زيارة الوداع

في غَدٍ نبرح المدينة لأزور بدرًا وشهداءها ولأدرك الباخرة التي تُبْحِر من يَنْبُع إلى السويس، فغدٌ الجمعة، والباخرة تبحر ظهر الأحد، ولستُ آمنُ إن بقيتُ إلى صبح السبت بالمدينة أن يبغتني الوقت فتفوتني زيارة بدر وأنا عليها جِدُّ حريص، كفى أن فاتتني زيارة خَيْبَر بعد إذ يَسَّر لي الملك ابن السعود الوسيلة إليها، فقد دَفَعَ إليَّ كتابًا برسم أمير المدينة ليعاونني في سُلوك طريقها إلى الوقوف بها، وأظهر لي الأمير عبد العزيز بن إبراهيم رغبته في المعاونة، لكنه ذكر أن الطريق إلى خيبر ليس ممهدًا كله للسيارة، وأن الإنسان يبلغ بها منتصفه في يوم، ولا بد له بعد ذلك من امتطاء رِكَابٍ يومين كاملين، والعود يقتضيني مثل هذه المشقة وهذا الوقت، أما ولم يكن بين بلوغي المدينة وإبحار «زمزم» من ينبع غير اثني عشر يومًا يقضي الإنسان منها في الذهاب من المدينة إلى مرفأ السفر، أما وآثار المدينة وما بظاهرها يقتضي الإنسان أسبوعًا كاملًا للطواف به والوقوف عنده، فلا مفرَّ من إرجاء زيارة خيبر إلى فرصة أخرى أرجو ألا تَضنَّ الأقدار عليَّ بها.

غدٌ الجمعة، فلأجعل زيارة الوداع للحُجْرة النبوية عقب صلاة الجمعة، ولأبرح المدينة بعد صلاة العصر، ولأُؤَدِّ سائر اليوم بالمدينة واجب الشكر لأميرها عبد العزيز بن إبراهيم، ولمضيفي الشيخ عبد العزيز الخريجي وأخيه الشيخ محمد، وللكثيرين من أهل المدينة وشبابها الذين كانوا اللطف بي طول مُقامي بينهم، والذين بذلوا من معاونتي فيما سألتهم المعاونة فيه غاية ما يستطاع بذله، وشكرُهم حَسْبِي، فهو كل ما أستطيع أن أجزيهم به عن جميل طوَّقُوا به عنقي ولن أنساه.

وأصبحت فأعددت للرحيل متاعي، ولما دنا موعد الجمعة قصدت إلى المسجد فألفيته امتلأ بالمصلين، ولقد كنت على ثقة من أنني لن أجد بالروضة منه مكانًا، فالكثيرون يقصدون إليها قبل موعد الصلاة بساعات ولا يبرحونها، ومنهم من يقصد إليها من بكرة الصباح ليؤدي فيها فرض الفجر ويظل بها إلى صلاة الجمعة، وتخيرتُ مكانًا قريبًا من باب الرحمة، فإذا جار يميني رجل ممن عرفت بالمدينة، وجار يساري حاجٌّ مغربي من أبناء مراكش، عرفت من جار اليمين أنه يتردد على المدينة إذ يجيء إليها مرة كل عام أو كل عامين في أشهر الحج، وقد حيَّاني الرجل بتحية الإسلام بعد أن أتممت ركعتي السنة أول مقدمي، ثم جلسنا جميعًا ننتظر الأذان لصلاة الجماعة كي نؤدي فرضها مع الإمام.

