كليوباترا وماك

من أسرار الحرب الأخيرة التي لم يُكشَف بعدُ عنها النقاب ما أرويه الآن … وما من صحيفة في العالم نشرت هذه القصة العربية، التي قد تصدم منطق الإنسان في القرن العشرين … ولكن هذا لا يمنع من أنها وقعت بالفعل … وأرجو ألا يُسائلني سائل عن مصدر علمي بها … فهذا ما أقسمت ألَّا أبوح به لأحدٍ.

كان ذلك في عام ١٩٤٤م، في جزيرة ما بالمحيط الباسيفيكي اتخذها الجنرال «ماك آرثر» مَقرًّا لقيادته في حربه ضد اليابان بعد أن اضطر إلى الجلاء عن الفلبين.

كان المساء جميلًا … والشفق ما زال يدمي على صفحة سماء بيضاء كرداء العروس، والنسيم يهب رقيقًا من البحر الهادئ النائم.

وكان «ماك آرثر» جالسًا في شُرفة مقرِّه بمفرده، وقد غرق في مقعدٍ من القماش كمقاعد الشواطئ، وأرسل رأسه إلى الوراء على المسند وراح في شبه إغفاءة … تحت وقر التعب والإجهاد، وثقل الأعباء والتبعات.

لم ينم طويلًا … فقد استيقظ فجأة على صوت مجاديف تمس الماء كما يمس المرود الجفن، وموسيقى تحملها الريح، وعطور تتضوع في الهواء … ففتح عينيه، فإذا هو أمام منظر عجيب: سفينة من سفن العصور القديمة، تتهادى فوق الأمواج مقتربة … مؤخرتها من الذهب، وشراعها من الأرجوان، ومجاديفها من الفضة، تتحرك على نغم المزامير … وفي مقصورتها امرأة مستلقية على الحرير كأنها إلهة، يُحرق بين يديها بخور وينتشر عبير، يلعب بالرءوس، ويسحر النفوس.

نزلت تلك المرأة من السفينة، ومشت وكأنها تخطر في الهواء … نحو مركز القيادة، وهي تقول: «مارك أنطوني»!

ففرك الجنرال الأمريكي عينيه وهو يقول: أنا «ماك آرثر»!

– نعم … أقصد «ماك آرثر» … إليك جئت، وأنت الذي أريد …

– من أنتِ؟

– أنا كليوباترا.

ففحصها القائد بنظره مليًّا … وتأمَّل ثيابها ودمقسها ودمالجها ولآلئها … ثم التفت إلى سفينتها العجيبة، وهزَّ رأسه باسمًا، وقال: فهمت، فهمت … إنما الذي أعجب له هو: كيف استطاعت هوليوود أن تعمل في هذه المنطقة الحربية بدون علمي؟ … وكيف حصلت على إذن في ارتياد هذه المياه الممنوعة لإخراج الأفلام التاريخية؟ … وما هي السلطات المختصة التي يمكن أن تتحمَّل هذه المسئولية دون الالتجاء إلى رأيي؟! … هذه مسألة خطيرة يا سيدتي، لا يحسن الإغضاء عنها.

ونهض، وعلى محياه جدٌّ وصرامة … وأراد دخول مكتبه ليتحرى الأمر فاعترضته الزائرة العظيمة، ووقفت بجلالها الملكي، وقالت بصوتها الملائكي: قُلت لك أنا كليوباترا، ملكة مصر … جئت إليك من العالم الآخر … ولعلها أول مرة يحدث فيها ذلك، منذ عرف الناس الحياة وعرفوا الموت … إن عصركم اليوم عصر تقع فيه أعاجيب، ولكن الأعجوبة الكبرى هي تمكُّني من العود إلى الدنيا … كيف تمكَّنتُ؟ … هذا ما لا شأن لك ولا لي به … وأنا لم أحضر لأُطلعك على أسرار الموت والحياة … ولكني أريد أن تصدقني … فلأقل لك إذن ببساطة كيف تم هذا، بطريقتكم ولغتكم التي تفهمونها: إننا بعد موتنا نتلاشى روحًا وجسدًا كذرات في الفضاء … على أن المتعذر دائمًا هو جمع هذه الذرات، من الكون مرة أخرى في عين الجسد وعين الروح … لقد استطعتم بجهاز الراديو أن تجمعوا من الفضاء أصواتًا وتنقلوا صورًا … ولكن أين للموتى ذلك الجهاز الذي يجمع ذراتهم المتناثرة، في كيانهم القديم وصورهم الغابرة؟ … لا بد أن توجد قوة هائلة تجذب هذه الذرات وتجمعها … لقد حدثت هذه المعجزة فيما يختص بي … لقد كنت أنت هذا الجهاز، أو هذه القوة التي جذبتني، بدون أن تشعر أنت أو تعي، إنك لا تدرك أي شبه بينك وبين حبيبي السابق «مارك أنطوني»!

