العمرة بمكة

تخطينا جمرك جدة إلى الميدان الفسيح أمامه، ووقفنا إلى جانب سيارتنا ننتظر مرور متاعنا بتفتيش الجمرك، ولم يطل انتظارنا، بل أكاد أقول: إنَّا لم ننتظر؛ فلم يكن بالجمرك ما يشغل رجاله عنا غير متاع الأميرة خديجة حليم وحاشيتها، ولم يتناول التفتيش هذا المتاع ولم يتناول متاعنا، فمتاع الأميرة لا يفتش لأنه متاع الأميرة، ومتاعنا لم يفتش لأننا ضيوف وزير المالية.

ولعل متاع الحجاج لا يُفتش بوجه عام إلا لشبهة قويَّة اعتمادًا على أن من جاء بيت الله حاجًّا لا يذكر ما يقرره عن متاعه إلا صادقًا.

وإنما أوفد وزير المالية رسوله إلينا وكنت ضيفه لمناسبة أذكرها، فقد كنت عائدًا من بيروت إلى مصر في ١٩ سبتمبر سنة ١٩٣٥ على الباخرة الإيطالية «أوزونيا»، وكان وزير المالية قادمًا يومئذٍ على هذه الباخرة من مصر إلى لبنان، وتقابلنا بها حين رست ببيروت، وجاء ذكر كتابي «حياة محمد»، وسألني أحد من حضروا المجلس: هل تعتزم زيارة الحجاز؟ ولما أجبت أن ذلك بعض ما يدور بخاطري منذ أعوام، طلب وزير المالية أن أكتب إليه متى صحَّ عزمي على السفر، وكتبت إليه قبيل سفري، فأوفد إليَّ رسوله في مياه جدة يبلغني أنني في ضيافته.

وكان أول مظهر لهذه الضيافة أن أقلتنا السيارة بأمر الرسول إلى فندق جدة لتناول طعام العشاء فيه قبل ذهابنا إلى مكة، والفندق للحكومة أعدَّته لراحة الحجاج والمسافرين من أهل البلاد؛ لذلك كان التقشف في عمارته وفي أثاثه وكل ما فيه.

ولم يطل مُقامنا به، فما فرغنا من طعامنا حتى نزل إلى السيارة نركبها إلى مكة، وكذلك كان الفندق كل ما رأيت من جدة، وانطلقت السيارة متمهلة في طرق هذا البلد حتى وقفت عند مخفر الشرطة، ونزل السائق منها في ردائه البدوي الخشن يؤشر من المخفر على «الكوشان»، والكوشان جواز السفر المحلي، فليس يجوز لأحد أن ينتقل داخل الحجاز من مدينة إلى مدينة بغير جواز خاص.

وتابعت السيارة طريقها إلى خارج جدة وإلى ما وراءها من فضاء، وكان الليل قد اشتمل هذه الأرجاء جميعًا في صمته ورقة نسيمه، وأجلت بصري فيما حولي وجعلت ألتمس صورة بلاد العرب المرتسمة في دخيلة نفسي، فإذا ضوء القمر يسعد الليل بلُجَّته ويرسل تحيَّة عذبة إلى صمت هذه الأودية قامت كثبان الرمل عن جانبيها، وارتفعت جبال يحجب سقف السيارة عنَّا قننها، ولم يعصمني لباس الإحرام من البرد فاتقيته متلفِّعًا بردائي ولم ألبس مخيطًا، وكأنما انتقلت إلينا عدوى الصمت المحيط بنا فأمعنا في الصمت، فلم تنفرج شفاهنا عن ألفاظ غير ألفاظ التلبية.

وبعدت السيارة عن جدة منطلقة في البيداء وحيدة لا يسعدها أنيس، على أنا لم نلبث أن مررنا بقافلة من الجمال تسير على هون متجهة إلى حيث نتجه، وخلَّفناها وراءنا، ثم أدركنا قافلة من الحمر أسرع منها سيرًا، وتخطينا قافلة الحمر، ثم إذا بنا نسمع صوتًا يقترب منا ويردد الليل صداه في خضوع وإكبار؛ أولئك جماعة من الذين لم يجدوا دابة تحملهم فساروا على أقدامهم متوجهين إلى بيت الله بقلوبهم، وإلى رب البيت بدعائهم: «لبَّيك اللهم لبيك»، ومررنا بهؤلاء وصوتهم يدخل إلى قلوبنا بغير استئذان فيملؤها رهبة ومهابة، وكلما فتنا واحدة من هذه القوافل أدركنا أخرى، وكلهم في إحرامهم يشتملهم ضوء القمر في لُجَّته فيزيد بياضهم نصوعًا، والأودية تحيط بها كثبان الرمل وتحجبها الجبال عما وراءها تردِّد تلبية الملبين من أهل هذه القوافل، وقد اتَّشحت من جلال هذا النداء المنبعث من قلوب كلها الإيمان والإذعان بما ملأها خضوعًا وإذعانًا.

كم سَمِعت هذه الطبيعة المحيطة بي من أصوات هذا النداء خلال مئات سنين خلت منذ بعث الله محمدًا نبيًّا وهاديًا ورسولًا، أصوات لا يحصيها العدُّ ولا يتناولها الحصر، وما يحدث في الطبيعة لا ينمحي أثره، إذن فقد ارتسمت هذه الأصوات ها هنا ونقشت على سفوح هذه الجبال، ولو أن لدينا إبرة تظهرها كما تظهر إبرة «الفونوغراف» الأصوات المسجلة على أسطواناتها لسمعنا عجبًا: تلبية الملايين وألوف الملايين مرتفعة إلى بارئها في إيمان يدكُّ الجبال، ويزعزع الرواسي ويخر له كل ما في الوجود ساجدًا؛ لأنه أسمى من كل ما في الوجود برَهَبُوت جلاله وقوة عظمته، واتصاله بمالك الملك ذي الجلال والإكرام.

