في جوف الكعبة

منذ فرغتُ من شعائر الحج وعُدتُ إلى مكة كان الدخول إلى جوف الكعبة في مقدمة أغراضي، لكن كثرة تجوالي بمكة وما حولها، وذهابي أثناء ذلك إلى الطائف، أجَّل قيامي بهذا الواجب حتى غادر أكثر الحجيج أم القرى، ولقد أجَّله كذلك أن الحجيج لا يفتئون طِيلَة مقامهم بالبلد الحرام يلتمسون المثوبة من رب البيت بالدخول إلى جوفه، وهم يدخلون الكعبة زُمَرًا؛ فإذا احتوتْهم لم يجد من يكون بينهم فرصة تفكير أو استجمام، فلما خلتْ مكة من غير أهلها وآن لي أن أغادرها، فكرت في تحقيق غرضي بإتمام هذه الزيارة، وقيل لي يومًا: إن سادِن الكعبة يفتح بابها بعد صلاة الظهر، فأقمتُ بالمسجد أنتظره؛ لكنه لم يحضر إلى العصر ولم يفتح الباب لداخلٍ بقيَّة ذلك اليوم، إذ ذاك رجوتُ مضيفي أمين العاصمة فكتب إلى الشيخ الشَّيبي ينبئه بما أريد، وردَّ السَّادن ردًّا رقيقًا ضرب لنا فيه موعدًا ضحى الغد.

وذهبت في الموعد فطفتُ بالبيت، وصليتُ بمقام إبراهيم وبحِجْر إسماعيل، ثم عدت إلى المقام قُبالة باب الكعبة أنتظر فتحه، وكان مطوِّفنا يتنطَّس أخبار السَّادن خيفة أن يطول بنا انتظاره، وأقبل الشيخ الشَّيبي بعد سويعة في لباسه الضَّافي، وسار خدم الكعبة من ورائه، ورآهم الناس فتفرجوا عند الباب، ووضع الخدم السُّلَّم وصعدوا عليه، وفتحوا باب البيت ودخلوا إليه، ولم يؤذن بالدخول لغيرهم، وسألت في ذلك فعلمتُ أنهم يكنسون الكعبة ويطلقون فيها البخور، ولما أتَّم القوم واجبهم وقف السادن بالباب وأشار إليَّ، فتقدمت نحو هذا الدرج الذي يوضع كلما فتحت الكعبة ويرفع بعد تمام زيارتها.

تقدمت ممتلئ النفس خشوعًا وإكبارًا، أنا أعلم مما قرأته أن الكعبة ليس بداخلها شيء منذ طهَّرها النبي العربي من الأصنام يوم فتح مكة، ولقد دخلتُ قبل اليوم هياكل ومحاريب من آثار مصر يرجع تاريخ بنائها إلى بضعة آلاف من السنين، كما دخلت متاحف ومعابد في بلاد أوروبا المختلفة، ولقد كنت أشعر في الكثير من هذه الأماكن بالهيبة والإجلال، لكن شعوري ساعة تقدمت لأصعد إلى الكعبة كان غير هذا الذي شعرت به في هذه الأماكن، كان شعورًا قويًّا عميقًا آخذًا بمجامع القلب، صادرًا من أعماق الروح، مَلَكَ عليَّ كل وجودي فجعلني أتعثر في مشيتي وأنا أخطو إلى الدرج وما أكاد أرفع بصري إلى باب الكعبة، وكيف لا يأخذني الخشوع والإكبار وأنا أصعد إلى بيت الله، وأنا أؤمن بأن الله أكبر من كل كبير في الأرض وفي السماء؟!

وصعدتُ الدَّرج ودخلت البيت العتيق، وتلقاني الشيخ الشيبي أول دخولي فحيَّاني هشًّا بشًّا، وأشار لي بيمناه إلى علامتين في إزاء الجدار الذي يقابل الباب، وقال: هنا يصلي الإنسان ركعتين في المكان الذي صلَّى فيه رسول الله ، فتقدَّمتُ نحو المكان أصلي ركعتين، وما أذكر أني شعرت في حياتي بمثل ما شعرت به في هذه اللحظة من غبطة ورضًا، تباركت ربي! أأقف أنا الآن حيث كان يقف عبدك ورسولك، وأعبدك مخلصًا لك الدين كما كان يعبدك؟! ليتني أستطيع السمو بفضلك إلى هذا الرضا، ولكن غفرانك! أين الروح الذي يستطيع السمو إليك سمو من اصطفيته لرسالتك، ويطمع في أن يبلغ من الصفاء ومن الحب لبني الإنسان ما بلغ نبيُّك الكريم؟! وأتممت صلاتي، وبقيت في جلستي أستغفر الله وأعبده وأستعينه، ولعل السَّادن أدرك ما أنا فيه فتركني في استغفاري وادِّكاري.

نعم! ذكرتُ وأنا بموقفي هذا كيف صدَّ أهل مكة نبيَّ الله عن بيت الله؟ وكيف فتح محمد مكة دون أن يسفك دمًا؟ وكيف عفا يومئذٍ عن أشد خصومه لَدَدًا في عداوته، ثم انطوى الزمن أمام بصيرتي فخلتني وأنا أقف حيث وقف الرسول وكأنما أشهد هذا كله، فيزيدني ما أشهد خشوعًا وإكبارًا.

وقمتُ فدلَّني السادن على مواضع صلَّى فيها الأنبياء والخلفاء قبالة الجدران الأخرى، فصليت حيث صلَّوْا منذ قرون مضتْ، وتلَوْتُ بعد صلواتي ما طلب إليَّ السادن أن أتْلُوَه، فلما أتممت التلاوة جعلتُ أسأله عن شئون البيت وكسوته وبنائه، وجعل يجيبني في ظرف ورِقَّة سائغين، ما أجدره بهما وهو من سلالة بني شَيْبَة الذين أقرَّ الرسول فيهم سدانة الكعبة يوم الفتح لا يأخذها منهم إلا ظالم حتى يرث الله الأرض ومَن عليها!

