الفصل الرابع

أزمة الإمبراطورية: الحصار القاري

١٨٠٧–١٨١١

كانت الأغراضُ التي استهدف نظامُ الحصار القاري تحقيقَها ثلاثة: أولها؛ موافقة الدول «في القارة» الأوروبية بأسرها، سواء بطريق الرضا أو بإرغامها على إغلاق كل موانيها دون التجارة البريطانية، وثانيها: استبدال السلع التي تُنْتِجها المصانع الأوروبية «في القارة» بالمصنوعات البريطانية، وثالثها: تحقيق السلام البحري وضمان حرية البحار، وانتزاع ذلك انتزاعًا من العدو المشترك «بريطانيا» بهدم اقتصاديات الإنجليز وتحطيم بحْريتهم، بفضل تَحَالُف القوات البحرية في أوروبا بأسرها ضدهم.

وتَوَقَّفَ الوصول إلى هذه الأغراض الثلاثة على استطالة المدةِ التي يبقى فيها نظام الحصار القاري نافذًا، وبمعنًى آخر؛ المدةِ التي تظل فيها أوروبا خاضعةً لسيطرة نابليون وتَدِين بالطاعة له، في وقتٍ كان لا بد أن تئن حكوماتها وشعوبها من وطأة هذا النظام القاري عليها، عندما تَرَتَّبَ على تنفيذه حرمان القارة الأوروبية من السلع والمواد الضرورية، وغلاء الأسعار غلاء فاحشًا، ووَقْف كل تجارة بحرية، وتعطيل النقل البري وعجْزه عن إمداد الأسواق بحاجاتها بدرجة كافية أو في صورة رتيبة منظمة، وانتشار الكساد في التجارة الداخلية، وذلك في حين أنه كان من المتعذر على الشعوب في أجزاء القارة التي خَضَعَتْ للسيطرة الفرنسية إدراكُ الغرض الذي سعى نابليون إليه من هذا النظام الصارم الذي فَرَضَهُ عليهم، وتَعَذَّرَ على نابليون والسلطات الفرنسية إقناعهم بأن من الخير لهم التضحية بحاضرهم — وذلك بترويض أنفسهم على الحرمان وشظف العيش في ظل الإمبراطورية — من أجل مستقبل كان — على أحسن الفروض — يحوطه الغموض والإبهام من كل جانب.

ومع ذلك فقد كان نابليون صحيح العزم على تنفيذ نظام الحصار القاري، وكان اعتماده في ذلك — على نحو ما ذَكَرَ هو نفسه — أن يدع القوات البرية (الجيوش) تَقْهَر القوات البحرية (الأساطيل)، وتلك مُحَاوَلة اقْتَضَتْهُ أن يشن حربًا مُدَبَّرة وطويلةَ الأجل ضد إنجلترة، وكان لا معدى — في الوقت نفسه — لاستمرار هذه الحرب المدبرة بنجاحٍ ضد إنجلترة، أن يتدخل في شئون الأمم، سواء ما خَضَعَ منها لسلطانه المباشر كجزء من إمبراطوريته، أو كانت تربطها بعجلة هذه الإمبراطورية معاهَدات التحالف والصداقة.

ولم يكن متيسرًا — في ظل هذا النظام القاري — أن تقف دولة من الدول في أوروبا موقف الحياد من الحرب القائمة، فتلك التي لا تُقَاتِل إلى جانبه هي بالضرورة في صَفِّ أعدائه، فاضْطُرَّت الدنمارك إلى إعلان موقفها إلى جانِبِ نابليون، وضَرَب الأسطولُ الإنجليزي عاصمتها كوبنهاجن في أول سبتمبر ١٨٠٧، وحَطَّمَ سُفُنَها وكلَّ عتاد الحرب في ترسانتها، وفي ٧ سبتمبر قررت الحكومة الدنماركية تسليم بقايا أسطولها «للإنجليز»، وبقيت السويد إلى جانب إنجلترة، وكان حينئذ أن استطاع القيصر إسكندر وفقًا لمعاهدة تلست، أن يستولي منها على فنلندة (في فبراير ١٨٠٨).