كانت أمُّ السلم أول محلة مررنا بها بعد جدة، وقد وقفت السيارة عند مخفر الشرطة وقدم السائق إليه «الكوشان» كيما يتابع سيره، ومخفر الشرطة بدويٌّ في بنائه، لا شيء فيه من مظاهر نظام العمارة، ولا يلفت النظر منه غير بدويَّته الساذجة، وليس حوله مظهر عمران إلا بعض مبانٍ من نوعه، وبعض عرائش من فروع الشجر اليابسة يستريح من شاء من الحجاج إلى ظلها، ويجد فيها فنجانًا من الشاي الذي يُقدَّم في كل مكان، أما القهوة فدون الشاي حظًّا، وإن كنت تجد النجدية منها إلى جانب الشاي إن أردتها.

وعاودنا سيرنا نمرُّ بمثل القوافل التي مررنا بها، فنجتازها مسرعين حيث كان الطريق صالحًا، مبطئين كلما أمسكت الرمال عجلات السيارة، فحالت بينها وبين الإسراع، وبلغ من إمساك الرمال السيارة في بعض الأحايين أن كانت تقفها عن الحركة، وذلك حين تبتلع عجلاتها وتجعل دورانها عبثًا لا طائل وراءه، ولطالما وجدنا في هذه الحالات عونًا من رجال القوافل، إذْ كانوا يُسارعون إلى تلبية رجائنا فيرفعون السيارة ويدفعونها لتعاود سيرها.

لم تكن هذه المعونة تقتضي أكثر الأمر غير فترة وجيزة لا يكاد سائقنا ورجال القوافل يتبادلون أثناءها حديثًا، لكنها كانت تطول حين يغوص بطن السيارة مع العجلات في الرمل الناعم، وحين يتعذَّر لذلك رفع السيارة إلا بتكرير الجهد، فإذا استراح القوم هُنَيهة تبادلوا الحديث ترويحًا عن أنفسهم، وكان الحديث كله يدور حول الحج والقادمين له، سأل السائق أحدهم عن قافلته فأجاب أنهم من الجاوة، وأن زميلًا له يسير بقافلة من أهل فلسطين، أما الذين أعانونا من السائرين رجالًا فقد بدا على وجه أحدهم أنه صيني، ولم نستطع أن نعرف جنسية آخر، لا من سحنته، ولا من لهجة حديثه، وكذلك كانت هذه الجموع المُحرمة كلها، المتوجهة كلها حاجة بيت الله، تجمع بين المسلمين من مختلف أقطار الأرض ممن استطاعوا إلى الحج سبيلًا، فجاءوا يحدوهم إيمان بالله تذوب دونه المتاعب وتصبح المشاق في سبيله يسرًا ومثوبة، ومن عليا السَّموات أرسل القمر على هؤلاء السعداء بأداء الفريضة — فما ينفكون ينادون ربَّهم لبَّيك لبَّيك — أشعةً رطبة نديَّة تهون على الدواب السير، وتبعث إلى نفوس المشاة في إحرامهم أشعة أعظم منها ضياء؛ تلك أشعة الأمل الصادق في وجه الله وفي مثوبته وغفرانه، أمل يتردَّد فيما يتبادلونه من حديث الطواف والسعي والصلاة في الحرم والشرب من ماء زمزم.

طبع هذا المنظر أعمق الأثر في نفسي، فهذه القوافل من المشاة والركبان تقصد إلى غاية واحدة وترجو في ربها الرجاء الأسمى، وهم جميعًا سواسية في اتجاههم، سواسية في إيمانهم، سواسية في تفكيرهم، وهم جميعًا قد نسوا كل شيء إلا هذه الغاية الروحيَّة السامية التي تندفع نحوها جسومهم، وتطير إليها جوانحهم، وتزداد امتلاء بها أفئدتهم وقلوبهم، كلما ازدادوا قربًا من مهبط الوحي ومن بيت الله، ليس يذكر أحدهم ما له من ثروة أو جاه أو ولد، وإنما يذكر أنه وهؤلاء المسافرين معه أخوة في الله، وأنهم جميعًا قد أتوا قاصدين بيته، ملبين داعيه؛ ليُشهِدوه على أنفسهم؛ وليطهروا بين يديه مما قدمت أيديهم؛ وليبدءوا بذلك حياةً جديدة يبتغون فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا، ويُحسنون كما أحسن الله إليهم، ولا يبغون الفساد في الأرض؛ لهذا جاءوا من كل فج عميق؛ ولهذا ركبوا البر والبحر واستهانوا بالمشقة ونسُوا كل شيء إلا الله؛ ولهذا أحرموا آية إخائهم ومساواتهم، إيذانًا بأن أقربهم إلى الله أتقاهم، ومظهرًا لميلادهم الروحي الجديد؛ ليتخذوا من هذا الميلاد عُدَّتهم لحياة جديدة؛ ولهذا تتصل قلوبهم وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم ولهجاتهم، وهم يعبرون عن هذا الشعور بالتلبية تنفرج عنها شفاههم في حُبور وغبطة مطمئنين إلى رحمة الله ومغفرته، إنه يغفر الذنوب جميعًا، لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.

وبلغ من عمق هذا الأثر في نفسي أن ازددتُ نسيانًا لنفسي وفناءً في الله وفي إخوتي هؤلاء، وقد قصدنا جميعًا وجهه مخلصين له الدين حنفاء، نعم! نحن جميعًا إخوة، وأقربنا إلى الله أشدنا بهذه الأخوة شعورًا، فأنا المصري أخ لهذا العربي ولهذا الجاوي ولهذا الصيني وللمؤمنين جميعًا رجالًا ونساءً شبانًا وشيبًا وأطفالًا، وأنا الذي نلتُ حظًّا من العلم أخ في الإيمان لمن نال من العلم أضعاف ما نلت، أخ لمن لم يَنَل من العلم أيَّ حظ، أخ للبائس والمحروم إخائي للغني وصاحب الجاه والسلطان، والبائس والمحروم من الجاه والسلطان والعلم أدنى إلى قلبي؛ لأنهم أحوج إلى محبتي وإخائي، ذلك وحي هذه الساعة الفذة من ساعات حياتي، والتي اتصلت فيها لأول مرة بمكان خطَتْ فيه قدما محمد النبي العربي، أكبر من دعا إلى المحبة والإخاء، وأكبر من دعا إلى السعي والجهاد.

