مكة الحديثة

أشرت لمامًا إلى ما رأيت بمكة أوَّل نزولي بها، وذكرت دار مُضيفي ودار وزير المالية وقصر الملك وصورة عمارتها، ولقد حاولت أن أجد فيها، وفي المنازل التي دعيت أثناء مقامي بمكة لزيارتها، والمنازل التي نزلت بها بضواحي مكة، ما أستشف منه روح عصرنا الحاضر في العمارة أو في نظام الحياة، فعدت من محاولتي مقتنعًا بأن مكة القديمة الخالدة ما تزال بريئة من هذا الروح، وإن لم يبق فيها كذلك شيء من الروح العربي القديم مما تحدثنا به تواريخ مكة من عدة قرون.

وغاية ما يستشفه الإنسان من خلال الحياة في أم القرى اليوم، فذلك أن شبابها يصبو بكل وجدانه إلى الحياة الحديثة، وأن هذه الصبوة لم تقم بنفسه إلا بعد أن انفصل الحجاز عن دولة الخلافة بالثورة التي أعلنها الحسين بن علي، والتي يسمون ما تلاها عهد النهضة؛ لذلك لم يبلغ الشباب من أمانيهم شيئًا مذكورًا، بل بقيت تمثل حياتها خليطًا من حياة البلاد الإسلامية المختلفة في المراتب البُدائية من هذه الحياة، ولا عجب! فأهلها اليوم هم على الحقيقة خَلِيطٌ من أبناء البلاد الإسلامية قصدوا المدينة المقدَّسة حاجِّين، ثم جذبتهم قدسيتها فأقاموا بها، ومنهم من تيسرت له أسباب العيش، ومنهم من ظلوا يعتمدون في عيشهم على الصدقات وعلى معاونة الحاجِّين في أداء الشعائر.

وصَبْوة شباب مكة للحياة الحديثة قوية آخذة بنفوسهم تدفعم إلى تتبُّع ما يكتب ويقال عن هذه الحياة، وإلى التعلق بما يظنونه من صورها وأمثالها، ويبلغ اندفاع بعضهم في هذا السبيل حدًّا يكاد ينكره ماضي البلد الحرام في العصور القريبة، بل يكاد ينكره حاضره ممثلًا في الجيل الذي تخطى الشباب إلى الكهولة، فهذا الجيل ما يزال يفكر تفكير الآباء: يبالغ في تصوير الإسلام لله مبالغة تنعدم معها الإرادة الإنسانية، وينعدم معها الفكر الإنساني، ولا يرى في غير ما قاله السَّلف شيئًا يُحترَم أو يُعار التفاتةً، بل يرى في العلوم والفنون الحديثة أفانين من لهو الخيال لا تتصل بالحق أيَّ اتصال جدير بأن يثير عناية الذهن.

كان الشيخ حافظ وهبة — ممثل الحكومة العربيَّة السعودية لدى بلاط لندن الآن — مديرًا للتعليم بالحجاز إلى سنة ١٩٣٠، وقد أراد أن يُصلح التعليم بإدخال علوم الجغرافيا والرسم واللغة الأجنبية في المدارس الابتدائية الموجودة دون سواها بالحجاز، لكنَّ العلماء وكبار المشايخ من أهل نجد ما لبثوا حين سمعوا بأمر هذا الإصلاح أن ثارت ثائرتهم واحتجوا لدى الملك ابن السعود على هذا البدع المنكر، واتصل الشيخ حافظ بهم وحاول إقناعهم بأن لا بدعة فيما صنع، فأجابوه بأنهم أبدوا للإمام عبد العزيز الحجج التي لا تُنقض عما يترتب على هذه العلوم من فساد، فالرسم هو التصوير وهو محرم قطعًا، واللغات ذريعة للوقوف على عقائد الكُفَّار وعلومهم الفاسدة، وفي ذلك الخطر على الأخلاق والعقائد، وأما الجغرافيا ففيها كروية الأرض ودورانها والكلام على النجوم والكواكب مما أخذ به عُلماء اليونان وأنكره علماء السلف، ولقد استطاع الشيخ حافظ أن يتغلَّب على عناد كبار المشايخ، لا من طريق إقناعهم، ولكن من طريق تأييد الملك إيَّاه.

وهذا الذي يقول به علماء نجد هو ما يقول به أهل الحجاز ممَّن سوى الشباب، ولا عجب في ذلك وقد بقي التعليم مهملًا في بلاد العرب إلى عصرنا الحاضر، يقول الشيخ حافظ في كتابه «جزيرة العرب في القرن العشرين»:

الأمية تكاد تكون سائدة في جزيرة العرب، وربما كانت أول محاولة لتثقيف العقول والقضاء على شيء من الأميَّة كانت من جانب السيد محمد على زين الرضا في الحجاز، فإنه في سنة ١٣٢٦ هجرية وما بعدها قام بإنشاء مدرستين، إحداهما في جدَّة والأخرى في مكة، ومع ما وضع في طريقه من العقبات وما أحيط به مشروعه من الشكوك من الأتراك والأشراف، فإن هذه المدارس قد قامت بنصيبٍ وافر في الحجاز، وربما كانت الشبيبة الموجودة في الحجاز اليوم هي من غرس هذه المدارس، وإن كانت تسير في التعليم على الطريقة القديمة العتيقة التي تعتمد على الحفظ لا على التفكير، كانت المدارس الوحيدة في الحجاز، على أننا لا ننسى هنا بعض المعاهد التي أسسها الهنود في مكة والمدينة، فإنها قامت أيضًا بنصيب يذكر، وكل ما كان في الحجاز هو حلقات الدروس في المسجد الحرام على نظام التدريس في الأزهر قديمًا، ولم يكن العلماء يُلمون إلا ببعض العلوم الشرعية واللغوية.

هذه الشبيبة التي يذكرها الشيخ حافظ هي التي تصبو بوجدانها للحياة الحديثة، ويتعلق خيالها بما تظنه صورها وأمثالها، وشبيبَةٌ ذلك مبلغها من العلم لا تستطيع أن تُحدث في حياة بلدٍ مقدس كمكة انقلابًا في نوع العيش أو في تفكير أهله؛ لذلك ما يزال الأمر في التفكير إلى الأقدمين، وإن كان النشاط العملي لهذه الشبيبة المتحركة المترامية المطامع والآمال، والتفكير هو الذي يصوغ الأشياء على غراره، فبيتك الذي تقيم به، وغرفتك التي تكتب فيها، ومكتبك وتنظيم الكتب عليه، كل ذلك مظهر من مظاهر تفكيرك، وتخطيط المدن والعناية بالميادين فيها وتنظيم عمارتها هو كذلك مظهر لتفكير أهل المدينة، أما وتفكير أهل مكة ما يزال محافظًا على قديم لا هو بالعربي الصرف ولا هو بالإسلامي الصرف، ولكنه خليط مما قدمنا، فإن عمارتها وطرقها ومسالكها هي كذلك من هذا النوع، لمَّا يغزُها التغير ولما تعمل فيها أيدي التجديد والبناء.

ولو جازت المقارنة لعدت إلى كلمة الشيخ حافظ من أن التعليم في الحجاز كان على نظام التدريس في الأزهر قديمًا، وحسبك أن ترجع إلى كتاب من كتب الأزهر القديمة وإلى نظام وَضْعه لترى صورة الحياة بمكة حتى في التنظيم والعمارة، فأنت ترى المتن في كتب الأزهر منثورًا خلال الشرح محاطًا بالحاشية وعليه إلى جانب ذلك التقرير، مما يجعل هذا وذاك متداخلًا بعضه في بعض وما لا يدع في فراغ الصحيفة بياضًا قط، القراءة في هذه الكتب تطبع التفكير بطابع صورتها، وتطبع الحياة بطابع هذه الصورة كذلك، وهذا ما لا تزال تراه بمكة، وما كنت تراه إلى عصر قريب جدًّا في الأحياء المحيطة بالأزهر، وقد أزيل جانب عظيم من هذه الأحياء في العهد الأخير من حياة مصر، لكنك إذ ترى ما بقي من آثار حين تخترق الأحياء التي ما تزال باقية على حالها — كحيِّ الكحكيين وما جاورها — ترى فيها الأثر الواضح لهذا النوع من التفكير.