والتفتَ السَّادن إلى والدتي وجعل لها كل عنايته، يجيبها عما تسأل عنه، وتتلو وإيَّاه ما يطيب به قلبها ويطمئن له روحها، إذ ذاك أدرتُ بصري في جوانب البيت، ما أشده بساطة! وما أعظمه مع ذلك مهابة! هو غرفة أو — إن شئت — بهو رفيع خالٍ من كل زخرف، وهنا بساطته، وهو هيكل التوحيد في أشد صور التوحيد صفاءً وأشدها للشرك إنكارًا، وهنا عظمته ومهابته، وهو كذلك اليوم، وكان كذلك منذ أقام إبراهيم وإسماعيل قواعده، تقَلَّبتْ عليه أجيال أنكرت التوحيد وأشركت بالله وجعلته مثابة أصنامها، وجاءت بعد الإسلام أجيال تنكَّر له بعض بنيها ولم يعرفوا له حرمته، وها هو ذا هيكل التوحيد اليوم كما كان حين أقيمت قواعده، وهو يزداد كل يوم تعظيمًا حتى ينصر الله دينه على الدين كله، فيكون قِبْلة العالم جميعًا في مشارق الأرض ومغاربها.

وإني لفي إكباري لبيت الله وفي تعظيمي حرمته إذ رأيتُني أردِّد في دخيلة نفسي: اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، وتمثلت لي عقيدة التوحيد في صفاء جوهرها السَّامي يتضافر الدين والعلم على إكبارها؛ فعجبت كيف لا تمتثلها النفوس جميعًا كما امتثلتها نفسي؟! وكيف لا يدرك الناس جميعًا ما في هذه الآيات التي ردَّدتْها روحي من حقيقة تراها البصيرة واضحة محسوسة؟! وكيف لا يرى الناس وجه الله أينما ولَّوا وجوهم؟! كيف لا يرونه مضيئًا بنور الحق في خلق السموات والأرض والليل والنهار وما نعلمه نحن وما لا يعلمه إلا هو؟! إذ ذاك ازددت إكبارًا لهيكل التوحيد على إكباري إياه، وازددت عجبًا لأولئك الذين يملكهم حب الحياة عن أن يروا وجهه الكريم متجلِّيًا في كل ما حولنا؛ وهو أشد تجليًا في ذات نفوسنا وأعماق قلوبنا وفي كل حس وفي كل جارحة.

الكعبة بهو رفيع خال من كل زينة وزخرف، وسقفها يعتمد اليوم على ثلاثة عمد من الخشب الضارب لونه إلى حمرة تشوبها صفرة، ويرجع العهد بهذه العمد إلى أجيال طويلة خلت، فعبد الله بن الزبير هو الذي وضعها حين جدد بناء الكعبة، ولم يصب هذه العمد فساد على طول العهد بها إلا ما كان منذ خمسين سنة أو نحوها حين تآكل أسفلها فشدَّت بدوائر من خشب طُوِّقت بها وسمرت عليها، وتعلو هذه الدوائر عن أرض الكعبة ما يزيد قليلًا على ثلاث أذرع، وأرضها مفروشة برخام أبيض عادي، قصد منه إلى المتانة ولم يقصد إلى الزخرف.

فأما الجدار فأحيط أسفله برخام ملوَّن مُزَرْكش بنقوش لم تعمل فيها يد ذوي الفن ولم تُخرج بيت الله عن بساطته.

وغطيت جدران الكعبة بستر من الحرير، قيل: إنه كان أحمر ورديًّا في زمانه، ثم أحالته السنون إلى ما يشبه الرمادي الضارب إلى الخضرة، ولقد أنبأني السادن أن هذا الستر، الذي شُدَّ إلى جدرانها في عهد الخليفة العثماني عبد العزيز منذ ستين سنة أو يزيد، قد أثار قدَمه واستحالة لونه العاهل النجدي عبد العزيز بن آل سعود فأمر بصنع غيره ليستبدل به، وهذا الستار القديم قد زركش بالنسيج الأبيض طرزت عليه عبارات وألفاظ تُوائم روح العصر الإسلامي الذي كتبت فيه من حيث دلالتها، فمنها: «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» و«يا حنَّان يا سلطان، يا منَّان يا سبحان»، وهذه العبارات الأخيرة مكتوبة داخل دوائر من النسيج الذي طرِّزت به، ولست أدري أية عبارات طرزت على الستر الذي أمر ابن السعود بصنعه، والذي يكسو اليوم جدار الكعبة في جوفها؛ أهي آيات قرآنية تتصل بالبيت وإقامته، أم بالتوحيد وصفائه وقوته، أم هي أحاديث الرسول في يوم الفتح، أم هي ألفاظ تعبدية كالألفاظ التي كانت على الستر يوم رأيته؟

يختلف الركن الأيمن مما يلي باب الكعبة حين دخولك منه عن سائر جُدُرها وأركانها؛ ففي هذا الركن يقوم الدرج الصاعد إلى سطح الكعبة، وقد وضع عند باب هذا الدرج ستر أسود مطرَّز بالقصب الفضِّي المموَّه بالذهب من نوع الستر المنسدل على باب الكعبة.

هذا كل ما في الكعبة من داخلها، وهو لا يغير من بساطتها شيئًا كما ترى، فهذا الستر الذي يكسو جدارها ليس منها، وهو بعدُ كلُّ ما فيها من زخرف، أما ما وراءه فالبساطة كل البساطة القوية التي تأخذ بمجامع النفس، البساطة الجديرة بهيكل التوحيد في بداهته وصفائه وقوته.

أمَّا والتوحيد هو العقيدة الأزلية الثابتة جاءت بها الأديان وأثبتها العلم، فقد برع خيال الكتَّاب والمؤرخين في تصوير نشأة بيت الله الأحد ومبدأ بنائه، وقد تحايلوا لذلك على تفسير ما ورد من آيات القرآن الكريم فيه، فالقرآن صريح في: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، وفي أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان رفعا قواعد هذا البيت، مع ذلك رأى بعض المؤرخين أن يجعل الملائكة بناة البيت قبل أن يبرأ الله الأرض ومن عليها، وأن آدم بناها بعد ذلك، وذكر بعضهم أن شيثًا أول من بنى الكعبة، فأما المشهور عن أكثر العلماء فهو أن أول من بنى البيت إبراهيم؛ بهذا قال عليٌّ بن أبي طالب وجزم به ابن كثير في تفسيره.

