على قبر حمزة

صَهْ! فأنت هنا أمام عرين الأسد، وهذه الجبال والأودية مما حولك كلها مجاله، فيها كان يجول ويصول، أثناءها كان يصيح بفرائسه من شجعان قريش، فإذا هي تنهَدُّ إلى الأرض رعبًا وفزعًا، هذا جَبَل أُحُد أمامك، وهذا جبل سَلْع من خلفك، وهذا وادي قَناة يجري بينهما، وهذه البساتين تمتد ها هنا وهناك عن يمين وعن شمال وراء هذا المَهْمَه الذي ظل خَلاءً من هيبة صاحب العرين، ما لي أراك الآن حاسِرَ الرأس خاشِعًا، وما يبكيك؟ أتُراك كأهل هذه المدينة لا يبكون فقيدًا لهم إلا بَكَوْا قبله حمزة أسد الله وأسد رسوله؟! أم تُراك ادَّكرتَ مصرعه على مقربة منك وهذا دمه الذكي تتراءى لعينيك في كل قطرة منه معاني النبل والكرامة والاستبسال والشجاعة، فأنت تبكي لهذه الخصال غَالَها وَحْشيٌّ في غير مُصاولة أو مُبارزة! ابْكِ ما طاب لك البكاء، وامتثل من صفات حمزة ومن شَمَمِه وإقدامه ومن إيمانه وسمو نفسه ما شئت، فما أنت ببالغ من بكائك ومن امتثالك إلا ما يزيدك شوقًا إلى هذا القبر، تعود إليه لتقف عنده فتبكي صاحبه، وتتمثل فيه الأسد الذي صُرع في غزوة أُحُد لا كما تُصرع الأبطال في ميدان القتال، بل كما يُغتال الكرام في حلك الظلام، وهل كان أحد من شجعان العرب جميعًا يحسب نفسه كفؤًا لحمزة ونزاله؟! وهل كان يظن أحد أن يُطالع الموت حمزة في معركة على طول ما مشى بين صفوف الموت مختالًا؟! ولكن ما عسى تُغني الشجاعة والنبل حين يختبئ الاغتيال في حِنْدِس الليل فيورد صاحبهما حتفه.

كان حمزة بن عبد المطلب عمُّ النبي وأخوه في الرضاع الإباءَ والشَّمَمَ، وكان البطلَ المُعْلَمَ، والمغوار الذي تهابه الشجعان منذ نشأته، لما افتدى عبد المطلب ابنه عبد الله من الآلهة بمائة من الإبل فكر في تزويجه، وكان عبد المطلب يومئذٍ في السبعين من عمره، فخرج بعبد الله حتى أتى به منازل بني زُهرة وخطب آمنة بنت وَهْب إلى أبيها زوجًا لابنه، وخطب ابنة عمها هالة زوجًا لنفسه، وولدت آمنة محمدًا، وولدت هالة حمزة، والروايات تختلف؛ أي الطفلين سبق صاحبه إلى الحياة؟ وإن أرضعتهما جميعًا ثُوَيْبة جارية أبي لهب، وشبَّ محمد يهيئه الله لما أراد من رسالته، وشبَّ حمزة فتًى أبيًّا قويًّا، رَضِيَّ الخلق، وسيم الطلعة، مفتول العضل، محبًّا للقنص يخرج له في الفلاة ويرمي بقوسه، فإذا عاد منه لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، ثم لم يمرَّ على نادٍ من قريش إلا وقف وسلَّم وتحدَّث مع مَن فيه، وكانوا جميعًا يحبونه ويهابونه أن كان أعزَّ قريش وأشدها شَكِيمة.

ولما بعث الله ابن أخيه نبيًّا ورسولًا وبدأت قريش تُناوئه وتؤذيه، لم يطِبْ حمزة بما يصنعون نفسًا، لكنه ظل يكظم غضبه حتى لا يخرج على الجماعة في عقيدتها، ولقد كان كلما رأى مِن ذلك شيئًا جعل يفكر في أمر ابن أخيه وما يدعو إليه فيرى فيه الحق لا سبيل إلى إنكاره، لكن قومه من بني هاشم لم يتابعوا محمدًا، ولم يتابعه أخوه أبو طالب الذي كان من محمد في مقام الأبوة، والذي كان يحميه من قريش وأذاها، ولكن حمزة أخٌ لمحمد وليس عَمًّا له وكفى، وهو بعدُ أصغر إخوته سنًّا وأشدهم بأسًا وأكثرهم لذلك صراحة، وهو مَن لا يُطيق أن يرى الحق فيما يقول محمد ولا يُصارح الناس جميعًا بتصديقه إياه وإيمانه به، وإنه يومًا لفي قنصه غائب عن مكة إذْ لقي أبو جهل محمدًا جالسًا عند الصَّفا، وكان أبو جهل رجلًا حَدِيد الوجه واللسان، لا يفتأ ينكر على محمد دعوته ويتَّهِمه فيها، فلما لقيه في مجلسه ذاك آذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، ولم يكلمه محمد، بل انصرف عنه إلى بيته، وعمد أبو جهل إلى جماعة من قريش عند الكعبة فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن جُدْعان في مسكنٍ لها فوق الصفا تسمع ما كان بين الرجلين، فلم تلبثْ حين رأت حمزة بن عبد المطلب مُقبلًا من قنصه متوشحًا سيفه أن وجهت إليه الحديث، فسلَّمتْ وقالت: يا أبا عمارة! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفًا قبل أن تأتي من أبي الحكم بن هشام! وجده ها هنا جالسًا فسَبَّه وآذاه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه محمد ولم يكلمه، هنالك احتمل حمزةَ الغَضَبُ فخرج سريعًا لا يقف على أحد، كما كان يصنع، يريد الطواف بالكعبة، معدًّا لأبي جهل بن هشام إذا لقيه أن يقع به، فلما بلغ الكعبة نظر إليه جالسًا في القوم فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة فَشَجَّه شَجَّةً مُنكَرة، وقال له: أتسبه وأنا على دينه أقول ما يقول؟! فرُدَّ ذلك عَلَيَّ إن استطعت، وأراد رجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل، فمنعهم حسمًا للشرِّ ومخافة استفحاله بين عشيرته وقومه، واعترف أنه سَبَّ محمدًا سبًّا قبيحًا.