وفاض بي هذا الشعور فتندَّتْ عيني، وخفق قلبي، وانفرجت شفتاي عن آي الحمد والشكر: لبيك اللهم لبيك لبيك … وسمعت أذناي الأودية والجبال والقوافل السارية بينها جميعًا يدوي فيها هذا النداء، فازداد شعوري فيضًا، وقلبي خفقانًا، وازددت لله شكرًا وبه إيمانًا.

وقفت بنا السيارة عند بحْرة، وبحرة هي المحلَّة الثانية في طريق مكة، وهي تلفت النظر بالأضواء الكثيرة البيضاء المنتشرة فيها دلالة استعداد مقاهيها البدوية لاستقبال القوافل بها؛ ذلك أن قوافل الإبل تقطع الطريق بين جدة ومكة عندها تقضي ساعات الراحة بالنهار أو الليل فيها، أما السيارات فتجتازها كما تجتاز أمَّ السلم بعد وقفة عند مخفر الشرطة يطلع رجاله أثناءها على «الكوشان»، وقد لا يأبى بعض راكبي السيارات أن يتناولوا فنجانًا من الشاي بها.

آخر محلة قبل مكة الشميسي، وكنت أعرف من قبل أن الشميسي اليوم هي الحديبية على عهد رسول الله؛ وكنت لذلك أرجو أن أقف عندها لأتبيَّن مواقع المسلمين الذين جاءوا حاجِّين فصدتهم قريشٌ، وكادت الحرب تنشب بينها وبينهم لولا حكمة الرسول وأناته وجنوحه إلى السلم وحسن سياسته مما انتهى بينه وبين أهل مكة إلى عهد الحديبية، وإلى إقرار قريش أن يزور المسلمون مكة معتمرين عامهم المقبل، ولكن أنَّى لي أن أنزل المكان والليل قد انتصف وقد هدَّنا الجهد وشاقنا الوصول إلى مكة! ولم أطلب إلى السائق أن يقف، ولم أزد على أن سألته عمَّا بقي بيننا وبين أم القرى، وظل هو في انطلاقه يسرع كلما ساعفه الطريق، ويبطئ أو يقف إذا أبطأه غوص العجلات في الرمال أو وقفه.

وجعلت في السويعة الباقية على دخولنا مكة أرسم في ذهني صورة أم القرى كما عهدتها على الخرائط، لكن القمر لم يجْلُ أمامي الصورة التي خلت، ولو أن الشمس كانت ساطعة لما زادت الصورة أمامي جلاء، فكيف يحيط النظر المحدود بما حوله من وهاد وجبال بكل ما هو مرسوم على الخريطة من مجموع هذه الوهاد والجبال؟ وكذلك تخطت السيارة بابًا فسيحًا قيل: إنه باب مكة، ووقعت العين على مبانٍ قيل: إنها مبانيها، فلم نجد في شيء من ذلك ما يلفت النظر إليه، وإن أيقنا أننا صرنا في حدود مناسك الله.

وكان دخولنا مكة منتصف الليل، دخلناها متعَبين مما مر بنا في يومنا ويوم أمس، وكانت ساعتئذ متَّشحة برداء الليل وموليات ضوء القمر، فازدادت قداسةً ومهابة. والسيارة تجري في طريق لا ينيرها غير هذه البقية من ضوء ساهر السموات، وإنا لكذلك إذ نجمت أنوار كثيرة من الكهرباء لدار عند منعطف من الطريق؛ تلك الدار بيت وزير المالية، وتخطينا هذه الأنوار إلى بقية ضوء القمر حتى كنا أمام أضواء ناصعة لمصابيح معلقة في مكان وقفت السيارة عنده، ذلك مقهى من مقاهي مكة، ونادى صاحبي من السيارة: يا شيخ إبراهيم، فجاء المطوِّف وصحبنا إلى بيت مضيفنا أمين العاصمة الشيخ عباس قطان، حيث كانت تسطع أنوار الكهرباء سطوعها عند بيت وزير المالية.

كان الرجل في انتظارنا، فلما صحبنا إلى الطابق الأول من داره أبلغنا تحية وزير المالية وسؤاله المتكرر عنا منذ تركنا جدة، وجيء بالشاي فشربنا، وبالقهوة فتناولناها برغم انقضاء هزيع من الليل، وسألني الرجل: أأوثر أداء شعائر العمرة لفوري أم أرجئها للصباح كيما أنال بعض الراحة من مشقة السفر؟ أما أنا فآثرت الأداء ولم تمِلْ نفسي إلى الإرجاء، ولعله الهوى إلى بيت الله وإلى حرمه، وإلى الصفا والمروة حيث سعت «هاجر» المصرية سبعًا تلتمس الماء لابنها إسماعيل هو الذي دفعني؛ كي أسارع إلى أداء هذه الشعائر رغم الجهد والمشقة، وسألت: أيوجد إلى إتمام الطواف والسعي في هذه الساعة المتأخرة من الليل سبيل؟ فقيل لي: إن الحرم مفتوح ليل نهار، وإن الناس يطوفون ويسعون في كل ساعة منهما، وخرجت في لباس إحرامي مع المطوِّف، وأقلتنا السيارة التي جاءت بنا من جدة إلى باب الحرم في دقيقة أو نحوها.

وما لبثت حين تخطَّيت الباب والمكان المسقوف من المسجد بعده حتى تبدت لي الكعبة قائمةً وسط المسجد، وقد انسدل على جدرانها لباسها الأسود المطرز بوشي الذهب، تبدَّت لي دون أن يلفتني أحد إليها، وتبدَّت وكأني عرفتها وطفتُ بها قبل ذلك مرَّات، وما لي لا أعرفها وقد رأيت كسوتها يطاف بها في القاهرة منذ طفولتي؟! وقد تبعت هذه الكسوة مرات عدة في سنوات متعاقبة حين كانت تنقل من القلعة إلى بيت القاضي مارة بالمشهد الحسيني وسط الجموع التي كانت تسير مثلي وراءها في هذا المشهد الديني الحافل الرهيب.

