تقديم الكتاب

ثلاثمائة مليون من المسلمين أو يزيدون تهفو قلوبهم جميعًا إلى منزل الوحي، ويهزهم الحنين إليه، يولُّون وجوههم شَطره خمس مرات كل يوم أينما أقاموا الصلاة، وإلى البيت العتيق تهوي أفئدتهم رغبة في أداء فريضة الحج، وإلى قبر الرسول النبي العربي يحثهم الشوق ابتغاء زيارته، ومنهم من يَوَدُّ لو يقف عند كل مكان وقف فيه الرسول ليتمتع ما وسعه المتاع بما توحيه هذه المواقف من جلالٍ روحي خُلُقي وإنساني يأخذ بمجامع النفس، ومنهم من يدعوه تطلُّعه العلمي إلى البحث عن أسرار هذه البيئة العربية التي اختارها القدر، فجعل منها منزل الوحي بالتوحيد إلى محمد عبد الله ورسوله في أكثر صور التوحيد سُمُوًّا وصفاءً: ماذا كانت قبل الرسالة؟ وكيف كانت حياة الرسول؟ وإلام صارت على توالي العصور؟

بلاد ذلك مبلغها من عناية العالم بها جديرة بأن تتعلق بها أفئدة الكُتَّاب والشعراء والمؤرخين والعلماء، تتلمس أسرارها وتستلهم من روحها، وهي لا ريب قد استوقفت منهم كثيرين من أهل الأمم المختلفة، بل لقد استوقفت كثيرين من غير المسلمين في مختلف العصور وفي عصرنا الحاضر، على أن ما تحتفظ به من تراث دائم الجِدَّة، بالغ غاية الدقة في تشعُّبه خلال التاريخ واتصاله بأرجاء العالم المختلفة، قد حال بين طائفة من الأدباء والشعراء والباحثين وبين التنقيب في كنوز هذا التراث، وذلك لما لها في نفوس الباحثين المسلمين من قداسة روحية تصدهم عن الغوص فيها إلى غاية أعماقها، ولما يغيب من أسرارها عن غير المسلمين بسبب هذه القداسة الروحية ذاتها، هذا إلى أن ما صارت إليه بلاد العرب منذ قرون طويلة من تأخير واضمحلال قد لوى الكثيرين عنها، ومال بهم عن التفكير في أمرها، شأن الناس إذ يرغبون عن كل ما انطفأ بريقه، وإن حوى في طياته أثمن النفائس؛ ومن ثم قل ما كتب عن بلاد النبي العربي في القرون الأخيرة مما له قيمة علمية تكشف الغطاء عن حقيقة هذه البلاد واختبار القدر إياها للوحي والرسالة على نحو يُقنع تفكير هذا العصر، وكان ما كتبه العلماء الأجانب بعيدًا عن تناول الظاهرة الروحية التي تغيَّر لها وجه التاريخ منذ أربعة عشر قرنًا، والتي ستظل عاملًا خالد الأثر في حياة العالم ما كان للقوة الروحية في توجيه العالم أثر وسلطان.

ولقد حرصتُ على أن أقف ما استطعت عند البحوث التي تناولت بلاد العرب من هذه الناحية، منذ بدأت أكتب السيرة وأنشرها تباعًا في فصول كتابي «حياة محمد»، ولقد وُفِّقت لبعض ما أردت في الكتب العربية التي كتبت في العصور الإسلامية الأولى، وفيما كتب بالعربية من بحوث في هذه العصور الأخيرة، كما وُفِّقت لناحية أخرى منه فيما كتبه علماء الغرب ورجال الرحلات فيه، لكنني شعرت آخر الأمر بأنني سأظل ينقصني جوهر ما أبحث عنه إذا أنا لم أذهب إلى بلاد النبي العربي بنفسي، ولم أقف حيث وقف في أدق ما مرَّ به أثناء حياته، ولم أمهد لذلك بأن أحيط — في حدود الطاقة — بالبيئة العامة التي نشأ فيها، وإنما كنت أفكر في هذا لأتم به بحوثي في السيرة، فأما أن أجعله موضوع كتابٍ مستقل فذلك ما لم يدُر بخلدي بادئ الرأي، فلما ذهبت إلى الحجاز وتجوَّلت فيه تبينت أن ما قمت به من بحوث يتعدى السيرة إلى عصرنا الحاضر؛ لذلك رأيت من الخير أن أطالع القراء بكتاب مستقل يتناول ما رأيت، ويتناول ما أحسست به حين كررت بالزمن راجعًا إلى عهد الرسول، وما كان بعد ذلك من حياة المسلمين في عهدهم الأول، ثم ما أصاب البلاد الإسلامية المقدسة بعد ذلك إلى وقتنا الحاضر، مع الإشارة الموجزة إلى ما أرجو أن يكون القدر قد خطه في لوحه لهذه البلاد العربية يوم ينصر الله دينه على الدين كله.

وهذه الإشارة الوجيزة التي يجدها القارئ في بعض فصول الكتاب هي مع ذلك أول ما تحركت له نفسي منذ فكرت في الرحلة إلى الحجاز حتى استقر بي العزم عليها، من يومئذٍ جعلت أسأل الذين سبقوني إلى الحج عن الحال في بلاد العرب، وعمَّا يروى من الأنباء عن الوهابيين فيها، وعن مذهب ابن عبد الوهاب وما ينطوي عليه، أبتغي بذلك التهيؤ للبحث فيما يستطاع عمله لخير هذه البلاد العربية ولخير المسلمين الذين ينزلونها، وإنما عالجتُ هذا البحث لما أعرفه من أثر الفوارق المذهبية بين أهل الدين الواحد في مختلف البلاد والأديان والعصور، أفيبلغ الاختلاف بين الوهابيين وغيرهم من المسلمين مبلغًا يجعل العمل المشترك والتعاون عليه أمرًا غير مستطاع؟ أم أن جوهر العقيدة الإسلامية في هذا المذهب كجوهرها في سائر المذاهب الإسلامية واحد لا يتغير: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ؟ أما الجوهر في المذاهب الإسلامية جميعًا فهو التوحيد، أما وكتاب الله هو كتاب المسلمين جميعًا، فالرجاء عظيم في تعاون المسلمين على إصلاح ما يتصل بشعائرهم وعقائدهم في بلاد البيت العتيق والقبر النبوي، وفي متابعة هذا التعاون على الزمن حتى يقضي الله بأمره، ويتم على الناس نوره.

وقد استغرق التفكير في هذا الأمر كل انتباهي منذ بدأت رحلتي؛ جعلت أفكر فيه حين ركبت الباخرة، وحين نزلت جدة، وأثناء الطواف والسعي بالعمرة بمكة، وعندما ذهبت أتم فرض الحج في عرفات وأختم شعائره في منى، ولم أعجب حين رأيت الكثيرين من زملائي في الحج يشاركونني في هذا التفكير، فقد رأوا جميعًا حاجة مناسك المسلمين إلى الإصلاح، فتحركت لذلك نفوسهم وعقدوا الاجتماعات يلتمسون وجوه الرأي فيه، أما أنا فقد وضعت مقترحات لبعض ما رأيت من الإصلاح ودفعت بها إلى رجال الحكومة العربية، ولعل من بين الذين سبقوني إلى الحج من صنع صنيعي راجيًا ما أرجو أن يوفق الله المسلمين لغاية الخير.