وإنما حدث هذا التجديد بالقاهرة وببعض مدن الشرق الإسلامي في عهود متأخرة، أما إلى أوائل هذا القرن العشرين فقد كانت هذه المدن مخططة تخطيط مكة اليوم، ويسودها تفكير كتفكير كهول مكة في هذا الزمن الحاضر، بل لقد كانت مكة أسبق إلى التقدم في كثير من العصور في عمارتها وفي لون الحياة عند أهلها، وهي من أقدم مدن الأرض برواية التاريخ الإسلامي، وقد ذكر أبو التاريخ «هيرودوتس» بيتها الذي تعظمه العرب، وهيرودوتس عاش بين سنة ٤٨٤ وسنة ٤٢٥ قبل الميلاد، أي: منذ أكثر من ألفين وأربعمائة سنة، لكن بيتها المعظم أحاطها بجلالٍ جعل منها مثابة الرائح والغادي في كل العصور، وجعل أحدث ألوان التفكير والحياة ترد إليها لا على أنها أجنبية عنها غازية إياها، بل على أنها مقبلة من إجلال وإكبار إلى دار السلام مقر الحقيقة في أسمى صُورها، وأكبر ظني أن يكون ذلك شأنها من حياتنا الحديثة في زمن غير بعيدٍ.

ولقد زارها الرحالة السويسري «بورخارت» الذي أعلن إسلامه وتسمى باسم الحاج عبد الله في أوائل القرن التاسع عشر المسيحي — سنة ١٨١٥ — وكتب عنها طويلًا في مؤلفه «جولات في بلاد العرب»، ومراجعة ما كتبه تؤيد أنها كانت موضع تجديد دائم يتم في رفق وعلى هون، ولا تبدو فيه مظاهر الثورة التي لا تتفق ومهابة البلد الحرام ووقاره، يقول «بورخارت» في وصفه ما ترجمته:

الميدان العام الوحيد في قلب البلد هو مربع المسجد الفسيح، وليس ثمة أشجار أو حدائق تبهج النظر، وإنما تدب الحياة إلى مكة أثناء الحج بما يملأ الحوانيت الكثيرة المنتشرة في كل أنحائها من ألوان التجارة، وفيما خلا أربعة منازل أو خمسة يملكها الشريف، ومدرستين صارتا مخازن للغلال، والمسجد بما حوله من المباني والمدارس، فلا فخر لمكة بأية عمائر عامة تقوم بها، وربما كان نقصها في هذه الناحية أشد وضوحًا من مثله في أي بلد شرقي آخر في حجمها، فليس بها «خانات» لنزول السائحين بها أو إيداع البضائع إياها، ولا ترى فيها قصورًا للعظماء، ولا مساجد كالتي تزين كلَّ حي من أحياء بلاد الشرق الأخرى، وقد يكون السرُّ في عدم وجود عمارات فخمة بها تقديس أهلها معبدهم تقديسًا يحول دون إقامة بناء يخْشَى أن ينافسه.

وطريقة البناء عندهم شبيهة بطريقة البناء في جدة، مضافًا إليها نوافذ مطلَّة على الطريق يبرز الكثير منها من الجدار ويحيط به إطارٌ متقن الحفر أو دقيق التلوين، وتتدلى أمام النوافذ أستار من عيدان دقيقة تمنع الذباب والبعوض وتُدخل الهواء النقيَّ، ولكل بيت سطح مرصوف بالحجر في ميل لطيف تنزلق عليه مياه المطر إلى ميازيب تلقي بها في الطريق، فأمطار مكة ليست منتظمة السيلان، ولا يتيسر لذلك جمع مياهها في خزَّانات، كما يفعلون في سوريا، وتحجب الأسطح عن الأبصار بجدر قصيرة؛ ذلك لأنهم في الشرق يرون الظهور على السطح غير لائق بالرجل حتى لا يُتهم بالنظر إلى النساء في الدور المجاورة، فالنساء يقضين كثيرًا من الوقت على الأسطح مشتغلات بأعمال منزلية شتى، كتنشيف الغلال، أو تجفيف الملابس، وما إلى ذلك.

وفيما خلا منزل السَّرَاة وذوي الرياسة تبنى منازل أهل مكة لراحة النازلين بها، فتقسم إلى شُقق في كل منها غرفة للجلوس ومطبخ لتكون صالحة لنزول الحاجين بها.

والطرق كلها غير مرصوفة؛ ولذلك يشتدُّ أذى الرمل والتراب صيفًا، كما يشتد أذى الوحل في الفصل المطير؛ إذ يتعذر المرور بها بعد نزول المطر، ويبقى ذلك شأنها حتى يجف الماء منها، وربما عُزِي إقفار مكة من المباني القديمة إلى انهمار السيول المخربة؛ فهي تنهمر بقوَّة وغزارة، وإن كانت أقصر أمدًا من مثلها في البلاد الحارة الأخرى، وقد أصاب المسجد نفسه من هذه الأمطار ما قضى بإصلاحه غير مرَّة على عهود سلاطين مختلفين، حتى ليسمى لذلك بناء حديثًا، أما المنازل فلا أحسب أقدمها ترجع عمارته إلى أكثر من أربعة قرون، من ثمَّ لن تكن مكة موضع بحث السائح عن ألوان العمارة القديمة التي تسترعي النظر، أو عن بقايا المباني العربية الجميلة مما يثير الإعجاب في سوريا ومصر وبلاد المغرب وأسبانيا، وإن أصغر مدن سوريا ومصر لتستبق في هذا المضمار مكة القديمة الذائعة الصيت.

ومكة متأخِّرة من حيث نظام الشرطة المعروف في مُدن الشرق: طرقها حالكة الظلام في الليل لا يضاء بها مصباح، وأحياؤها لا أبواب لها، فهي بذلك تختلف عن أكثر بلاد الشرق؛ إذ يُقفل كل حي فيها بعناية تامة كل ليلة عقب الصلاة الأخيرة، وتلقى بقايا منازلها في الطرقات لتصير ترابًا أو وحلًا يختلط بما فيها على اختلاف فصول السنة.

والماء — وهو أهم ما يطلب الآسيويون وموضع سؤالهم الأول — ليس خيرًا في مكة منه في جدَّة، فالصهاريج التي تجمع مياه المطر قليلة جدًّا، ومياه الآبار غير صالحة للشرب — وإن شَربتها في موسم الحج طبقات الحجاج الدنيا — وبئر زمزم المشهور بالمسجد الحرام تكفي بالفعل حاجات البلد، لكن مياهها عسيرة الهضم غير مقبولة الطعم على قداستها، مع ذلك تمنع الطبقات الفقيرة من أن تنال منها بغيتها، وخير ماء بمكة هو المجلوب من عرفات على ست ساعات أو سبع من البلد الحرام، وهو مجلوب في مجارٍ مبنية بالحجر لا تنظف، ولقد سمعتُ أن لها اليوم خمسين سنة لم تمسها يد التطهير؛ وهذا ماء عين زُبَيدة.

هذا الوصف يرسم أمام الذهن صورة بلد شرقي في أوائل هذا القرن، ويدل بذلك على أن مكة كانت دائمة التطور في حياتها إلى ما تتطور إليه المدن الإسلامية الأخرى، وما يذكره الشيخ حافظ وهبة من تفشي الجهل بها، وما يصوِّره «بورخارت» منها منذ قرن وربع قرن، لا يردها عن مصاف البلاد الشرقية المتقدمة، على أن طابعها الخاص يجعل تطوُّرها غير متأثر بعقلية أهلها أو خاضع لتفكير ذاتي نستطيع أن نسميه التفكير العربي أو التفكير المكي.