من يومئذٍ أصبح حمزة أسد الله وأسد رسوله، وحسبت قريش لمحمد وأصحابه حسابًا لم يكن يدور لها بخَلَدٍ من قبلُ.

لما اتحذ محمدٌ دارَ الأرقم مجلسًا له مع المسلمين وحمزة مِن بينهم ضرب الباب عليهم يومًا رجل يبتغي الدخول، وقام أحد المسلمين ونظر من خلل الباب ثم عاد فزِعًا يقول: هذا عُمَرُ بن الخطاب متوشحًا السيف، ولم يكن يودُّ أن يأذن النبي له، أما حمزة بن عبد المطلب فقال: بل ائْذَنْ له، فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان يريد شرًّا قتلناه بسيفه، وأَذِنَ النبي لعمر فدخل وأسلم.

هذان حادثان يصفان لك حمزة بن عبد المطلب وخُلقه، ويصوِّران لك مبلغ جُرأته وإقدامه واعتداده بنفسه.

ولما هاجر رسول الله إلى المدينة وآخى فيها بين المهاجرين والأنصار آخى بين حمزة وزيد بن حارثة مولى النبي، وكان لهذا الإخاء حُكم إخاء النسب أوَّلَ أمْرِهِ، ومع ما حدث من عود الأمور إلى طبيعتها بعد أن استقر مقام المهاجرين بالمدينة لقد حَفِظ حمزة هذا العهد فأوصى إلى زيد يوم أُحُد، وفي هذا من الوفاء والكرم ما يصور لك ناحية أخرى من حياة حمزة.

ولقد كان حمزة أول من بعثه رسول الله على رأس أول سرية قامت من المدينة لمناوأة قريش: بعث به في ثلاثين راكبًا من المهاجرين دون الأنصار، فلقي أبا جهل بن هشام عند شاطئ البحر في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، وكان حمزة على أُهْبة مقاتلة قريش، على ما بين الفريقين من تفاوُتٍ عظيم في العدد، لولا أن حَجَز بينهم مَجْديُّ بن عمرو الجُهَنِي وكان موادعًا الفريقين جميعًا، فلما كان شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة ووقعت غزوة بدر كان حمزة فارسها المُعْلَم وبطلها المغوار، وكان مُعْلَمًا يومئذٍ بريشة نعامة، ولقد كان المسلمون وكانت قريش تترددان أول المعركة في خوض غمارها حتى وقف عامر بن الحضرمي يصيح: وا عَمْرَاه! يذكر قتل المسلمين أخاه عَمْرًا قبل ذلك بأسابيع في سرية عبد الله بن جحش ويطلب الثأر له، هنالك اندفع الأَسْوَد بن عبد الأسد المخزومي من بين صفوف قريش إلى صفوف المسلمين، فعاجله حمزة بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى الأرض تشخب رجله دمًا، وأتبع حمزة الضربة بأخرى قَضَتْ عليه، بذلك بدأت المعركة، وأعجل الالتحام فيها أن خرج عُتْبة بن ربيعة بين أخيه شَيْبة وابنه الوليد، وخرج إليهم من المسلمين حمزة وعليُّ بن أبي طالب وعُبَيْدة بن الحارث، ولم يمهل حمزة شيبة ولا أمهل عليٌّ الوليد أن قَتَلَاهما، ثم أعانا عبيدة وقد ثبت له عُتْبة، عند ذلك تزاحف الفريقان، لم يمنع المسلمين منه أن قريشًا ثلاثة أمثالهم عددًا وعُدَّة، وخاض حمزة الغمار يضرب بسيفه عن يمينه وشماله يقُطُّ الرقاب ويُطيح برءوس الشجعان، ولا يجرؤ سيف أن يمتد ناحيته، ولا يدٌ أن ترتفع إليه، ومتى استطاع الفرسان أن يحدقوا في وجه هذا الأسد الكاسر، أسد الله ورسوله؟!