على أنني لم أتبسط أثناء هذا الكتاب في بيان ما رأيت وما أرى الآن من وجوه الإصلاح؛ لأنني لم أجعل هذا الغرض غايتي الأولى من وضعه؛ ولأن شئون الإصلاح تتطوَّر في تصويرها تبعًا لما تقضي به حاجات العصر، ونحن في زمن تسرع فيه الأشياء إلى التحوُّل، حتى لترى ما كان صالحًا أمس قد أصبح اليوم عتيقًا، إن حدث بعده ما هو خير منه وأدنى إلى الفائدة، لكني تبسطت في بعض فصول الكتاب في نقد ما رأيته موجبًا للنقد من أحوال بلاد العرب الاجتماعية، وفي بيان الأسباب التي أدت إلى تدهور البلاد العربية والإسلامية؛ لاقتناعي بأن النقد فاتحة الإصلاح، وبأن تحرِّي الأسرار التي أدت إلى الضعف تشخيص للمرض يسهل معه وصف علاجه.

ومع وقوفي في موقف الناقد من بعض الشئون الحاضرة في البلاد المقدسة، لقد وجهت أكبر عناية إلى آثار الرسول الكريم فيها، وجعلت جلَّ همي أن أسير حيث سار؛ ألتمس ما في حياته من أسوة وعبرة، وأرجو أن أقف على شيء من السر الذي هيأ هذه البلاد لتكون منزل الوحي إلى النبي العربي خاتم الأنبياء والمرسلين.

ولم أتقيد في تفكيري وتأملي أمام شيء مما رأيت بغير منطقي وعقيدتي الذاتية اللذين كوَّنتُهما الطريقة العلمية الحديثة، فأنا لا أسلم بالعقيدة الموروثة إذا لم يكن لها أساس غير ما وجدنا عليه آباءنا، ما لم أمتحنها وأمحِّصها، وما لم أصل من أمرها إلى الإيمان بأنها هي الحقيقة كما يُسيغها عقلي ويطمئن إليها ضميري، وأنا لا أحسب الذين يدينون بعقيدة ما لغير شيء إلا أنهم وجدوا عليها آباءهم مؤمنين حقًّا، بل أرى واجبًا على الإنسان لكرامته الإنسانية أن يحاول ما استطاع فهم ما يُلقَى إليه، اتصل ذلك بالعقيدة أو بالتشريع أو بالعلم والفن، فإن اهتدى إلى الحق فيه فذاك، وإلا فليلتمس الهدى عند أهل العلم وليطالبهم بإقناعه، والعالِم الجدير باسم العالِم هو من أقنع سامعه بالحقيقة التي اهتدى إليها عن طريق المجادلة بالتي هي أحسن، فلا إكراه في الدين، ولا يُمَاري في الحقيقة متى تبيَّن الرشد من الغيِّ إلا من أضلَّه هواه.

ولقد جعلت السير في إثر الرسول غرضي من يوم أتممت مناسك الحج، فقد كنت شديد التَّوْقِ إلى هذا السير من سنوات، ومذ كنت أتابع الرسول خلال الكتب أبحث فيها سيرته، وكنت أحسب السبيل مُيَسَّرة، وأني سأجد عند كل موقف من مواقف الرسول أثرًا يدل عليه ويشهد به، ولم يزعزع من ذلك في نفسي ما علمته من هَدم الوهابيين القباب التي أقامها من حَكَموا الحجاز في العصور التي سبقتهم، فالوهابيون إنما استقروا فيه لعشر سنوات خلت، وهذا زمن لا يتيح للنسيان أن يجني على آثار خلَّدتها أربعة عشر قرنًا متعاقبة، هذا إلى أن القباب ليست كل ما يمكن أن يقام من الآثار، وإذا كنا نحتفظ في مصر بآثار ناهضت الدهر خمسين قرنًا متوالية؛ فما أحرى المقيمين ببلاد النبي العربي أن يحتفظوا بآثاره وهي أقرب من ذلك عهدًا، وأبلغ دلالة، وأبقى على التاريخ ذكرًا، والوهابيون هم بعد مسلمون، إن أنكروا القباب فلا ينكروا ما سواها من دواعي الذكر والأسوة.

والحق أني لم أجد مشقة في تعرف الآثار التي هدم الوهابيون قبابها، فالأسف على ما صنعوا قد جعل الذين يُخالفونهم في الرأي أشد ذكرًا لها وحرصًا على إشهاد الناس ما حل بها، ولقد شاركت هؤلاء في أسفهم من ناحية لا يفكر أحدهم فيها، فقد كان بين هذه القباب التي هُدمت آثارٌ بارعة في الفن، لم يكن يجملُ بيدٍ تُقدِّر الفن أن تمتدَّ إليها بسوء، لكني إنما وجدت المشقة في الاهتداء إلى آثار لها في تاريخ المسلمين الأولين أثر بالغ، ولا ترضى أمة تقدر تاريخها أن تذرها للنسيان يعبث بها ويجني عليها، من ذلك اختلاف الأقوال على موقع حُنَين حيث كانت الغَزَاة التي تركت في تاريخ الإسلام أثرًا قل كمثله أثر، ومنه اختلافهم على موقع عُكَاظ سوق العرب جميعًا في الجاهلية وفي صدر السلام، وإنما سوَّغ الجهل الذي خيم على بلاد العرب من عصر العباسيين هذه الجناية النكراء، كما سوغ أمرًا لا يَقِلُّ عنها نكرًا، فقد أقيمت آثار لحوادث وقعت وليس في التاريخ ما يدل على أنها وقعت حيث تقوم هذه الآثار، وأقيمت آثار لحوادث لا يعرف التاريخ الحق من أمرها شيئًا، وتحقيق ذلك كله وبيان قيمته العلمية أمر جدير بكل من يريد الحقيقة، وقد حاولت من ذلك ما استطعت، لكن هذا التحقيق يحتاج إلى أضعاف الزمن الذي قضيته بالحجاز، ويحتاج مع الزمن إلى بحوث ينقطع لها صاحبها ليقابل بين ما جاء في الكتب المختلفة؛ لعله يبلغ من المقابلة إلى ما تستقيم به النتيجة التي يتوخَّاها، وليس يخامرني ريب في أن هذا العمل لو قامت به بعثة جامعية لوجدت فيه من الفائدة ومن المتاع العلمي ما تهون معه كل مشقة.