والذين يذكرون أن الملائكة بَنَوا البيت يقصُّون رواية لها جمال شعري فيه طابع الفن؛ إذ يصورون المعنويات صورة مادية، فهم يروُون أن الله غضب على الملائكة حين قال لهم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ. وكان مظهر غضبه — جل شأنه — أن أعرض عنهم، فلاذ الملائكة بالعرش ورفعوا رءوسهم وأشاروا بالأصابع يتضرعون ويبكون إشفاقًا من هذا الغضب، وطافوا بعرش الله سبعًا كما يطوف الناس بالبيت الحرام وهم يقولون: لبيك اللهم لبيك، ربنا معذرةً إليك، نستغفرك ونتوب إليك، فنظر إليهم ونزلت الرحمة عليهم، ووضع الله — سبحانه وتعالى — تحت العرش بيتًا هو البيت المعمور على أساطين أربع من زبرجد تغشاهن ياقوتة حمراء، وسُمِّي ذلك البيت الضُّرَاح، ثم قال الله — تعالى — للملائكة: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم به أيسر من طوافهم بالعرش، ثم أمر الله الملائكة من سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتًا على مثال البيت المعمور، وأمر مَن في الارض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. وفي بعض الروايات أن هذا البيت الذي بني في الأرض هو الذي سُمِّي الضُّراح، وأن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام فكانوا يحُجُّونه، فلما حجَّه آدم قالت له الملائكة: بَرَّ حجُّك يا آدم، حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.١

وفيما روي عن بناء آدم الكعبة روعة شعرية كروعة بناء الملائكة إياها، فقد قيل: إن آدم سأل ربه بعد أن هبط وزوجه من الجنة: يا رب ما لي لا أسمع أصوات الملائكة ولا أحسهم؟ قال: بخطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابنِ لي بيتًا فَطُفْ به واذكرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، فأقبل آدم يتخطى الأرض حتى بلغ مكة، هنالك ضرب جبريل — عليه السلام — بجناحه في الأرض السفلى، فقذفت فيه الملائكة من الصخر ما لا يطيق حمل الصخرة ثلاثون رجلًا، وعلى هذا الأساس بنى آدم البيت مُتخذًا أحجاره من خمسة أجبال: من لبنان، وطور سيناء، وطور زَيْتا، والجوديِّ، وحراء، وفي رواية تفرد ابن لَهِيعة في نسبتها إلى النبي أنه قال: «بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتًا، فخطَّ لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى إذا أجابه الماء نودي من تحته حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله — تعالى — إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه.»

ولم يرد في الرواية التي تذهب إلى أن شيثًا بنى الكعبة، شيء من التفصيل، وإنما قيل: إن طوفان نوح أغرق البيت وغيَّر مكانه حتى بوَّأ الله لإبراهيم مكان البيت فأقام قواعده مع ابنه إسماعيل، على ما ورد في الذكر الحكيم.

وهذه الروايات الشعرية عن بناء الملائكة وآدم وأبنائه ممن سبقوا إبراهيم الكعبة يعتبرها أكثر العلماء من الإسرائيليات التي دُسَّت على الإسلام، فليس لها في كتاب قديم سبق نزول القرآن سند، والقرآن لا يشير إليها بما يسوِّغ استنباطها، وما يذهب إليه الذين ذكروها من ألوان التفسير لا يثبت صحتها، والقرائن كلها على أن وادي مكة كان غير ذي زرع حين جاء إبراهيم بهاجر وابنه إسماعيل إليه، فلو أن هيكلًا للعبادة، أو أثرًا لهذا الهيكل كان قائمًا به، لأقام في جواره كُهَّان وسدنة ينالون من قاصديه رزقهم، ولقد ظلَّت هاجر مع ابنها بهذا الوادي إلى أن شَبَّ إسماعيل فتزوج من جُرْهم.

ولقد دُسَّ على الإسلام من الإسرائيليات الشيء الكثير، ولم يفتأ بنو إسرائيل مذ كانوا يحاربون النبي بالمدينة يحاولون أن يشوِّهوا صفاء التوحيد في الإسلام، وأن يحيلوا روحانيته ماديةً ليضعفوا من نفوس الآخذين به، فليس أدعى إلى ضعف النفس من أن يصبح العالم أمامها مادة بدل أن يكون فكرة معنوية سامية؛ وليبلغوا من ذلك غايتهم دسُّوا الكثير من الأحاديث، ونسبوها إلى النبي ، وحرَّكوا الفتن على أساس ما دسُّوا، بأن جعلوا مطامع المسلمين مادية غايتها الحكم أو المال أو ما إلى ذلك من متاع الغرور الإنساني في هذه الحياة الدنيا، وإن العالم ليعاني اليوم من آثار هذا التفكير في أقطاره الإسلامية والمسيحية جميعًا ما ترى مظاهره في هذه المذاهب الاقتصادية المختلفة، وفي الثورات الدامية التي تقوم بسببها فتحرق الأخضر واليابس وتأتي على خير مخلفات الإنسانية من علم وفن بيد التخريب، يحركها الجهل والتعصب والطمع المادي الأحمق الوضيع.