تبدَّت لي الكعبة قائمة وسط المسجد، فشدَّ إليها بصري، وطَفَر نحوها قلبي، ولم يجد فؤادي عنها منصرفًا، ولقد شعرت لمرآها بهزة تملأ كل وجودي، وتحركت قدماي نحوها وكلِّي الخشوع والرهبة، وقلت إذ وقع نظري عليها ما ألقى المطوف علينا أن نقوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام، حيِّنا ربنا بالسلام، فزادني تحرك شفتي بهذه الألفاظ مهابة ورهبة، وأراد مطوفي ونحن نتخطى إليها أن يحدثني في تاريخ المسجد وأبوابه وما أضيف إليه من عهد الرسول، ثم أمسك حين لم يجد مني إقبالًا على سماعه، وكيف لي في هذه الساعة بالاستماع إلى حديث وقد ملك البيت عليَّ نفسي وجذبني لأسرع إليه فأطوف به وأذكر الله عنده.

وارتسمت صورة البيت أمام بصيرتي منذ أقام إبراهيم وإسماعيل قواعده مثابةً للناس وأمنًا يقيمون الصلاة ويذكرون الله عنده، وبلغت بابًا قائمًا وسط صحن المسجد، قال مطوِّفي: إنه موضع بابه في عهد الرسول؛ فأجلت طرفي بين هذا الباب والبيت العتيق، وذكرت ما حدث قبل مبعث محمد حين كانت قريش تجدد بناء الكعبة، ثم اختلفت قبائلها أيها يضع الحجر الأسود مكانه، وبلغ منها الخلاف أن كادت الحرب الأهلية تنشب بينها، ثم أشار عليهم أبو أمية بن المغيرة المخزومي أن يجعلوا الحكم في خلافهم أول من يدخل من باب الصفا، وكان محمد أول من دخل منه، فارتضوا حكمه، فجعل الحجر على ثوب رفعه رؤساء القبائل جميعًا من أطرافه، ثم أخذه هو فوضعه مكانه، كان البيت يومئذٍ كما هو اليوم، إلا أن كسوته لم تكن سوْدَاء مطرَّزة بوشي الذهب، أما المسجد فكان ضيقًا لا يبلغ العشر مما هو اليوم.

وها أنا ذا أتقدَّم نحو البيت الذي أقام إبراهيم وإسماعيل قواعده، والذي وضع محمد قبل مبعثه حجره الأسود في مكانه؛ والذي طاف به الأنبياء وطاف به الملوك والأمراء على كرِّ الدهور وهم في مثل ما أنا فيه من خشوع ومهابة، وهم سواسية أمام الله مع من يرعونهم من عباد الله، وقلوبهم تفيض ندمًا وتوبة واستغفارًا، والذي طاف به ملايين المسلمين، وربما كان أشدهم فقرًا من هو أكرم عند الله من هؤلاء الملوك والأمراء؛ لأنه أتقى منهم وأعظم بالله إيمانًا، ها أنا ذا أتقدَّم اليوم نحو البيت أطوف به طواف العمرة، وقد اجتمع هذا الماضي كله المهابة والجلال أمام بصيرتي، فزادني شعورًا بما بيني وبين الذين أقاموا قواعد البيت والذين تطوَّفوا به من صلة يمَّحي أمامها الزمان والمكان، وتتبدَّى من خلالها وحدة الكون التي لا تعرف الزمان ولا المكان.

وسرتُ إلى جانب المطوف مأخوذًا، حتى إذا بلغت الكعبة اندمجت في المئين الذين يطوفون بها وهم مثلي في لباس الإحرام، وأعلنت نيَّة الطواف ببيت الله المكرم سبعة أشواط طواف العمرة، وكان المطوف قد سبقني إلى تلاوة صيغة النية، فلما حاذيت الركن اليماني وقف المطوف هنيهة فوقفت لوقوفه وقلت على أثره: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، واندفعت في حماسة أسير مع السائرين وأعيد بعد المطوِّف قوله — تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

ثم وقفتُ كما وقف قُبالة الحجر الأسود لأقول كرةً أخرى: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، واندفعت بعد ذلك أتم الشوط الأول وأنا أتلو في حماسة صادقة أدعية الاستغفار والتوبة التي يُلقي المطوف عليَّ تلاوتها، وبلغت الركن اليماني فوقف المطوِّف ووقفت ورفعت مثله اليد اليمنى وكبرت كما كبَّر وتلوت: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وحاذينا الحجر الأسود فرفعنا أيماننا وكبرنا ثانية، واندفعت أستغفر وأطلب إلى الله الهداية على النحو الذي يلقى إليَّ وإلى غيري من الطائفين، وكذلك كنت أفعل كلما حاذيت الركن اليماني أو الحجر الأسود، وأتممت الأشواط السبعة وأنا أُكَبِّر الله وأحمده وأدعوه وأستغفره، وأنا مأخوذ بجلال هذا البيت العتيق، ممتلئ النفس خشوعًا أمام تاريخه الروحي الرهيب، يفيض قلبي إيمانًا بالله الذي جمع في هذه البقعة الضيقة من الأرض كلَّ هذا الجلال وكل هذه المهابة، والمئون من حولي يطوفون كما أطوف، ويتلون من الأدعية ما أتلو، وإن لم يذكر أحدهم ما أذكر من أمر إبراهيم وإسماعيل ومن تجديد بناء البيت قبيل مبعث محمد، ومن طوافه به في عمرة القضاء وحجة الوداع.