فمكة اليوم ليست بلدًا عربيًّا، ولم تكن بلدًا عربيًّا منذ زمان طويل مضى، إنما هي كعبة المسلمين، فهي بلد الإسلام على اختلاف أجناس أهله ولغاتهم، وأنت تراها كذلك اليوم، وكذلك رآها «البتانوني» ورآها «بورخارت» قبله، كما رآها كذلك كل الذين زاروها في حِقَب الزمن المختلفة، وأنت إذا ذكرت أن المُلْك لم يبق عربيًّا صرفًا بعد الأمويين، بل دخلت العجمة بطانته منذ العباسيين، وتقلبت عليه من هذه العجمة الأشكال والألوان، أدركت السر في أن يستدرج بلد المسلمين جميعًا هذه الأشكال والألوان إليه، فإذا علمتَ أن أغنياء المسلمين من مختلف الأصقاع يُجْرُون الصدقات والأعطيات على كثيرين ممن يقيمون بمكة، وأن منهم من يجريها على قوم بالذات من المغرب أو من الجاوة أو من الهند أو الأتراك أو الأفغان أو التكارنة، لم يبق لديك موضع لعجبٍ أن تجمع مكة شتيتًا من هؤلاء جميعًا، ترفع الأقدار بعضهم إلى مكان الرياسة، وتمسك آخرين عن مجرى الأرزاق ليعيشوا من حسنات المسلمين.

خرج المُلْك من مكة منذ فتحها النبي العربي، ولم يعد بعد ذلك إليها، وإن بقيت عاصمة الحجاز من عهد الأمويين، فقد استأثرت المدينة بالسلطان من يوم فتح الرسول مكة إلى أن انتهى عهد الخلفاء الراشدين، ثم انتقل الملك من بعد ذلك إلى دمشق وإلى بغداد وإلى القاهرة وإلى الآستانة، واتصلت الخلافة بالملك في هذه البلاد جميعًا، أمَّا البلد الأمين فقد انحلت عنه السلطة الزمنية، وإن بقي له بالبيت الحرام كل الجلال الروحي، ولما قام الحسين بن عليٍّ الهاشمي فأعلن الثورة على الأتراك وانضم إلى الحلفاء في سنة ١٩١٥، حاول أن يجعل من مكة عاصمة العرب لا عاصمة الحجاز وحده، فكان هذا بدء الخلاف بينه وبين ابن السعود في نجد، وكان المقدِّمة التي انتهت إلى جلاء الحسين وأبنائه عن الحجاز، واستئثار آل سعود بأمره، وكذلك عادت مكة عاصمة الحجاز وحده كما كانت منذ زمن الأمويين.

وكانت مكة على حِقَب العصور ميدان صِدام بين المذاهب الإسلامية التي تنازعت الملك، وهي اليوم ميدان صدام بين المذهب الوهابي وسائر السُّنِّيين من المسلمين، فالنجديون الحاكمون يتبعون مذهب ابن عبد الوهاب، وهو مذهب أحمد بن حنبل؛ وهم يتبعونه في شدَّةٍ وغلوٍّ كانا أوضح أثرًا أول تسلطهم على الحجاز في سنة ١٩٢٦، ويقر كثيرون بأن الوهابية طهَّرت البلد الحرام من مفاسد كثيرة كانت تجري فيه.

يذكر «بورخارت» أنه رأى حوانيت قائمة بالمسعى بين الصفا والمروة تبيع الخمر، وإن كانت لا تعرضها للبيع إلا ليلًا، وكانت زُمَر المسلمين من أخلاط الأمم ترخي لشهواتها أعنتها، فتشهد مكة من مختلف ألوانها ما لا يجتمع في بلد واحد، أما اليوم فلا شيء من ذلك فيها، وإذا بُلِي أحدهم بشيء منه استتر، وإنما يشكو الناس من الإغراق في المنع، وإن كانوا يعترفون بأنه خف اليوم، فلم يعد شيئًا إلى جانب ما كان منذ سنوات، إذ كانت جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من النجديين تطوف بأنحاء مكة فتردع وتزجر وتوقع العقاب بالناس لما تراه هي منكرًا، وإن لم يكن منكرًا في رأي أكثر المسلمين، كان الرجل الذي لا يرخي لحيته عرضةً للأذى، وكان من يدخن معرضًا من صرامة هذه الجماعات لما لا يحب ولا يرضى، أما اليوم فقد بطل عمل هذه الجماعات وإن بقي أثره، وإن بقي من هذا الأثر أن صار الناس يرون الكبيرة كبيرةً حقًّا، تستحق الازدراء والتعزير لا التسامح والإغضاء.

على أية صورة تكون صبوة شباب مكة إلى الحياة الحديثة في هذه البيئة المحيطة بهم؟ وما هي هذه الحياة الحديثة في نظرهم؟ أهي حياة الفكر الحر كما يصوِّر الغرب الفكر الحر؟ أهي حياة العلم والبحث العلمي كما نراها نحن في مصر أو كما يراها أهل أوروبا؟ أهي حياة الصناعة وتسلُّطها على قوى الطبيعة وإخضاعها إياها لإرادة الإنسان؟ أم أنها ليست هذا كله؛ لأن هذا كله لا يتفق وحياة مكة وتفكير أهلها وقدسية ما فيها، وإنما هي نوع آخر أدنى إلى ما يسمونه أدب القوة وأكثر إيمانًا بأن الأمم الأخلاق؟ الحقيقة أنك لا تستطيع أن تعرف، وشباب مكة أنفسهم لا يعرفون أية ناحية من هذه الحياة الحديثة يأخذون؟ وأية ناحية منها يدعون؟

هم يرون بلادهم ضعيفة، ويرون لغيرهم السلطان عليها، ويرون من آثار مصر وما تنقله من ثمرات الغرب الأدبية والعلمية ما يُعجبهم؛ فهم يريدون أن تكون لهم مثل هذه الآثار؛ ليكون لهم من الحياة حظ كهذا الحظ الذي يتصوَّرونه منها لأهل مصر ولأهل الغرب، دون أن يكون لذلك أثر لا تحمد مغبَّته في حياة مدينتهم، ومنهم من يتصور في محاكاة حياة الغرب الوسيلة لذلك، ومنهم من يرى العلم وحده الوسيلة إليه، وهم بين هذا وذاك يعملون تاركين للزمن أن يُنضج من ثمرات عملهم ما يرجون أن تطمئن به نفوسهم، وأن يصل بهم إلى هذه الحياة الحديثة التي يصبُون إليها بوجدانهم.

تفضَّل غير واحد من رجال الحكم في مكة فدعانا إلى تناول الطعام عنده، وأفضل الطعام عند أهل مكة اللحم والثريد، وهم يتناولونه عادةً كما كان يتناوله أجدادنا، يُسلق الضأن أو يشوى ويثرد الثريد ويوضع في قصعة على خوانٍ من تحته السماط، ثم يتناول كل من الثريد واللحم بيده إلى شبعه، ولقد تناولت الطعام وإياهم على هذا النحو بعرفات ومكة وحيثما ذهبت من بلاد العرب، وكنت أجد في ذلك من ذكر أيام الصبا الأول ما أسعد به، لكن أولئك الذين تفضَّلوا بدعوتي مع من جاءوا مكة من المسلمين أولي المكانة لم يروا أن نأكل وإياهم على طريقتهم، بل آثروا الطريقة الحديثة، طريقة الغرب، وما ألفه من ألوان الطعام العديدة والصحاف التي يدور بها الخدم لينال كل منها لنفسه في صحنه، وليأكل بالشوكة والسكِّين بدل أن يأكل بيده، وإنهم ليؤثرون اليوم أن يجلسوا على الكراسي بدل الجلوس على المصاطب أو على السجَّادة فوق الأرض، وهم يرون في هذا من محاكاة المدنية ما يسر ضيوفهم من ناحية، وما يقربهم من الحضارة الحديثة من ناحية أخرى.