فلما أتم الله النصر للمسلمين ببدر وعادوا إلى المدينة فتحرش بهم اليهود وأزمع محمد محاصرة بني قينقاع، كان حمزة حامل لوائه، ولما استدار العام وخرجت قريش تريد الثأر من بدر، كان حمزة الموت الذي تخشى، والنقمة التي تريد أن تتخلص منها، وكانت هند بنت عتبة أشد قريش كراهية له ورغبة في موته، لقد قتل في بدر أباها وأخاها، ونكَّل بكثيرين من الأعزَّة عليها، لكنها كانت تعلم أن قتله مواجهةً ليس بالأمر الهين، ومَن ذا في قريش بل في بلاد العرب كلها يستطيع أن يواجهه؟! لذلك وَعَدَتْ وحشيًّا الحبشي خيرًا كثيرًا إن هو اغتال حمزة، وكان وحشيٌّ مولًى لجبير بن مُطْعِم، وكان حمزة قد قتل عم جبير ببدر، فلما عرف ما وَعَدَتْ هند مولاه قال له: إن قَتَلْتَ حمزة عم محمد فأنت عَتِيق، والتقى الجيشان بأُحُد، فإذا حمزة يخوض الغمار كيوم بدر، يهُدُّ كل من لقي بسيفه فتفيض من جسده روحه، قتل سِبَاع بن عبد العزى الغبْشاني، وقتل أرطأة بن شُرَحْبِيل، وقتل كل قرشي لقيه، ولم يكْفِ سيفه يمينه، بل أمسك بيساره سيفًا آخر وجعل يُقبل ويدبر ويصيب بسيفه في إقباله وإدباره، وإنه لكذلك وأبطال قريش يُوَلُّون منه فرارًا إذ عثر عثرة فوقع على ظهره فانكشفت درعه عن بطنه، وانتهز وحشي هذه الفرصة فهزَّ حربته حتى رَضِي عنها ثم دفعها عليه فوقعت في ثُنَّته وخرجت من بين رجليه، وتركه وإياها حتى مات، رَوَى وحشي قال: ثم أتيتُهُ فأخذت حربتي ورجعتُ بها إلى المعسكر وقعدتُ فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، إنما قتلته لأُعْتَقَ، فلما قدمتُ مكة أُعتقت.

وأقبلت هند بنت عتبة في أعقاب المعركة، فلما رأته مبقورًا بطنه لم يكفها أنه مات بل مَثَّلتْ به ما لم يُمَثَّل بأَحَدٍ في غزاة: جَدَعَتْ أنفه، وقطعت أُذنيه وشقَّت بطنه، وأخرجت كبده تمضغها وتلوكها تشفيًا وسَخِيمةً، وبلغ من فظاعة ما صنعت أن خجل أبو سفيان زوجها ورئيس قريش، فقال: إنه كانت في القوم مُثلة، وإن كانت على غير ملأ مني، ما أمرتُ ولا نَهيت، ولا رَضِيت ولا كَرِهت، ولا ساءني ولا سَرَّني.

ولقد أحزن قتلُ حمزة النبيَّ وحزَّ في فؤاده، فقد عاد المسلمون إلى الميدان بعد المعركة وخرج محمد يلتمس عمه، فلما رآه قد بقر بطنه ومثل به غلبه الحزن وقال: «لَنْ أُصابَ بمثلك أبدًا، وما وقفتُ موقفًا قطُّ أغيظ إليَّ مِن هذا!» وأمسك هنيهة مُوجَع القلب ثم أردف: «يرحمك الله يا عمِّ! لقد كنتَ وَصولًا للرحم، فَعولًا للخيرات.» وغلبه الحزن فأمسك مرة أخرى، وهو أثناء ذلك ينظر لما أصاب حمزة من مُثْلة شنعاء، فلما سَكَن عنه الحزن قال وما زال مغضبًا: «والله، لن أظفرني الله بالقوم يومًا من الدهر لأُمَثِّلَنَّ بهم مُثْلة لم يمثلها أحد من العرب.» وفي رواية: «لأمثلن بسبعين منهم …» وفي هذا نزل قوله — تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ، وفي حمزة وفي قَتْلَى أُحُد نزل قوله — تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فلما نزلت هذه الآيات قال رسول الله: «بل الصبر» وكفَّر عن يمينه.

ولم يكن المسلمون أقل جزعًا لمقتل حمزة من رسول الله، أقبلت أخته صفية بنت عبد المطلب بعد الموقعة تطلبه لا تدري ما صنع، ورآها عليٌّ والزبير مُقْبِلة فخشيا لقياها، قال عليٌّ للزبير: اذكر لأمك … وقال الزبير: بل اذكر لعمتك، ولما بلغتهما سألت: ما صنع حمزة؟ فأرياها أنهما لا يدريان، إشفاقًا عليها وعلى نفسيهما من حُزنها، ورآها النبي مقبلةً عليه فقال: إني أخاف على عقلها، ثم وضع يده على صدرها ودعا لها فاسترجعتْ وبكتْ وقد رأت المصابَ في صوته، فلما انصرفت قال: «لولا جزع النساء لتركتُه يُحْشَر من حواصل الطير وبطون السباع.»

ولما أراد المسلمون دفن القتلى وقف النبي على جثمان حمزة، وجعلوا يجيئون بالقتلى واحدًا بعد الآخر فيضعونهم إلى جانب حمزة فيصلي النبي عليهم، وكذلك صلى على حمزة سبعين مرة.

وبكت نساء المدينة القتلى، وسمع رسول الله نساء بني عبد الأشهل يبكين قتلاهن، فقال متوجعًا: «لكن حمزة لا بَوَاكِيَ له.» فسمع ذلك معاذ بن عبد الأشهل فساقهن إلى باب رسول الله فبكين على حمزة، فدعا لهن وردهن، فلم تبكِ امرأة من الأنصار بعد ذلك اليوم على ميت إلا بدأت بالبكاء على حمزة ثم بكت ميتها.