وأما البرتغال فقد كانت تربطها بإنجلترة معاهدة صداقة وتجارة من الأزمنة القديمة (١٧٠٣)، وتثق في قوة البحرية الإنجليزية ضد اعتداءات وأطماع الإمبراطور نابليون، ورَفَضَت الحصار القاري، وعندئذ أعلن نابليون من فونتنبلو Fontainebleu عَزْلَ بيت براجنزا Braganza مِن الحكم، وهي الأسرة الحاكمة في البرتغال (في ٢٩ أكتوبر ١٨٠٧)، وأَعَدَّ مع السفير الإسباني إيزكويردو Izquierdo مشروعًا لتقسيم أملاك البرتغال.
وفي المعاهدة السرية التي أُبْرِمَتْ في فونتنبلو في ٢٧ أكتوبر أُعْطِيَت البرتغال الشمالية (لوزيتانيا Lusitania وهو الاسم القديم للبرتغال) مع ميناء أوبرتو Oporto كعاصمة لها؛ إلى ماري لويز ملكة إتروريا Etruria «بإيطاليا» على أنْ تَتَنَازَلَ هذه عن مملكة إتروريا إلى إليزا بونابرت التي طَلَبَ إليها منذ ٢٣ نوفمبر أن تتسلم مقاليد الحكم بها.
وفي نفس المعاهدة أُعْطِيَت البرتغال الجنوبية إلى مانويل جودوي Godoy (أمير السلام، ومحظي الملك الإسباني) كما نال لقب أمير الغرب Algrave (المقاطعة الجنوبية في البرتغال)، وأما ما تَبَقَّى من البرتغال، وهو لشبونة وما حولها، فقد تُرِكَتْ لتحتلها قوات نابليون إلى أن يحين الوقت عند عقد السلام العام لإرجاعها إلى شارل الرابع ملك إسبانيا وصاحب السيادة على لوزيتانيا (أي البرتغال الشمالية) والغرب (البرتغال الجنوبية)، وإمبراطور الأمريكتين (أمريكا الإسبانية، والأخرى البرتغالية).
وعلى ذلك فقد عُهِدَ إلى القائد الفرنسي «جونو Junot» بمهمة احتلال البرتغال، فزحف «جونو» على طول نهر التاغوس Tagus وأوقع بالبرتغاليين هزيمة حاسمة عند أبرانتس Abrantés «على النهر» دَخَلَ بعدها لشبونة في ٣٠ نوفمبر ١٨٠٧ ليجد يوحنا السادس صاحب الحكم في البرتغال قد أبحر قبل ذلك بأيام ثلاثة فقط من لشبونة قاصدًا إلى البرازيل ليتخذ مَقَرَّ حكومته بها.
أما إنجلترة فكانت تَمُرُّ وقتئذ في أزمة اقتصادية طاحنة، يُخْشَى من استفحال نتائجها الاجتماعية والمالية من حيث زيادة التعطل عن العمل وانتشار البطالة، وهبوط قيمة الأوراق المالية، وارتفاع الدين العام من ٢٦٠ إلى ٨٧١ مليون جنيه، ومع ذلك فقد كانت مصممة على الاستمرار في مقاوَمة الحصار القاري، وكانت الوزارة القائمة هي وزارة المحافظين «حزب التوري Tory» برئاسة دون بورتلاند Portland، وقد خَلَفَتْ هذه وزارةَ الأحرار حزب الويجز Whigs (برئاسة جرنفيل Grenville) في مارس ١٨٠٧، وكان من أعضاء الوزارة الجديدة كل من كاسلريه وزيرًا للحرب، وجورج كاننج للسياسة الخارجية، وكان كاسلريه وكاننج قد صَحَّ عَزْمُهما على أن تسلك الحكومة مسلكًا قويًّا في سياسة المقاوَمة ضد نابليون، وكانت وزارة جرنفيل السابقة قد اتَّخَذَتْ منذ يناير ١٨٠٧ قراراتٍ تجيب بها على مرسومات برلين، وذلك بأن أعلنت الحصار على كل المواني الفرنسية ومواني البلاد التابعة لها أو الدول المعترِفة بمرسومات برلين، فلم تلبث وزارة بورتلاند — لإظهار استيائها من مرسومات برلين — أن استصدرت قرارات أخرى في ١١ نوفمبر ١٨٠٧، نزل بسببها إرهاق شديد على سفن الدول المحايدة كلها بما في ذلك سفن الدول الصديقة أو حتى المتحالفة مع الإنجليز أنفسهم، فأَخْضَعَتْها هذه القرارات لحق تفتيش البحرية الإنجليزية لها، وأَلْزَمَتْها فوق ذلك بالوقوف في إحدى مواني بريطانيا (المملكة المتحدة) أو في جبل طارق ومالطة، ودَفْع إتاوة تعسفية على المتاجر التي في بطونها، والحصول على مأذونية أو ترخيص بالتجارة؛ ليتسنى لها الدخول في إحدى المواني الإنجليزية إطلاقًا.
فلقيَت الدول المحايدة عناء شديدًا، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية في طليعة الدول التي أَلْحَقَتْ بها هذه القراراتُ أذًى كبيرًا، حتى إنها استصدرت قانونًا في ٨ ديسمبر ١٨٠٧ لتنفيذ قانونٍ سابق كان قد صَدَرَ في العام الماضي (١٨٠٦) لِمَنْع التبادل التجاري مع الدول الأوروبية، وطَلَبَ جفرسون Jefferson (رئيس الولايات المتحدة) من الكونجرس استصدار قرارات لإغلاق المواني الأمريكية في وَجْه التجارة الأجنبية.