فأما بناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة فقد ورد نبؤه في القرآن، ولكنه ورد موجزًا في قوله — تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وما روي بعد ذلك من تفصيل فمرجع أكثره أحاديث أفراد أو روايات لا تستند إلى سند تاريخي يقرُّه العلم، فقد ذهبتْ رواية إلى أن جبريل أمر إبراهيم فصحب هاجر وابنها — وإسماعيل ما يزال طفلًا — وركبوا البُراق ليبلغوا موضع البيت لبنائه، وكان إبراهيم كلما مرَّ بقرية سأل جبريل: أهي التي اختارها الله لبناء بيته؟ وكذلك ظلوا حتى بلغوا مكة، وذهبت رواية أخرى إلى أن ملكًا من الملائكة جاء إلى هاجر أم إسماعيل حين أنزلهما إبراهيم مكة قبل أن يقام البيت فأشار لها إليه، وهو ربوة حمراء مَدَرَةٌ، فقال لها: هذا أول بيت وضع في الأرض، وهو بيت الله العتيق، وأعلمها أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه، وفي رواية ثالثة أن إبراهيم جاء إلى مكة بعد سنوات من مقام إسماعيل وأمه بها، وبعد أن شب إسماعيل وتزوج وقوي ساعده، فوجد إسماعيل يبري نباله تحت دَوْحَة قريبة من زمزم، وتبادلا تحية الأبوة والبنوة، ثم قال إبراهيم لابنه: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمر ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هنا بيتًا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، وعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يجيء بالحجارة وإبراهيم يبني حتى ارتفع البناء.

وهذه الرواية الأخيرة أدنى إلى تصور عقلنا الإنساني، يضاف إليها أن البناء لما ارتفع طلب إبراهيم إلى إسماعيل أن يجيء بحجر، فجيء بالحجر الأسود، والروايات في الحجر الأسود وأصله تختلف قيل: إن إسماعيل ذهب إلى الوادي يطلب حجرًا يضعه أبوه في البناء وعاد فألفى عند أبيه حجرًا أسود فسأله: من جاءك بهذا الحجر؟ قال إبراهيم: مَن لم يَكِلْني إليك ولا إلى حجرك، وكان جبريل هو الذي جاء بالحجر الأسود من السماء، إذ كان قد رفع إليها حين أغرق الطوفان الأرض، وقيل: إن جبريل جاء بالحجر الأسود من الهند حيث هبط به آدم من الجنة؛ وكان أبيض ناصعًا، فاسودَّ من خطايا الناس، وقيل: بل كان الله — عز وجل — استودعه جبل أبي قُبَيس حين طوفان نوح، فجاء به جبريل ووضعه في مكانه وبنى إبراهيم عليه، وهو حينئذٍ يتلألأ نورًا حتى لقد أضاء بنوره شرقًا وغربًا وشمالًا ويمينًا إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية، وإنما سوَّدته أنجاس الجاهلية وأرجاسها.

وذكرت الروايات أن إبراهيم بنى الكعبة من الجبال الخمسة التي ذكرها من تحدثوا عن بناء الملائكة البيت.

يقول مؤلف «تاريخ الكعبة المعظمة»:

فتحصَّل من عموم ما رويناه عن صفة بناء إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل — عليه السلام — للكعبة المعظمة، أنه بناه بأمر الله — سبحانه وتعالى، وكان الباني إبراهيم والمساعد له إسماعيل، وأنه بناه بالحجارة، وجعل ارتفاعه إلى اليسار تسع أذرع، وطوله من الشمال إلى الجنوب مما يلي الجهة الشرقية اثنتين وثلاثين ذرعًا، ومن الشمال إلى الجنوب مما يلي الجهة الغربية إحدى وثلاثين ذراعًا، ومن الشرق إلى الغرب مما يلي الجهة الجنوبية، أي: من الحجر الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعًا، ومن الشرق إلى الغرب أيضًا مما يلي الجهة الشمالية أي: من جهة حِجْر إسماعيل اثنتين وعشرين ذراعًا، وجعل له بابين ملاصقين للأرض، أولهما من الجهة الشرقية مما يلي الحجر الأسود، والآخر من الجهة الغربية مما يلي الركن اليماني على سَمْت الباب الشرقي، وحفر في داخله بئرًا تكون خزانة له؛ ولم يجعل عليه سقفًا، ولا وضع على بابيه أبوابًا تفتح وتغلق. والله أعلم.

رفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، وطهَّراه للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السجود، وجعلاه مثابة للناس وأمنًا، وخلف العمالقة وجرهم إسماعيل على مكة أجيالًا بعد ذلك متعاقبة ثلاثمائة سنة، فأعاد هؤلاء ثم أولئك بناءه وزادوا فيه، وأقاموا على تعظيمه والطواف به، ولم يكن أحد يجرؤ أن يأخذ من هدايا البيت المحفوظة بالبئر مخافة ما ينزل به من عقاب رب البيت، على أن السُّهَيلي روى في الروض الأنف: أن سارقًا سرق من مال الكعبة في زمن جُرْهم، وأنه دخل البئر التي فيها كنزها، فسقط عليه حجر فحبسه فيها حتى أُخرج منها وانتزع المال منه، ثم بعث الله حيَّة لها رأس كرأس الجدي، بيضاء البطن سوداء المتن، فكانت في بئر الكعبة خمسمائة عام فيما ذكر رَزِين، ولعلَّ رَزِينًا والسهيلي لم يقف أحد منهما على نقوش قدماء المصريين؛ إذ كانوا يجعلون الحية التمثال الحارس على أبواب المحاريب التي تكون فيها المومياء والنفائس المدفونة معها.

وبناء العمالقة وجرهم الكعبة بعد إبراهيم مختلف عليه، ومنهم من يذكر أن أول من جدَّد بناء الكعبة بعد إبراهيم قُصَيُّ بن كِلَاب الجدُّ الخامس للنبي العربي، وأنه سقفها بخشب الدَّوْم وجريد النخيل، والمعروف أن الكعبة كانت إلى عهد قُصي قائمة في الفلاة لا يبني أحد حولها إعظامًا لحرمتها، فلما آل إليه أمْر مكة أمَر الناس فبنوا حول البيت ولم يتركوا إلا قدر المطاف.

ولم تذكر المراجع المختلفة أن أحدًا تولى تشييد الكعبة بعد قصي، وقبل أن تبنيها قريش قبيل بعث محمد نبيًّا، إلا ما رواه تقي الدين الفاسي في كتاب «شفاء الغرام بأخبار المسجد الحرام» أن عبد المطلب جدَّ النبي بناها، ولعله أبدع هذه الرواية ليُكسب عبد المطلب بها تشريفًا، فإن ما أصاب جدران الكعبة من الوهن بعد موت عبد المطلب بعشرين سنة أو نحوها لا يتفق مع هذا القول.