هذا حمزة الذي نقف الآن على قبره تجاه أُحُد، والذي يؤمُّه كُلُّ مَن قصد المدينة للزيارة، وقبر حمزة ليس كغيره من القبور في هذا العهد الوهابي، فهو ليس مسوًّى بالأرض، بل يقوم فوقه بناء أسطواني من حجر ضارب إلى السواد يرتفع على الأرض نحو الذراع، ولم أَعْجَب إذ عرفت أن الحكومة الحاضرة أقامت هذا البناء بعد أن هدمت القبة التي كانت قائمة على القبر، فهذه الصفات في حمزة: صفات البطولة والإباء والاستشهاد في سبيل الله، تثير في كل نفس أسمى المعاني، وتقفها أمام صاحب هذه الصفات موقف الإجلال والإكبار، ذلك ما يتفق فيه الناس جميعًا، لا تفاوت بين البدوي الذي يقضي حياته مرتحلًا في البيداء، ومَن بلغ من الحضارة والعلم وتهذيب النفس كل غاية، ولم يختلف اثنان على ما كان لحمزة من هذه الصفات، ولم يكن حمزة يومًا موضعًا لدعاية سياسية طمعًا في حكم أو سلطان؛ لذلك كانت المعاني المتصلة بصفاته طاهرة مبرأة من كل غاية؛ ولذلك أثارت الإعجاب من كل نفس والإكبار في كل قلب، وكانت شفيعًا لقبره حتى عند الوهابيين.

وذهبت أمتثل حمزة وهذه الصفات فيه وأنا واقف على القبر أجيل بصري في الميدان الفسيح حولي، هذا رجل آتاه الله من فضله بسطة في القوة، ومهابة في القلوب، ونعيمًا بالحياة ومحبة من الناس، وكان له أن يستمتع وهذه صفاته برفه العيش وطمأنينة البأس، وأن يستريح إلى مكانته من قومه واحترامه فيهم، لكنه لم يطِبْ نفسًا بعبادة قومه الأصنام، ولم يُطِقْ أن يسُبَّ أبو جهل الوثني ابن أخيه الداعي إلى الله، فضرب أبا جهل فشجَّه وأعلن على ملأ الناس إيمانه، ولا يقولَنَّ أحدٌ: إن النعرة العصبية أو العزة العربية هي التي دفعته إلى ما صنع، فلقد كان أعمام النبي جميعًا عربًا لهم عزة وفيهم نعرة، وطالما آذت قريش ابن أخيه فغضبوا ومنعوه ولم يؤمن مع ذلك منهم أحد، لكنه الإيمان الذي امتثلته نفس حمزة هو الذي دفعه إلى ما صنع، وهل مِثْل حمزة في بسالته واستهانته بالموت من يقول لأبي جهل وهو مَنْ هو مكانةً في قومه بعد أن شجَّه لسَبِّه محمدًا: «أتسبه وأنا على دينه أقول ما يقول؟!» إلا أن يكون صادق الإيمان؟ بلغ من امتثال قلبه رسالة الله إلى نبيه ألا يطيق تعريض أحد به، ومن يومئذٍ وهب حمزة حياته لله وللدفاع عن دينه؛ لأنه أيقن أن هذا الدين هو المثل الأعلى الذي توهب الحياة في سبيله.

وكلٌّ يفتدي بحياته مثله الأعلى في الحياة؛ فالبخيل الذي يعبد المال يُضَحِّي بحياته دفاعًا عن ماله، والمُدَلَّه بالعشق يضحي بحياته دفاعًا عن محبوبته، والفلاح أو الصانع يضحي بحياته دفاعًا عن رزقه، والأب البارُّ يضحِّي بحياته لأبنائه، والحيوان يضحي بحياته دفاعًا عنها وعن كل ما يُقيمها، وإنما يتفاوتُ الناس في درجات السمو بتفاوت مثلهم الأعلى في درجاته، فما اتصل بالطعام والشراب وكل ما يقيم الحياة مَثَلٌ أعلى للحيوان ولمَنْ لم يَسْمُ على مرتبته إلا قليلًا من بني الإنسان، وكلما ازداد المرء سُمُوًّا ازداد مثله الأعلى تنزُّهًا عن الأثرة واتصالًا بالغايات الاجتماعية والوطنية والروحية، والإيمان الصادق أسمى صورة للمثل الأعلى، فللَّه المَثَلُ الأعلى، بنوره يتحابُّ الناس بينهم، لا تفرقهم الألوان ولا الأوطان ولا اللغات ولا الأجناس ولا الأديان، والاستشهاد في سبيل الله استشهاد في سبيل هذا المثل الأعلى، يريد صاحبه أن تبلغ الإنسانية غاية ما يُستطاع من السمو الروحي، وأن يبلغ بها تبادل الحب غاية الرضا، وأن تصبح بذلك وِحْدة تعمل لغاية مشتركة وإن اختلفت أممها وأجناسها، كما تعمل أعضاء الجسم كلها لغاية واحدة وإن اختلف شكلها واختلفت وظائفها، أين مَنْ يدرك هذا المعنى ثم لا يستشهد في سبيله؟! وقد أدركه حمزة بن عبد المطلب فاستُشهد في سبيله.

والموت في سبيل هذا المثل الأعلى هو وحده الاستشهاد، والذين يهبون أنفسهم له هم دون غيرهم الشهداء؛ ذلك بأن الملأ جميعًا يشهدهم ويشهد أنهم يؤثرونه على أنفسهم وعلى هذه الحياة الدنيا، والله يرضَى عنهم ويقول لهم: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وحياة هؤلاء عند ربهم ليست كحياة هذه الدنيا؛ طعام وشراب وأثرة وشحناء، بل حياة روحية راضية مرضية، مضيئة بالحب متصلة بالله، ومشرقة بنور وجهه الكريم، أليست حياةً سبيلها وغايتها للمثل الأعلى؟! أوَليس المثل الأعلى لله؟! وأولئك الشهداء رَضِي الله عنهم ورَضُوا عنه، ذلك لمن خشي ربه.