وكان يبدو أن نابليون في وُسْعه — إذا شاء وقتئذ — الاستفادةُ من شعور الاستياء المتزايد هذا ضد إنجلترة، ولكنه — وقد صَمَّمَ على المضي في سياسة الحصار القاري إلى النهاية — لم يلبث أن أجاب على إجراءات الإنجليز بأن استصدر في ١٢ ديسمبر ١٨٠٧ «مرسوم ميلان» الذي نَصَّ على أن كل سفينة — مهما كانت الدولة التي تَرْفَع هذه السفينة علمها — تخضع لتفتيش السفن الإنجليزية، أو تُرْغَم على الرحلة إلى إنجلترة، أو تَدْفَع إتاوةً ما إلى الحكومة الإنجليزية، تَفْقِد بسبب هذا الفعل نَفْسِه جِنْسِيَّتها، وينتهي تمتُّعها بالضمان الذي يُخَوِّلُه لها عَلَمُها الذي ترفعه، وتُعْتَبَر أملاكًا إنجليزية.

وعلى ذلك فإن «مرسوم ميلان» جاء مكملًا لمرسومات برلين في شدتها وصرامتها، وعَدَّهُ نابليون إجراءً لا غِنى عنه لمواجَهة ذلك «النظام الوحشي» — على حد وَصْفه له — الذي أَخَذَتْ به إنجلترة، وقال: إن العمل بهذا الإجراء لن ينتهي إلا إذا عاد الإنجليز إلى الاعتراف بحقوق الإنسان واحترموا مبادئ العدالة والشرف.

وتنفيذًا لمرسومات برلين وميلان إذن، ولتضييق الحصار القاري المضروب على إنجلترة بضمان إغلاق المواني الأوروبية في وجه السفن الإنجليزية، ومَنْع كل اتصال بين القارة الأوروبية وإنجلترة، لم يلبث نابليون أن اتخذ من الخطوات ما اعْتَقَدَ أنه قَمِينٌ بتأكيد سيطرته على أوروبا.

ففي إيطاليا احتل قائده الجنرال ميوليس Miollis روما في ٢ فبراير ١٨٠٨، ولم تَمْضِ أسابيع قليلة حتى كانت أُدْمِجَتْ في مملكة إيطاليا كلٌّ من مقاطعات أنكونا وأربينو Urbino التي انْتُزِعَتْ من الأملاك البابوية.

وفي إسبانيا تزايَدَ تدخُّل نابليون في شئونها بصورة نشيطة، بسبب الخلافات الناشبة بين أعضاء الأسرة المالكة الإسبانية والتي هددت بزوال نفوذ مانويل جودوي، محظي الملك شارل الرابع، فقد أراد ولي العهد — فردينند (فردينند السابع فيما بعد) ويبلغ الثالثة والعشرين من عمره — التخلص من جودوي، مدفوعًا إلى ذلك بتحريضِ حاشيته؛ لإنهاء النفوذ السيئ الذي كان لهذا الوزير على والديه، ولكي يصل هو إلى الحكم والسلطة، وكان فردينند مترملًا من مدة قصيرة، فأوحى إليه السفير الفرنسي في مدريد «أوجيه بوهارنيه» أن يَطْلُب من نابليون (في ١٢ أكتوبر ١٨٠٧) يد إحدى أميرات بيت بونابرت، فلم تَمْضِ أيام على «مؤامرة» فردينند حتى أَلْقَت الحكومة القبضَ عليه وعلى معاونيه (في ٢٩ أكتوبر)، لتَفُكَّ إسارهم بمجرد أن علمت الحكومة بأنَّ هذه «المؤامرة» غَرَضُها المحالفة مع البيت البونابرتي، وتَقَدَّم الملك شارل الرابع نفسه يطلب رسميًّا إتمام هذه المصاهرة (١٨ نوفمبر ١٨٠٧).

وكان الفرنسيون قد استطاعوا التوغل في الأراضي الإسبانية قبل هذه الحوادث، بدعوى إرسال الإمدادات إلى البرتغال (وقد عَرَفْنا أن جونو لم يلبث أن احتل لشبونة في ٣٠ نوفمبر ١٨٠٧)، وبدعوى حماية إسبانيا نفسها بمنع الإنجليز من إنزال قواتهم في أراضيها عن طريق جبل طارق، فاستطاع القائد «مورا» على رأس جيش من ثمانين ألفًا أن يجتاز جبال البرانس، وأن يحتل المواقع الاستراتيجية والحصون في إسبانيا الشمالية، يعاونه في ذلك القواد: مونسي Moncey، وبسيير Bessières، وديبون Dupont تحت إمرته، وأن يزحف على العاصمة مدريد (ودخل مورا مدريد في ٢٣ مارس ١٨٠٨).

على أنه بينما تمكن نابليون مِنْ بَسْط سيطرته على إيطاليا، وإلى درجة كبيرة — كما يبدو — على إسبانيا، كان من واجبه أن يبذل قصارى جهده لتهدئة قيصر روسيا حليفه، وإزالة مخاوفه، وإقناعه — تبعًا لذلك — بالاستمرار على تنفيذ سياسة الحصار القاري ضد إنجلترة، وكان الذي يَقُضُّ مضجع القيصر إسكندر إنشاء غراندوقية وارسو «على يد نابليون، وفي معاهدة تلست»، فقد اعْتَبَر القيصرُ إنشاءَ هذه الغراندوقية محاولةً جدية لبعث وإحياء مملكة بولندة القديمة، وفي ذلك خطرٌ على كيان الإمبراطورية الروسية ذاتها ويهدِّد بانحلالها، أَضِفْ إلى هذا أنه كان يخشى من أَنْ تُصْبِح بولندة عند إحيائها ملجأً لليهود «المشردين في أنحاء الأرض» يَحْشدون بها قُوَّتَهم لتهديد الكنيسة الأرثوذكسية (كنيسة روسيا).