قالت ذلك، و«ماك آرثر» يصغي إليها مشدوهًا … لكأن إرادته قد فارقته … يدرك هذا من قرأ «بلوتارك» المؤرخ اليوناني حين وصف كليوباترا … إنها — على حد قوله — لم تكن في الجمال بالغة ما لم يَبلغه غيرها من الجميلات، ملاحة وجهها لم تكن وحدها مبعث فتنتها التاريخية، إنما هو حديثها الذي كان يَنفذ في القلوب كالشوكة … كان صوتها هو العذوبة، ولسانها قيثارة متعددة الأوتار … تعالجها برشاقة وتمسها بلباقة، في مختلف اللغات واللهجات … إن مقاومة سِحر حديث كليوباترا كان هو المستحيل …

وهمسَ القائد الأمريكي كالمخاطب نفسه: مارك أنطوني!

– نعم … ما أعجب الشبه بينك وبينه! … في وجهه وأنفه وقوامه … ومشيته! … بل ما أشبه دولتك بدولته … لقد كان الرومان فاتحي العالم بالسيف، واليوم الأمريكان هم فاتحو العالم بالدولار … كان للرومان مجلس شيوخ و«قيصر»، وللأمريكان مجلس شيوخ و«روزفلت».

•••

من اللغو أن نطيل … فمن البديهي أن نقول: إن «ماك آرثر» وقع في حب «كليوباترا» … وهل دنا منها أحد دون أن يسقط في أتون غرامها؟ … ومنذ ذلك المساء وهما لا يفترقان … كانت معه كما كانت مع «مارك أنطوني» في أول حبهما … لقد قيل إنها والقائد الروماني كانا متلازمين الليل والنهار … كانا معًا يهيمان في الطرقات أحيانًا يمرحان ويلهوان … هي متخفية في زي وصيفة، وهو في زي وصيف … أما اليوم فإنها تلازم القائد الأمريكي في زي «ضابطة» من المجندات، وقد أُلحِقت بمكتبه … وهو وضع طبيعي … وهل يثير التفات أحد أن يكون للجنرال الأمريكي «سكرتيرة» مجندة في ردائها العسكري؟

لم يكن شيء يعكر صفو حبهما غير شبح … هو دائمًا عين الشبح: الزوجة.

فيما مضى كانت هي «فولفيا» زوجة «مارك أنطوني» التي هجرها في إيطاليا … واليوم هي مسز «ماك آرثر» التي تركها في أمريكا …

يا له حقًّا من تشابه عجيب!

كلاهما زوج وأب، بعيد عن بلاده … وكلاهما يُحزن كليوباترا ويزعجها كلما فكر في العودة إلى امرأته وأولاده … ولم تلبث مخاوفها أن تحققت … فها هي ذي المعركة الانتخابية تقوم في أمريكا لاختيار «الرئيس» ورُشِّح «روزفلت» للمرة الرابعة … ولكن نفرًا من جهة أخرى يرشحون أمامه «ماك آرثر».

هنا نهضت «كليوباترا» تدرأ عن حبها الخطر، فاستعانت بقوة سحرها ونفاذ فتنتها لتصرف «القائد الأمريكي» عن هذه الفكرة، كما صرفت من قبل «القائد الروماني» عن الذهاب لمحاربة قيصر …

لعل هذا هو السر الحقيقي في انسحاب «ماك آرثر» من معركة الانتخابات الأمريكية!