وكان حديث الآثار الصحيحة التي وقفت عندها كلُّه البلاغة في التعبير عما تدل عليه وتوحيه إلى النفس من آي الجلال والعظمة، فجبل حراء والغار في قمَّته، ومسجد عَدَّاس بالطائف، ومسجد العقبة وجمرتها، وجبل ثَوْر ومختبأ رسول الله وأبي بكر بالغار فيه، والطريق الذي سلكه النبي إلى المدينة حين هجرته من مكة، ومسجد قباء، والمسجد النبوي والآثار الكثيرة المختلفة بالمدينة، وميدان بدر حيث وقعت الغزوة الأولى بين قريش والمسلمين، هذه المواقع وما إليها كانت تثير أمام ذهني ذكريات مليئة بالحياة كأنما حدثت بالأمس، وكانت توحي إليَّ معاني الإكبار والإعظام وتزيدني إجلالًا لهذه الأماكن في صمتها العميق لم يغير منه توالي القرون، ولقد كان ما أوحته هذه الأماكن مما حاولت تصويره في هذا الكتاب أبلغ من كل ما استطاع قلمي أن يصفه أضعافًا مضاعفة.

ولقد كشفت لي هذه الآثار عن صورة لبلاد العرب حين بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق تختلف أشد الاختلاف عن صورتها في الوقت الحاضر، وتختلف عمَّا وقر في نفس الكثيرين من صورتها في آخر أيام الجاهلية، كانت بلاد العرب يومئذٍ ذات حضارة لا شيء يشبهها في شبه الجزيرة اليوم، كانت مكة وبعض بلاد الحجاز مدنًا تجارية عامرة مزدهرة، وكانت الطائف ذات الخصب موضع عناية من أهلها بحسن استغلال خصبها وبصيانة سلامتها، وكان أهل تِهامة وأهل الحجاز أُولي ثقافة وحكمة وأدب، وكان العرب على اتصال بالعالم ينقلون تجارته بين الشرق والغرب مما زادهم علمًا وزادهم براعة في التجارة وأساليبها، لكنهم كانوا يحيون حياة سياسية أشبه بحياة اليونان القديمة وبحياة بعض بلاد الغرب، ومنها إنجلترا، منذ قرون قليلة، كانوا قبائل ومدائن تحتفظ كلٌّ منها بوحدتها وبسلطانها، وتدفع عن حيَاضها كلَّ من يحاول الاعتداء على سيادتها أو على ثروتها، فلما بعث الله النبيَّ العربي داعيًا إلى التوحيد، ألفى في هذه القبائل قوة في الجدل وصلابة في الاستمساك بعقائدهم ونظمهم، فلما هدى الله الكثيرين من أهل يثرب إلى الإسلام، وهاجر النبي إليهم وانتصر بهم، وجمع كلمة العرب تحت لواء الدين الجديد، استطاعت هذه الأمة الفتيَّة المستعدة بحضارتها للنهوض أن تثب إلى حيث وَثَبَتْ، وأن تبث في العالم حضارة هذا الدين الذي اختارها الله لتكون وطنه الأول.

كشفت لي هذه الصورة عن جانب من السر الذي كنت ألتمسه، والذي كان خفيًّا عنِّي حين كنت أتصور بلاد العرب كلها — كما يتصوَّرها الكثيرون — واديًا غير ذي زرع لا تصلح مقرًّا لحضارة يضيء نورها العالم، كان أهلها شديدي المحافظة على عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكانوا ذوي بأس وقوة في هذه المحافظة، وقد كانت عقائدهم الوثنية تمسكهم دون الوثوب إلى دعوة العالم المفكك الأوصال يومئذٍ ليستظل بحضارة أجدر بالإنسانية مما كانت تدعو إليه بزنطية وفارس، فلما هدى الله العرب إلى الإسلام كانت تعاليم هذا الدين منارة الهدى للعالم، وكان النبي الأسوة والمثل بأدبه وخلقه وقوَّته على الحياة لنشر هذه التعاليم، وإحياء الإنسانية بروحها السامي، وهذه الأسوة هي ما تحدِّث به آثاره في بلاد العرب حديثها البليغ الذي تهتز له النفس وتسمو به الروح إلى مراتبها العليا حيث تشرق الأرض بنور ربها، ويرى الإنسان فيها فضائل الكون مجتمعة.

والواقع أن ما توحيه آثار الرسول من هذه المعاني بالغ غاية القوَّة، وأنت تستطيع أن تجمع هذه المعاني في عبارة موجزة: تكريس الحياة لمثل أعلى يوجه الإنسان إلى جهوده فيبلغه أو يموت دونه مستشهدًا في سبيله، وحسبك أن تقف عند كل واحدة من كلمات هذه العبارة لترى الجلال والقوة والسمو على الحياة متضافرة كلها إلى خير غاية، فالمثل الأعلى في الإسلام ما هو؟ رضا الله بالبر والتقوى، وحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، صوِّر هذه المعاني النفسية صورة مادية، واجعل منها مثلك الأعلى الذي تكرس له جهود حياتك، هذا التصوير وحده عظيم شاق يقتضيك مجهودًا جسيمًا، أنت تريد الغنى مثلًا أعلى لك، فليكن؛ لكن يجب أن تبتغي به رضا الله، وأن تكون في تحصيله برًّا تقيًّا، وألَّا تعامل الناس في تحصيله إلا بما تحب أن يعاملك به من أراد منهم مثل غايتك، وذاك يرى جاه الحكم مثلًا أعلى له، فليكن؛ لكنه يجب أن يبتغي بالحكم رضا الله، وأن يكون فيه برًّا تقيًّا لا يعامل غيره إلا بما يحب أن يعامله الغير به إذا وَلِيَ أمره، فإذا صور المرء مثله الأعلى وجب عليه أن يسعى إليه غير وانٍ، ويوجه إليه كل جهوده، وأن يستهين في سبيله بكل تضحية وإن كانت بالحياة، ولا عليه إن أصابه مكروه ما دام رضا الله مبتغاه، فكان لذلك برًّا تقيًّا مؤمنًا بالأخوة الإنسانية، محبًّا لإخوانه المؤمنين ما يحب لنفسه، راجيًا لهم الخير، وأن يبلغ كلٌّ من مثله الأعلى ما يود هو أن يبلغه من المثل الذي جعله نُصب عينيه وغرض حياته.

لكن الأمثال العليا تتفاوت تفاوتًا عظيمًا، وأسمى الأمثال — لا ريب — ما بعث الله به نبيه هدًى للناس ونورًا، ولقد بلغ من إيمان العرب في الصدر الأول بهذا المثل أن جعله كلٌّ منهم غرض حياته، وأن أخضع له كل ما في الحياة من غرض دونه، وأن كان الاستشهاد في سبيله أملًا يتمنَّى أن يجعله الله نصيبه، فهذا الذي اتخذ التجارة حرفة له في الحياة ووقف لها جهوده كان يجعل في تجارته حظًّا معلومًا للسائل والمحروم، وكان يهب نفسه لله يوم يدعو الداعي إلى الجهاد في سبيله؛ ذلك لأن الدين الجديد علَّمهم أن الأمة يجب أن يكون لها، كما يجب أن يكون للفرد، مثلٌ أعلى، وأن المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها أمة واحدة لكلٍّ منهم على الآخر ما للأخ على أخيه من حقٍّ، فيجب أن يكونوا يدًا واحدة في سبيل الله يتحابون بنوره بينهم، ويبذلون في سبيله مُهَجَهم وأرواحهم، يعلِّمون الناس بذلك أنه لا إله إلا هو، لا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه — جلَّ شأنه — برأ الناس ليتعاونوا على البر والتقوى حتى يبلغوا بالإنسانية كمالها، فإن بَغَت طائفة منهم فقد وجب عليهم جميعًا أن يقاتلوا الباغي حتى يفيء إلى أمر الله.