ومع أن المحالفة الروسية الفرنسية لَقِيَتْ كُلَّ تعضيد من حكومة القيصر التي تولى فيها روميانتزوف Roumiantsov وزارةَ الخارجية، وسبيرانسكي Speranski وزارةَ الداخلية، ولكن أحدًا من النبلاء (الطبقة الأرستقراطية) أو رجال البلاط ما كان يؤيد هذه المحالفة، ولم يشأ النبلاء العسكريون أن يتناسوا ذكرى معركة إيلو (٨ فبراير ١٨٠٧) التي انهزموا فيها، وإن كانوا قد زعموا لأنفسهم النصر بسبب الخسائر الفادحة التي تَكَبَّدَها الفرنسيون في هذه الواقعة — على نحو ما سَبَقَ ذِكْرُه في موضعه — فاحتفَلَتْ روسيا بأَسْرِها وقتئذ بهذا النصر، زِدْ على ذلك أن طبقة ملاك الأرض «بويار Boyar» كانت متأثرة بمصالحها فحسب، فهي لا تكاد تجد ما تبيعه لفرنسا، بينما كانت إنجلترة الدولة التي تحتاج بَحْريتها العظيمة إلى الأخشاب والقنب لصناعة السفن، وتُبَاع هذه الأشياء من أملاك البويار الواسعة، فحَرَمَهُم الحصار القاري من أهم مواردهم، وأَظْهَرَت الأرستقراطية الروسية شُعُورَها نحو فرنسا بمحاولة الابتعاد دائمًا عن السفير الفرنسي الجديد «سفاري Savary»، وقد اعتبره النبلاء مسئولًا عن مقتل دوق دانجيان، في حين أنهم صاروا يقربون إليهم «المهاجرين» الفرنسيين، مثل الدوق دي ريشيلو Richelieu، أو سفير بيدمنت «بيت سافوي» الذي أسقطه نابليون، وكان السفير «جوزيف دي ميستر Maistre» صاحِبَ شهرة، عاش في بطرسبرج خمسة عشر عامًا (١٨٠٢–١٨١٧)، وسَجَّلَ أحداثها في مذكرات معروفة باسم «أمسيات سان بطرسبرج Sorées de Saint-Pétersbourg».

ومع ذلك فقد بذل نابليون قصارى جهده لإقناع القيصر بالإبقاء على المحالفةفتنازل فردينند السابع في الفرنسية، ولاستلال سخيمة النبلاء الروس، وصار يُلَوِّح أمام ناظري إسكندر بالمزايا العظيمة التي سوف تعود على روسيا في القريب العاجل عندما يستطيع الحليفان — وبإشراك النمسا معهما كذلك — الزحفَ صوب القسطنطينية، ثم صوب الدجلة والفرات؛ للسير من هذه الجهات إلى الهند.

وعندما تَعَيَّنَ «كولنكور Caulaincourt» سفيرًا لدى روسيا في مكان «سفاري»، طلب منه نابليون في ٢ فبراير ١٨٠٨: «أن يُبْلِغَ القيصر أن رغبات نابليون هي رغباته، وأن «النظام» الذي أوجده نابليون إنما يرتبط ارتباطًا وثيقًا «بنظام» القيصر نفسه، وأن ليس هناك ما يدعو للاصطدام بينهما؛ لأن الدنيا أو العالم مُتَّسِع بدرجة تكفي للاثنين أن يتخذا مكانهما به، وأن نابليون لن يُلِحَّ على القيصر في طلب إخلائه الولايات الدانوبية (الأفلاق والبغدان)، وأن القيصر لا يجب أن يلح عليه في طلب إخلاء بروسيا، وأن نابليون لا يرى صعوبةً ما في أن يستولي القيصر على السويد، وأن يأخذ ستوكهلم العاصمة نفسها، بل من الواجب أن يقوم القيصر بهذه الخطوة، ولن تجد روسيا فرصةً أَنْسَبَ من هذه التي تعرض لها لأن تتخذ بطرسبرج مركزًا يتوسط أملاكها، وأن تتخلص من هذا العدو الجغرافي (السويد).»

وتلك كانت عروضًا متصلة بواقع الموقف في أوروبا، وأَلْصَق بمصالح روسيا المباشرة من تلك المشروعات الواسعة التي استهدفت احتلال القسطنطينية والوصول بطريق الدجلة والفرات إلى الهند.