أمَّا الثابت الذي أجمع عليه المؤرخون وكُتَّاب السيرة، فذلك بناء قريش الكعبة على عهد محمد حين طَغَى السيل عليها ووهن جدرانها، فلما بلغ القوم مكان الحجر الأسود اختلفوا وكادت تنشب الحرب الأهلية بينهم، ثم احتكموا إلى أول داخل من باب الصفا؛ ودخل محمد من هذا الباب وحكم بينهم بأن وضع الحجر على ثوب رفعه أهل القبائل المختلفة من أطرافه ثم رفع محمد الحجر ووضعه مكانه من البناء.

ذكرت هذا الذي تداولته الروايات المختلفة عن بناء الكعبة وأنا بموقفي في جوفها، فلما بلغتُ باستعراضي إلى قيام محمد بين قومه مقام الحكم في وضع الحجر الأسود مكانه، تنبهتُ إلى موقفي وذكرت أن رسالة محمد وما جاء فيها من فرض الحج على الناس هي التي جاءت بي إلى هذا المكان ووقفتني هذا الموقف، واقتربتُ من باب الكعبة أنظر إلى ما حولها، وخيَّلت لنفسي صورة هؤلاء الذين رفعوا الثوب والحجر الأسود فوقه، وموقف محمد منهم وهو يقضي بينهم قضاء تطمئن له نفوسهم وتستريح إليه أفئدتهم.

وما لبثت حين ارتسمت هذه الصورة أمامي أن انتقلت فجأة أرى صورة أخرى تنبعث أمامي واضحة المعالم، ممتلئة حياة وقوة، كلها الروعة وكلها الجلال؛ تلك صورة محمد والمسلمون من حوله يوم فتح مكة، فها هو ذا ممتطٍ ناقته القصواء يجيء متجهًا إلى الكعبة وأصحابه من ورائه، ومن ورائهم عدد من سادة مكة وكبرائها، ويطوف رسول الله بالبيت سبعًا، ثم يقف أمام بابه فيدعو السادن ليفتحه له، ويفتح عثمان بن طلحة الباب فيقف محمد فيه وقد تكاثر الناس من حوله، فيخطبهم ويتلو عليهم قوله — تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، ويسأل أهل مكة فيقول: يا معشر قريش، ما ترون أنِّي فاعل بكم؟ فيقولون: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، ويجيبهم: فاذهبوا فأنتم الطلقاء.

ويدور فيلقي ببصره إلى جدران الكعبة وهو واقف من بابها مثل موقفي الساعة فيرى هذا الهيكل الذي أقامه إبراهيم وإسماعيل هيكلًا للتوحيد قد انقلب هيكلًا للوثنية والشرك، فلم تبق مِن ثَمَّ له بساطته ولا بقيت له مهابته وقوته، عَبثَ الفن بجدرانه وبجوفه، فأنشأ من الصور والتماثيل ما يأخذ النظر إليه والفكر إلى تقدير دقة صنعه عن التفكير في وحدانية الله — جل شأنه — وفي قوته وقدرته، نقشت على الجدران صور الملائكة نساءً ذوات جمال، فصارت هذه الأرواح النورانية ذات كيان مادي يطغى على المعنى الروحي فيها، وصوِّر إبراهيم وفي يده الأزلام يستقسم بها، وصور النبيون من حوله في أوضاع مادية كوضعه، وفي جانب وضع تمثال حمامة من عيدان، وقام الصنم هُبَل في جوف الكعبة تحفُّ به هذه الصور على جدرانها، وهو على صورة الإنسان قد صُنع من العقيق إلا ذراعًا له كُسرت فأبدله القرشيون منها ذراعًا من ذهب، وشُدَّت أصنام كثيرة بالرصاص إلى جدر الكعبة، ولبعضها من جمال الفن بعض ما لهُبَل.

أي متحف هذا المتحف؟! إن صورته لتثير في الذهن صورة قاعة من قاعات المتحف المصري بالقاهرة، أو بهو من أبهاء متاحف العواصم الأوروبية، ولم يكن أهل ذلك العصر ينظرون إلى هذه الصورة والتماثيل كما ننظر نحن اليوم إليها، ولا كانوا يعتبرونها بعض آثار الفن كما نعتبرها، بل كانوا يبعثون إلى هذه الصور المادية حياة يتوهمونها ثم يكبرونها، ثم يشركون أصحابها في الألوهية، أو يتخذونها إلى الله زلفى؛ لذا كانت الكعبة إلى تلك الساعة حين دخلها محمدٌ هيكل الوثنية والشرك، كما كانت هيكلهما قبل ذلك أجيالًا وآجالًا، أما والإسلام ينكر الشرك ويدعو إلى التوحيد كما دعا إليه إبراهيم منذ أقام البيت، فليعد بيت الله هيكل التوحيد كما كان؛ لذلك أمر محمد فطُمست الصور، وحُطمت الأصنام وألقيت إلى ظهورها، وطُهِّرت الكعبة من كل أثر لها، وعادت إليها بساطة التوحيد ومهابته بمعناه الروحي السامي توحيه إلى من يطوف بها ويدخل إلى جوفها فتُوجِّه قلبه إلى الله وحده، له وحده الحمد وله الملك وإليه يرجع الأمر كله.

يا لعظمتها ساعة من ساعات التاريخ تلك التي طهَّر محمد الكعبة فيها من فنون الشرك وآثامه! لقد تمثلت لي مناظرها جميعًا واضحة جلية في بهاء جلالها كأنها تمر أمام باصرتي على شاشة بيضاء، بل كأنها تحيا في عالمنا من جديد كرَّة أخرى، وجعلت أشهدها وأنا واقف على عتبة باب الكعبة، فتمتلئ بها روحي وتتغذى بها نفسي، فيزيدني ذلك تعظيمًا لموقفي وإكبارًا للرسول الكريم الذي محا آية الضلال، ثم تنفرج شفتاي عن كلمة هي جِمَاع هذه الروحانية العظمى: «لا إله إلا الله، الله أكبر.»