هذه المعاني السامية هي تعاليم النبي العربي وتعاليم الإسلام، وهي ما توحيه آثاره إلى من يقف عندها في بلاد العرب، ولقد كان من أثر هذه التعاليم أن صارت بلاد العرب محط أنظار العالم كله في حياة الرسول وبعد اختياره الرفيق الأعلى، امتد الفتح الإسلامي في عهد أبي بكر وعمر إلى بلاد الإمبراطوريتين الرومية والفارسية، ثم تخطاهما إلى ما وراءهما من أنحاء العالم شرقًا وغربًا حتى بلغت الحضارة الإسلامية فيما دون المائة من السنين ما لم تبلغه حضارة غيرها في قرونٍ متعاقبة، كان الرجل في أقصى الصين يذكر فتح العرب بلاد المغرب والأندلس، وكان المسلم في مصر وفي بلاد المغرب يتحدث مفاخرًا بفتح جيوش الإسلام بلاد البوذية والكنفشيوسية، وحيثما امتد الفتح رفرف لواء الإسلام وشهد الناس أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأخذوا بتعاليم الدين الجديد وتفقهوا فيه، وأبناء العرب في هذه الوثبة الأولى يتيهون فخرًا بما يتم على أيديهم كل يوم من معجزات لم يتأت لغيرهم في مختلف العصور أن يأتوا بمثلها، ويكادون يحسبون أن الله قد نصر دينه على الدين كله منذ هذا العهد الأول.

وأقبل أهل شبه الجزيرة على الفتح وجعلوا يزدادون منه ثراء ويزدادون بأنعم المال متاعًا، وخُيِّل يومئذٍ إليهم أن العهد الذهبي الذي فتح الله لهم أبوابه لا نهاية له، وأنهم ناهلون من وِرْدِه هم وأبناؤهم وحفدتهم أبد الآبدين ودهر الداهرين حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولم يدُر بخلد أحدهم وهو يعبُّ من هذا النعيم أن للزمن دورته، وأن لكل يوم غده، وأن الله مُغَيِّرٌ ما بقوم يوم يغيِّرون ما بأنفسهم.

ولقد غيَّروا ما بأنفسهم فغيَّر الله ما بهم، حتى صاروا إلى حال تبعث الحسرة إلى النفس، أنت اليوم تقطع عشرات الأميال ومئاتها فلا ترى لحضارة — بل لحياة — مظهرًا، وفيما خلا المدن القليلة، لا أعرف منها غير مدن الشاطئ وغير مكة والمدينة والطائف، أنت لا تقف على الطريق المأهولة إلا عند نجعٍ هنا ومخيَّم هناك، فما بالك بما سوى الطرق المأهولة مما ترامى به البادية الفسيحة؟! إنك من ذلك في مهمهٍ لا يعرف غير الأفق حدًّا، وكلما أغذذت السير أو انطلقت بك السيارة تطوي الأميال إثر الأميال تراجع الأفق أمام ناظرك ولم يكشف جديدًا، فإذا مر بك سانحٌ من الطير أو ضاربٌ في البيداء وراء بعيره سعدت بهذه المصادفة من الحياة سعادة راكب البحر شام سفينة تمخُر العباب على مرمى النظر، وليس فيما يصادفك من ذلك إلا ما يزيدك حسرة على ما هوت إليه هذه البلاد من درك الهمجية، وهي التي وثب بها الإسلام تلك الوثبة فأضاء العالم بحضارة ظل ينعم بها قرونًا عدة متوالية، نقل المسلمون أثناءها آثار التفكير الإنساني في اليونان القديمة وفي الهند وفي فارس، فمهد لهذه الحضارة الحالية التي ينعم العالم اليوم بها، ثم يتهم هذا الإسلام بأنه السبب في تأخُّر بنيه والذين يدينون به.

وقفت غير مرة إزاء هذه الظاهرة أسائل نفسي وأسائل غيري عن سببها، ولم يكن الاهتداء إلى السبب عسيرًا، فهؤلاء العرب الذين وثبوا الوثبة الأولى على عهد النبي وفي صدر الإسلام قد أقام الكثيرون منهم في بلاد غير بلادهم، ولئن لم ينس الكثيرون منهم تعاليم دينهم لقد نسوا الغرض الأسمى الذي يدعو هذا الدين إليه، تفتحت لهم كنوز الأرض وتدفَّقت عليهم خيراتها فشغلوا بها وبتنظيم شئونها، وبذلوا في ذلك من الجهود ما حسبوه يساوي تثبيت دعائم الإيمان الصادق في نفوس الذين دانوا للإسلام، اكتفوا بأن يعلِّموا الناس فروض هذا الدين دون أن يفقهوهم فيه، وجعلوا غاية الفقه تنظيم علاقات المال في الحياة وفيما بعد الحياة، أما الإيمان الصادق الذي أضاء العالم ووثب بجزيرة العرب فقد اختص بالنظر فيه أهل الكلام وعلماؤه، من ثم شغل المسلمون بالحياة الدنيا عن الآخرة، وبالعرض عن الجوهر، وبحكم الناس عن سياسة أمورهم في دينهم ودنياهم؛ ولذلك كثرت الثورات وكثر الانتقاض وعم الاضطراب، واتخذ الملوك من العلماء والفقهاء ألسنة دعايتهم للدفاع عن ملكهم، كما اتخذهم الثائرون ألسنة دعايتهم لتسويغ ثورتهم، وإذ كان ما في بلاد العرب من ثروة لا يغني غناء ما في الشام وفارس ومصر والأندلس، فقد انتقل مقرُّ الملك من المدينة إلى دمشق، وإلى بغداد، وإلى القاهرة، وإلى قرطبة.

من يومئذٍ بقيت بلاد العرب يحكمها من تئُول إليه الخلافة وإمارة المؤمنين، ولقد حرص هؤلاء الملوك في العهد الأول على استرضاء العرب وإغراقهم في الأعطيات وفي الجاه، كذلك فعل بنو أمية، وكذلك فعل الأولون من بني العباس، ولم يكن لهم محيص من أن يفعلوا وبلاد العرب كانت بعدُ ذات حضارة لم تقوَّض دعائمها، وأبناء العرب كانوا بعدُ أُولي الأمر في المملكة الإسلامية، فلما اشترك الفرس والتتار في بلاط بني العباس ونازعا العرب الحكم، بدأ المال ينقبض عن أهل شبه الجزيرة باعتباره حقًّا من حقوقهم، وبدأ الملوك والأمراء يُنْعِمون عليهم بألوان من الإحسان مختارين مشكورين، ولم يُعْن أهل بلاد العرب بالتفريق بين الحق والإحسان بعد أن نزح الأكثرون من أبنائها الأصليين عنها، وحلَّ الأجانب من رقعة المملكة الإسلامية محلهم فيها، وزاد في عدم عنايتهم بالتفريق أن بدأ الجهل يخيم عليهم كما بدأ يخيم على غيرهم من بلاد المسلمين، على أن بلاد العرب كانت أسرع من غيرها انحدارًا إلى هاوية الجهل بعد أن فقدت بهجرة أبنائها العنصر الأساسي من مقوِّمات الحياة القومية، وبعد أن نزح العلماء والفقهاء والأدباء إلى العواصم التي بعدت عن بلاد العرب حتى صارت العلوم والفنون جميعًا غريبة عنها.

