الخلاصة

أما وقد انتهينا من هذه الدراسة الطويلة والدقيقة، التي شَمِلَتْ عهدي الثورة الفرنسية والإمبراطورية النابليونية، وموقف «أوروبا» من هذين الحدثين العظيمين، وتأثُّرها أو بالأحرى تأثُّر حكوماتها وشعوبها بهما، من حيث محاوَلة تقويض دعائم «النظام القديم» أو القضاء على بقايا «الإقطاع» من كل النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ثم من حيث إفساح المجال لظهور الطبقة المتوسطة (البورجوازية) التي وَقَعَ على كاهلها عبء المقاوَمة «روحيةً» كانت — وتلك متمثلة في حركة الفكر والأدب والفن — أم «مادية» فعلية — متمثلة في العمليات العسكرية — ثم من حيث إفساح المجال كذلك لطبقات النبلاء ورجال الكنيسة في بقايا المجتمع القديم، للمساهمة الجدية أحايين كثيرة في حركات التحرر والخلاص من السيطرة الفرنسية (الأجنبية)، الأمر الذي تَرَتَّبَ عليه جميعه — وبفضل وجود هذه السيطرة الفرنسية ذاتها والتي بدأت تمتد إلى أوروبا من أيام «الثورة»، ثم صارت تشمل القارة بأسرها تقريبًا أيام «الإمبراطورية» — أن تَكَشَّفَتْ «قوميات» كان لها كيان، وإن لم تكن قد أُتِيحَت الفرصة لبروزها إلى حَيِّز الوجود قبل حوادث «الثورة» وحروب نابليون و«سياسته»، وإن بدأ إلى جانب ذلك ميلاد «قوميات أخرى عديدة».

على أن الذي نود الإشارة إليه مستخلصًا من كل هذه الدراسة: أن الثورة الفرنسية والإمبراطورية النابليونية لم يكن لديهما قطعًا — وكما شاهدنا — أية «سياسة» قومية، أو سياسة تَهْدِف إلى خَلْق وصُنْع «القومية» أي الدول والأمم التي تَشْعُر بقوميتها وكيانها الذاتي الخاص بها، وواضح أن «السياسة» القومية غير «الفكرة» القومية أو «نظرية» القومية؛ لأن «النظرية» القومية قد وُجِدَتْ فعلًا على أيام الثورة الفرنسية والإمبراطورية النابليونية.

والأمم التي تَوَفَّرَ بها وجود العناصر اللازمة لِخَلْق «القومية» كان في وُسْعها أن تَقْطَع شوطًا ملحوظًا في طريق الشعور بذاتيتها وكيانها، وذلك إما بفضل هذه «النظريات» التي أَتَتْ بها الثورة الفرنسية وزَوَّدَتْ بها هذه الأمم، وإما بفضل «الأمثلة» التي قَدَّمَتْها الثورة في صِلاتها مع الشعوب التي أرادت الثورة أن يكون من حق هذه الشعوب وحدها الفصل في مصيرها، وإما لأن «الثورة» قد أعطت هذه الشعوب الفرصة للنضال من أجل التحرر من كل سيطرة أجنبية، وتأسيس «ذاتية» مستقلة، وكانت اليونان وإيرلندة وبولندة من البلدان التي فَعَلَتْ ذلك، ولو أنه تَعَذَّرَ الوصول إلى نتائج حاسمة من نضالها؛ لأن أهل هذه البلدان كانوا «معزولين» ويصعب إرسال النجدات إليهم، ولأن «السياسة الفرنسية» قد تَخَلَّتْ عنهم.

ومع ذلك فقد أثارت «الثورة الفرنسية» والإمبراطورية النابليونية، رد فعل كبير في البلدان الأخرى للدفاع عن الوطن، والدفاعُ عن الوطن هو أول الأسس التي تقوم عليها كل «قومية»، وفي هذه الصورة الوطنية أَمْكَنَ ظهورُ بوادر الشعور القومي، أو الفكرة القومية للمرة الأولى، وذلك كان عينَ الذي حدث في الأمم التي تَمَتَّعَتْ بكيان ذاتي، أو وطني وقومي، قبل أن تمتد السيطرة الفرنسية على أوروبا، ونعني بذلك إسبانيا وروسيا وهولندة.