لو أدرك المسلمون ذلك كله إدراكًا حلَّ منهم محل اليقين لما نزل بالإسلام ما نزل به، وما اجترأ على بيت الله يومًا مجترئ، لكن الفتح الإسلامي أدخل في دين الله أقوامًا لم تمتثل نفوسهم مبادئ هذا الدين في سمو صفائها، وفي دعوتها إلى الإسلام الصحيح لله، وفي احترامها حرمة بيته احترامًا وقر في النفس العربية من قبل الإسلام، ثم زاده الإسلام قوةً وتثبيتًا؛ لذلك قامت الفتن بعد مقتل عثمان، واستقلَّ بنو أمية بالمُلْك، وجعلوا دمشق عاصمتهم … فلما آل الأمر إلى يزيد بن معاوية كان عبد الله بن الزبير ما يزال منتقضًا على إمارة الأمويين، ثائرًا بهم بمكة، ولقد جرَّد يزيد جيشًا لإخضاعه وأمَّر عليه الحصين بن نُمَير، فسار إليه وضيَّق عليه الحصار بمكة، ولم يطق ابن الزبير ورجاله مقاومته، فلجئوا منه إلى الحرم وبنوا حول الكعبة خِصَاصًا من القصب يحتمون بها من حجارة المنجنيق الذي نصبه ابن نمير على جبلي مكة: أبي قبيس وقعيقعان، ولم تمنع هذه الخصاص اللاجئين إليها، فقد أمر الحصين أصحابه أن يرموا الكعبة من المنجنيق بعشرة آلاف حجر، وكانوا يرمون ويرتجزون، وكانت الحجارة تصيب الكعبة حتى تمزَّقت كسوتها وبدت أحجارها، وأصاب الذين يقيمون بالخصاص والخيام حول الكعبة الفزع، حتى إن أحدهم ليوقد نارًا في خيمة قائمة بين ركن الحجر الأسود والركن اليماني، إذ طارت منه شرارة أحرقت الخيام وتعلقت بأستار البيت، ولما كان بناء الكعبة يومئذٍ مِدْمَاكًا من حجر ومدماكًا من خشب الساج؛ فقد احترق الخشب ووهن البناء كله حتى كان وقوع الحمام على الكعبة كافيًا لتناثر حجارتها.

ولقد فزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعًا، وترك ابن الزبير الكعبة ليراها الناس، فيكون مرآها محرِّضًا لهم على أهل الشام، وظل الأمر كذلك، وظل الحصين بن نمير محاصرًا للبلد الحرام حتى بلغه نعي يزيد بن معاوية، وتحدَّث إليه رجال من أهل مكة واتهموا رجاله بأنهم رموا الكعبة بالنفط، وقالوا له: أما وقد تُوفي أمير المؤمنين فعلى ماذا نقاتل؟ ارْجع إلى الشام حتى ترى ما يجتمع عليه رأي صاحبك، يريدون معاوية بن يزيد، ورجع الحصين إلى الشام تاركًا الكعبة واهية توشك أن تنقضَّ.

figure
خريطة مكة المكرمة.

وتحدَّث ابن الزبير إلى أهل مكة: ماذا يصنع بالبيت، أيصلح ما وَهَى منه؟ أم ينقضه ويعيد بناءه؟ وكان عبد الله بن عباس على رأي المعارضين للهدم وإعادة البناء، قال موجهًا كلامه لابن الزبير: دَعْها على ما أقرها رسول الله ، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها ويبنيها، ثم يأتي بعد ذلك آخر، فلا تزال أبدًا تُهدم وتُبنى فتذهب حُرمة هذا البيت من قلوبهم، ولا أحب ذلك، ولكن أرقعها، وأجابه ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله — سبحانه — وأنا أنظر إليه ينقضُّ من أعلاه إلى أسفله، حتى إن الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته، وأقام أيامًا يشاور ويستخير، ثم أجمع على هدم الكعبة، وهدمها وأعاد بناءها، وإذ كانت خالته عائشة أم المؤمنين تذكر أن رسول الله قال لها: «يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لأمرت بالبيت فهُدم فأدخلتُ فيه ما أُخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، فبلغتُ به أساس إبراهيم»؛ لذلك زاد ابن الزبير في مساحة الكعبة فأدخل فيها حجر إسماعيل بعد أن كشف على أساسها وجعل لها بابين وألصقها بالأرض.

ولمَّا هدم ابن الزبير الكعبة وشرع في إعادة بنائها بعث إليه عبد الله بن عباس يقول: «لا تَدَع الناس بغير قِبْلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلوا إليها»، ونفذ ابن الزبير مشورة ابن عباس، فلما بلغ البناء الركن وآن أن يوضع الحجر الأسود في مكانه أمر ابن الزبير ابنه عباسًا وجبير بن شيبة بن عثمان أن يجعلا الحجر في ثوب، وقال لهما: «إذا دخلت في صلاة الظهر فاحملاه واجعلاه في موضعه فأنا أطوِّل الصلاة، فإذا فرغتما فكبرا حتى أخفف صلاتي»، فلما وضع الرجلان الحجر في موضعه وطوَّقا عليه الركن كبَّرا، وخفَّف ابن الزبير صلاته، وغضب رجال من قريش حين لم يُحضِرهم ابن الزبير، وأعادوا قصة تحكيم أجدادهم أول داخل من باب الصفا، وحكم رسول الله قبل بعثه بينهم، لكنهم كانوا أمام الأمر الواقع، فلم يزيدوا على أن غضبوا ثم رضوا.

ولما تم بناء الكعبة اعتمر ابن الزبير مُحرمًا من التنعيم، واعتمر الناس معه، ونحروا، وأقاموا يَطْعَمون ويُطعِمون شكرًا لله على تيسير بناء بيته الحرام، وكان ذلك في السنة الخامسة والستين من الهجرة.