ولكن كل هذه العروض وما صَحِبَها من مباحثات بين السفير الفرنسي الجديد في بطرسبرج «كولنكور» والقيصر إسكندر، ووزير خارجيته روماينتزوف لم تسفر عن شيء؛ إذ سرعان ما تعطَّلَتْ فجأة بسبب الحوادث التي وَقَعَتْ في إسبانيا، والتي أثارت أُمَّةً بأسرها (الأمة الإسبانية) ضد نابليون.

ولقد كان في إسبانيا أن أُوقِدَت الشرارة التي أَشْعَلَتْ نار الحرب القومية في أوروبا ضد السيطرة النابليونية، فقد ذَكَرْنَا كيف أن الفرنسيين توغلوا في الأراضي الإسبانية بقيادة «مورا» حتى وصلوا إلى أبواب مدريد، بدعوى حماية إسبانيا من الإنجليز، لكن مثول الخطر الفرنسي بوجود الجيوش الفرنسية أمام العاصمة ذاتها لم يلبث أن جعل الإسبانيين يدركون أن الإمبراطور الفرنسي إنما يريد الاستيلاء على بلادهم، وأن يطوح باستقلالهم، ويملي عليهم القرارات والقوانين التي يرغمهم على الإذعان لها مهما كانت مناقِضَةً لمصالحهم الوطنية؛ فاهتاجت النفوس ضد هؤلاء الأجانب المعتدين على بلادهم، وضد الحكومة «الإسبانية» الضعيفة التي رَضَخَتْ عن طيب خاطر لهذه «الإهانات»، وشرع الملك شارل الرابع — الذي أخلى مكانه للغزاة الفرنسيين — يُفَكِّر في مغادرة مَقَرِّه الملكي في «أرانجوز Aranjuez» على مسافة إلى الجنوب عن مدريد للإبحار من قادش قاصدًا إلى أمريكا، ولكن الثورة سرعان ما اشتعلت في ١٨ مارس ١٨٠٨، ولم يُنْقِذْ «جودوي» من أيدي الثوار إلا تَنَازُل الملك عن العرش لصالح ابنه فردينند السابع، الذي رَحَّبَ به الشعب، وأحاط بموكبه في الطريق من «أرانجوز» إلى مدريد (٢٣ مارس).

وكان لهذا الحادث — حادث أرانجوز — أكْبَرُ الأثر في رأي كثيرين في أن يَعْمِد نابليون إلى تغيير الخطة التي كان قد رَسَمَهَا لمُعَالَجة مسألة إسبانيا، حقًّا لقد ظل دائمًا غَرَضُه أن يتخذ من إسبانيا وسيلة لزيادة قوة فرنسا، ولكن التغيير طرأ على الوسائل المحقِّقة لهذه الغاية، فهو كان يريد مبدأَ الأمر التخلصَ من محظي الملك «مانويل دي جودوي» الذي كان مكروهًا من الشعب الإسباني، وأن يضع في حكومة البلاد بدلًا من «جودوي» رجالًا من اختياره، ولكن ثورة فردنند ضد أبيه، واضطرار شارل الرابع إلى التنازل (حادث أرانجوز) جعل نابليون يَعْدِلُ عن خطته الأصيلة، ويلجأ إلى أساليبَ أَدَّتْ إلى نتائج خطيرة.

فما إن وَصَلَهُ خبر تَنَازُل شارل الرابع عن العرش حتى أعلن «نابليون» أن هذا التنازل ملغِيٌّ، وأن العرش قد صار خاليًا.

وفي خطاب بعث به إلى أخيه لويس، ملك هولندة بتاريخ ٢٧ مارس سنة ١٨٠٨، ويُبْرِز إلى عالم الوجود للمرة الأولى الطريقة التي أراد بها نابليون «معالجة» المسألة الإسبانية، عرض الإمبراطور على شقيقه عَرْش إسبانيا، وفي هذا العرض كانت أصول «الحرب الإسبانية» التي امتدت سنوات طويلة، والتي كانت أحدَ العوامل الحاسمة في النهاية في سقوط الإمبراطورية النابليونية.

فقد احتج شارل الرابع — ومن المرجح أن ذلك كان بتأثير من مورا — على الشدة التي عومل بها، حتى اضْطُرَّ إلى التنازل عن العرش، وبعث بهذا الاحتجاج إلى نابليون، بينما استطاع مورا أن يقنع فردينند (الابن) بالذهاب إلى الحدود الفرنسية لمقابلة الإمبراطور، عله ينال منه تثبيته على عرش إسبانيا، واستدعى نابليون الوالد وولده لمقابلته في بايون Bayonne عبر الحدود في الأراضي الفرنسية، وأطلق «مورا» سراح «جودوي» ليذهب هو الآخر إلى بايون، واستقبل نابليون شارل الرابع وزوجه «ماريا لويزا» بمظاهر التكريم اللائقة بالملوك، وبعد مشادة عنيفة بين الأب وابنه، في حضوره، أَرْغَمَهُما نابليون على التنازل عن كل حقوقهما في عرش إسبانيا «لصديقهما العزيز وحليفهما الإمبراطور»، فتنازل فردينند السابع في ٥ مايو، وبعد أيام قليلة (١٠ مايو) تَنَازَلَ شارل الرابع الذي بدا كأنه صار لا يبغي إلا تمضية ما تَبَقَّى له من عمرٍ بين زوجه وصديقهما «الوحيد» جودوي، ورحلوا جميعًا إلى «كومبيين Compiegne».
وأما فردينند السابع فقد أُعْطِيَ إقليم «فلانساي Valençay» لإقامته، وكان من أملاك تاليران، وتقع كومبيين وفلانساي داخل الحدود الفرنسية.