وذكرت، وأنا بمجلسي أنتظر الأذان والصلاة، أولَ جمعة صليتها في المسجد الحرام بمكة، ذكرت عشرات الألوف الذين أحاطوا بالكعبة من جهاتها الأربع، وما أثارته في نفسي موازنتهم بالمسلمين الأولين الذين جاءوا مع رسول الله في حجة الوداع، وما بدا لي من فرق عظيم بين هؤلاء وأولئك في تصوُّر الحياة، كان المسلمون الأولون يُقبلون على صلاة الجماعة يدعوهم إليها روحٌ مبعثه الإيمان، ونظامٌ قِوامه الأخوة، وكانت الحياة لذلك عندهم فكرةً يستهينون في سبيلها بالموت ويرونه استشهادًا في سبيل الله، وكانوا يدركون إدراكًا عميقًا معنى كلمتين هما أبلغ وأقوى ما عرفت الإنسانية مذ وجدت: «الله أكبر»، وكانت صلاتهم لذلك ابتهالًا خالصًا لله — جل شأنه — وتوجُّهًا إليه ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويسمو بالنفس على غرور الحياة، أما اليوم فقد غاض الروح من هذا المجتمع وصار الإيمان فيه تقليدًا، يكتفي صاحبه بأن يقول ألفاظ الإيمان وإن لم يؤمن منها بشيء، ثم يحسب بعد ذلك أنه أرضى الله ورسوله، فإذا طمع في مزيد من الرضا خُيِّل إليه أنه بالغ من ذلك مطمعه بألوان من الزلفى لا تتصل بالعمل الصالح في شيء، وليس فيها من حب المؤمن إخوانه وإيثاره إياهم على نفسه كثير ولا قليل، بل إن المصلِّين اليوم لا يفكر أحدهم في أخيه ولا يحب إلا نفسه، وهو إنما يحضر صلاة الجماعة ابتغاء المغفرة لنفسه والثواب لنفسه دون تفكير في المؤمنين ممن حوله، وهذه الأَثَرةُ التي فتكت بالجماعات الإسلامية التي جعلتها تتعلق بالحياة لذاتها، ولا تعرف المثل الأعلى فيها، وتُذعن لذلك خاضعة لكل سلطان يملك عليها أسباب المادة في الحياة، وهذه الأثرة هي التي أبقتها في غيابات الجهل؛ لأن كُبَرَاءَها وسادتَها أمسكتهم الأثرة في دنيا مراتب الحياة فحَجَبُوا عن إخوانهم نور العلم وما يدعو إليه العلم من إيمان حق، وبذلك أضلوهم السبيل.

ذكرتُ ما ساورني من هذا التفكير بحرم مكة وأنا بمجلسي من المسجد النبوي أنتظر الأذان والصلاة، وأَجَلْتُ طرفي في هذه الجموع الجالسة حولي فحزَّ مَرْآها في نفسي، فهذه الجموع تمثل العالم الإسلامي بمئات ملايينه المنتشرة في أطراف العالم كله، وهي على ضخامة عددها كمية مهملة أو في حُكم المهملة؛ مصر، بلاد المغرب كلها، بلاد العرب، العراق، مسلمو الهند، مسلمو الملايا، مسلمو الصين، المسلمون في أوروبا، أي: أثر لهؤلاء جميعًا في عالمنا الحاضر؟! أرقام ضخمة لا تعدو أن تكون أرقامًا، واليهود لا يزيدون في العالم كله على خمسة عشر مليونًا، مع ذلك يلتفتُ العالم إذا ذُكروا يريد أن يعرف ما يريدون، تهتز لمطالبهم جوانب البرلمان البريطاني، وأرجاء عالم المال في أمريكا، وتقوم عُصبة الأمم لمطالبهم وتقعد، وكان العالم أشد تَلَفُّتًا لما يريده المسلمون في عهدهم الأول حين لم يكونوا يبلغون ثلاثة الملايين عَدًّا.

أما اليوم فمئات الملايين من المسلمين أرقام لا يُقام لها وزن ولا يُحسب لها حساب، وإذا قيل: «العالم الإسلامي» سَخِر الناسُ وقالوا: ما يزالون مُتعصِّبين، يحسبون الأديان وحدةً تقيم أمة أو أممًا، فإذا قيل: «شعب صهيون» أو قيل: «بنو إسرائيل» سمعت الأصداء تتجاوب من أنحاء العالم: شعبٌ مُضْطَهد يجب على العالم أن يبحث له عن وطن يلجأ إليه احتماء من مضطهديه، أي شيء يحزُّ في كبد المسلم ما يحز هذا الجمع الذي أراه أمامي في المسجد النبوي يمثل المسلمين جميعًا وهم يعانون الذلة والهوان صابرين! وقد كان المسلمون الذين يحضرون الصلاة في هذا المسجد أيام بساطته الأولى حين كان قائمًا من اللبِن وجذوع النخل يهزون العالم كله، لفتةٌ منهم تُزعزع العروش، فإذا تَنَادَوا: «الله أكبر» تفزعت الأفلاك والتفت الدهر.