ودلفت بعد الأشواط السبعة إلى مقام إبراهيم أصلي فيه ركعتين، ومقام إبراهيم يقابل باب الكعبة ويقابل الحجر الأسود، وقد قام إلى جانب باب عُمُده وعقده من الرخام، والذين يطلبون المقام عنده قليلون؛ لذلك أتممت عنده ركعتين واستغفرت ربي لي ولأهلي ولمن دخل بيتي مؤمنًا وللمؤمنين والمؤمنات، ثم انتقلت إلى حجر إسماعيل، والحجر يقع قُبَالة جدار البيت الموازي للجدار الممتد بين الركن اليماني والحجر الأسود، ويحيط به سور في شكل نصف دائرة من الرخام، والمصلون فيه يزحم بعضهم بعضًا حتى لا يكاد الإنسان يجد بينهم مكانًا؛ وذلك لما يذكر المؤرِّخون من أن الحجر يقع داخل رقعة الكعبة كما أقام إبراهيم وإسماعيل قواعدها، فثواب الصلاة فيه كثواب الصلاة داخل بيت الله.

وأقحمت نفسي بين اثنين يصلِّيان ورفعت يدي أنوي الصلاة، إذ وقع بصري على رجال أشداء أقاموا في إحرامهم، ورفعوا أيديهم إلى أعلى السُّجف من أستار الكعبة فتعلقوا بها متشبثين لا يتركونها وقد ألقوا برءوسهم إلى وراء، فشخصت أبصارهم إلى السماء تستغفر الغفور الرحيم، وذكرت إذ رأيتهم ما كان العرب يفعلونه من ذلك قبل الإسلام، فيكون ذلك مجيرًا لهم من عدوِّهم، وذكرت يوم الفتح حين عفا محمد عن أهل مكة جميعًا إلا أشخاصًا بأعيانهم أمر أن يُؤْخذوا وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، وأقمت هنيهة أنظر إلى هؤلاء المتعلقين أسائل نفسي عمَّا صنعوا ليكون ذلك موقفهم منه، وأنا معجبٌ بإيمانهم، إذ لا يجدون ملجئًَا من الله إلا إليه، ولا يجدون ملجئًا إليه خيرًا من التعلق بأستار بيته المحرم، ونويت الصلاة وأتممتها، ورفعت طرفي فألفيتهم ما يزالون في تعلقهم بأستار البيت، وما تزال أبصارهم شاخصة إلى السماء تلتمس من رب البيت المغفرة، وأقمت مكاني في الحجر فإذا من حولي فيه لا يكاد أحدهم يتركه حتى يحل غيره محله، وكأنما نسوا أن الليل انقضى ثلثاه أو أكثر من ثلثيه، وبقِيتُ زمنًا في مثل نسيانهم مأخوذًا بما حولي مُقَدِّسًا إياه، مُلقيًا وراء ظهري ما عوَّدَنا التفكير الحديث من تعلق بالحاضر المحسوس وحده، ومن مبالغة في هذا التعلق إلى إنكار ما وراء المحسوس من معنى ينتظم الوجود ويسمو على الزمان والمكان، وزادني موقفي توجهًا إلى الله، فدعوته راجيًا أن يستجيب، واستلهمته الهدى إلى الحق والخير والفضل، وتبت إليه من الآثام، وأشهدته على نفسي إنه هو رب التقوى ورب المغفرة.

وفاض بي هذا الشعور، فصرت من دعاء ربي إلى التسبيح بحمده والتقديس له، وإلى إكبار هذه الأخوَّة التي تصل بيني وبين المؤمنين به جميعًا في مختلف أقطار الأرض، أخوَّة شعارها السلام، ودعامتها السلام، وغايتها السلام، وظللت كذلك حتى جاء المطوف ينبهني إلى ضرورة مغادرتنا المسجد لنسعى بين الصفا والمروة كيما تتم شعائر العمرة، وما كنت أحسبني مطيعًا إياه لولا حرصي على إتمام هذه الشعائر، وخرجنا من المسجد نبتغي المسعى، وسرت إلى جانبه والنفس ممتلئة مهابةً وتقديسًا للواجب الذي أقوم به ويقوم به معي عشرات الألوف من إخواني المسلمين على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم، والذهن شغلٌ لذلك عن إطالة التنقيب فيما ينطوي عليه اجتماع المسلمين كل عام في هذه البقعة المباركة منذ مئات السنين من غايات روحية واجتماعية وسياسية سامية.

ولعل ما أصابني من الجهد في اليومين الأخيرين فمنعني حقي من السكينة والنوم، ولعل مجهود الانتقال توًّا بعد ذلك إلى مكة ودخولها في ساعة متأخرة من الليل، ثم لعل المجهود الروحي الذي اقتضانيه الطواف، ولعل هذا الجهد والمجهود قد زادا في توجُّهي الآلي وراء المطوف لإتمام شعائر العمرة، وكيف لي أن أصنع غير هذا وقدماي تسيران في مكان لمَّا تعهداه وإن ألفيته مرتسمًا في نفسي، وكأن لي به كل العهد من قبل أن أولد؟ أم أن هذا العهد كان مبعث التقديس الذي امتلأت به نفسي؛ لأنه ميراث الأجيال التي سلفت من أهلي وآبائي؟ نعم! لعل هذا أدنى إلى الحق؛ فلقد سار ها هنا آبائي وأجدادي وأمهاتي وجدَّاتي حقبةً بعد حقبة، وجيلًا بعد جيل، ولقد طافوا جميعًا بالبيت كما طفت، وسَعَوا كما أريد أن أسعى، وتلَوا بعد المطوف ما تلوت وما سأتلو، ولقد رأيت الكثيرين منهم وشاركت منذ طفولتي في الاحتفال بخروجهم إلى الحج، وعودتهم منه احتفالًا كانت علائم الغبطة ترتسم أثناءها على أسارير الذين يودعون من حج، ويلقون من عاد من هؤلاء الآباء والأجداد، فلا جرم قد انطبع في نفسي هذا الميراث المتنقل على الأجيال، وجعلني أخطو خلال المسجد وإلى المسعى بقدم مطمئنة كما أخطو في بيتي وبيت أهلي، ثم كان لهذا الميراث التليد من عمق الأثر في نفسي ما زادني حرصًا على الدقة في أداء شعائره.