وفي ٦ يونيو سنة ١٨٠٨ صَدَرَ قرار بتنصيب جوزيف بونابرت ملكًا على إسبانيا، وقد حَلَّ محله في نابولي «مورا» ملكًا على هذه الأخيرة.

وفي ١٥ يونيو قَابَلَ وَفْد إسباني الإمبراطور في بايون لِيُبْدِيَ موافَقَتَهُ على قبول جوزيف بونابرت ملكًا على إسبانيا، ووعد نابليون الوفد بأن حكومة عادلة حكيمة سوف تتولى إدخال الإصلاحات الحرة إلى بلادهم.

واغتبط نابليون بهذه النتيجة «السهلة» التي وَصَلَ إليها، وزاد من اغتباطه أن جاءه آنئذ خبرُ إخفاقِ مؤامرة دَبَّرَها في باريس أحدُ الضباط المطرودين من الجيش لآرائه الجمهورية، الجنرال دي ماليه Malet، مع جماعة من أعضاء مجلس الشيوخ «المثاليين» لعزل نابليون، وإعادة تأسيس الجمهورية، فاكْتَشَفَ أَمْرَهَا ديبوا Dubois مدير البوليس، ومُنَافِس «فوشيه Fouché» الخطير على وزارة الداخلية (٨ يونيو ١٨٠٨)، فقد اعتقد نابليون أنه في الوقت الذي تآمر عليه بعض الفرنسيين — ولإنهاء عهد الإمبراطورية — أن الشعب الإسباني الذي أساء ملوكُه حكومته، قد قَبِلَ بسهولةٍ تنصيبَ أميرٍ عليه (جوزيف بونابرت) من أسرة ينبئ اختيارُه منها بأن عهدًا من الإصلاح والرخاء لا بد أن يبدأ سريعًا.
وجَمَعَ نابليون في بايون مجلسًا Junta من الإسبان لوضع دستور جديد للمملكة، واستطاع هؤلاء بعد اثنتي عشرة جلسةً فقط أن يُعِدُّوا دستورًا كان منسوخًا من دستور الإمبراطورية الفرنسية نفسه، أعلن نابليون اعتماده له في ٧ يوليو ١٨٠٨، وبعد يومين اثنين دخل جوزيف بونابرت الأراضي الإسبانية، ليجد الثورة مشتعلة في كل إسبانيا.
فقد رَفَضَ الشعب الإسباني الاعتراف «بالأمر الواقع»، والإذعان لما يعتبره إهانة لَحِقَتْ بشرف الأمة، وكانت قد قامت اضطرابات خطيرة في مدريد؛ عندما ذاع خبر «مؤامرة بايون»، وحاول الفرنسيون نقل فرنسوا — أصغر أبناء شارل الرابع — من القصر الملكي؛ فخرج الإسبانيون في مظاهرات صاخبة لم تَلْبَثْ أن تحَوَّلَتْ إلى التحامات دامية عندما أَمَرَ «مورا» بإطلاق النار على المتظاهرين، وتَبِعَ ذلك اصطدام الفريقين بعضهما ببعض يوم ٢ مايو ١٨٠٨، وهو اليوم الذي اشتهر في تاريخ المقاومة الأهلية بإسبانيا Dos Mayo بأنه كان بداية الحرب التحريرية؛ إذ سرعان ما تألفت «المجالس» التنفيذية الثورية في المدن الهامة، وصار يتولى السلطة العليا «مجلس» أشبيلية، وأعلنت «الحرب حتى الموت» ضد الفرنسيين، إلى أن يرحل هؤلاء من بلادهم، وتَعُود الأسرة الإسبانية (البربون) إلى الحكم ثانية، وتَسْتَرْجع البلاد استقلالها، وقامت المذابح في فالنسيا Valencia وقادش، وفي أكثر الأقاليم الجنوبية، ليس للخلاص من الفرنسيين وحدهم، بل ومن الإسبانيين الموالين لهم، وسَاعَدَ على المقاوَمة أن البلاد جبلية، ويخترق الجبال ممرات ضيقة ذات أغوار بعيدة، مما يَجْعَل سهلًا حرب العصابات التي كان من أفرادها — إلى جانب المقاتلين — القساوسة والرهبان الذين اعتبروا الفرنسيين أعداء للدين، ولقد استطاع هؤلاء جميعًا أن يقاوموا الجيوش الفرنسية مقاومة عنيفة، تحت إرشاد المجالس التنفيذية التي ذكرناها.
وبدأت العمليات العسكرية بأن أَمَرَ الإمبراطور بأن يزحف جيشٌ بقيادة الجنرال ديبون Dupont على أشبيلية، وعلى أن يكون من مهمته كذلك إنقاذ بقايا الأسطول الفرنسي الذي ظل ملتجئًا في قادش من أيام معركة الطرف الأغر، واحتل جيش ديبون قرطبة ٧ يونيو ١٨٠٨، ولكنه سرعان ما اضطر إلى التقهقر أمام القوات الإسبانية المتفوقة عليه، حتى بلغ في تقهقره «أندوجار Andujar» (وتقع قرطبة، وإلى الشمال منها أندوجار على نهر الوادي الكبير، وتقع جنوب قرطبة على النهر نفسه إشبيلية)، ومكان أندوجار عند مدخل الممرات الضيقة في جبال مورينا Sierra Morina وتَعَذَّرَ على «ديبون» التقدم، ولكنه بدلًا من الارتداد إلى ممرات سِيرَا مورينو واتخاذ موقف الدفاع، بعث بالجنرال «فيديل Vedel» مع نصف الجيش تقريبًا للاستيلاء على مرتفعات أو «ممرات» ديسبينا بيروس Despëna Perros، وتقع سلسلة الجبال هذه إلى الشمال من أندوجار، فانتهز القائد الإسباني الفرصة (وهو كستانوس Castanos) ليبعث بجزء من قواته بقيادة ردنج Rédinng (من كبار العسكريين والنبلاء الإسبان) إلى بايلن Baylen الواقعة بين المكانين كي يفصل بين جيشي ديبون وفيديل.