أذَّن المؤذن للصلاة، وخَطَبَ الخطيبُ هناك عند محراب عثمان، فلم نسمع مما قال كلمة لبعدنا عنه؛ ولأن الروضة تحجب ما بيننا وبينه، وصلينا الجمعة وصلى السنة مَن شاء، وبدأ الناس ينصرفون من المسجد، أقمتُ مكاني، حتى إذ خلت أروقة المسجد أو كادت ذهبت أؤدي للحجرة النبوية ولقبر الرسول زيارة الوداع ووقفت أمام شباك التوبة ورفعت صوتي قائلًا: «السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أن نبي الله ورسوله قد بلغ رسالة ربه وجاهد في سبيله حتى أتم النصر لدينه، وأنه وفى بوعده وأمر ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له.» ومكثتُ هنيهة واقفًا أُحَدِّق في هذه الحجرة، وأذكر مَن تحوي قبورُها رُفاتهم؛ محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وأبا بكر الصديق صفي النبي وخليله، وعمر الفاروق مَن أعز الله به الإسلام يوم أسلم، ومَن نشر لواء الإسلام في الخافقين أيام خلافته، وأذكر ما حدث بعدهم بين المسلمين من حروب أهلية وما تطورت إليه العقلية الإسلامية بعد ذلك حتى هَوَتْ إلى دَرَك الانحلال، فأصبحتْ مُقَلِّدة تنفر من الاجتهاد وتحاربه، أَثِرَةً لا تعرف أخوة المؤمنين، وتنزوي لذلك أمام كل قوة.

وإني لأقلِّب في صحف نفسي وأنا حَسِيرُ الطرف، كسير القلب حياء وخجلًا، إذ انفجرت شفتاي عن هذه النجوى:

السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته! أشهد أنك رسول الله الواحد الأحد حقًّا وصدقًا، وأنه بعثك للناس كافةً بالهدى ودين الحق، هديتهم بأمره ألَّا يعبدوا إلا إياه مخلصين له الدين حُنَفاء، وألَّا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، سَمَّاك ربك عبده قبل أن يُسميك رسوله، حتى لا يضل قوم فيحرِّفوا كلام الله عن مواضعه فيؤلِّهوك أو يعبدوك كما أُلِّه رسلٌ من قبلك وعُبِدوا، وبلَّغْتَنَا من وحي ربك أنك بَشَرٌ مثلنا يوحى إليك: إنما إلهنا إله واحد؛ ليعلم الناس أن الله يصطفي لرسالاته مَن يشاء مِن عباده، فيظل مَن اصطفاه عبده وإنْ فَضَّلَه على الناس، إذ جعل بعضهم فوق بعض درجات، والله وحده — جلَّ شأنُه لا شريك له — هو الذي تجب على الناس جميعًا عبادته، لذلك خلقهم، وإليه مرجعهم، وعليه حسابهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره.

أشهد أنك رسول الله بعثك بالهدى ودين الحق، علَّمتنا بأمره ووحيه أن عِبَادة الله ليست خضوعًا، إنما هي إسلامٌ لله عن إيمان صادق ابتغاء رضاه عن صالح ما نعمل، والتماسًا لعفوه عما نضل فيه السبيل، أو تحدثنا به النفس الأمارة بالسوء، فمَن أسلمَ لدعوتك مُذْعِنًا غَيْرَ مُؤْمِن لم يدرك ما تدعونا إليه، ومن أسلم وجهه لله وهو مؤمن فأولئك الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه والذين يخشون ربهم بالغداة والعشي، فإذا ذُكر اللهُ وَجِلَتْ قلوبهم، وإذا رأوا آياته زادتهم إيمانًا، ينظرون في خلقه يريدون أن يعرفوا من طريق العلم سُنته، ويسعون في مناكب الأرض ليزدادوا علمًا، وليزدادوا إيمانًا.

أشهد أنك رسول الله حقًّا وصدقًا، علمتنا أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن المؤمنين إخوة حق عليهم أن يتحابوا بنور الله بينهم، وأن نور وجهه الذي أشرقت له الظلمات وصَلَحَ عليه أمر الدنيا والآخرة هادينا إلى البر والرضا، وأن الحياة محبَّة أساسها الإيثار على النفس، وقوامها إنكار الذات، وغرضها المثل الأعلى، ووسيلتها الأسوة الحسنة، خير رداء فيها الصبر، وخير سلاح فيها العلم، وخير شفيع فيها الصدق، وخير كنز فيها الثقة بالنفس، وخير أنيس فيها ذكر الله.