قَلَّ من الناس مَن يذكر هذا أو يُدْركه حين يزور قبر حمزة ويقف عليه، بل إن منهم لمن يشرك حمزة في قدرة الله، أو يتخذه وسيلة إليه، كان لحمزة قبر ومسجد هدمهما الوهابيون، ولقد كان على القبر الذي بالمسجد لوحة فيها هذان البيتان:

قِفْ على أبوابنا في كُلِّ ضِيقٍ
واطْلُبِ الحاجاتِ وابْشِرْ بالمُنَى
فَحِمَانا مَلْجاٌ للطالبين
وبِنَا تُجْلَى الكُرُوبُ والعَنَا

وضَعْف هذين البيتين يصف قائلهما ومبلغ ثقافته، لكن هذه العقلية تصور عقيدة كثيرين من زوَّار قبر حمزة، وعقيدة كثيرين من المسلمين في أنحاء الأرض المختلفة، ولهؤلاء جميعًا من العذر أن الذين خيَّم على عقولهم الجهل قد طُبِعُوا على عبادة القوة، وعلى عبادة البطولة، فهم يخلعون على أبطال الماضي من صفات العبادات ما يجعلهم في حكم الأرباب، وما يدعو هؤلاء الضعفاء أن يتخذوهم إلى الله زُلفى، وهذا أمر ينكره الإسلام حين ينكر على الناس أن يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، الأموات والأحياء في ذلك سواء؛ والإسلام ينكره لأنه ينكر أن يتجه إنسان بالعبادة لغير الله. ليكن غيره من الناس بطلًا وليبلغ من البطولة كل ما يتصوره الخيال، فهو إنسان مثلنا، عبدٌ لله كعبوديتنا له، ونحن وهو أمام الله سواء، أكرَمُنا عند الله أتقانا، بل ليكن الإنسان أعظم من بطل، ليكن نبيًّا ورسولًا وداعيًا إلى الخير بإذن الله وسراجًا منيرًا، فهو بعدُ إنسان، له إكبارنا وإكرامنا واحترامنا، وعليه صلواتنا، لكنه بَشَرٌ مثلنا، عبدٌ لله كعبوديتنا له، وهو أقرب إلى الله الذي اصطفاه، لكنه في حاجة إلى مغفرة الله له كحاجة الإنسان إلى مغفرة الله له.

ينكر الإسلام إذن عبادة القوم وعبادة البطولة، وكلَّ عبادة لغير الله، وإنما يدعو الإسلام إلى الأسوة، والله — تعالى — إذ يتحدث عن رسوله يقول: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، والإسلام إذ يدعو إلى الأسوة إنما يدعو إلى مجاهدة المرء ضعف نفسه وإلى دأبه للسمو بها؛ كي تبلغ مكانة القديسين والأولياء المقربين، وتطهيرها لذلك من كل أسباب الحَوْبة والإثم، والإسلام يفتح الباب واسعًا لكل مَن أخلص لله وجهه أن يصل بالتقوى إلى هذه المكانة، حُرًّا قرشيًّا كان أو عبدًا حبشيًّا. ومعرفة الله معرفة حقة هي باب التقوى، والمعرفة لا تجعل التقوى في الضعف ولا في الخوف، بل في العِلْم بسُنَّة الكون والوقوف على أسراره والاتصال بما جل ودق منه وإدراك حكمة الله لذلك فيه، ولنا في الذين بلغوا من هذه المعرفة أسمى درجاتها الأسوة، فإن أضلَّهم عِلْمُهم فلن يُضل العلمُ مسلمًا عرف أن سُنة الله لا تبديل لها، وأن معرفتها عبادة له هي خير أنواع العبادة، وذلك ما كان يفهمه المسلمون الأولون من الأسوة الحسنة؛ لذلك لم يلبثوا حين طوَّع لهم إيمانهم فتح الأمصار وحُكم الأمم أن اتخذوا من علمائهم أساتذةً عهدوا إليهم بنقل علوم الطب والفلك وتقويم البلدان ونقل كتب الفلسفة اليونانية والوقوف من ذلك كله على كل ما وصلت إليه المعرفة الإنسانية في عصرهم، بذلك أقاموا منارة الحضارة في العالم، وعملوا لهُدَى الإنسانية إلى نور العلم وما يهدي هذا النور إليه من توحيد الله الحق.

أما والإسلام ينكر عبادة القوة وعبادة البطولة وكل عبادة لغير الله ويدعو إلى الأسوة الحسنة، فمن الواجب على الذين يزورون قبر حمزة أن يلتمسوا فيه هذه الأسوة، وأن يعلموا أن الله يجزيهم بجهادهم لبلوغ الغاية منها، ولا يجزيهم لمجرد الزيارة والتبرك والدعاء، فإنما يجزي الله العامل بعمله، فمن يعمل صالحًا يُجْزَ به، وأسوة حمزة هي الجهاد في سبيل الله، له المثل الأعلى، وبذل الحياة لدفع من يصُدُّ عن سبيل الله ابتغاء العاجلة من حكم أو سلطان.

