى سمع المريض صوت المرأتين يقترب … فأغلق عينيه نصف إغلاق، واستلقى بلا حراكٍ ومَثَّل دور من يموت. ودخلت «زوجته» المزعومة وتسمَّرت بالعتبة تنظر إليه شاحبة الوجه … فكاد ممثِّل الموت يموت حقًّا … مَن هذه المرأة؟ … إنها ليست صاحبة الصورة التي في الإطار! … هو الذي وطَّن النفس وأعدَّ الذهن لرؤية امرأة يعرفها … أو يعرف رسمها على الأقل؟ … ها هو ذا أمام امرأة جديدة لم يرها قط في حياته، ولا يدري عنها شيئًا … وانهار كل ما كان قد بناه في لحظة … فليست هذه المرأة بالعروس التي كان ذاهبًا لخطبتها … وليست هذه العناية وهذا الاهتمام وليد تلك الأسباب التي كان قد رتَّبها واستنبطها واستنتجها … هذه امرأة غريبة عليه وعلى ذهنه وفكره … لم يرها من غير شكٍّ في الماضي، ولم يصادفها في حقيقة أو خيال … فمن تكون؟ … ومن أين طلعت له … وما سر عنايتها به ولهفتها عليه … وقلقها في ساعات أزماته … وتكلفها جميع نفقاته؟ … هذا هو اللغز الذي فاق جميع ما عداه … ولكن هذه المرأة التي لم يعرفها ولم يرها … ما أجملها! … إنه تخيل فعلًا يومًا ما، نوعًا من الجمال تمنَّاه في امرأته … ولكنه لم يستطع تخيل حُسن كهذا … إنه لكثير عليه هذا الجمال، ثم ما أروع وجهها في هذا الشحوب … لقد شحب وجهها هكذا حزنًا عليه … أهو في يقظة حقًّا؟ … ثم ما هذا الذي يرى … يا للعجب! … إنها دمعة فضية تترقرق في عينيها الواسعتين كأنها قطرة ندى … ولم تتحمَّل الحسناء ألمها — فيما يبدو — أكثر من ذلك … فاندفعت خارجة من الحجرة، وهي تمسح دمعتها بأناملها القرمزية الأصداف، والممرضة في أثرها … ولم يبد المريض حركة ولم يلفظ همسة فقد أذهله ما رأى عن كل شيء. ولم يثب إلى رشده، وتستيقظ له إرادة، إلا بعد أن عادت إليه الممرضة وحدها راجية مُلحَّة في الرجاء أن يكفَّ عن هذه الأكذوبة، وأن يسمح لها أن تُخبر الحسناء بالحقيقة، قبل أن تتحرج الأمور، ويبلغ إدارة المستشفى الأمر، فتتعرض هي للمؤاخذة، ذلك أن «الست» تصرُّ على استشارة الأطباء، وبذل كل عطاء لإنقاذه من الموت، ولم تنتظر الممرضة رأيه أو جوابه … وأقبلت عليه تُعينه على الاستواء قليلًا … وتضع الوسادة خلف ظهره، وجذبت إحدى المجلات المصورة ودفعت بها إليه، وأعلنته أنها ذاهبة تُخبر «الست» بالحقيقة، وتعود بها لتراه وهو في حالته الحقيقية. وخرجت عنه وهو مضطجع كالطفل الذي لا إرادة له ولا عزم … المتقبِّل كل ما يجري له ويُفرض عليه … وأخذ يعبث بصفحات المجلة المصورة بعين زائغة وفكر شارد … وإذا بصره على الرغم منه يقع على صورة يعرفها … عجبًا! … إنها صورة للعروس التي رأى رسمها في الإطار … نعم … هي بعينها في ثياب العرس البيضاء، وإلى جانبها شاب في ثياب السهرة «الفراك» وتحت الصورة عبارة «قران بهيج» … لقد زُفَّت إذن إلى خاطبها الأول … حسنًا فعلت، إنه لا يأسف الآن عليها كثيرًا … وأرسل بصره إلى الباب نافد الصبر … مُعلق الأنفاس … وإذا الممرضة تدخل وهي تجذب الحسناء جذبًا رقيقًا إلى داخل الحجرة، وقدمتْ إليها مقعدًا بجوار السرير، وانصرفت في الحال … ومرَّ كل ذلك مرًّا خاطفًا، فلم يشعر المهندس بالحسناء إلا وهما منفردان وجهًا لوجه، ولم يكن من اليسير أن يجد أحدهما الكلام الذي يبدأ به … فوقعا أول الأمر في صمتٍ عميقٍ محرج … قطعته الجميلة قائلة، وكأنما تتنفَّس الصعداء: أُف! … الحمد لله على أنك بخيرٍ! … لقد كاد يغمى عليَّ الساعة عندما حسبتك تموت!

فرنَا إليها وإلى فمها وهي تنطق هذه الكلمات، وكأنه لا يصدق أن هذا القول موجه إليه … ثم تمالك قليلًا وقال لها: حياتي شيء مهم عندك؟

– جدًّا.

– لا يوجد غير تعليل واحد لكل هذا، إني مت حقيقة وانتقلت إلى جنة الخلد، وما أنتِ إلا حورية مكلَّفة بملاطفتي … ولكن … أين الشجر والثمر والكوثر … ولماذا هذا السرير والممرضة والمستشفى!

– لا … أنت من حُسن الحظ حي … لأنك لو كنت مت ودخلت جنة الخلد، كنت أنا دخلت السجن …

– السجن؟ … وما المناسبة؟!