وظلت الكعبة كما بناها ابن الزبير عشر سنوات، فلما كان عهد عبد الملك بن مروان وحاصر الحجاجُ ابنَ الزبير وقَتَله، كتب إلى عبد الملك يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس منها وأحدث فيها بابًا آخر، ويستأذنه في ردِّ ذلك إلى ما كان عليه في الجاهلية. وأذن عبد الملك، وغير الحجَّاج الجدارَ الذي من جهة الحجر وسد الباب الغربي ورفع البناء، ورفع باب الكعبة على ما كانت في الجاهلية، وأذن عبد الملك، وغير الحجاج الجدار الذي من جهة الحجر وسد الباب الغربي ورفع البناء ورفع باب الكعبة على ما كانت في الجاهلية، ويذكرون أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج ولعنه وقال: «وددنا أنا تركنا أبا خبيبٍ وما تولى من ذلك.»

وقد اختلف المسلمون من بعدُ؛ أفيتركون الكعبة كما بناها الحجاج؟ أم يعيدونها إلى بناء ابن الزبير استنادًا إلى حديث عائشة، فلما تولى هارون الرشيد الخلافة سأل الإمام مالكًا في هدم الكعبة وردِّها إلى بناء ابن الزبير، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها، فترك الرشيد الكعبة كما هي.

وبقي الأمر على بناء ابن الزبير وتعديل الحجَّاج إياه، لا يزيد المسلمون على أن يشدوا من بناء الكعبة ما قد يعتريه الوهن، فلما كانت سنة ١٠٤٠ هجرية/١٦٣٠ ميلادية هطل بمكة مطر عظيم استمرَّ يومين كاملين، فدخل المسجد الحرام ثم ارتفع حتى دخل الكعبة ووهن بناءها، وكان قد انقضى على إقامته قرابة ألف عام، فلما أمسكت السماء وبدأ المطر ينحدر من الكعبة بدأت جدرانها تتساقط، وكان جدارها الشمالي أول جدار سقط، ثم سقط بعض الجدارين الشرقي والغربي، هنالك انزعج الناس وزُلزلوا زلزالًا شديدًا، ونزل أمير مكة إلى المسجد الحرام وأمر بإخراج قناديلها خشية الضياع، وتبلغ هذه القناديل عشرين كلها من الذهب، وأحدها مرصَّع باللؤلؤ، وجعلت أحجار الكعبة تتساقط لشدة ما أصابها من الوهن، وجعل الناس يزدادون وجلًا، ثم تقدم الأمير وجوه مكة وتبعهم الناس ينظفون المسجد وقد جرفت السيول إليه من الرمل والتراب ما تعذر معه التنظيف بغير المساحي والمكاتل، بل أحوج الأمر من بعدُ إلى إحضار الأبقار من جدة لتحرث أرض المسجد بعد جفافها لإزالة ما بها.

وتشاور الناس في أمر الكعبة وما يصنعون بها، وانعقد رأي الجماعة من علماء مكة وسادتها على المبادرة إلى عمارتها من مال الكعبة، وأن يعرض الأمر على السلطان، وأَلَّا يُمنَع أحدٌ من عمارتها من ماله إذا لم يكن فيه شبهة.

وترامى نبأ الكعبة وما أصابها إلى الأقطار الإسلامية المختلفة، فهاج الناس له واضطربوا، ولم ير والي مصر محمد باشا الألباني أن ينتظر ورود أمر السلطان من الآستانة مخافة أن يزداد التصدع في الكعبة؛ ولأن أشهر الحج كانت قد اقتربت، فأرسل رسوله إلى مكة ليرى في عمارة الكعبة رأيه، وبلغ الرسول مكة في منتصف شوال من تلك السنة.

وانقضت أشهر الحج والسلطان يُشاور أصحابه ما يصنع، فلما استقر رأيهم على العمارة بعث رسوله الذي بلغ مكة في ربيع الأول من سنة ١٠٤٠؛ وكان أول ما صنع هؤلاء جميعًا أن أحاطوا الكعبة بسياج من الخشب يطوف الناس به ويتَّخذونه قبلتهم كما فعل ابن الزبير، ثم إنهم جعلوا يتشاورون ما يصنعون، وإنهم لكذلك إذ سقط مطر هدمت منه بعض أحجار الجدار الغربي، هنالك اتجه الرأي إلى هدم ما بقي من جوانب الكعبة، ولم يقع خلاف إلا على ركن الحجر الأسود، لكن فتوى المهندسين بأن هذا الركن يوشك أن ينقضَّ كذلك أزالت تردد القوم جميعًا، فهدموا البيت كله ليقيموا بناءه ثابتًا قويًّا.

واشترك في هذه العمارة جماعة من المهندسين «والمعلمين» المصريين، وأنفق القوم في البناء ستة أشهر وأموالًا طائلة، ولم يكونوا يعيدون من الأحجار التي بنى ابن الزبير بها الكعبة إلا ما وجدوه ما يزال صلبًا قويًّا، فأما ما وهن أو ضعف فكانوا يستبدلون به غيره، ولم يجدوا في ذلك مشقَّة، وقد كان لا يكلفهم إلا تسوية الأحجار ودقة نحتها، لكنهم واجهوا مشكلة ذات خطر حين أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود مكانه، فهذا الحجر كان قد أصابه بعض التصدُّع في عهد ابن الزبير؛ فلم يجد مشقة في شدِّه وتقويته وربطه بسور من الفضة، فلما أراد البناءون وضعه مكانه أثناء هذه العمارة الأخيرة في عهد السلطان مراد ألفَوا به شطوبًا مستطيلة ورأوا الفتات يتناثر منه، وللحجر الأسود من التقديس ما لا يصح معه أن يسقط من أجزائه كثير أو قليل، أو أن يتناثر منه فتاتٌ ولو كان ضئيلًا؛ لذلك عالجه المهندسون على هدي فن المعمار، مصطنعين الصبر والأناة، مستهينين بكل مشقة أو تعب، عاملين على ملء ما بين أجزائه بمركب يعيد إليها قوتها ويكفل بقاءها مشدودة في إطار الفضة لا يصيبها سوء.