نسي المسلمون هذا المعنى في كثير من العصور، ولا يزال أكثرهم ينساه، واتخذت بعض الأمم الإسلامية ملوكها أربابًا، وجعلت من بعض الصالحين فيها أولياء اتخذتهم إلى الله زُلفى، ولهؤلاء وأولئك بنت القباب وأقامت عليها المساجد، لا تقصد تخليد ذكراهم ليكون في الذكرى للأجيال أسوة ومثل، بل تقصد أن تكون القباب والمساجد محاريب لعبادتهم والتوسل بهم إلى الله، إلى ذلك قصد الذين أقاموا على قبر حمزة قبَّة ومسجدًا، وكتبوا عليه من الشعر ما أثبتنا هنا بعضه وتركنا سائره، ولو أنهم أقاموا القبة والمسجد للأسوة والذكرى لكان ذلك خيرًا، ولَحَقَّ لهم الثناء على نيتهم وعملهم، وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.

لم يبقَ لقبة حمزة ولا لمسجده اليوم أثر، فقد عفا الوهابيون عليهما ثم أقاموا مكانهما القبر الذي وصفتُ، وكان المسجد قبل هدمه مُحكم البناء خاليًا من الزخارف، به قبة فوق مقصورة أُسدل عليها ستر من أستار الكعبة — كذلك يقول صاحب مرآة الحرمين في وصفه، وأم الخليفة الناصر العباسي هي التي شيَّدت مسجد حمزة عام ٥٩٠ للهجرة، وقد أمر الأشرف قايتباي فزاد شاهين الجماليُّ في جهته الغربية وحفر له بئرًا يرْتَفِقُ بها المارَّة، وجعل لها درجًا، وأتم ذلك في سنة ٨٩٣، وكان المسجد قائمًا فوق القبر حيث يقوم البناء الأسطواني الوهابي اليوم.

وقد اختلف في موضع القبر؛ أهو اليوم في المكان الذي دُفن به حمزة بعد مصرعه في أُحُد أم هو في مكان غيره؟ وتذهب رواية إلى أن حمزة دُفن في المكان الذي صُرِع به، حتى إذا كان القرن الرابع انحطَّ من جبال الطائف سَيْلٌ جارف اجتاز المدينة ومرَّ بقبر حمزة وكشف عن ساقيه، فنُقل إلى الرَّبْوة التي بها القبر اليوم، وكان عليها المسجد حتى هُدم، وتذهب رواية أخرى إلى أنه صُرع تحت جبل الرماة، وهو جبل عينين، وأن النبي أمر بجثمانه فنُقل من بطن الوادي إلى الربوة التي عليها القبر الآن، فالمدفن غير المصرع، ويريد بعضهم التوفيق بين الروايتين فيذكر أن الربوة التي نُقل الجثمان إليها في أعقاب الغزوة قد تكون غير الربوة التي نقلت إليها الرُّفات في أوائل القرن الرابع، وهذا التوفيق ليس له عندي ما يقتضيه، فلئن كان جثمان حمزة قد نُقل في أعقاب الغزوة لهو اليوم في المكان الذي نُقل إليه يومئذٍ، فهو قريب من المقبرة التي دفن بها سائر شهداء أُحُد، وهم قد دفنوا في ميدان المعركة، وليس بين مقبرتهم والمكان الذي يقال: إنه مصرع حمزة ما يدعو إلى نقل جثمانه غير مرة.

كنت أحاور الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في هذا كله ونحن وقوف على الهضبة التي اشتهرت باسم جبل الرُّماة، نسبة إلى رُماة المسلمين في أُحُد، والتي تُسمى جبل عينين، فقد أشار لي إلى مكان بأسفل هذا الجبل قال: إنه موضع المصرع، وأشار إلى موضع من أُحُد وقال: إنه المِهْرَاس الذي احتمى به رسول الله بعد فرار المسلمين حين خالف الرُّماة أمره وبَرَحُوا مكانهم، فحلَّ خالد بن الوليد على رأس فرسان قريش محلهم فيه، وعجبتُ أن يكون المصرع بأسفل هذا الجبل، إلا أن يكون وحشيٌّ اغتال حمزة بعد أن أخلاه المسلمون وأسرعت إليه خيل قريش فسار وحشيٌّ على أثرهم.