ولم تنهض البلاد الإسلامية المقدسة من بعد ذلك إلى يومنا الحاضر؛ لأن الدولة الإسلامية هوت إلى حضيض الجمود والجهل، فأما اليوم ففي بلاد العرب توثب إلى نهضة جديدة تكاد تضارع ما في غيرها من البلاد الإسلامية الأخرى.

وقفتُ عند هذه الظاهرات غير مرة أحاول تحليلها، لكني لم أقصد من هذا التحليل إلى تفصيلها، فالتفصيل يتناول تاريخ الأمة العربية الإسلامية، أو الأمم الإسلامية إن شئت، خلال ثلاثة عشر قرنًا متوالية، وهذا جهد عظيم لا يتسنَّى لفرد أن يقوم به، وميدانه ما يزال بكرًا في حاجة إلى تنظيم علمي دقيق، والغاية التي أبتغيها من وقوفي عند هذه الظاهرات لا تتناول من هذا الميدان إلا جانبًا عامًّا يتصل ببلاد العرب، وأسباب تأخرها على القرون منذ العهد الإسلامي الأول إلى زمننا الحاضر، ثم إني لم أرد فيما ابتغيته من ذلك سرد تاريخ العرب وهجرتهم من بلادهم، أو ذكر من حلَّ محلهم فيها، إنما اكتفيت بالإشارة إلى ذلك لأبين أن التأخر مرجعه إلى أسباب سياسية واجتماعية لا أثر للعقيدة ولا للدين فيها، وإلى أن العقيدة والدين تأثَّرا — كما تأثر العرب والمسلمون — بهذه الأسباب السياسية والاجتماعية، وأن من اليسير لذلك أن يعود العرب والمسلمون سيرتهم الأولى، وحسبهم أن يغيِّروا ما بنفوسهم ليُغير الله ما بهم.

ليس هذا الكتاب إذن مرجعًا من مراجع التاريخ الإسلامي، ولا شيء فيه من تقويم بلاد العرب، إنما هي وقفات وقفتها في بلاد الوحي ومنزله أستوحي فيها مواقف محمد عبد الله ونبيه ورسوله، وهناك في هذه المواقف تجرَّدَتْ نفسي، وسَمَتْ روحي، وكَرَرْتُ بالعصور والقرون أطويها، ورُحْتُ أَتَمَثَّل هذا الهادي الكريم، وأتمثل المسلمين من حوله، ألتمس في ذلك الأسوة والعبرة آملًا أن أُشرك فيهما إخواني المؤمنين بالله وبما جاء من عند الله، ولم أتقيد في هذه المواقف بما جاء في كتاب غير كتاب الله الكريم، ولم أخضع تفكيري لحكم غيري، وما كان لي أن أخضعه وقد كنت أحس في كثير من هذه المواقف أنني بين القوم أسمع وأرى، وأتمنى لو كنت أجاهد معهم فأفوز فوزًا عظيمًا، وما كان لي أن أفعل ثم أخدع نفسي فأزعم أنني إذْ أحدِّث الناس إنما أقص عليهم ما رأيته وما أحسست به، في حين لا أقص إلا ما رآه غيري وما سبقني إلى تسطيره.

لقد تركت نفسي على سجيَّتها، تتوجه بوحي روحي وتستلهم الحق مما حولي، وتستعرض ما تستلهم على حكم عقلي وتقدير ضميري، ثم سطرت ما اجتمع من ذلك لا أبغي به إلا رضا الله وحسن ثوابه، فليقل هذا أو ذاك من كُتَّاب المسلمين أو غير المسلمين عن أيٍّ من هذه المواقف ما شاء، وليستند في حكمه أو رأيه إلى أي سند يطيب له أن يستند إليه، إنما ذلك قول له عندي احترامه ما اطمأننت إلى حسن القصد فيه، لكن لحكمي المكان الأول من الاحترام عندي، وإذا لم يكن من حسن القصد أن نعجل بالحكم قبل أن نطمئن إليه وقبل أن تتم بين أيدينا أسبابه، وكانت العجلة طيشًا غير جدير بمفكر يحترم عقله، فليس من حسن القصد ولا من احترام المفكر عقله أن يَنْحَلَ نفسه حكم غيره قبل أن يُمحِّصه حتى يطمئن ضميره إليه، ومن الجمود الذي لا يقاس إليه طيش أن نأبى تقليب الأمور على وجوهها جميعًا حتى نطمئن إلى بلوغ غاية ما نستطيعه من الحق فيها.

وأقف هنا لأدفع زعمًا حسب الذين زعموه أنه مغمزٌ غمزوني به بعد تأليف كتابي «حياة محمد»، حسب هؤلاء أنني انقلبت بكتابة السيرة رجعيًّا، وكنت عندهم قبلها في طليعة «المجدِّدين»، وكيف لا أنقلب عندهم رجعيًّا وقد جعلت القرآن حجَّتي، وما جاء فيه عن السيرة سندي، ولم أضعه كما يقولون موضع النقد العلمي؟! وكيف لا أنقلب عندهم رجعيًّا وقد دفعت بالحجة ما طَعَنَ به على النبي العربي جماعةُ المستشرقين ومن تابعهم من شباب المسلمين؟! وكيف ساغ لي بعد ذلك أن أزعم أمامهم في «حياة محمد»، وأن أزعم اليوم ها هنا أنني طليق من القيود، عدو للجمود، نصير للبحث العلمي الحر، وأنني أومن بحرية الرأي وأعتبرها الأساس، لا أساس غيره، لمن يريد معرفة الحقيقة، هم يرون ذلك خداعًا يأباه العلم والبحث الحر، وأنا بعدُ عندهم رجعي انقلبت إلى الجمهور أتابعه ابتغاء رضاه، وكنت قبل ذلك أتقدمه أريد توجيهه وهدايته.