وهكذا ظفرت «كليوباترا» باستبقاء حبيبها إلى جانبها، وأقصته عن زوجته ووطنه وذويه.

على أنها كانت هذه المرة ذات فأل حسن وأثر طيب على القائد الأمريكي … فقد حفزه قُربها وألهبه، فتوالت انتصاراته … وصار يثب من جزيرة إلى جزيرة خلف اليابانيين … يطردهم منها ويستولي عليها … وهو لا يرهب شيئًا إلا أن يبدو مندحرًا أمام «كليوباترا» … حتى تم له الفوز الأخير … واستسلمت اليابان … ودخل «ماك آرثر» طوكيو دخول الفاتحين.

ومرَّت أيام لم يرَ القائد أجمل منها … وفي ذات عصر، وقفت «كليوباترا» بجواره وأرسلت بصرها إلى البحر، وقالت: أتدري يا «مارك» أقصد يا «ماك» … ما الذي يجول في خاطري؟

– ماذا يا «كليو»؟

– أتذكر يوم جئت إليك تحملني تلك السفينة الجميلة؟ … لقد كانت هي عين السفينة التي ذهبت فيها إلى «مارك» في «طوروس» وقد استدعاني لأُقدم حسابًا عمَّا نسبوه إليَّ من معاونتي لأعدائه … ولقد أَحبَّ أحدنا الآخر بعدئذٍ … ولكن برغم ذلك … أي إذلال وهوان أن يُستدعى رأس متوَّج ليمثل أمام قائد منتصر!

ما قولك يا «ماك» لو استدعيت إمبراطور اليابان ليمثل بين يديك؟

فأجفل «ماك آرثر» قليلًا لهذه الفكرة … إنه لا يجهل خطورة الإقدام على هذا العمل الجريء … إن «الميكادو» شبه إله في قومه.

ونظر إلى حبيبته مترددًا متوجسًا … ولكنها استقبلت عينيه بنظرة منها أسكرته … فأحسَّ قوة تدب في قلبه دبيب الخمر … وقال: سأفعل! … سأفعل يا كليو!

ولم تمضِ أيام حتى كان الإمبراطور بقبعته العالية الرسمية السوداء، ماثلًا أمام «ماك آرثر» في مقر قيادته وهو بقميصه الكاكي …

واهتز العالم لهذا الحادث!

واستمرت بعد ذلك اللحظات السعيدة يرتع في ظلِّها الحبيبان، ويضحكان ويلعبان.

وخرجا ذات يوم للصيد في خليج طوكيو … وكان النهار يولي و«ماك آرثر» لم يظفر بسمكة … وخجِل من الهزيمة أمام حبيبته العظيمة، فغافلها واتفق مع أحد الصيادين الحاضرين، على أن يغوص في الماء ويضع في سِنارته سمكة من صيده الطازج، ونفذ الاتفاق، وجذب القائد سنارته، فإذا بها سمكة كبيرة، أراها لحبيبته مزهوًّا … ولكن كليوباترا لم تكن بالغافلة … وأعدَّت للغد عدَّتها … واتفقت هي الأخرى مع الصياد سِرًّا … فلما جاء الغد، وضع «ماك» سنارته في الماء إلى أن شعر بثقلها فجذبها … فإذا بها: سردينة كبيرة مملحة مما يُباع في صناديق البقالين …

ارتفعت عندئذٍ قهقهة الحاضرين … وكاد القائد الأمريكي يغضب، لولا قول كليوباترا البارع اللبق: أيها القائد الظافر! … ما لك وصيد السمك؟ … اتركه لنا نحن العاديين والعاديات! … أما أنت فصيدك الجُزر والمدن والملوك والإمبراطوريات!

ما من أكليل غار يعدل هذا الإطراء من فم «كليوباترا»!

عند ذاك ألقى «ماك» بعصا صيده، وأقبَل عليها وقلبه يقطر حبًّا، وهو يهمس: يا عزيزتي كليو!