ولا شك أن تلك كانت مناوَرة تنطوي على مجازَفة كبيرة، وتُعَرِّض الإسبانيين في «بايلن» للاندحار التام، لو استطاع جَيْشَا ديبون وفيديل الإطباقَ عليهم، ودارت في «بايلن» معركة حامية بين ديبون وبين الإسبان بقيادة «ردنج» الذي دَفَعَ كل هجمات ديبون الذي أراد اختراق الصفوف الإسبانية دون جدوى، حتى إذا أُنْهِكَ الفرنسيون وخَارَتْ قواهم ظَهَرَ «كستانوس» في المؤخرة ليُجْهِزَ عليهم؛ وعندئذ عَرَضَ ديبون أن يستسلم بجيشه إذا سمح له بالعودة مع قواته إلى فرنسا، ومع أن «فيديل» كان قريبًا من مكان المعركة ويسمع صوت إطلاق المدافع وفي وسعه إذا أسرع أن يعاون ديبون معاونة جدية، فقد آثر البقاء في موضعه، وعندما بلغه أن رئيسه يقترح التسليم على العدو، فضَّل الارتداد صوب الممرات «ديسبينا بيروس»، وكان ذلك مسلكًا إجراميًّا في نظر الكثيرين، ولا يقل عنه خطورةً ما فعله «ديبون» نفسه الذي جَعَلَ شروط التسليم تشمل جيش «فيديل» أيضًا (٢٣ يوليو ١٨٠٨)، ومع ذلك فقد قبل «فيديل» هذه الشروط، ورجع — الآن — ليستسلم مع جيشه عندما كان في وسعه أن يذهب بجيشه سالمًا إلى مدريد، أما مجموع الفرنسيين الذين سلموا في هذه الواقعة «بايلن» فكان ١٨ ألفًا، بينما بلغ عدد قتلاهم أكثر من ثلاثة آلاف، وقد رفض مجلس إشبيلية أن يعود الأسرى إلى فرنسا، بل استبقاهم جميعًا في حوزته.