كان ذلك شأننا حين تناولنا طعام العشاء عند الشيخ عبد الله السليمان الحمدان وزير المالية، وعند السيد محمد سرور الصبان وكيل المواصلات والمشرف على حركة النقل بالسيارات، على أنا كنا نعود بعد تناول الطعام إلى غرف الاستقبال الوثيرة وكلنا مرتدون الملابس العربية، فننتقل بذلك من جوٍّ لا تتلاءم فيه هذه الملابس مع أدوات الطعام إلى جوٍّ آخر أكثر انسجامًا مع حياة العروبة، فغرف الاستقبال على ما بها من مقاعد وثيرة تحتفظ بالطابع الشرقي القديم، ما خلا إضاءتها بالكهرباء المجلوبة إلى هذه المنازل دون سواها من منازل مكة، ثم إنهم ليحرصون على عادة انتقلت إليهم مع النجديِّين هي التبخر والاجتمار بالعود، فما تكاد غرفة الاستقبال تحتوي الناس حتى يدور عليهم الخدم بالشاي وبالقهوة وبمجامر يحرق فيها عودٌ ذكيُّ الرائحة يستنشق كلٌّ عبقه ويحتبسه في أردانه تحت المشلح وبينه وبين الصِّمادة، وأدوار القهوة والشاي والعود لا تكاد تنقطع ما بقي الناس في سمرهم.

وقد دُعينا إلى عشاء من هذا النوع بدار مضيفي أمين العاصمة الشيخ عباس قطان، وعلى أنه كان عشاء على الطريقة الغربية في تقديم الألوان في الصحون، لقد رأينا يومئذٍ ما أعاد إلى الذاكرة صورة ليلة من ليالي كتاب ألف ليلة وليلة، كمَّل عقد اجتماعنا قبل تناول الطعام في بهو فسيح بالطابق الأعلى فوق البهو المجاور لغرفة نومي، والذي كنت أقضي به الكثير من وقتي، وكان البهو مفروشًا كله بالسجَّاد العجمي، وثير المقاعد، تضيئه ثُريَّات من الكهرباء ساطعة النور، فلما آن لنا أن ننتقل إلى الموائد ألفيناها مُدَّت في هواء الأسطح الطلق وقد أنارتها ثريات الكهرباء القائمة بين الفاكهة وصحاف الحلوى، ولما طَعمنا هبطنا إلى الإيوان الذي أويت إليه أتقي المطر يوم أزمعت الصعود إلى عرفات، لكنه أضيء ليلة هذا العشاء على طريقة جعلته جديرًا ببعض ليالي هارون الرشيد، لولا أننا لم تُغَنِّنا القيان، ولم يدر علينا فيه غير الشاي والقهوة ومباخر العود، ولقد قرأ القرآن حجازيٌّ بإيقاع غير مألوف في مصر، غير أن الإيقاع المصري في القراءة قد طغَى حتى على أهل الحجاز، فصار قارئُوهم يتأثرونه وينحون نحوه.

هذا الجمع بين طريقة الطعام في الغرب وبين الحياة الشرقية الأصيلة هي صورة هذه الصبوة في نفس الشباب المكي إلى الحياة الحديثة، فهم يرغبون في اجتناء ثمراتها، لكنهم يرغبون في ذلك على استحياء، ومع الحرص أشد الحرص على طابع البلد الأمين وتقاليده، وهم يُعجبون بالأدب الحديث ويأخذون بحظ منه في صحافتهم، لكنهم يقفون منه عند بعض الصور، فأمَّا الروح في أعماقها فعربية أدنى إلى البداوة المحيطة بهم؛ ولذلك تذر أعمق الأثر حتى في نفوس من نزحوا إلى مكة من غير العرب الذين أقاموا بها وأصبحوا فيها بعيدين كل البعد عن موطنهم الأصلي، وهم يفكرون في نظام سياسي كهذه النُّظُم الدِّيمقراطية التي نقلها الشرق عن الغرب ولما «تتأقلم» فيه، لكن تفكيرهم لا يخرج بهم عن حدود أهل الرأي ومن تكون منهم الشورى — كما كانت في العهد الأوَّل للمسلمين — وهم يودُّون لو تكون لهم حياة اقتصادية كحياة غيرهم من الأمم، لكنهم لا يتصوَّرون هذه المذاهب الاقتصادية السائدة في الغرب، التي تتنافى في جوهرها مع الفكرة الإسلامية الاقتصادية؛ وهم لذلك ما يزالون يقفون من تعلقهم بالحياة الحديثة عند نقد ما هم عليه في بلادهم، دون أن يتصوَّروا اللون الجديد للحياة التي توائم مزاجهم والتي لا ينكرها تفكيرهم.

ذلك ما بدا لي واضحًا أثناء الأحاديث الكثيرة التي دارت بيني وبين شبان مكة الذين شرَّفوني بزيارتهم منذ اليوم الأوَّل لنزولي بينهم، والذين ما فتئوا يزورونني طول إقامتي ببلدهم، إنهم جميعًا يشعرون بحاجة بلادهم إلى التعليم، وهم يتحدثون في ذلك بلهجة صادقة، ويصلون منه في بعض الأحايين إلى عيب الحكومة بأنها تنفق الطائل من الأموال على السيارات واقتنائها وإصلاحها في حين تضن بالتعليم وما يجب أن ينفق عليه، لكنك إذ تسألهم عن نوع التعليم الذي يرونه صالحًا لذويهم وأبنائهم وعن الفكرة التي يجب أن يقوم هذا التعليم على أساسها، تراهم يضطربون ولا يكادون يُحيرون جوابًا، قد يكون ذلك راجعًا إلى تأخر العلم عندهم، وإلى أن الحظ الذي نالوه منه لا يكفي لإبداء الرأي في مثل هذه المسألة العويصة، لكنَّ ثَمَّة أمرًا آخر يزيد في حيرتهم، ذلك تعلقهم بمكانة مكة المقدَّسة وحرصهم عليها، فكل علمٍ يزيد هذه المكانة سموًّا محبَّب إليهم، وكل علم لا يجعل منها موضع عنايته كلها، أو لا يضعها في المكان السامي، أو يراها أمرًا لا يدخل في نطاق العلم، مزهود فيه مرغوب عنه، فإذا حدَّثتهم في حرية العلم وفي حرية الأدب رأوا ذلك أدخل في باب الجدل النظريِّ ورأوه لذلك لا غناء فيه.

قد يكون غُلوًّا مطالبة شباب مكة بتصوير الحياة الجديدة التي يصبُون إليها صورة واضحة الحدود، وحظ بلادهم من العلم ما رأيت، بل إننا في مصر وفي بلاد الشرق العربي المختلفة ما نزال في دور النقد لم نتعدَّه إلى دور التصوير والتصميم، على ما اتصلنا بالغرب وما وقفنا على علمه وأدبه، لكننا خطونا بحكم الحوادث خطوات إيجابية لا تعاون أحوال مكة، ولا أحوال الحجاز على مثلها، ومما دفعنا إلى هذه الخطوات وجود الأجانب بيننا وتمتُّعهم مدى أزمان طويلة بامتيازات طوَّعت لهم أن يعيشوا كما يعيشون في بلادهم، لا يغيِّر أحدهم زيَّه ولا طريقة طعامه أو حياته في شيء، كما طوعت لهم إنشاء مدارس تنشر بيننا ثقافتهم وتعليمهم، ومن ذلك نفوذ الدول الأجنبية الذي تغلغل في الولايات العثمانية المختلفة — خلا البلاد المقدَّسة — منذ زمان بعيد، فقد ظلت مكة وداخلية بلاد العرب — وما تزال — حرامًا على غير المسلمين، والأجانب الذين يريدون دخولها يضطرون قبل حضورهم إلى معقل الإسلام أن يظهروا إسلامهم وأن يدرسوا العربية، وأن يتقنوا التزيي بلباس العرب والعيش على مثالهم، فإن لم يفعلوا لم يكن اجتيازهم الساحل إلى داخل البلاد ميسورًا، وإن فعلوا حرصوا على إخفاء طواياهم ومظاهرهم ما استطاعوا؛ ومن ثمَّ لم يكن لوجودهم بين العرب أثر المثَل الذي يُحتَذى، فيحدث احتذاؤه النتائج الإيجابية التي حدثت في مصر والشرق.