•••

لكن الحب شديد النهم … إنه يأكل كل شيء حتى نفسه، إنه لا يقنع أبدًا … ولا يعرف نهاية ولا حدًّا. لقد جعل «ماك آرثر» همَّه الأكبر بعدئذٍ مطالعة كتب المؤرخين، اليونان واللَّاتين، الذين كتبوا عن كليوباترا … وخرج من هذه القراءة بقلبٍ نهشته الغيرة … لقد تبيَّن له أن أكثر كلمات حبيبته التي تُناجيه بها وتخلب لُبَّه، سبق أن قالتها بنصِّها ولفْظِها لمارك أنطوني!

ودخلت «كليوباترا» عليه يومًا، فأبصرت في يده كتاب «بلوتارك» مفتوحًا على فصل يصف أخبارها … ففهمت لساعتها ما يجيش في صدر حبيبها المقطب الجبين، فابتدرته قائلة: أرجوك ألا تصدق ما يهرف به هؤلاء المؤرخون!

– كيف لا أصدق والعبارات التي أوردوها هي عين عباراتك التي أسمعها اليوم من شفتيك؟

– اسمع يا مارك.

– من فضلِك … أنا اسمي ماك … ماك … إلى متى تظلين تخلطين بيني وبين الآخر؟

– ثق أني لا أخلط … وإنما لساني يغلط … هذا طبيعي، أوَلا تريد للساني أن يُخطئ وهو الذي تعوَّد ذلك الاسم منذ عشرين قرنًا؟!

– إياكِ بعد الآن أن تمزجي بيننا … تذكَّري دائمًا أنكِ رأيته مندحرًا … أما أنا فإنك رأيتني منتصرًا.

– نعم … لقد كان حبي له شؤمًا عليه … أما حبي لك، فكما ترى، سعيد الطالع … ولولاي لما انتصرت … يجدر بك أنت أن تذكر دائمًا أني عدت إلى الحياة من أجلك … هذا ما لم يحدث لبشرٍ غيرك!

سكن عندئذٍ ثائر القائد الأمريكي واستقرَّت نفسه … ومضت أيام وهو هادئ مطمئن راضٍ عن حبه … ولكن الحب لا يرضى ولا يطمئن … لأنه إذا فعل ذلك نام، وهو كالقلب إذا نام مات.

ورنَّت في رأس «ماك آرثر» عبارتها الأخيرة: «هذا ما لم يحدث لبشرٍ غيرك»! … فردَّد مخاطبًا نفسه ذات ليلة: حقيقة … هذا ما لم يحدث من قبل … هذا هو المجد الذي لم يَبلغه بشر … كليوباترا تعود إلى الحياة من أجلي! … ولكن مَنْ يعلم ذلك حتى الآن؟ … لا أحد سواي … وما قيمة ذلك إذن؟ … تُرى ماذا يحدث لو أُذيع هذا الخبر العجيب، ونُشِر في صحف الدنيا: «كليوباترا بُعِثت لماك آرثر»!

تلك هي المعجزة التي تتضاءل بالقياس إليها ألف أعجوبة مثل القنبلة الذرية!

وتملَّكته هذه الفكرة، واستحوذت عليه الليالي الطوال … لا بد أن يُكشف أمر كليوباترا للعالم المتحضر … ولم يتمالك؛ ففاتحها برغبته قائلًا: اسمعي يا كليو!

– إني مُصغية يا ماك.

– أخبريني … هل فكرتِ في المستقبل … أعني في مستقبلك؟

– مستقبلي؟!

– نعم … أتظلين هكذا دائمًا ضابطة مجندة في غمار المجندات لا يدري بكِ أحد؟ … أنتِ أجمل وأشهر ملكات التاريخ … تهبطين الدنيا ولا تشعر بكِ الدنيا؟ … تصوري، لو أُذيع أمر وجودك، أي أقواس نصر تُقام لكِ في كل مكان، وأنا بجوارك فخور بكِ … إنهم في أمريكا يحسدون من يقترن بإحدى النبيلات، فماذا هم قائلون يوم يرون «ماك آرثر» وفي ذراعه «كليوباترا» أبهى الملكات وألمع المُتوَّجات!

– أيها الأمريكي، أهذا هو الذي يشغل بالك الآن؟ … أهذا هو مصير حُبنا؟ … تريد أن تستخدمه أداة إعلان؟

– بل أريد أن يُكرمك هذا العصر.