وثمة نوع آخر من الأمم في ألمانيا، ولدرجة أقل في إيطاليا، كانت من الناحية السياسية في مستوًى ينخفض عن مستوى الأمم السالفة الذكر، حيث إن العاطفة القومية لديها لم تكن مع وجودها قد تَعَدَّتْ — حتى هذا الوقت — النطاقَ الفكري والثقافي البحت، وفميا يتعلق بألمانيا وإيطاليا، كانت المشكلة هي معرفة ما إذا كان الشعور القومي سوف يستمر باقيًا بعد زوال ضرورة الدفاع المشترك عن الوطن في ألمانيا وإيطاليا، وسوف يجد أسبابًا أخرى غير النضال ضد الاحتلال الأجنبي للبلاد تَكْفُل له الاستمرار والبقاء.

أما السيطرة الفرنسية؛ فمن المُسَلَّم به أنها خَلَّفَتْ بعض الآثار و«الجروح» في أوروبا؛ فأوروبا سوف لا تعود إلى الحال التي كانت عليها سابقًا، ذلك أن هذه السيطرة قد أَحْدَثَتْ «تبسيطًا» في كيانها السياسي عندما تأسست في كل من ألمانيا وإيطاليا والنمسا وحدات إقليمية كانت أكبر حجمًا من «الدويلات» التي وُجِدَتْ بها في الزمن السابق، ثم أَحْدَثَتْ هذه السيطرة «تبسيطًا» كذلك في كيانها الاجتماعي، عندما أُلْغِيَت الامتيازات والإدارات الإقليمية والتي كانت للنبلاء، وقُضِيَ على العراقيل التي قَيَّدَتْ نشاط الأفراد واتصالهم ببعضهم بعضًا داخل «الدولة»، مثل الأنظمة الجمركية ورسوم استخدام الطرق وما إلى ذلك، وفي كل مكان — تقريبًا — تَرَتَّبَ على الإصلاحات الاجتماعية شيء من التقريب بين طبقات المجتمع، لم يَسْبِق إطلاقًا حصوله بأية درجة.

وأخيرًا فقد ازدحمت في أذهان الناس ذكريات عديدة تَعَذَّرَ عليهم التخلي عنها أو نسيانها فيما بعد، وكانت مرتبطة بتلك الآراء والنظريات والمبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية، أو نَجَمَتْ من رد الفعل الذي حَصَلَ ضد السيطرة النابليونية.

ولقد بَقِيَتْ شعوب أوروبا متأثرةً بهذه «الذكريات» مدةَ قَرْن من الزمان، كانت الثورة الفرنسية تستثير في أذهانهم دائمًا معاني الحرية والمساواة والبطولة والتضحية في سبيل هذه المبادئ، ومن أجل الدفاع عن الوطن، ولقد كانت هذه «المبادئ» والمثل العليا التي غرستها الثورة الفرنسية والسيطرة النابليونية — الأولى: بفضل المبادئ التي أذاعتها، والثانية: بفضل رَدِّ الفعل الذي حَصَلَ ضدها — هي التي جَعَلَتْ ممكنًا يقظة الشعور القومي على درجاته المتفاوتة التي شاهدناها، ثم بداية الحركات القومية في السنوات التالية، عندما استأنَفَتْ الشعوبُ — مباشرة بعد سقوط إمبراطورية نابليون — الصراعَ ضد الحكومات الراجعة، وبقايا الإقطاع في ظل «النظام القديم» الذي أراد الملوك والأمراء الراجعون إلى عروشهم التي كانوا قد طُرِدُوا منها، أن يعيدوه بحذافيره.

ولقد كانت «الطبقة المتوسطة» البورجوازية هي التي قامت على أكتافها الحركات القومية في الأدوار التالية، ليس من أجل تحرير أوطانهم من السلطان الأجنبي وحسب، بل ولإنشاء الحكومات الدستورية التي انتظرَتْ «البورجوازيةُ» أن يكفل الدستور — الذي يجب أن تقوم هذه الحكومات على أساسه — مشاركتها في الحكم، إن لم يكن استئثارها بكل أسبابه، وذلك كان نضالًا شديدًا استَمَرَّ طيلة الفترة التالية (١٨١٥–١٨٤٨) التي هي مَوْضع دراستنا في الفصول التالية، وهو نضال قد استمر كذلك إلى ما بعد هذه السنوات التي ذكرناها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