خرجنا من المسجد وأقلتنا السيارة إلى المسعى، ثم مال بنا المطوِّف إلى ربوة الصفا وتخطى بنا نحو درجها خلال الذين سبقونا إلى السَّعي محرمين، وتخطينا خلال هذه المئين من الناس يسير بعضهم فرادى، ويسير آخرون جماعات متشابكة الأيدي، وقد ارتفعت في جوف الليل أصواتهم جميعًا مستغفرين في ضراعة وإنابة، وعلونا بعض درج الصفا ثم استقبلنا المسعى ورفعنا أيدينا، وأعلنا نيتنا السعي سبعًا بين الصفا والمروة سعي العمرة، ثم هبطنا الدرج وسرنا ونحن نتلو كما يتلو المطوف: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ.

وانتقلنا من الصفا إلى المروة ونحن ندعو بما يدعو به مُطوِّفنا ونستغفر كما يستغفر، والمئون من الساعين يدعون كذلك ويستغفرون، وبلغنا المروة واقتحمنا صفوف السَّاعين إلى درجها، واستقبلنا المسعى وسعينا وكبَّرنا وعدنا إلى الصفا ندعو ونستغفر، والناس من حولنا يصنعون صنيعنا يدعون ويستغفرون، ولقد كنت تسمعهم رافعي أصواتهم في لهجات مختلفة، منها البدويُّ النجديُّ الذي يعلو بنفسه عن أن يتخذ من مطوف إمامًا، ومنها ما تشوبه عجمة تدل على أن العربية ليست لسان أصحابه الأصيل، ومنها المتضرع في انكسار وخشية، ومنها هذا البدوي الذي لا يعرف الخضوع حتى في خطابه ذا الجلال والإكرام، فلما أتممت أشواط السعي السبعة وقف بي المطوِّف عند حلَّاقٍ في حانوت من الحوانيت التي تزحم المسعى قصَّ لي بعض شعرات من جانب رأسي الأيمن، وبارك عليَّ أن أتممت عمرتي، وبذلك آن لي أن أعود إلى منزلي وأن أحل إحرامي إحلال التمتع، كيما أعود إليه بعد يومين حين أؤدي فريضة الحج الأكبر.

وأويت إلى مضجعي في الثلث الأخير من الليل ألتمس فيه الراحة إن لم أسعد فيه بالنوم، وأطبقت أجفاني، وذهبت على عادتي أستعيد ما حدث منذ الصباح، فإذا بي لا أذكر منها إلا غبطتي بالطواف والسعي وتمام العمرة، وإذا بي أشعر بيد محسنة يسري إليَّ من مسِّها جسمي سعادة لم أعرف من قبل سعادة مثلها، سعادة تنسيني كل شيء إلا ما كنت فيه من توجه إلى الله بالتوبة والاستغفار، ومن رجاء في أن يتقبل توبتي واستغفاري، وانفرجت شفتاي في ظلمة الليل عن ابتسامة طمأنينة ورضا استراح إليهما وجودي كله، وبقيت في غبطتي بهما مسلمًا كل تفكيري وإحساسي وعقلي وقلبي لمشيئة الله التوَّاب الغفور الرحيم، ودخلت بهذه الطمأنينة في عالم النوم ممتلئ النفس رجاءً وأملًا، صادق الإحساس أن قد زالت عني أوزار الماضي وأنني أصبحت قريبًا من ربي، ونمت سويعات استيقظت على أثرها وقد زالت عن صدري أحمالٌ لم أدر ما هي، وأغرتني بكرة الصباح بالنزول إلى مكة أجوس خلالها، لكني لم أجد دليلًا يرشدني فآثرت أن أنتظر مضيفي وأن أنتظر مطوِّفي ليرسما لي خطة يومي ويعاوناني في إنفاذها.

وأتممت صلاة الإصباح، ورحت أنتقل في حجر ضيافتي أتمشى فيها طولًا وعرضًا، وأستوحي ذاكرتي صورة هذه الدار الفخمة التي نزلت بها، والطريق التي أدَّت بي أثناء مكة إليها، فلا تسعفني الذاكرة بنافع، وما عسى أن تسعفني الذاكرة به وقد تخطيت أم القرى بليلٍ، فلم أر من الطرق التي اجتزتها إلا القليل، ولقد اجتزنا إلى دار مضيفنا أزقَّةً ضيقة لم أتبين منها شيئًا، وبرزت السيارة من أحد هذه الأزقَّة إلى فناء فسيح بالقياس إليها هو أشبه الأشياء بصحن دار كبيرة تحيط به جدرانها الأربعة، ويخرج منه زقاقان غير الذي برزت السيارة منه، ويضيء هذا الفناء نور كهربي ينحدر من مصباحين معلقين على ناحيتين من جدرانه، ومن هذا الفناء وقفت السيارة أمام دار يتخطى النظر بابها إلى دهليز طويل تضيئه الكهرباء، ونزلنا وصعدت بنظري إلى باب الدار فألفيته رفيعًا معقودًا أعلاه بالحجر، ويصعد الإنسان إليه بضع درجات تعلو به وبالبيت كله عن الطريق، وأقبل علينا حين وقفت السيارة رجل تطوق ثغره ابتسامة رقيقة، وصافحنا بشوقٍ ومودَّة، وسألنا عن سبب تأخرنا وما نكون قد لقينا من مشقة الطريق، هذا مضيفنا الشيخ عباس قطان أمين العاصمة صاحب هذه الدار التي تبدو الفخامة على ظاهرها.