– يُكرمني؟ … أتدري كيف سيكون تكريمي؟ … إني أعرف ما ينتظرني في بلدك … سأكون ملهاة للسياح، يأتون لمشاهدتي من أطراف الأرض، ومادة للصحفيين والمراسلين لا تنضب، وموضوعًا للنساء في الصالونات والحفلات والمسارح والسباق، يثِرن الإشاعات حولي، وينهشن بألسنتهن لحمي، ويتضاحكن ويتغامزن قائلات: «أهذه هي التي قال التاريخ إنها فتنت القواد والقياصرة؟ … ماذا فيها من حُسن وسِحر وإغراء يثير الرجال؟!»

– بل ثقي أنكِ ستكونين أعظم امرأة في زماننا هذا.

– أعظم امرأة ثروة … هذا محتمل جدًّا، محتمل جدًّا فإن … شركات الأزياء الكبرى في أمريكا ستتزاحم عارضة عليَّ أبهظ الأجور لأُروِّج لها أثوابها … وشركات الزينة والجوارب، والعطور، والصابون، وكبار الحلاقين، ودور النشر، والمصورين ورجال الصناعة والمال والأعمال … إلخ. ولا تنس شركات هوليوود السينمائية … فمن المؤكد أنها ستتهافت طالبة إليَّ القيام بدور «كليوباترا» في نظير مبلغ لم يُدفَع قطُّ لإنسان، وقل مثل ذلك عن مسارح برودواي الشهيرة، ومن يدري ما ستعرض عليَّ أيضًا من عمل ومن مال.

– طبيعي جدًّا أن يكون لكِ مال كثير وثروة ضخمة، لتقتني الجواهر والنفائس، وتملكي في كل قارة أكثر من قصرٍ، وفي كل بحر أكثر من يخت، وتعيشي حياة الترف الخليقة بكِ وباسمك العظيم!

– اسمي العظيم … حقًّا سيكون كذلك يوم أراه منقوشًا بتوقيعي الكريم على كل علبة بودرة وكل زجاجة كلونيا وأحمر شفاه، وصبغة أظافر! … هذا هو عصرك وبلدك … وهذا هو حبك … وهذا هو كل مستقبلي!

وقامت غاضبة، وفي عينيها دمعة، أخفتها بإصبعها، وانصرفت مُسرعة، فنهض «ماك» خلفها وهو يصيح بها: كليو … كليو … إني أمزح!

– لا … أنتَ لا تمزح … إني أقرأ ما في أعماق نفسك … إنك لن تستطيع طويلًا أن تقنع بحبي لك في زي ضابطة … أنت تريد أن أُحبك أمام الدنيا في ثياب «كليوباترا» وإن صبرت اليوم فلن تصبر غدًا … إني أعرف غروركم!

– لن أُقدِم أبدًا على أمرٍ يغضبك.

وبرق عندئذٍ في رأسها خاطرٌ، فقالت: ومع ذلك … فقد فاتنا شيء خطير … ليس في مقدورك أن تكشف أمري … إن ذلك يُعرِّضك لكارثة:

هَبْ أنك أقدمت وأعلنت حقيقتي للناس … أتعلم ما الذي يحدث؟

– ماذا؟

– يحدث لك ما حدث لكل من أعلن مثل هذا الأمر من قبلك: لن يُصدقك الناس … فإذا أصررت وماريت وجادلت قادوك بكل بساطة إلى مستشفى المجاذيب.

– ماذا تقولين؟

– أقول الحقيقة … لقد كذبت عليك يوم قلت إن ظهوري لك لم يحدث مثله من قبل لبشر … الواقع أن كثيرين من الموتى يظهرون للأحياء … وأن كثيرين من الأحياء يعيشون ويختلطون بالموتى … إن الحاجز بين العالمين غير موجود … إنه حاجز وهمي، وهو العقل الذي يسدل ذلك الستار بين هذين العالمين … ولكن من الناس من يخرج أحيانًا على سلطان العقل، فيرفع في الحال الستر لنفوسهم ويبصرون ما وراءه ويمتزجون بمن خلفه … فإذا احتفظوا بهذا السر لأنفسهم سلموا … أما إذا باحوا به فقد اتُّهموا بالجنون … ثِق أن كثيرين قد ظهرت لهم «حتشبسوت» و«نفرتيتي» و«سميراميس» كما ظهرتُ أنا لك … وعاشوا متحابين آمنين ما بقي السر مكتومًا … أما الذين فقدوا ضبط أعصابهم فأعلنوا ذلك للناس، فهم أولئك الذين تراهم يعمرون مصحات الأمراض العصبية والعقلية.