أشهد أنك رسول الله القوي الأمين، علَّمتنا المثل الأعلى لله، وأن الجهاد في سبيل الله سبيلنا إليه، وأن الاستهانة بالموت من خُلُق الجهاد، وأن ما في الحياة مما دون المثل الأعلى لن يبلغ أن يصدَّ عنه أو يقف دونه، وأن الخَوَالِفَ والقواعد دون الجهاد هم الذين يبتغون بإيمانهم ثمنًا قليلًا، ويؤثرون العاجلة وإن هانت، ويرضون من أجلها أن يبيعوا آخرتهم بدنياهم، أولئك نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أما الذين جاهدوا في سبيله فقُتِلُوا فليسوا أمواتًا، بل أحياء عند ربهم يُرزقون.

أشهد أنك رسول الله أَوْحَى إليك الكتاب بالحق، لا ريب فيه، هُدًى للمتقين، فيه آيات بيِّنات يَذَّكَّر بها الذين آمنوا وتزيدهم إيمانًا، وهو يهدي للتي هي أَقْوَم ويُبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا، فيه شفاء ونور للذين آمنوا، يدعوهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل الذين ارتابوا بالتي هي أحسن، ويُنذر الظالمين والمعاندين عذابًا عظيمًا، نَزَّله عليك ربك بالحق، فبَلَّغْتَ رسالته، وكنت فيه الأسوة الحسنة للذين يريدون وجه ربهم مخلصين.

وأشهد أن لا إله إلا الله لا نُشرك به شيئًا ولا نعبد مِن دونه أحدًا، وأن محمدًا رسول الله بلَّغ رسالاتِ ربه، وجاهدَ في سبيله حتى أتم الله النصر لدينه .

السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا عمر!

أتممت نجواي وبقيت مكاني مأخوذًا، يهتزُّ قلبي وتضطربُ مشاعري، ويضيء بصيرتي نورٌ أُحِسُّه في أعماق نفسي، فأراني أسمو فوق ما أَلِفْتُ، وأذكر موقفي من حراء ويتمثل أمامي كرَّةً أخرى يوم الوحي الأول في سَنَاهُ وبَهَائِه، ثم أذكر موقفي من غار ثَوْر، وتتمثل لي هجرة النبي إلى هذه المدينة التي أقف الآن بها أمام قبره، وتمثلت أمامي غزواته، وحياته، وأصحابه، كأنما تَتَابع هذه المواقف جميعًا أمام باصرتي مليئة بالحياة، مضيئة بالإيمان، وبما يدفع الإيمان إليه من جهاد في سبيله، وانقضتْ فترةٌ آنَ للنفس فيها أن تهدأ، فانسحبتُ من موقفي أمام الحجرة في إكبارٍ وإجلال، وسِرْتُ خَافِضَ الرأس حتى بلغت منبر رسول الله في الروضة، فصليت ركعتين، واستغفرت الله لي وللمؤمنين، وانصرفتُ من المسجد راضيًا عن نفسي، طامعًا في مغفرة الغفور الرحيم ذنبي، هو غافر الذنب قابل التَّوْب شديد العقاب.

وعدتُ إلى الدار وتناولت طعامي وأتممت عدة سفري، ثم ذهبتُ إلى التكية المصرية أؤدي لأصحابي المصريين فيها وأؤدي لناظرها حقَّ الشكر لِلُطْفِهِم كَلُطْفِ أهل المدينة بي، وسَرَّنِي ما ذكروا من قيام طائفة من بني وطني في هذا الوقت الذي أزمعتُ القيام فيه لقضاء ليلهم بالمُسَيْجِيد مثلي، فلما تنصَّف الوقت بين العصر والمغرب كنتُ بالدار أُودع أهلها وأودع الذين جاءوا لوداعي من أهل هذه المدينة المباركة، مدينة النبي العربي، وأرجو الله لي ولهم أن يجمعنا بها كَرَّة أخرى عما قريب، وسبقنا «البكس» بعد أن حمل متاعنا، وأقلتني السيارة وأقلت أصحابي معي، وانطلقت تبتغي المُسَيْجِيد لتنطلق منها بكرة الصباح في طريق بدر.

وداعًا مدينة رسول الله! وداعًا قبر النبي الكريم! وهَبْ لي رَبِّ مِن لَدُنْ بِرِّك ورحمتك أن أعود إلى هذه المدينة فأزور هذه الحجرة المباركة أذكر فيها أشد الناس حبًّا لهدى الناس، وأُشهدك على حُبِّي إياه أكثر من حبي نفسي، لقد اصطفيتَه وفضلته وجعلته أسوتنا إلى رضاك وعطفك، فهَبْ لنا من فضلك ما يسمو بنفوسنا إلى هذه الأسوة، وهيئ لنا ربنا من أمرنا رَشَدًا! لك العُتْبَى حتى تَرْضَى، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