وأقف لأدفع هذا القول، وما أتلمس في دَفْعه سبيلًا غير مواجهته، لا أقول: إن قومًا غمزوني بنقيضه وزعموني خارجًا عن الإجماع والتمسوا الحجة لتأييد قولهم، وليس يستقيم في المنطق أن يغمزني هؤلاء وأولئك، لا أقول ذلك وأنا ما كتبت أبتغي رضا قوم أو أتَّقي سخط آخرين، إنما كتبت للحق أبتغيه وحده، لكني أسائل أصدقائي أحرار الرأي عن غايتنا جميعًا حين نُنتج: ألسنا نبتغي التقدم خطوة جديدة في سبيل الكمال؟ فالعالِم يبتغي مزيدًا من العلم ومن الدقة فيه، ورجل الفن يبتغي سموًّا في الفن وفي إلهامه، وطالب الحقيقة يريدها أجلى سَنًا وأعمَّ نورًا، ومن الناس من يحسب أنَّا نحاول من إنتاجنا أن نبلغ السعادة لأنفسنا وللعالم، ومنهم من يعتقد أن السعادة لفظ مبهم يصور الوجدان مدلوله على هوى صاحبه، وأنَّا إنما نحاول من إنتاجنا أن نزيد في معارف الإنسان القليلة الضئيلة حين تقاس إلى هذا العالم الذي لا يعرف الزمان، ولا يعرف المكان له حدًّا؛ لنطوِّع للإنسان أن يزداد بالكون اتصالًا، وأنا بين هؤلاء، أرى رأيهم، وأعتقد كما يعتقدون أن التماس المزيد من المعرفة والطموح من ذلك إلى أبعد غاية هو وحده المطمح الخليق بالجانب الإنساني فينا.

وإنما مطمعنا حين نلتمس المزيد من المعرفة أن نسمو بهذا الجانب الإنساني في الأفراد والجماعات، ولطالما التمسنا في شرقنا الأدنى أسباب النهوض بعلمنا لنقف إلى جانب الإنسانية المهذبة لا ينكس الخجل رءوسنا، ولا يحز في نفوسنا ذلك الشعور الممضُّ بأنا دون الغرب مكانًا، ولقد خُيل إليَّ زمنًا، كما لا يزال يُخيَّل إلى أصحابي، أن نقل حياة الغرب العقلية والروحية سبيلنا إلى هذا النهوض، وما أزال أشارك أصحابي في أنا ما نزال في حاجة إلى أن ننقل من حياة الغرب العقلية كل ما نستطيع نقله، لكني أصبحت أخالفهم في أمر الحياة الروحية، وأرى أن ما في الغرب منها غير صالح لأن ننقله، فتاريخنا الروحي غير تاريخ الغرب، وثقافتنا الروحية غير ثقافته.

خضع الغرب للتفكير الكنسيِّ على ما أقرَّته «البابوية» المسيحية منذ عهدها الأول، وبقي الشرق بريئًا من الخضوع لهذا التفكير، بل حُوربت المذاهب الإسلامية التي أرادت أن تقيم في العالم الإسلامي نظامًا كنسيًّا أَهْوَلَ الحرب، فلم تقم لها فيه قائمة أبدًا، بذلك بقي الشرق مطهرًا من الأسباب التي أدَّت إلى اضطراب الغرب الروحي وإلى ثوراته السياسية التي نشأت عن هذا الاضطراب، وبقي المسيحيون المقيمون بالشرق في جوار المسلمين في طمأنينة لا يَصْلَون من نيران الثورات والحروب الأهلية ما كان يصلاه إخوانهم في الغرب، كان الخروج عن الكنيسة المسيحية في الغرب إعلانًا للثورة على السلطان، وكانت الثقافة الروحية لذلك في قبضة رجال الدين يبرمون من أمرها ما يشاءون إبرامه، وينقضون ما يشاءون نقضه.

أما والإسلام لا يعرف الكنيسة، وأقرب الناس فيه إلى الله أتقاهم، ولا فضل فيه لعربي على عجمي إلا بالتقوى، فقد بقيت الثقافة الروحية في الشرق حرَّة طليقة لم تقيد إلا حين قعد الجهل بالناس؛ ففترت الأذهان، وخمدت القرائح، وجمدت القلوب، لم تعرف عصور الازدهار الإسلامي قيدًا لحرية الفكر ما كان صاحبه بريء القصد يبتغي برأيه سبيل الحق، ولم يعرف المسلمون أن الذنوب يغفرها غير الله، كيف نستطيع أن ننقل ثقافة الغرب الروحية لننهض بهذا الشرق وبيننا وبين الغرب في التاريخ وفي الثقافة الروحية هذا التفاوت العظيم؟ لا مفر إذن من أن نلتمس في تاريخنا وفي ثقافتنا، وفي أعماق قلوبنا وفي أطواء ماضينا هذه الحياة الروحية نُحيي بها ما فتر من أذهاننا وخمد من قرائحنا وجمد من قلوبنا.

هذا كلام واضح بيِّن، ومن عجب أن يخفى على أصحابي فلا يرونه، وأن يكون خفاؤه سبب تثريبهم عليَّ، ولكن لا عجب، فقد خفي هذا الكلام عني سنوات، كما لا يزال خفيًّا عن كثيرين منهم، وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية لنتخذهما جميعًا هدًى ونبراسًا، ولكنني أدركت بعد لَأْيٍ أنني أضع البذر في غير منبته فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه، وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعين موئلًا لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح بذرًا لنهضة جديدة، وروَّأت فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو، ولأبناء هذا الجيل في الشرق نفوس قوية خصبة تنمو فيها الفكرة الصالحة لتؤتي ثمرها بعد حين.

والفكرة الإسلامية المبنية على التوحيد في الإيمان بالله تنزع في ظلال حرية الفكر إلى وحدة الإنسانية، وحدة أساسها الإخاء والمحبة، فالمؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها إخوة يتحابون بنور الله بينهم؛ وهم لذلك أمة واحدة تحيتها السَّلام وغايتها السلام، وهذه الفكرة الإسلامية تخالف ما يدعو إليه عالمنا الحاضر من تقديس القوميات وتصوير الأمم وحدات متنافسة يحكم السيف وتحكم أسباب الدمار بينها فيما تتنافس عليه، ولقد تأثرنا — معشر أمم الشرق — بهذه الفكرة القومية واندفعنا ننفخ فيها روح القوة نحسب أنَّا نستطيع أن نقف بها في وجه الغرب الذي طغى علينا وأذلَّنا؛ وخيل إلينا في سذاجتنا أنَّا قادرون بها وحدها على أن نعيد مجد آبائنا، وأن نسترد ما غصب الغرب من حريتنا وما أهدر بذلك من كرامتنا الإنسانية، ولقد أنسانا بريق حضارة الغرب ما تنطوي هذه الفكرة القومية عليه من جراثيم فتاكة بالحضارة التي تقوم على أساسها وحدها، وزادنا ما خيم علينا من سُجُف الجهل إمعانًا في هذا النسيان.