لقد أقام بداره ينتظرنا، فلما استقبلنا وتلطف بنا ما تلطف، أنبأني أن الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية قد سأله بالتليفون غير مرة عن مقدمنا بعد أن علموا من جدة أننا نزلنا من الباخرة إليها وغادرناها إلى مكة، وصعد وإيانا إلى الطابق الأول من الدار على درج أعاد إلى ذاكرتي منازل إيطاليا، فهو محصور بين جدارين يصعدان إلى السقف، فإذا استدار الإنسان إلى يمينه وإلى يساره عند منتصف الطابق ألفى نفسه من جديد بين جدارين يصعد الدرج أثناءهما إلى غرف الطابق الأول، ودخلنا إلى بهو عظيم فيه ومعنا مضيفنا ومطوفنا، ولم نلبث حين جلسنا على مقاعد من طراز هذا العصر الحديث حتى جيء لنا بالشاي — أو الشاهي بلغة أهل مكة — فكان لنا نعم الدفء بعد برد الطريق، وتحدثنا إلى مضيفنا وتحدث إلينا، وسرعان ما ذكرني أني تقابلت وإياه بالقاهرة، وأننا تمنينا لو نلتقي بمكة في هذه الدار، وبعد قليل قمنا إلى المسجد الحرام فأتممنا طواف العمرة وسعيها.

هذا ما وعت الذاكرة مما رأيت بمكة حين دخلتها أثناء الليل، وها أنا ذا الآن أنتقل من غرفة النوم إلى البهو وأعود من البهو إليها، وقد اتصلت بها دورة المياه فاصلة بينها وبين غرفة الطعام، لشد ما يثير هذا البهو وهذه الغرف في النفس صورة البناء في العهود العربية القديمة! ولشد ما يثير أثاثها معاني النعمة والترف في تلك العهود! فهذا البهو الفسيح تكاد مساحته تبلغ ستة أمتار في العرض وعشرة في الطول، تضيئه في النهار وتهويه طيلة اليوم نوافذ تمتد من أقصى جدار عرض البهو إلى أقصاه، وكذلك الأمر في غرفة النوم المحاذية له، وهما الآن يضاءان أثناء الليل كما تضاء الدار كلها بالكهرباء، تولدها «ماكينة» خاصة بالدار؛ لأن مكة لا تزال إلى اليوم محرومة من نور الكهرباء، ولا يضاء فيها على حساب الدولة إلا الحرم الشريف، وإضاءة الدار بالكهرباء لا ترجع إلى أيام بنيت؛ ولذلك يتدلى من سقف غرفها نجف فيه لعشرات الشموع منازل مختلفة الألوان، والسجاجيد التي تفرش أرض البهو وغرف النوم ثمينة قيمة، جميلة الرقم، كثيفة الخمل، وإحدى غرفتي النوم كبيرة تصلح لأن تكون بهوًا عند الحاجة، والجدار المقابل لبابها نوافذ كله كجدار البهو الكبير، وقد أقيم إلى جانب هذا الجدار، كما أقيم على الجدار العمودي عليه، مصطبة متصلة فرشت بالمراتب المغطاة بأغطية موشاة بالقصب، ومتَّكآت مغطاة بوشي القصب كذلك، تريح الجالس عليها والمتكئ إليها غاية الراحة، وفي الجدار الرابع دولاب يبدو منه بابه المطعَّم بالسن تطعيمًا دقيقًا كتطعيم سقف الغرفة، أما غرفة النوم الأخرى فقد أعدت للنوم ولا تصلح إلا له؛ وهي متصلة بهذه الغرفة التي تصلح لأن تكون بهوًا، بل هي مدخلها، مفروشة كفرشها؛ وبها «بوريه» مطعَّم كله بالصدف المختلف النقوش والألوان، والذي تبهرك حقًّا دقته.

فأما غرفة الطعام فيقابل بابها باب الغرفة الأخيرة، وتفصل بينهما دورة مياه لا تزال على الطراز العتيق، يتلوها درج يهبط الإنسان على سُلَّمتيه ليرقى مثلها قبل أن يدخل هذه الغرفة، وهي أكثر من البهو ومن غرف النوم بساطة في أثاثها؛ لأنه أدنى إلى طراز عشرين أو ثلاثين سنة مضت من عصرنا الحديث منه إلى أثاث العرب أيام ترفهم، مع اتساق بنائها مع بناء الغرف الأخرى من حيث النوافذ التي تتصل من أقصى الجدار إلى أقصاه، والسقف المطعم بالصَّدف أو المموَّه بما يشبهه، والمصطبة القائمة إلى جانب النوافذ.

كان النهار ضحًى حين جاء المطوف يسألني عما أريد، وهبطنا المسجد الحرام لأرى منه في وضح النهار ما أخفاه الليل وما شغلني الطواف عنه، والمسجد الحرام يشبه صحن الأزهر من حيث إنه فناء مكشوف تحيط به من جوانبه الأربعة قباب قائمة على عمد كالقباب المحيطة بصحن الأزهر، وتنتهي إلى جدرانه، لكن فناء المسجد الحرام فسيح جدًّا، يزيد على بضع عشرات من ألوف الأمتار المربعة، وهو ليس مفروشًا كله بالبلاط كصحن الأزهر، بل مقسم أقسامًا تتعاقب بعضها إثر بعض، بعضها مفروش بالبلاط، وبعضها مفروش بالحصباء، على تعبير أهل مكة، وفي وسط هذا الفناء الفسيح تقوم الكعبة بيت الله الحرام وقبلة المسلمين جميعًا في صلواتهم، ويتصل بالكعبة حجر إسماعيل، ويقوم على مقربة منها مقام إبراهيم، ومن حول الكعبة مبلِّغات أربع — ومكَبِّريَّات أربع على تعبير المكيين — لكل مذهب من المذاهب الأربعة واحدة منها، وعلى مقربة من هذه المبلغات ومن الحجر والمقام والبيت، يقوم بناء فوق بئر زمزم، وقد شيِّدت هذه المباني القائمة وسط فناء المسجد من أحجار متينة صلبة جيء بها من الجبال المجاورة لمكة، كما جيءَ من هذه الجبال بالأحجار التي شُيدت منها عمد المسجد وقبابه، وما وراء العمد والقباب من جدران ومبان يسمونها مدارس؛ لأنها كانت كذلك بالفعل يوم شيِّدت، لكن الكثير منها يُتخَذ اليوم مأوى لبعض الطوائف، ولا يتخذ أماكن للدراسة، وقباب المسجد وجدرانه بسيطة، وفيها مع ذلك فن يتفق مع هذه البساطة، أما أبواب المسجد المؤدية إلى الطرق المحيطة به فأقل من قبابه فنًّا وأكثر منها بساطة، خلا باب عليٍّ، وجدران المسجد من الخارج لا فن فيها، بل تَزْوَرُّ عين رجل الفن عن بعض جوانبها ازورارًا.