ولما فرغ القوم من بناء الكعبة وسقفها ووضع عمدها وترميمها، بنَوْا حِجْر إسماعيل، وكانوا حريصين على أن يعيدوا من أحجاره ما نقرت فيه أسماء مَن سبقوا إلى عمارته، على أنهم ألفَوْا رُخامةً مفقودة من الجدار الذي تم بناؤه في عهد ملك مصر الملك الأشرف «قانصوه الغوري»، فلم يُعَنُّوا أنفسهم بنقش غيرها ليضعوها مكانها، بل وضعوا رخامة ملساء، ولعلهم في ذلك قد أخذوا بإحدى النظريات التي يقرها الفن الحديث للمعمار، إذ يحترم صنع الزمن بالأشياء فلا يحاول ردها إلى أصلها أو إبدال ما يشابهها بها، بل يقوِّي مكانها مكتفيًا بذلك، معتبرًا إياه بعض ما يوجب الفن في عمارة الآثار التاريخية.

ولما أتم القوم البناء كتبوا محضرًا أرسلوه إلى مصر فيه شهادة المكيين بحسن عمارة البيت المعظم، وفي ذلك اعتراف بما كان لمصر من مجهود في هذه العمارة فاق كل مجهود قامت به أية أمة إسلامية أخرى، ولا عجب في ذلك وقد أرسلت مصر جميع ما يلزم لهذه العمارة، وأنفقت مع ذلك ستة عشر ألفًا من الجنيهات لإتمامها.

وهذا البناء الذي شاركت فيه مصر بالحظ الأوفر هو بناء الكعبة القائم اليوم.

أنا الآن أقف إذن من بيت الله الحرام في بناء شاده أجدادي وبنو وطني، هذا البناء ما يزال قويًّا إلى اليوم، ولن يزال قويًّا على الزمن ما في طبيعة بناء تَشيده الأيدي المصرية أن يقف قويًّا على وجه الزمن، نعم! أنا أقف حيث وقف إبراهيم وإسماعيل، وحيث وقف النبي العربي — عليه السلام، وحيث وقف ألوف وملايين من الناس كانوا إلى ما قبل العمارة الأخيرة للكعبة يذكرون العرب الذين بنوها أيام قُصَيٍّ وأيام ابن الزبير، وهم اليوم يذكرون العالم الإسلامي كله، ويذكرون مصر درَّة التاج من هذا العالم الإسلامي كله، ولكن، أفيساورني فخر بمصريتي وأنا هنا في بيت الله، ونحن جميعًا عباد الله عبوديةً لا تعرف وطنًا ولا تعرف فخرًا ولا غرورًا، بل تعرف الحب والأخوة للمؤمنين جميعًا فلا يكمل إيمان الإنسان إلا إذا كملا؟!

وخجلتُ من تفكيرٍ شابه الغرور الإنساني، واستغفرت الله منه، وعدت إلى تفكير أكثر سموًّا، عدت إلى التفكير في موقف الرسول من الكعبة في حجة الوداع؛ في موقف هذا البشير الهادي يحفُّ به مائة ألف أو يزيدون وهم يستغفرون الله جميعًا ويتوبون إليه، وهو على رأسهم يعلمهم مناسك حجهم، وهو ليس دونهم استغفارًا وخضوعًا لله، مع ما يعلمه من أنه رسول ربه، وأنه بلَّغ رسالته، وأدَّى أمانته، واحتمل في سبيل ذلك ما تنوء به العصبة أُولو القوة، لكنه يعلم — كذلك — أنَّا أبدًا في حاجة إلى مغفرة الله لنا ورضوانه عنا، وأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنه — جل شأنه — له الأمر وهو العفو الغفور، فكرت في هذا الموقف الأخير للرسول وطوافه بالبيت وطواف مائة ألف من المسلمين وراءه وهو مع ما جاوز الستين يسرع في أشواط الطواف الأولى والمسلمون يسرعون إسراعه، وهو يذكر وهم يذكرون يوم طاف في عمرة القضاء ومعه ألفان، وهو يسرع ويقول لأصحابه: «اللهم ارحم امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة.» والمشركون من أهل مكة ينظرون من أعلى الجبال إلى أولئك الذين زعموهم ضعافًا أرهقتهم يثرب وأرهقتهم الحروب، فإذا هم البأس والقوة والعزيمة الصادقة بإذن الله.

كان أهل مكة ينظرون إلى المسلمين في أثناء طوافهم وراء نبيهم في عمرة القضاء، أما في حجَّة الوداع فكان أهل مكة قد أسلموا وقد أصبحوا مع سائر العرب بنعمة الله إخوانًا، وكانوا يطوفون بالبيت مع الطائفين، ويذكرون الله مع الذاكرين، وقد هداهم الله إلى الدين القَيِّم، وأنجاهم من ضلال الشرك ومذلَّة الوثنية.

ألا إن هذا البيت العتيق لينطوي من أسرار التاريخ وعِبَره على قَدْرٍ يعادل ما يستكنُّ في جوفه هيكلًا للتوحيد من مهابة وجلال، وإن هذا الجو الذي يبدو صامتًا حوله لمليء من أصداء العبادة بما لو انفرج عنه كما تنفرج أسطوانة الحاكي عن الأصوات المسجَّلة عليها لدوَّت الأرض كلها مؤمنة مقدسة منادية نداءً يسمعه أهلها وأهل السماء جميعًا: لا إله إلا الله والله أكبر.

وآن لي أن أهبط من الكعبة إلى المطاف وإلى المسجد، فودَّعتُ السادن وودَّعني بكلمات كلها الرقة والظرف، وقصدت مذ هبطتُ إلى حِجْر إسماعيل وإلى مقام إبراهيم فصليت فيهما، وغادرت المسجد الحرام بعد ذلك ممتلئ القلب روعةً وإكبارًا وتعظيمًا، وكل ما حولي يدوِّي في أذني بذكر الله والتسبيح بحمده: ربنا لك الحمد.

١  راجع كتاب «تاريخ الكعبة المعظمة» لحسين عبد الله بن سلامة، ص١٤ وما بعدها، وبه الإسناد إلى الرواة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