على أن التوحيد الذي أضاء بنوره أرواح آبائنا قد أورثنا من فضل الله سلامة في الفطرة هدتنا إلى تصور الخطر فيما يدعو الغرب إليه، وإلى أن أمة لا يتصل حاضرها بماضيها خليقة أن تضل السبيل، وإلى أن الأمة التي لا ماضي لها لا مستقبل لها، من ثم كانت الهوة التي ازدادت عمقًا بين سواد الأمم في الشرق، والدعوة إلى إغفال ماضينا والتوجه إلى وجهة الغرب بكل وجودنا، وكان النفور من جانب السواد عن الأخذ بحياة الغرب المعنوية مع حرصه على نقل علومه وصناعاته، والحياة المعنوية هي قوام الوجود الإنساني للأفراد والشعوب؛ لذلك لم يكن لنا مفر من العود إلى تاريخنا نلتمس فيه مقومات الحياة المعنوية؛ لنخرج من جمودنا المذل، ولنتقي الخطر الذي دفعت الفكرة القومية الغرب إليه، فأدامت فيه الخصومة بسبب الحياة المادية التي جعلها الغرب إلهه.

لم ألبث حين تبينت هذا الأمر أن دعوت إلى إحياء حضارتنا الشرقية، ومصدر الحضارة سنَا الأرواح المضيئة، وقوامها وثبة النفوس القوية، والأرواح تضيء ما اتصلت بروح أقوى سلطانًا وأبهر سَنًا، كما يضيء سلك البلاتين إذ يصهره تيار الكهرباء، وكم في ماضينا من أرواحٍ ذات سنًا باهر قادرة بقوتها على أن تبعث الحضارة الإسلامية خلقًا جديدًا، كما بعث فلاسفة اليونان الحضارة الغربية الحديثة، ومحمد بن عبد الله هو النور الأول الذي استمدت هذه الأرواح منه ضياءها، وهو الشمس التي أمدَّت كل هذه الأقمار بسناها؛ لذلك جعلت سيرته موضع دراستي في «حياة محمد»، وجعلت مواقفه في «منزل الوحي» مصدر إلهامي؛ لما تنطوي عليه من تعاليم أوحاها الله إليه، كلها السمو والقوة والجلال والعظمة، فأين هذا من تملق الجمهور أو متابعته التماسًا لرضاه؟

يقول الذين يغمزونني: لك رأيك، فما لك لم تقف عند ما آخذ به المستشرقون محمدًا؟! وما لك جعلت القرآن سندك الأول في السيرة، وسندك الأول في هذا الكتاب دون أن تُمَحِّص ما فيه تمحيص العلم وتنقده نقده؟! إنما فعلت لأنك خفتَ الجمهور فجاريته، وخشيت الناس فمَلِقْتَهم، ولم تخش العلم ولم ترْع حقه. غفر الله لكم أيها الصحب! وبِمَ آخذ المستشرقون المنصفون النبي العربي؟ وما الذي نقدوا القرآن به؟ لست أريد العود إلى ما ذكرته عن ذلك في «حياة محمد» وفي تقديم طبعته الثانية، وحسبي أن أقول: إن ثلاثة عشر قرنًا انقضت وتنصَّف القرن الرابع عشر منذ وفاة النبي ولم تستر هذه المآخذ من ضيائه إلا ما يستر كلف الشمس من ضياء الشمس، ولم يغيِّر هذا النقد من سلطان الحق في كلام الله إلا ما تغير الرياح من سنن الطبيعة.

وها هم أولاء علماء العالم يعود اليوم أقدرهم وأكثرهم يعترفون بعجز العالِم، ويقولون: ربنا، لا علم لنا إلا ما علمتنا، فإن يكن ذلك مبلغ العلماء من العلم فأَخْلِق بالذين يتحدثون عن النقد العلمي، إذ يذكرون القرآن أن يكونوا أكثر تواضعًا، وأن يخْشَوا الله أكثر من خشيتهم غرورهم، وأن يذكروا أن ما في النفس الإنسانية من قوى يتَوَسَّمها العلم، ولَمَّا تَزَلْ خفية عليه يعدل أضعاف ما كشف العلم حتى اليوم عنه، وأن ملايين الشموس والكواكب المنثورة في فضاء هذا العالم أضخم قوة وأخفى، وإني إن تحدثت عن شيء من هذه القوى التي لم أبلغ من العلم بها بعض ما بلغ العلماء، فليس ذلك متابعة للجمهور ولا خشية منه، ولكنه الإقرار بالضعف والعجز، وبأنَّا إذا وجب علينا أن نجاهد ما استطعنا لنبلغ من العلم ما يؤتيه الجهد، فواجب كذلك علينا أن نقر بأنا لم نبلغ من العلم ما يطوع لنا كل هذا الغرور.

أوَيجد أولئك الأصحاب — عفا الله عنهم — ما يفسرون به كيف استطاع «ماركوني»، وكيف استطاع «أديسون» أن يكشفا في عصرنا ما اكتشفا مما لم يستطعه غيرهما، وأضرابهما في العلم والمعرفة كثيرون؟ ما هذه القوة التي أرتهما ما لم يره غيرهما؟ ولماذا لم ينسج أضرابهما على منوالهما كما ينسج الصانع على غرار الصانع، والزارع على غرار الزارع؟ وهل يجدون ما يفسرون به لماذا ظل أرسطوطاليس وأفلاطون أئمة في الفكر، وقد تقدم العلم بالإنسانية نحو ثلاثمائة وألفي سنة؟ وما قولهم في الظاهرات التي يسجلها العلم اليوم، ولا يجد لها فيما اهتدى إليه من سنن الكون تأويلًا؟

لا يسعك إذ تقف أمام هذه الأسماء والظاهرات إلَا أن تقف موقف تَواضُع وإكبار، ولكن أين هذا من موقفي أمام آثار الرسول الكريم في منزل الوحي؟! ما كان أعظمه في تحنُّثه! وما كان أعظمه في دعوة قومه إلى الهدى، وفي صبره على أذاهم، وفي تأديبه المسلمين بأدب القوة على الحياة! وما كان أعظمه في هجرته وفي غزواته، وفي عفوه وحلمه، وفي تقواه وعدله! نعم … ما كان أعظمه في كل صفاته وفي كل أعماله! لكن هذه العظمة التي لا تدانيها عظمة تصبح أمرًا إنسانيًّا إذا ذكر الوحي وذكر اتصاله بربه وما رأى من آياته الكبرى، وهنا يبلغ السُّمو إلى حيث لا تدرك الإنسانية منه بعض المدى، ولا يسع الإنسان إلا أن يكرر قوله — تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ.

وهنا يحاول العقل أن يسمو فوق نفسه ليدرك هذا الأفق الأعلى، وهيهات أن يدركه والعلم ما يزال إلى اليوم محدود الأفق، قاصرًا دون تفسير الكثير مما يقع عليه الحس، أفرجعيةٌ أن يقف الإنسان في منزل الوحي يحاول السُّمو إلى أن يفهم كيف كانت صورته؟! أم رجعية أن يقف الإنسان عند آثار صاحب الوحي يلتمس فيها الأسوة والعبرة؟! إن يكن ذلك ظن أصحابي فأَحْبِبْ إليَّ بها رجعية أستسيغها.