وخرجنا من المسجد إلى المسعَى، وهو يقع على مقربة من باب الصفا، وكان المسعى إلى صدر الإسلام طريقًا مستقيمًا ينقص طوله عن الميلين، ويصل بين ربوتي الصفا والمروة، وكان متصلًا بما حوله من فسيح الصحراء، تطل عليه الجبال المحيطة بمكة؛ أما اليوم ومنذ بضع مئات من السنين قد أحيط بالمباني والعمارة التي طغت عليه، وقد أحيل كل من الربوتين إلى درج أقيمت حوله جدران تحجب بين الساعين وفسحة الجو وبهاء السماء، وقد بلغ من طغيان المباني أن اعوجَّ المسعى اعوجاجًا يحول دون رؤية الصفا من المروة أو المروة من الصفا، وتخترق المسعى طرق تسير فيها الإبل والدواب والعربات والسيارات، وقد كان هذا الطريق إلى سنوات مضت كله الرمال؛ أما الآن فقد رُصف بالحجر رصفًا غير منتظم.

عدت إلى الدار بعد هذه الزيارة القصيرة، فقابلني مضيفي يخبرني أن وزير المالية ينتظرني بداره قبيل الظهر، وأن السيارة ستذهب بي وإياه إلى هذا الموعد، وذهبنا نخترق الطرق إلى ظاهر مكة حتى بلغنا غايتنا ونزلنا عند باب الدار، وليس يبالغ من يسمي هذه الدار قصرًا؛ فهي فسيحة وإن لم يكن لبنائها طراز ينسب إليه، فخيمة وإن لم يسعد الفن فخامتها بتأنق أو روعة، تخطينا بابها الضيق إلى درج يؤدي إلى ممر من ناحية، وإلى فضاء به زرع من ناحية أخرى، واستدرنا في الممر إلى حُجرة تخطيناها إلى دهليز، فغرفة أخرى، ثم غرفة ثالثة هي التي كان وزير المالية ينتظرنا بها، وهي غرفته الخاصة، وأحسبني لو تركت لأعود وحدي إلى ظاهر الدار من خلال هذه الغرف والممرات لتعذَّر ذلك عليَّ.

والشيخ عبد الله بن السليمان الحمدان رجل بدويٌّ نجديٌّ بكل معاني البدوية والنجدية، نحيف القوام معتدله، أسمر البشرة، حاد النظر، تلمح في عينيه ذكاء وغضبًا ممتزجين، يدعو امتزاجهما في حالة سكونه ودعته إلى مهابته والتفكير فيما وراء نظرته؛ وهو إلى ذلك حلو الحديث رقيق النبرة مبتسم اللقيا، تبادلنا التحيَّات، ثم ذكرت له ما دار بخاطري منذ غادرت مصر أن تكون مكة مقرًّا لعصبة الأمم الإسلامية، كما أن «جنيف» مقر عصبة الأمم الأوروبية، ووافقني هو في الرأي على أن نُمَحصه بعد انتهاء فرائض الحج واشتغال الحكومة بها.

وبعد الحديث والقهوة تركتُ الدار وآثرت أن أقوم بجولة بالسيارة أجتلي بها صورةً من بعض نواحي مكة، وما دمنا بجَرْوَلَ عند مدخل مكة من ناحية الشميسي — أو من ناحية الحديبية إن شئت — فلأذهب إلى ناحية غير هذه التي دخلت منها حين مجيئي أمس من جدة؛ ولأتبع في تجوالي هوى نفسي وإرشاد مضيفي، فأما هوى نفسي فقد كان إلى فندق مصر التابع لشركة مصر للملاحة البحرية، وهل تهوى النفس شيئًا هواها لما له بالوطن اتصال؟! وأما مضيفي فذكر أن على مقربة من فندق مصر فندقًا للحكومة الحجازية، وأن مدير هذا الفندق هو مواطني المصري الشيخ عبد السلام غالي.

وزرت فندق مصر لمامًا، ومررنا بفندق مكة فلم نجد مديره ولم نقف عنده، وفندق مصر دار عربية فخيمة المدخل، حاول مديره أن يُدخِل إلى دورات مياهه شيئًا من النظام الحديث.

وعدنا إلى المنزل وفي نفسي بعد هذه الجولة صورة مبهمة من مكة، كل دلالتها أن مكة اليوم هي مكة منذ مئات السنين، لم يطرأ عليها تقدم إلا في منازل بعض الأفراد الذين آثرهم الله ببسطة في الرزق، وهو تقدم نسبيٌّ لا صلة بينه وبين تقدُّم فن العمارة الحديث.

وحال قرب المسجد من منزل مضيفي دون توغلي بمكة منذ اليوم الأوَّل، كما حال دونه ما أكرمني به أهل مكة وزُوَّارها من زياراتهم إياي حيث نزلت، وقد تبادلت مع هؤلاء وأولئك أحاديث شتى عن البلاد المقدسة كان لها أثر في تكوين فكرتي عن العلاقة التي يجب أن تصل بينها وبين العالم الإسلامي.

غَدُنا اليوم الثامن من ذي الحجة، يوم التروية، ويوم يصعد الحجيج إلى مِنًى وعرفات لقضاء فريضة الحج، وفي غدٍ أُغَادِر مكة بعد يومين اثنين من مقامي بها قضيت أثناءهما شعائر العمرة، ولم أر خلالهما من نظامها وحياتها وآثارها شيئًا مذكورًا، فمتى أرى ذلك كله؟ … بعد الفراغ من شعائر الحج، فلأنتظر إذن، إن الله مع الصابرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