ووقفت أصوِّر ميدان المعركة كيف كان، فقد جاءت قريش من مكة إلى المدينة في الطريق الموازي لشاطئ البحر الأحمر، ثم انعطفت مشرِّقة إلى ناحية قُباء وذي الحُليفة من جنوب المدينة، واتخذت طريق وادي العقيق إلى شمالها، حتى كانت عند البساتين والزروع القائمة أسفل أُحُد فعسكرت، وخرج المسلمون من المدينة بعد الذي كان بينهم من جدل: أيتحصَّنون بها أم يلْقَوْن المشركين في الميدان الذي اختاروه، ونزلوا قبالة قريش عند أُحُد وجعلوه إلى ظهورهم، وأمر النبي خمسين من الرماة أن يلزموا هذا النتوء من «سَلْع» ويصدوا فرسان قريش، وقال لهم: «احمُوا لنا ظهورنا فإنَّا نخاف أن يجيئونا مِن ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نَهْزِمُهُم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقْتَلُ فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، إنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل؛ فإن الخيل لا تقدم على النبل.» فلما دارت المعركة وحالف النصر المسلمين في أولها بعد أن قُتِل أصحاب اللواء من المشركين، تبع المسلمون عدوهم في فراره يضعون فيه السلاح وينتهبون ما خلف من غنيمة، وهنالك برح الرماة مكانهم ليكون لهم من الغنيمة نصيبهم، فاهتبل خالد بن الوليد الفُرْصةَ فشدَّ برجاله على مكان الرماة فأجلى مَن بقي منهم وصاح صيحةً أدركت قريش معها ما فعل، إذ ذاك عاد منهم كل مُنهزم فأثخنوا في المسلمين ضربًا وقتلًا، وتمزقت صفوف المسلمين وصاح صائح بالناس: «إن محمدًا قد قتل!» وتشجع المشركون حين سمعوا نبأ قتله، وكان رسول الله قد أصابه حجر رماه عُتْبة بي أبي وقاص فوقع لشِقِّه فأُصِيبَتْ رَبَاعِيَتُه وشُجَّ في وجهه، وكلِمَتْ شفتُه ودخلت حلقتان من المِغْفَر الذي يستر به وجهه في وجنته، وسار كبار المسلمين من حوله يدفعون عنه، فصعد أُحُدًا واحتمى بشِعبٍ من شعابه في جوار المهراس الذي كانت تقوم عليه قبة اشتهرت باسم قبة الثنية ثم هدمها الوهابيون، وقد سُميت تلك القبة بقبة الثنية لما قيل من أن ثنية رسول الله وقعت عندها.

وألقيتُ نظرةً إلى ناحية أُحُد فذكرت قول رسول الله عنه: «هذا جبل يحبنا ونحبه.» واستقر نظري على صُخوره الحمراء وعلى الرءوس الكثيرة الناتئة على سطحه، قال الأستاذ عبد القدوس: يُخيل إليك أن أُحدًا أحمر الله كله، أما أنا فقد وجدتُ فيه حين تنقلتُ بين شِعابه وقُننه وهضابه صخورًا وعروقًا مختلفة الألوان، يضرب بعضها إلى الزرقة، وبعضها إلى الخضرة، ومنها الأسود الإثمدي، والرمادي لون التراب، وقد ذكر لي صديق أنه عثر فيه بحجر من الإثمد زنته مثقالان، وآخر زنته سبعة مثاقيل، وأن صديقًا له عثر بحجر كبير كسره فانفلق عن زبرجدة عظيمة الحجم، ولطالما تساءلت: أكُشف عن شيء من هذه النفائس بأُحُد في عصر خلا؟ ولم أجد جوابًا فيما قرأت من كتب تاريخ المدينة، ولست أدري أتيسر الأقدار لأهل هذا الجبل أن يقوموا من ذلك بما لم يقم به أسلافهم؟

لم أقف طويلًا عند هذا الحديث عن طبيعة الصخور في جبل أُحُد، فلقد كنت أحرص على معرفة الطريق الذي سار فيه النبي نجاة بنفسه من أعدائه بعد أن خَالَفَ الرُّماةُ أمْرَه، ونزلنا على جبل الرماة ومررنا على مقربة من قبر حمزة وقبور الشهداء، وتخطينا إلى أُحد، وسرنا أثناءه بين صخور ضخمة تَلَوَّينا خلالها هنيهة، فإذا نحن قد ابتلعنا الجبل فحجبنا عن كل ما وراءه، لم يبقَ أمامنا وادي قناة ولا جبل سَلْع ولا هضبة الرماة، بل كنا خلال جبل تتلوى الطرق على سفوحه إلى حيث لا أدري، قال عبد القدوس بعد أن سرنا زمنًا: هذا المهراس الشرقي الذي جيء للنبي بالماء منه يوم أُحُد، قلت: وما المهراس؟ فكان جوابه: تلك نُقَرٌ كِبَار وصغار يجتمع فيها ماء المطر، وكان النبي في الشِّعب القريب من هذا المهراس حين جاءه علي بن أبي طالب بماء يُروي به ظمأه؛ ووجد بالماء ريحًا فكرهه ولم يشرب منه، وإن غسل به الدم الذي أصابه أثناء المعركة، وصمت هنيهة ثم أردف: وهذا، هنا المهراس الشرقي، وثم مهراس غربي طريقه وعرٌ لا سبيل إلى ارتقائه إلا بتسلق بعض الصخور، ولم يرد في أنباء التاريخ أي المهراسين جيء منه بالماء لرسول الله، لكن بيتًا من الشعر لعبد الله بن الزِّبَعْرَى يدل على أنه هذا المهراس الشرقي، ذلك قوله:

فَسلِ المِهْرَاس مَنْ ساكنه
بين أقْحَاف وهامٍ كالحَجَلْ

والمهراس الغربي لا سبيل إلى أن ترتقيه الأفراس لوعورته وملاسة صخوره، أما وابن الزِّبَعْرَى يشير إلى المهراس الذي جيء بالماء للنبي منه فهو إذن هذا المهراس الشرقي لا ريب.