وأدع الإشارة إلى محاولات قام بها السلف، ولا يزال العلماء من أهل عصرنا يعالجون القيام بمثلها ابتغاء الاتصال بالعالم في وحدته التي تشتمل الزمان والمكان، وإلى محاولات غيرها يبتغي العلماء بها تفسير هذا الاتصال على الطريقة العلمية الحديثة، وأدع الإشارة كذلك إلى أن المذاهب الفلسفية ترمي كلها إلى تصوير الكون بدءًا وغاية، وإلى أنها تستمد هذا التصوير من وَحْي الحياة ما كان منها وما يكون، ما كشف عنه العلم وما يزال مطويًّا في سر الغيب، وهذه المذاهب تقتتل ويتَّهم بعضها بعضًا بقصور وسائله عن دَرَك الغاية، أو بنزوع وسائله منزعًا لا يقف في حدود العلم وطريقته، بل ينحو نحو المنطق التجريدي «الميتافيزيقي» المتَّهم في نظر الواقعيين بالرجعية، فلو أنني حاولت هذه الإشارة لطال بي الاستطراد إلى ما لا يتسع له هذا التقديم، ثم لرأى القارئ أمثال «برجسون» — صاحب نظرية الإلهام والتطور المنشئ — يُغمَزون برجعيةٍ كالتي أُغمَز اليوم بها، وحسبي عزاء أن ما غُمِزوا به لم يَحُلْ بين الجمهور المثقف والعناية بمذاهبهم، حرصًا من هذا الجمهور على اجتلاء الحق الذي تنطوي هذه المذاهب عليه، بل إن هذا المغمز بالرجعية ليزيدني غبطةً بما لقيته بحوثي هذه من عناية القراء والباحثين بها عناية كانت الشهيدة على ما حباني الله من توفيقه في التحدث إلى الناس حديثًا يرونه جديرًا بالاستماع له.

على أن هذه الرجعية التي زعموا قد أتاحت لي أن أقوم في مواقفي هذه بالبحوث التي أشرت إليها عن شئونٍ من بلاد العرب اختلفت الآراء عليها في عصور الإسلام المختلفة، وإذا لم أكن قد تعمقت في هذه البحوث؛ لأنني لم أقض بالحجاز إلا ستة أسابيع، ولم أنفق للبحث بعد ذلك من وقتي إلا ما قضت به الحاجة لتأليف هذا الكتاب، فلَشَدَّ ما يسرني لو يُمَهِّد مجهودي لبحوث جامعية أدنى إلى الدقة في تصوير الحقيقة، بعد إذ بلغتُ أنا منها حظًّا أغتبط له في مسائل شتى خالفت رأي الجمهور في بعضها، وإني لأترك الحكم على هذه النتائج لمن اختصوا ببحث هذه الشُّئون، كما أترك لهم تقدير ما خالفت الجمهور فيه بعد أن رجعت إلى مصادر البحث العربية والأجنبية التي أتيح لي الرجوع إليها، وبعد أن استعنت في ذلك بمن أمدوني بمعلوماتهم، ومن عاونوني في تقصِّي المراجع المختلفة.

وليس يسعني وقد ذكرت من عاونوني، بدون التنويه في هذا التقديم بما كان لمعونتهم من فضل جدير بأطيب الثناء، وشبان الحجاز هم أول الأعوان الجديرين بشكري، والحاج عبد الله فلبي، أو سانت جون فلبي، حقيق بمثل هذا الشكر.

ولقد كان لرجال القسم الأدبي بدار الكتب المصرية من فضل معاونتي في كثير من مراجعاتي ما يستحقون من أجله أطيب الثناء، أما دقة الفن في طبع الكتاب فترجع إلى أولي الأمر في مطبعة دار الكتب، والقارئ يشاركني في شكرهم عليها.

وسأظل أذكر ما حييت ما بذله الشيخ عبد الحميد حديدي أحد رجال مكة ذوي الفضل والعلم من معاونة صادقة كان لها أبلغ الأثر في اتجاهي، وكان مضيفي بمكة الشيخ عباس قطان أمين العاصمة قد أحدث التعارف بيني وبينه ورجاه أن يصحبني، فصحبني الرجل في تجوالي بمكة وبادية الطائف، وذهب معي إلى المدينة، ولزمني حتى ودَّعني مسافرًا من ينبع، وقد كان في صحبته رفيقًا ذكيًّا ودليلًا محيطًا بتفاصيل المواقع في مكة، عارفًا بما في الطائف والمدينة، وقد أعانه السيد صالح القزاز والشريف حمزة الغالبي في رحلة الطائف، وأعانه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري أعظم العون في رحلة المدينة، ولقد حرصت على الإشارة أثناء فصول الكتاب إلى ما قام به هؤلاء الإخوان الأجلاء من جهد في معاونتي جدير بكل تقدير وحمد.

أما ما كان لجلالة الملك ابن السعود ولوزير ماليته الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان ورجال الحكومة العربية من فضل في معاونتي فذلك ما لا يفي الثناء بتقديره.

وإني لأستغفر من نَسيت ذكرهم من أولي الفضل ومَن كانت لهم يد في معونتي، والله يجزيهم عني أحسن الجزاء.

ويزيد في تقديري لهذه المعاونة وفي ثنائي على الذين أسْدَوْها إليَّ بما هم أهله أنها طوَّعت لي أن أقف أنا نفسي عند ما وقفت عليه من قبل في بطون الكتب، وأن أصف ها هنا ما كان لهذه المواقف من أثر مباشر في أَطْوَاء روحي، وإني لأعتبر هذه الحرية في الشعور فضلًا من الله عظيمًا، فنحن في حاجة إلى أن نرى الأشياء في كل عصرٍ بعين أهله، وأن نحكم عليها بما بلغنا فيه من تقدم أو تطوُّر في العلم والحضارة، فأما أن نتقيد بما شهده السلف فذلك الجمود الذي لم يرضه الإسلام مذ بعث الله به نبيه، وذلك ما يحب أن نتنزه عنه؛ ولهذا قدمت أنني لم أتقيد أمام شيء مما رأيت بكتابٍ غير كتاب الله، ولم أجعل لي في التقدير إمامًا إلا ما رضيه العقل وطابت به النفس، ولم أخش إلا الله، وإلا ضميري فيما أفاضه الحس على القرطاس، فليغمزني من شاء بالرجعية، وليتهمني من شاء بمخالفة الإجماع، وليقدر هذا المجهود من شاء بما يشاء؛ فإنما أبتغي به الجزاء من الله يوم تُجْزَى كل نفس بما كسبت ولا يعرف حميمٌ حميمًا، والله وحده عليم بذات الصدور.

وأختم هذا التقديم راجيًا أن يثمر هذا العمل من تقدير قومي ما يدعو جامعات الشرق العربي، وما يدعو الكُتَّاب إلى مزيد من العناية بهذه البلاد الإسلامية المقدسة، ودراسة حاضرها وماضيها دراسة علمية دقيقة، وما يدعو المفكرين والساسة أولي العزم ليعملوا على إصلاح هذه البلاد، وليتخذوا من مكة أم القرى مقرًّا لعصبة أمم إسلامية، ألا لو فعل هؤلاء وأولئك ليكونن عملهم أعظم فوزٍ لهذا الكتاب، وليكونن فتح الله يومئذٍ للمؤمنين مبينًا.

محمد حسين هيكل

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