– آن الأوان أن أعترف لك يا سيدي بجريمتي … أنا التي صدمتك بسيارتي … وإني بالطبع متأسفة جدًّا … ولكنه القدر … أقوى منَّا ومن إرادتنا وتدبيرنا … كنتُ مسرعة وهذا خطأ مني ولا شك … ولكني كنت مدفوعة برغبتي في شراء ثوب حريري رأيته في الصباح، وخفت أن تسبقني إلى شرائه أخرى … وعندما مرَّت العجلات على جسدك … لم أقف ومضيت في السير بعين السرعة … لا عن قسوة مني ونقص في المروءة … بل عن خوف شديد استحوذ عليَّ … لقد هربتُ من جسدك الملقى على الأرض كمن يهرب من شبح … وعُدت توًّا إلى بيتنا غائبة العقل … ورأتني والدتي فهالها اضطرابي، وقصصت عليها ما حدث، فنصحتني أن أخبر والدي بكل شيء … وهو من رجال القضاء … فلما سمع والدي القصة حار هو الآخر فيما ينبغي عمله … فإن التبليغ عن هذا الحادث معناه التعرُّض للمحكمة إذا مات المصاب، كما قال لي، وإذا لم نُبلِّغ فإننا نتحمَّل تقريع الضمير طول حياتنا، وإن كرامته كقاضٍ تمنعه من أن ينصح أحدًا ولو كان ابنته بالهرب من العدالة … وإن حنانه كأب يمنعه كذلك من أن يدفع بابنته الوحيدة إلى السجن … وانتهى به التفكير إلى أن ترك لي حرية التصرف … بعد أن أفهمني كل النتائج المحتمَلة لهذا الفعل … وجعل يُعنِّفني على جنوني في سرعة القيادة … ونصحني أخيرًا أن أتتبع حال المصاب على الأقل، وأن أعمل على علاجه وإنقاذه … فإنه إذا شُفي لن يقع عليَّ من العقاب أكثر من غرامة مالية، ولهذا بادرت أسأل أقسام البوليس عن المصاب في حادث السيارة عصر ذلك اليوم في ميدان سليمان باشا … إلى أن اهتديت إليك.

وأصغى المهندس إلى حديثها، وكأنه يهبط رويدًا رويدًا من السحاب حتى لاصق التراب … وما فرغت روايتها … حتى نظر إليها قائلًا: يا لكِ من مجرمة أثيمة! … كسرتِ ضلعي، وأضعتِ خطيبتي، وبددتِ أحلامي! … وكل هذا لن تُعاقبي عليه بأكثر من غرامة مالية!

– لأنك شُفيت والحمد لله!

– أنا شُفيت! … وما قيمة شفائي؟ … إن موتي الآن خير من حياتي … أَكل هذا العطف الذي نلته منكم … وهذه الدمعة التي سقطت من عينيكِ، وهذا الشحوب الذي بدا عليكِ لم يكن من أجلي ولا خوفًا عليَّ، بل خوفًا على نفسك من الحبس؟!

اسمعي أيتها الآنسة … أو الست … أو الزوجة المزعومة …

– الزوجة؟

– طبعًا … وماذا تريدين أن يكون ظنهم هنا بسيدة مثلك تعنى هذه العناية برجلٍ مثلي؟ … لقد خطرَ في بالهم بالضرورة أنكِ زوجتي «ولم يخطر في بالهم أنكِ قاتلتي!»

– لا تقل إني قاتلتك … فها أنت ذا الآن في صحة جيدة.

– كم كنت أتمنى أن أموت لتدخلي أنتِ الحبس.

– إلى هذا الحد تبغضني؟

– هل أبلغتِ الحكومة أنكِ أنتِ الجانية؟

– لم أُبلغ بعدُ … لقد رأيت أن أنتظر حتى تُشفى.

– وإذا كنت مت؟

– كنت ذهبت وقدمت نفسي للبوليس.

– أأنتِ واثقة أن القضاء كان يحكم بحبسك في حالة وفاتي من الحادث؟

– كان ذلك مُرجحًا لأني من أرباب السوابق.

– أنتِ؟ … من أرباب السوابق؟!

– نعم … في حادث السيارات … سبق لي أن صدمت حمارًا محمَّلًا بالحطب في طريق عزبتنا في صيف العام الماضي، ومنذ ستة أشهر صدمت حمارًا آخر يحمل قصبًا في سكة الهرم.

– حضرتِك إخصائية في صدم الحمير؟!

فنظرت إليه وهو مغلَّف في أربطته الصحية … وضحكت ولم يفطن هو إلى «النكتة»، ومضى يقول: أيتها الجانية … أنا بصفتي المجني عليه، لا بد أن يُسمَع رأيي في جريمتك … هل تريدين حكمي، أو حكم المحكمة؟

– حُكمك …

– حكمت عليكِ بالحبس.

– تريد حبسي؟!

– في أحضان الزوجية.

فنظرت إليه وابتسمت ابتسامة المحكوم عليه الذي رضي بالحكم ولن يستأنفه أو يُناقض فيه.

•••

مضى عام على زواجهما، فأدرك المهندس أن «القدر» حقًّا قد عرف كيف يهديه إلى «طبقه» وشطره ونصفه وزوجته المثلى … وقد آمن أن للقدر من الوسائل أحيانًا ما لا يخطر على بال البشر … وهل كان مثله يتصور أنه سيلقى شريكته يومًا بهذه الطريقة؟! … إن كلمة «النصيب» التي يذكرها الناس دائمًا في بساطة ليست إلا مظهرًا من مظاهر فن «القدر» العجيب في تدبير مصائر الآدميين.

واحتفلا في المساء بمرور العام على ذلك الزواج، فهمس في أُذن زوجته قائلًا: كان لا بد لحواء أن تأخذ من آدم ضلعًا حتى توجد، وكان لا بد لكِ من أن تكسري لي ضلعًا حتى أجدكِ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