وقد صدَّت هذه الأسباب عن هجرة الأجانب إلى شبه الجزيرة، كما صدَّ عنها قلة الأمل في الربح المادِّي بسبب شدة الأحوال الاقتصادية بمكة والحجاز كله، والذين غامروا في اجتياز هذه البلاد من أبناء الغرب قليل عددهم حتى ليُحصَون فردًا فردًا، ويُنظر إليهم نظرة إعجاب لمغامرتهم، ولقد رأيت بضعة رجال منهم أثناء مقامي بمكة.

وأكثر هؤلاء ذيوع صوت بين الناس الحاج عبد الله «فلبي» كما يعرفه المسلمون، أو «سنت جون فلبي» كما يعرفه الإنكليز، وقد سعيت إلى معرفته ولقيته غير مرة، لقيته مرَّتين أو ثلاثًا في التكية المصرية، وزرته مرة في بيته، وهناك أهدى إليَّ خرائط من صنعه عن الطريق من مكة إلى الطائف وإلى المدينة.

وهو رجل عجيب على ما يصفه أبناء وطنه، فهو يعيش عيش البدو من النجديين ويحتمل احتمالهم، طعامه كطعامهم، وسكنه كسكنهم، وهو موضع الثقة عند الملك ابن السعود، كما أنه شديد الملازمة لمجلسه، ولقد جاس خلال شبه الجزيرة من كل أطرافها ونواحيها، ووضع لها الخرائط ووصفها أدقَّ الوصف، وكتابه «الربع الخالي» يصف شيئًا من مجهوده الشاق في ارتياد الصحاري، ومن عمله الدقيق في وضع الخرائط المفصلة التي تطبعها له وزارة الحربية البريطانية، لكن حياته العلمية حياة عزلة تامَّة، فالبدو الذين يصحبونه في رحلاته لا يفهمون من أعماله شيئًا، وهو لا يطالعهم بشيء من هذه الأعمال التي لا يفهمونها وإن اهتدى بهم في كل ما يحققه منها؛ لهذا، ولأنه يعيش عيش البدو، لا يوحي وجوده في بلاد العرب إلى أهلها جديدًا في تصوُّرهم للحياة الجديدة التي يصبون إليها، ذلك شأنه وشأن غيره من الأجانب الذين تثير بلاد البداوة خيالهم وتدعوهم للإقامة بها ما أطاقوا هذه الأقامة.

هذه كانت حالة الرحالين الغربيين في بلاد العرب منذ قرون مضت، وإن بعضهم ليظن أنها وشيكة أن تتغير فيما سوى المدينتين المقدَّستين مكة والمدينة، بعد أن أعطت الحكومة العربية السعودية امتياز استخراج الذهب إلى شركة «توتشل» الإنكليزية الأمريكية، وامتياز استخراج البترول من الأحساء إلى شركة أجنبية أخرى، فإذا تغيرت أسرعت الحياة الغربية إلى البلاد العربية، ويذهب القائلون بهذا الرأي إلى أن غزو الحضارة الأوروبية الشرق إنما تمَّ عن طريق الصناعة والتجارة، وعن طريق التدخل السلمي أكثر مما تمَّ عن طريق الفتح الحربي والغزو بقوة السلاح، والهند التي تحرص بريطانيا اليوم أشد الحرص عليها باعتبارها أكبر مستعمرة للتاج البريطاني، إنما بدأ غزو بريطانيا إياها من هذا الطريق حين تألفت بها شركة الهند الشرقية، وقد اهتدت شركة «توتشل» إلى مهد الذهب في بلاد العرب على ثماني ساعات من المدينة المنوَّرة، وهي تمهِّد الآن طرق تصديره إلى الخارج.

فإذا لم يكن في استقرار هذه الشركة وفي قيام شركات مثلها ما يثير المخاوف أن يصيب بلاد العرب ما أصاب الهند، فأيسر ما فيه تمهيدٌ لتغلغل الحضارة الغربية من ناحيتها الصناعية، ومن ناحية ظواهر العيش والحياة في هذه البلاد التي ظلت محتفظة حتى اليوم بطابعها العربي، ولا عجب يومئذٍ أن نرى هذا اللباس العربي يتوارى ليحل الزي الغربي محله، وأن نرى لون الحياة العربية الذي يوحي الطمأنينة إلى زائري البلاد المقدَّسة جميعًا من المسلمين يحول إلى لون غربي، شأنه فيها شأنه في مصر وغير مصر من بلاد الشرق، وهنالك يسرع التجدد إلى مكة، وتصبح جديرة باسم مكة الحديثة حقًّا، ويومئذٍ يعود شباب مكة يفكرون: أسَعِدوا وسَعِدَتْ مدينتهم بهذا التغيير الذي تصبو اليوم إليه نفوسهم؟ أم أن بلادهم فقدت به طابَعَها السحريَّ، كما فقدت بوسائل النقل الحديثة شيئًا كثيرًا من روعتها الشعرية؟

وعلى رغم بقاء الأجانب إلى اليوم مُبْعَدين عن بلاد العرب — خلا مدن الشاطئ — لقد تحوَّلت أسباب المواصلات فيها بقدر عظيم من الجمل؛ سفينة الصحراء، إلى السيارات بأنواعها المختلفة، ومن البريد إلى البرق وإلى التليفون وإلى آخر مُحدثات الصناعة، والسيارة سريعة مريحة عظيمة الفائدة في إنجاز الأعمال، وقد أفادت أمانة العاصمة منها أن اتخذتها وسيلة الكنس والرشِّ وإطفاء الحريق، وأن اقتنت سيارات لهذه الأغراض التي لم تكن تعتبر ذات بال من قبلُ، لكن السيارة هدَّامة لوحي الصحراء مُضيعة لشعر البادية، وأنَّى لراكبها أن يتأمَّل البادية وما فيها وهي تقطعها في لمح البصر؟! فما يكاد البصر يستقر منها على شيء يتأمَّله.

والبرق والتليفون شأنهما في ذلك شأن السيارة، لا يدعان للذهن أن يستقر، ولا للخيال أن يفتنَّ في التعبير لمن نكتب إليهم عن عواطفنا وآمالنا وآلامنا، ولقد كان من العرب من يرغب عن هذه الوسائل أوَّل دخولها بلاد العرب، وكان منهم من يراها حرامًا، أما اليوم فقد أَلِفُوها، وصار بعضهم يستغني بها عمَّا أَلِف من الوسائل من قبل، ولهذا — لا ريْب — أثره في التفكير، وله عند شباب مكة من الدلالة على عدم صلاح أسباب الحياة القديمة لهذا العصر الحاضر ما يجعلهم أشدَّ صبوة إلى الحديث في كل شيء، لكن هذا كله لم يصل بعد من موضع التفكير إلى تصوير الحياة صورة غير التي عرفوها عن السَّلف؛ بل هو يجاور هذه الصورة في الذهن العربي جوارًا يتعذَّر على الإنسان أن يتنبأ بآثاره.