عدنا بعد ذلك أدراجنا نقصد الوادي لنستقل سيارتنا إلى المدينة، واستوقفنا جند من النجديين يقيمون ببِنْية موضعها بين القبور والمصرع، فَدُعينا إلى قهوة وشاي عندهم، وتناول الحديث أثناء ذلك في كلمات مقتضبة هؤلاء الذين مررنا بهم من زُوَّار حمزة وشُهَداء أُحُد، فهم اليوم يقفون يصلون ويستغفرون، وكانوا قبل العهد النجدي يجدون في القبة وفي المسجد وسيلة للزلفى وللعبادة، ويقيمون لذلك مع مَن يخرجون إلى هذا المكان من أهل المدينة ثلاثة أيام تُنصب فيها سوق وتجري فيها تجارة، ولا بأس بأن يقع أثناءها لَهْوٌ ومُجون، وانطلقنا بعد الشاي والقهوة نلتمس سيارتنا؛ فلم يَحُل انطلاقنا بيني وبين الالتفات إلى وراء لألقي نظرة أخيرة على قبر حمزة ولأحيط كَرَّة أخرى بهذا الوادي المترامي الأطراف إلى جوار عرين الأسد، ولأرى فيه المسجد الذي يسمونه المستراح، ويذكرون أن النبي كان يستريحُ موضعه إذ كان يزور مثوى الأسد، وعُدْتُ من بعد إلى التفكير في الاستشهاد والشهداء، وفي حمزة الذي مات فداءً لدين الله وللمسلمين إخوانه فيه.

وناجتني نفسي: لماذا يذكر الناس هؤلاء الشهداء في تقديس وإجلال وإن بَعُد بهم العهد وحجبهم الماضي في غيابات الدهور؟ فكلنا نذكرهم في تقديس وإجلال، وإنما يتفاوت مظهر إكبارنا إياهم بين العبادة وما هو منها بسبب من الجاهل، والإعظام الحق من المهذب النفس ذي العلم، ونحن إنما نُكبرهم؛ لأنهم وهبوا أنفسهم وحياتهم للإنسانية كلها وتمنوا الموت صادقين ليبلغوا بالإنسانية أسمى الأغراض التي تصبو إليها، ولم يفكر حمزة في نفسه ولا في أبنائه يوم خاض الغمار في بدر، ويوم حاصر بني قَيْنُقاع، ويوم استشهد في أُحُد، ولم يرد من أَحَد من الناس جزاءً ولا شكورًا، إنما كان تفكيره في الله وجزائه، وفي نصر الله دينه الحق لتهتدي الإنسانية إلى الصراط المستقيم وتشرق روحها بنور ربها، هو إذن قد آثر إخوانه على نفسه، وحرص على الموت ليهب لهم الحياة، فوهبه إخوانه الحياة الخالدة على الأجيال جزاءً وفاقًا، وأية حياة باقية على الدهر كحياة المرء في قلب الإنسانية ما تعاقبت أجيالها وما نَسَخَ الليل فيها النهار؟! وأي جزاء للمرء عن عمله أكبر من اعتراف الناس له على تعاقب الأجيال بالفضل عليهم، وما يكون له بسبب ذلك من حُسن الأُحْدُوثة فيهم! هؤلاء الذين وهبوا حياتهم في سبيل الحق لهُدَى إخوانهم إنما وهبوها لله ربهم؛ فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وهم ليسوا أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون.

أَجَل! هؤلاء حرصوا على الموت ليهبوا للناس الحياة، فوهب الله لهم الحياة، وقديمًا قيل: «احرِصْ على الموت تُوهب لك الحياة.» وهي كلمة حق لم تتغير على القرون، ولن تتغير، وهي من سنة الله التي لا تبديل لها، فمن تمنى الموت صادقًا بما قدمت يداه فاختاره الله إلى جواره فهو حيٌّ عند ربه، ومن تمنى الموت وبقي حيًّا ضاعف الله له أجره في هذه الحياة الدنيا، ذلك شأن الأفراد، وهو شأن الأمم؛ حياتها في أن تهب الحياة لمن بعدها وإن ضحت بحياة آخِر فردٍ منها إذا هي أُريدت على نقص في مقومات حياتها؛ في كرامتها، في عزتها، في سيادتها، في استقلالها، في حريتها التامة أن تنظم كما تشاء شئونها، والأمم التي يعرف أبناؤها كيف يموتون أعزَّةً كرامًا هي الأمم التي تحيا أبدًا عزيزة كريمة.

هذه الأمم التي تحيا عزيزة كريمة، والتي يعرف أبناؤها الحق والاستشهاد في سبيل الله، هي الأمم التي رَفَعَتْ في الإنسانية منار الهدى وبينت لها طريق الحضارة في أسمى صورها، وذلك ما فعله خلفاء حمزة من شهداء المسلمين، وإنما آفة الإنسان أن يطغى أن رآه استغنى، هي آفة الأفراد وآفة الأمم، وكم أمة عزت وكرمت ورفعت منار الحق والعدل وهَدَتِ الإنسانية سبيلها فآمنت بها الإنسانية، وسارت في خُطاها، وجَزَتْها بذلك خير ما يجزي المعترف الشكور، ثم استغنت هذه الأمة فطَغَتْ فجزت الإنسانية بطشًا واستعمارًا، يومئذٍ يمد الله لهذه الأمة بحكم سنته في طغيانها، ثم ينالها بعد ذلك من جرائها ما ينال كل طاغية كفور.

ربنا إننا آمنا بك ما آمن بك عبدك حمزة بن عبد المطلب، ربنا فهب لنا من فضلك بعض ما وهبت له، هب لنا الإيثار على أنفسنا، وأن نحب بنور وجهك الذي أشرقتْ له الظلمات إخواننا، وأن نتمنى الموت بما قدمت أيدينا، وأدخلنا ربنا في عبادك الصالحين! ربنا اهدنا صراطك المستقيم، ربنا إنك مَن تَهْدِ لا يَضِلَّ، وخير ما نرجو من هُداك أن توجِّهنا وأن توجِّه الإنسانية بفضلك إلى الحق والخير والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