– ما أظلم الناس!

– بل ما أظلم العقل! … هو الحاكم المسيطر في حياة البشر، الذي يحجب عنهم نصف الوجود، فمن جرؤ ونزعه ليرى خارجه … لم يقل الناس إنه تحرَّر، بل قالوا إنه مرِضَ … ذلك أن هذا الحاكم الجبار — ككل طاغية — لا يُسمي الخارج عليه متحررًا، بل يسميه مريضًا يستحق العلاج والحبس.

– من حُسن الحظ أن أمريكا بلد الحرية، ونحن فيها نكره الطغاة والمسيطرين … وإنكِ سترين للحرية تمثالًا عظيمًا عند مدخل نيويورك … فاطمئني يا كليو، ولا تخافي شيئًا.

– حقًّا … إنها لحرية في تمثال، ولا أكثر من تمثال!

ستبوح للناس إذن؟

– لا … لا … لم أقل ذلك.

إذا وافقت أنت … ومن يدري؟ … قد توافقين يومًا.

– سترى إذن ما أصنع.

•••

مرَّت أسابيع … وإذا صحفي ذو شأن يأتي من نيويورك ليجري حديثًا مع «ماك آرثر» …

وطالعت «كليوباترا» في وجه القائد الأمريكي ما رابها وأثار قلقها … وأدركت أنه قد لا يستشيرها، ورجحت أن لسانه سينطلق … وأنه قد يضعها أمام الأمر الواقع وجهًا لوجه … ويقدمها للصحفي قائلًا: «الملكة كليوباترا» أو «مسز كليوباترا»!

لم تطق هذه الفكرة … وأسرعت من فورها تبحث عن ثعبان …

لقد جرَّبت الموت من عضته … إنه لا يُحدِث تشنجًا ولا تمزقًا، بل يغرق الإنسان في شبه نعاس هادئ يتمنى من يقع فيه ألا يصحو منه … إلى أن تضعف حواسه ويموت موتًا لذيذًا …

غير أنها ذكرت وقتئذٍ أن «الأسبرين» يحدث اليوم عين الأثر … فاضطجعت على فراشها وهي بملابس الضابطة … فابتلعت أنبوبتين.

وعَلِم «ماك» بالحادث … فدخل عليها مُسرعًا، فوجدها في النزع الأخير … وانحنى عليها متفجعًا، وهمس في أُذنها: كليو … كليو … ماذا صنعتِ؟!

فقالت وهي تحتضر: هل أخبرت الصحفي؟

– كلا يا كليو.

– ماك … احفظ سري في قلبك وحده!

وأسلمت الروح … للمرة الثانية … وربما للمرة الثالثة أو العاشرة … أو المائة … لا أحد يدري.

ظلَّ هذا السر مكتومًا بالفعل زمنًا … إلى أن مَرِض «ماك آرثر» بحمى خفيفة، فجعل يهذي في الليل، ويقول للممرضة القائمة على فراشه: كليو … كليو … هل عُدتِ إلى الحياة مرة أخرى من أجلي؟!

وحار جميع من حوله في أمر «كليو» هذه … فهم لم يسمعوا «الجنرال» يلفظ هذا الاسم أمامهم من قبل …

وتساءلوا من تكون؟ … أتراها تلك الضابطة «مسز كليتون» سكرتيرته التي أمضها الأرق، فماتت منتحرة بالأسبرين؟!

هكذا قال من أخذ الأمور بظواهرها … أما الحقيقة التي لم تُنشر حتى الآن، فهي التي رُويت هنا بحذافيرها … ولمن يرتاب أن يلجأ إلى الجنرال «ماك آرثر» نفسه … وهو لن يستطيع أن ينفي الوقعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