وتجارة الغرب ذات رواج اليوم في أسواق مكة، فلا يكاد الإنسان يجد من صناعة مكة أو صناعة بلاد العرب فيها شيئًا، وإذا قلت: الغرب قلت: اليابان أيضًا، فالمصنوعات اليابانية منتشرة بأثمان زهيدة تدعو إلى أشد الرغبة فيها، ولقد بلغ من حذق الصناعة أن صارت اليابان وصار الغرب يبعث إلى مكة بالأشياء التي يبتاعها المسلمون للتبرُّك بها على أنها من البلد الأمين، فالسُّبَح والعطور تصدر من مصر مصنوعة في خان الخليلي والتربيعة، خلا ما يُصْنَع من مرجان إيطاليا، والمباخر ورشاشات العطر والمكاتل تُصنع في الخارج، وقلَّ منها ما يصنع في بلاد العرب، وهذا كله تجده في سوق المسعى بين الصفا والمروة، وتجده في السُّوَيْقة — أو السوق الصغيرة كما يسمونها — معروضًا مع الأقمشة المختلفة، يُقبل عليه المسلمون من شتى أقطار الأرض ويصيبون منه ما يعودون به إلى أهلهم في هذه الأقطار؛ ليكون عندهم بركة يحافظون عليها ويحتفظون بها.

ولا تختلف مكة الحديثة في استيراد تجارتها من الخارج عن مكة القديمة العربية الصميمة، وقد كانت مكانة مكة التجارية قُبَيل الإسلام وفي عهده الأوَّل عِدْل مكانتها الدينية، وكانت ملتقى تجارة الغرب والشرق، وإنما الفرق بين يوم مكة وأمسها أنها كانت أمس طريق التجارة، فكان أهلها يذهبون في رحلة الشتاء إلى اليمن يجيئون منها ببضاعة الجنوب ليتجروا بها في الشمال، وبتجارة الشرق ينقلونها في رحلة الصيف إلى الغرب وإلى الشام يصرِّفون فيها ما جاءوا به من اليمن ويجيئون بألوان أخرى من التجارة مكانه.

أما اليوم فالتجارة تجيء إلى مكة وتوزَّع على الحجاج في أسواقها من غير أن يكون لمكة في ذلك أي نشاط إيجابي؛ بل تنقل البواخر التجارة من أقصى الأرض من اليابان أو أوروبا إلى جدَّة، وتنقلها السيارات من جدَّة إلى مكة ليتولى أهل مكة بيعها للذين فرضوا حج بيت الله الحرام بربح هو مصدر حياة أهلها، إلى جانب ما يتبرع به المحسنون للبلد الحرام من أرزاق، وقد أصبح الكثير من مواد التغذية نفسها، كالفاكهة والأطعمة المصنوعة — من «بسكويت» وجبن وما إليها — يرِدُ إلى مكة من الخارج كما يرد غيره من البضائع، أما المواد الطازجة فترد من وادي فاطمة ومن الطائف.

وهؤلاء الألوف وعشرات الألوف من المسلمين الذين يفرضون الحج إلى البيت كل عام هُم اليوم — كما كانوا في كل عصر — عامل التطوُّر في مكة نحو حياة العصر، فهم يجيئون إليها ويقيمون بها زمنًا ليس بالقليل، ولهم عقائد وعادات يراها أهل مكة ويدرسونها بعناية فطرية ليجيبوا مطالب هؤلاء الغرباء؛ وليكفلوا لهم خير قسط من الراحة يحبب إليهم الإنفاق، ويجعل منهم بعد عودهم إلى بلادهم دعايةً صالحة لمكة وحج بيت الله فيها، ومما لوحظ في السنين الأخيرة أن عددًا من أثرياء المسلمين وأولي الرأي فيهم يقصدون إلى الحج أكثر مما كان يفعل أمثالهم من قبل، وأنهم يلتقون بأهل مكة وبأولي الأمر في الحجاز ويبدون لهم من العناية الواجبة على العالم الإسلامي كله بالأماكن المقدَّسة ما يزيد أهل مكة وذويها تفكيرًا في التماس أسباب الراحة لهؤلاء الأثرياء وأولي الرأي.

ولقد كان من ذلك أن فكرت الحكومة الحاضرة في إنشاء حيٍّ بضاحية الشهداء من ضواحي مكة تُراعى فيه حاجات الحياة الحديثة في النظام الصحي والماء والإنارة تشجيعًا لأمثالهم على الحج؛ ذلك بأن الأماكن الصالحة لنزولهم بمكة قليلة جدًّا، والكثيرون منهم يلقَوْن أشد العنت في توفير المسكن الصالح لهم، فإذا نُظِّمت لهم ضاحية مُهَيَّأة بأسباب العيش الذي أَلِفوا كان ذلك خير دعاية لأم القرى، وكان خطوةً فسيحة نحو التطور إلى حياة العصر، وفي سبيل التقريب بين المسلمين ذوي الرأي من أهل البلاد المختلفة.

يدل على ما لهذه المنشآت من فضل التطور ما كان للتكية المصرية بمكة، وما يزال لها من أثر في حياتها، والتكيَّة من الآثار الجليلة التي أنشأها محمد علي الكبير جد الأسرة المالكة بمصر بعد أن استقر له الأمر بالحجاز، وقد بقيت التكية على عمارته في سنة ١٢٣٨ هجرية حتى جدَّدها الخديو عباس حلمي الثاني سنة ١٣١٩ هجرية، وهي تقع بشارع أجياد من شوارع مكة، ويقابل بابها باب المسجد الحرام الذي سُمِّي باسم باب التكية لشهرتها، وكانت تجرى فيها الأرزاق على الفقراء فيما مضى، فكانت تطعم في أشهر الحج نحو أربعة آلاف منهم كل يوم، وكانت تطعم أربعمائة فقير كل يوم في غير أشهر الحج، لكن الخلاف الذي حدث بين مصر والحكومة العربية بعد دخول الوهابيين مكة في سنة ١٩٢٦، وما أدى هذا الخلاف إليه من انقطاع سفر المحمل ومن حبس أوقاف الحرمين، حال دون استمرار التكية في إجراء هذه الأرزاق، وأكبر الظن أن يعود الأمر إلى نظام جديد بعد أن استتبت العلاقات المصرية الحجازية من جديد.

لكن الذي لا ريب فيه أن وجود التكية المصرية في مكة منذ أكثر من قرن من الزمان كان له أثره في تطوُّر الحياة في مكة، فالتكية لا يقف أمرها عند هذه الأرزاق وصرفها، بل إن بها طبيبًا يعالج المرضى الذين يقصدون إليه أيًّا كانت جنسيتهم ويصرف لهم الدواء من عنده، ولعل ما قامت وتقوم به التكية من ذلك كان أوَّل ما عرفه أهل مكة وأهل بلاد العرب بوجه عام عن العلاج بالطريقة الحديثة، بعد أن كان العرب لا يعرفون من وسائل العلاج إلا ما يعرفه أهل البادية، وبعد أن كانوا يؤمنون بأن آخر الداء العياء الكيُّ … هذا إلى أن التكية صورة من الحياة المصرية بمكة، إليها يقصد المصريون جميعًا أثناء أشهر الحج، فهي بهذه المثابة مَثَلٌ يشهد العرب ما يجري في بلاد أقرب منهم إلى الحضارة وأعظم اتصالًا بها.

ثم إن أهل مكة أنفسهم، ورجال الحكم في بلاد العرب جميعًا، يتَّصلون اليوم بالبلاد الإسلامية المختلفة، بعد أن يسرت أسباب المواصلات الحديثة سُبل الانتقال وقربت بين أجزاء العالم، مما يجعلهم أكثر استعدادًا لقبول التجديد في مدينتهم، وإن منهم من يزور أوروبا، ويقف على أساليب الحياة فيها، هذا إلى أن كثيرين من موظفي الحكومة العربية ينتسبون إلى مصر وإلى سوريا وإلى بلاد إسلامية شتَّى، صحيح أن الماضي يحول دون الطفرة في دعوة هؤلاء إلى الإصلاح كما تحول الأحوال الاقتصادية دونها، لكنَّ هذا العامل له قيمته — لا ريب — في تجديد صورة الحياة بمكة، وله أثره في تفكير الشباب من أبنائها.

وهذا الماضي الذي يُثقل خطا دعاة الإصلاح يجد في ناحية من نواحي الحياة بمكة ما يشدُّ من أزره إزاء المحاولات التي تبذل للتغلب عليه، هذه الناحية هي التفكير القديم الذي أشرت في أول هذا الفصل إليه، والذي يجعل فكرة التوكل قائمة على التواكل والكسل وعدم السعي في الحياة والقناعة في الرزق بما يجيء من غير مشقة أو عمل، وإن ألوفًا وعشرات الألوف من المقيمين بمكة ليرون حقًّا لهم أن يعيشوا من الصدقات التي تُجرَى عليهم، ولا يفكر أحدهم في مزاولة عملٍ يقيم أَوَده وأود أهله.

وهذا الروح هو الذي يجعل التسوُّل منتشرًا بمكة، وخاصةً أثناء الحج، انتشارًا مروعًا، فأنت كلما ذهبت إلى المسجد الحرام للصلاة وجدت على كل باب من أبوابه الكثيرة العدد — وهي تبلغ ستة وعشرين بابًا — عشرات من الصبية والنساء يتكففون الناس ويسألونهم إلحافًا، ويرى كثيرون من الحجاج، وكثيرات منهم بنوع أخص، فرضًا عليهم أن يعطوا هؤلاء، فهم ينفقون في ذلك العطاء الرخيص الشيء الكثير مؤمنين بأنهم يعطون الفقير مما أعطاهم الله من فضله، فلهم مثوبة ذلك عند ربهم، وكثيرون من هؤلاء المتسولين أقوياء البنية، أصحَّاء الأجسام، قادرون على العمل، وكثيرًا ما رأيت منهم مَنْ لو وُجد في أحياء القاهرة أو في أرياف مصر لأنذر بالتشرُّد ولشددت الشرطة عليه الخناق، لكنهم في المدينة الإسلامية المقدَّسة يجدون عطفًا عليهم من حجاج المسلمين، وتسامحًا معهم من جانب الحكومة.

ولعلك لو سألت في ذلك لقيل: إنهم من ذرية إسماعيل، وإنهم تنطبق عليهم الآية: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وإن ما يبذله الناس من هذه الصدقات إنما هو هذا الهويُّ من أفئدة الناس إلى ساكني البلد الأمين، هذا وإن لم يكن بين سكان البلد الحرام من ذرية إسماعيل اليوم إلا القليل، أما الأكثرون فخليط من أبناء البلاد الإسلامية في آسيا وإفريقيا.

ولقد ذكرني مشهد هؤلاء المتسوِّلين بما تقرره مذاهب عصرنا الحاضر من حق العمل للأفراد كي يعيشوا منه، وذكرت دعوة القرآن الناس ليمشوا في مناكب الأرض ويأكلوا من رزق الله، وحاولت أن أجد مسوغًا لانتشار التسوُّل بمكة، فلم أجده إلا في سوء التأويل للفكرة الإسلامية، ذهبت إليه طائفة أرادت استغلال العواطف لفائدة قوم كسالى لا يعملون، وهم على العمل قادرون، وهذا التأويل الفاسد لا يقرُّه مذهب سليم، فالدعوة الإسلامية أساسها العمل في الحياة والجهاد للرزق فيها، ولقد كان المسلمون الأوَّلون من أهل مكة من أكثر الناس سعيًا ودأبًا، فلما هاجروا مع الرسول إلى المدينة وأراد الأنصار أن يُشاطروهم أموالهم أبَوْا ذلك على أنفسهم — على رغم حاجتهم إليه — وذهب يعمل في التجارة منهم من تؤهله مواهبه للتجارة، ويعمل في الزراعة من يفضل العمل في الزراعة، ولم تكن الأرزاق يومئذٍ تُجرَى إلا على العاجزين عن الكسب، شأنهم في ذلك شأن أمثالهم اليوم، في أرقى الأمم حضارة، فأما القادر على الكسب فلا حقَّ له في الحياة ما لم يعمل، والعمل للقادر عليه عبادة لها مثوبتها عند الله، ولها كرامتها واحترامها عند الناس.

ولو أن الألوف التي تعيش اليوم بمكة من الصدقات زاولت من الأعمال ما تستطيعه لتغير وجه الحياة في مكة، ولو أن ما يخرجه المسلمون من مالهم صدقات للمتسوِّلين جمع وأنفق في أعمالٍ يقوم على استغلالها هؤلاء لكان أعود عليهم وعلى مكة بالفائدة، ثم لتغيرت هذه العقلية المريضة، عقلية التواكل والكسل المزري العجيب، ولتغير تبعًا لذلك تفكير الناس تغيرًا يدفع مكة إلى ناحية الحياة الحديثة، لست أجهل ما في ذلك التغيُّر من عسر وأهل مكة لا تجمع بينهم رابطة الجنس، ولهذه الرابطة أثرها القويُّ في تكوين الحياة القومية.

ولقد كنت أتحدث يومًا إلى مكيٍّ صميم في حرب الأشراف النجديين، وكنا نفرض الأسباب التي أدت إلى دخول الإخوان مكة من الطائف موفورين، ومما اتَّفقنا عليه من هذه الأسباب تكوين أهل مكة من خليط من أجناس المسلمين في أنحاء الأرض جميعًا، فماذا يعني المغربي أو الجاوي أو الأفغاني أو الهندي أن يكون حاكمه عربيًّا قرشيًّا أو بدويًّا نجديًّا ما دام هذا وذاك مسلمًا، وما دام كلٌّ منهما يدع له من أسباب الرزق بلا سَعي ولا عمل ما اعتاد منذ قرون خلت؟ أما وذلك شأنه فليس يعنيه أن يشترك في نزاعٍ على حكم مكة أو حكم الحجاز، وليس يُصيبه من تغيير الحاكم خير ولا أذى، ولو أن أهل مكة كانت تجمع بينهم رابطة الجنس لتغير وجه تفكيرهم في الدفاع عن مدينتهم، ولرأوا هذا الدفاع واجبًا عليهم متصلًا بكرامتهم؛ لأنه الدفاع عن الوطن، ثم لرأوا على كل فرد من أبناء الوطن أن يعمل لخير الوطن، وألا يعيش عالةً عليه ما دام قادرًا على العمل.

ولقد أدركت الحكومات العثمانية هذا السرَّ في الماضي فلم تعمل لتغيير عقلية التواكل في مكة وفي الحجاز كله، بل عملت على تثبيت قواعدها وتعميق جذورها بإجراء الأرزاق على هؤلاء الأغراب الذين نزحوا إلى مكة واستوطنوها، وتشجيع ذوي اليسار على حبس الأوقاف لإجرائها عليهم، بذلك توطد روح التواكل والقعود بالبلد الحرام، وانتشر منه إلى ما حوله من بلاد الحجاز، وبذلك تعذَّر القيام فيه بأي حظ من الإصلاح، فإذا فكر أحد في إصلاح شُوِّه مقصده، ونُعت بأنه يريد إخراج الناس من طمأنينتهم السعيدة التي أرادها الله لهم، والزج بهم إلى حظيرة العمل الشاق والأفكار الضارة المارقة.

لست أقصد مما سبق إلى أن الطبيعة قضت ببقاء فكرة التواكل سائدة أهل البلد الأمين ممتدَّة منهم إلى ربوع البلاد العربية المختلفة، وإنما أقصد إلى أن التغيير لا يتم سراعًا كما يتم في بلد تربط وحدة الجنس بين أبنائه، لكن تمامه أمر لا مفرَّ منه، كما أسلفت؛ لتزايد أسباب الاتصال بين بلاد العرب والعالم الخارجي، هذا الاتصال يسرع بألوان التفكير الحديث إلى مكة على أيدي المسلمين الذين يحجون البيت من مختلف الأقطار، كما يسرع به إليها ما بين الحكومة العربية والحكومات الإسلامية الأخرى من أسباب التفاهم.

ومن أسباب الانهيار في تفكير التواكل ما تم الاتفاق عليه بين حكومة مصر والحكومة العربية السعودية في أمر الأرزاق التي تجرى من مصر إلى الحجاز غلة لأوقاف الحرمين، وفي أمر الأموال التي ترسلها حكومة مصر إلى الحجاز، فقد كانت هذه الأرزاق والأموال توزَّع فيما قبل الاتفاق صدقات ضئيلة القيمة على أهل مكة وعلى أهل المدينة، أمَّا بعد الاتفاق الذي تم عام ١٩٣٦ فقد أصبحت هذه الأرزاق تجمع لتنفق في أعمال ذات فائدة عامَّة، كتعبيد الطرق، وتعمير المنشآت الإسلامية في البلاد المقدَّسة، وقد كان الناس هناك يكتفون بالصدقات عن مزاولة الأعمال لإقامة حياتهم، فإذا انقطعت هذه الصدقات أو قلَّت فصارت لا تكفي حاجات العيش، اضطر أهل البلاد للعمل، وحلوا بذلك محل العمال المصريين وغير المصريين ممن يُجَاء بهم لإتمام هذه الأعمال.

وسيكون الاتفاق الذي تمَّ بين مصر والحكومة العربية مثلًا لغير مصر من الأمم الإسلامية التي تجري الأرزاق إلى الأماكن الإسلامية المقدسة؛ ومن ثم لا يبقى أمام هؤلاء الكسالى إلا أن يعملوا، غير مكتفين بما يصلهم من صدقات الحجاج، وأغلب ظني أن الحكومة العربية ستنظم هذه الصدقات كذلك وتضرب على أيدي المتسوِّلين، وتعمل جهدها للقضاء على حالة محزنة تثير اليوم إشفاق الكثيرين، ولكنها تثير إلى جانب إشفاقهم الزراية بمن يقيمون في موطن الرسول العربي أعظم داعٍ للسعي والعمل، وللإخاء في السعي والعمل، هنالك تتغلغل فكرة العمل في حياة مكة وحياة الحجاز، على أنها الفكرة الإسلامية الصحيحة، بعد أن كانت تعتبر مخالفة لروح الإسلام وتعاليمه.

هذه لمحات سريعة تشفُّ عن العوامل التي تدفع مكة نحو الحياة الحديثة، وثَمة عامل آخر لا يظهر له أثر وإن كان يجول بأخلاد الكثيرين، كنت أتحدث إلى طائفة من أهل مكة فيما يستطيع المسلمون القيام به من إصلاح الأماكن المقدسة كتعبيد الطرق بين جدة ومكة، وبين مكة وعرفات، وبين جدة والمدينة، وتنظيم المياه الصالحة للشرب في مناسك الحج جميعًا، وتنظيم المضارب لنزول الحجاج بها، فأشار واحد من ذوي الرأي من أهل مكة بالرجاء أن يتناول الإصلاح إنشاء جامعة بالطائف يتعلم فيها أبناء البلاد العلوم الحديثة، وقد اختار الطائف للتخلص من اعتراض المعترضين على تعليم العلوم الحديثة بمكة، وفي رأي هؤلاء أن تكون مقارنة المذاهب الإسلامية بعضَ ما يُدرس في هذه الجامعة.

وهذا روح علمي حرٌّ لمحته في محادثاتي مع كثيرين، فإذا تحقق هذا الأمل وأنشئت هذه الجامعة بالطائف أو بمكة — وأفضل أن يكون إنشاؤها بالحل من ظاهر مكة — وإذا ساهم علماء المسلمين من مختلف الأقطار بنصيب في تفقيه أبناء البلاد، فسيكون ذلك إيذانًا بإسراع التطور نحو الحياة الحديثة في صورة من هذه الحياة تتصل بماضي بلاد العرب وتتصل اتصالًا وثيقًا بروح الإسلام الصحيح، وتجعل من مكة مقصدَ العلماء وذوي الرأي، وموضع الأفكار التوفيقية المستندة على أصول ثابتة من الكتاب والسنة، ومن العقل والمنطق، والقَمِينة بأن تحدث في أنفس أربعمائة مليون من المسلمين وفي حياتهم العقلية والروحية من الأثر ما لم يحدث مثله منذ مئات السنين.

لست أدري متى يتحقق هذا الأمل، ورجائي أن يكون هذا الكتاب باعثًا على الدعوة إلى تحقيقه، على أن قيامه في نفوس الذين يعملون لتطوُّر الحياة العربية ويدعون إلى اتصالها بحياة العصر هو لذاته عامل من العوامل الكثيرة التي تهيئ لهذا التطور، والتي تجعل مكة اليوم على أبواب نهضة علمية استَجَنَّتْ فكرتها في نفوس بنيها عشر سنين أو نحوها، قد آن لها أن تؤتي ثمراتها وأن يُبدأ بتحقيق أغراضها.

واعتقادي أن ليس بين المسلمين من ذوي الرأي أحد إلا يرجو أن يرى هذا التطور يسرع إلى هذه البلاد المقدسة، وما أظن الأمر يقف منهم عند الرجاء، بل أحسبهم جميعًا على استعداد لمدِّ يد المعونة والعمل لنشر الدعوة كي تتسع دائرة هذه المعونة.

يوم تمتد أيدي المسلمين متصافحةً من مختلف أقطار الأرض للتضافر على هذا العمل العظيم بصدق وإخلاص، يومئذٍ تتهيأ مكة كرَّةً أخرى لتضيء العالم بنور الحق الذي أشرقت منها شمسه يوم بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وما أشدَّ تعطُّشَ العالم اليوم إلى هذا النور العظيم!

يومئذٍ تصبح سُنَّتُنَا جميعًا سنة النبي العربي، وتوحيدنا الله كتوحيده، وسنة النبي تجتمع في هذا الأثر: المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة.

والتوحيد الحق ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله.

إذا اجتمعت هذه السُّنة إلى هذا التوحيد، وانبعث نورهما كرَّةً أخرى من منزل الوحي الأول، فقد آن لمنطق العقل وإيمان القلب أن يلتقيا في الله وفي سنته التي لا تبديل لها، وآن للعلم — بأحدث ما اهتدت إليه بصائرنا — أن يكون سلاحنا إلى الحقيقة، وآن للمعرفة وتَوْق النفس الدائم للتزيُّد منها، أن تزيد آفاق العلم سعة وقواعد الإيمان تثبيتًا، وآن للإنسانية أن تسير في ظل التسامح والإخاء إلى الكمال الذي تنشده من أقدم العصور فلا تهتدي إليه؛ لتنازع العقل والقلب على تولي زمامها وتوجيهها الوجهة التي يحسب كل منهما أنها أدنى إلى هذا الكمال.

يومئذٍ تعود مكة الحديثة المكان الذي تشخص إليه القلوب والأبصار وتتعلق به تعلق جهاد في سبيل الحق، متخذة إليه من العلم سلاحها، ومن العقل أصل دينها، ومن الزهد فيما سوى الحق حرفتها، ومن الرضا بالحق غنيمتها.

ويومئذٍ يرضى الله عن الإنسانية وترضى عنه، وتؤمن بأنها اهتدت الهدى الحق إلى سبيل الكمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