تلك إذن كانت هزيمة بايلن، التي زاد من خطورة أثرها إقدام جوزيف بونابرت بعدها بأيام قلائل على إخلاء إسبانيا حتى نهر الإبرو Ebro في الشمال.
وأما أثر هذه الهزيمة الآخر، فكان أن شجع النجاح الذي أحرزه الإسبانيون البرتغال على إعلان الثورة، فنادى الأهلون في أوبرتو Oporto بتأييدهم لبيت براجنزا (الأسرة المالكة البرتغالية)، وبادروا بإلغاء الحكومة الفرنسية وتأليف مجلس تنفيذي مؤقت للحكم، وانضمت كل الأقاليم في البرتغال الشمالية إلى الثورة التي لم تلبث أن امتدت كذلك إلى الأقاليم الجنوبية، وما إن بلغ الحكومة الإنجليزية نبأ هذه الثورة حتى أسرعت بإرسال جيش إلى البرتغال بقيادة السير أرثر ولزلي Arthur Wellesley (دوق ولنجتون فيما بعد)، نزل في شاطئ البرتغال عند خليج مونديجو Mondego (عند مصب نهر مونديجو) يوم ٢ أغسطس ١٨٠٨، وكان جيش «جونو» في البرتغال في لشبونة وما حولها ويبلغ الثمانية والعشرين ألفًا قد صار معزولًا بها منذ قيام الثورة في إسبانيا، ولو أن «جونو» كان مصممًا على الدفاع عن البلاد التي فتحها، فاستطاع القضاء على الثورات «الضعيفة» التي قامت في كل مكان بين ٦–١٦ يونيو، وكانت هذه «ضعيفة»؛ لأن الفرنسيين سبق أن سرحوا الجيش البرتغالي القديم، وجمعوا الأسلحة واستولوا على كل مستودعاتها ومخازن الذخيرة فيها، فلم يجد الشعب «الثائر» قوة مدربة يمكنه الاستناد عليها في ثورته، وتَعَذَّر الحصول على الأسلحة، وتجول جيش «جونو» في أنحاء البرتغال، وتمكن من إخماد الثورات المشتعلة بها، واعتقد جونو أن في وسعه الاحتفاظ بفتوحاته طويلًا، ولكن نزول الإنجليز في البرتغال سرعان ما حَطَّمَ هذه الآمال.
فقد انتصر «ولزلي» على جيش جونو عند فيميرو Vimiero في ٢١ أغسطس ١٨٠٨، وعندئذ اضْطُرَّ جونو الذي كان يتولى قيادة الجيش الفرنسي بنفسه في هذه الواقعة إلى عقد اتفاق «كينترا Cintra» في ٣٠ أغسطس، وبمقتضاه وافق القائد الفرنسي على إخلاء البرتغال بأسرها فورًا، على أن تحمله السفن الإنجليزية مع جيشه إلى فرنسا (إلى لوريان Lorient، ورشفور Rochefort) وفي ١٢ سبتمبر ١٨٠٨ احتل الإنجليز لشبونة، وفي ٣٠ سبتمبر لم يكن هناك جندي فرنسي واحد في كل البرتغال.

وأقامت هزيمة فيميرو وهزيمة بايلن قبلها، الدليل على أن جيوش الإمبراطور لم يعد الانتصار مستعصيًا عليها، وقد ضارعت هذه الهزائم في خطورة آثارها الهزيمة التي لحقت منذ نيف وسبع سنوات الجنرال «منو» في الإسكندرية، وترتب عليها انسحاب جيش الشرق من مصر.

ولا جدال في أن مسئولية الهزيمة التي لحقت بجيش الفرنسيين في إيبريا كانت موزعة على الإمبراطور نفسه وعلى قائديه: ديبون، وفيديل خصوصًا، فهو قد أخطأ التقدير عندما استهان بقوة الإسبان، وبعث لغزو بلادهم جيشًا ضئيل الحجم لم يتدرب جنوده تدريبًا كافيًا، بينما افتقر قواده إلى الكفاءة العسكرية والشجاعة الأدبية، على نحو ما ظهر من جانب «ديبون»، وإلى النشاط والقدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة، على نحو ما تبيَّن من مسلك «فيديل»، وقد اتهمهما الإمبراطور بالخيانة والجبن، وقد قَدَّمَهما للمحاكمة العسكرية، وأثبتت هذه أنهما ارتكبا جريمة الإهمال، وقبلا شروطًا للتسليم مهينة للشرف؛ وعلى ذلك فقد سُجِنَ كلاهما، فاستمر «ديبون» في السجن إلى سنة ١٨١٤، وأما «فيديل» فقد عفا عنه الإمبراطور بعد سنوات قليلة واستخدمه مرة ثانية.

وكان «جونو» وحده الذي خرج من حوادث الحرب في شبه جزيرة إيبريا دون أن يلحق به الأذى، فقد شاء نابليون أن يحمي هذا القائد الذي وَقَّعَ على «اتفاق كينترا» برفعه إلى مرتبة الدوقية، فنال «جونو» لقب دوق أبرانتس Abrantés إحياء لذكرى المعركة التي انتصر فيها جونو على البرتغاليين ودخل بعدها لشبونة في العام السابق (نوفمبر ١٨٠٧).
ومهما يكن مِنْ أَمْر، فقد أثبت الانسحاب من البرتغال، ومن أكثر أجزاء إسبانيا بعد هذه الهزائم أن «الجيش الأعظم» لم يعد بالجيش الذي لا يُقْهَر، وتجاوب في أنحاء أوروبا صدى هذه الحقيقة التي اسْتُكْشِفَتْ في إيبريا، ووجب على الإمبراطور أن يمنع ذيوع هذا الاعتقاد بكل وسيلة، وإلا تَرَتَّبَ على انتشاره ثُمَّ رسوخه في الأذهانِ تَحَرُّكُ الشعوب بالثورة ضِدَّه وسَعْيُها لتقويض أركان إمبراطوريته، وكان نابليون منذ أن بَلَغَتْهُ أخبار الهزيمة في «بايلن» — ٢٣ يوليو ١٨٠٨ — فقد أَمَرَ ثلاثة جيوش من خيرة جيوشه «الألمانية» المدربة، وهي جيوش فيكتور Victor، ومورتييه Mortier، وناي Ney بالذهاب إلى إسبانيا، وعَقَدَ الآمال على إمكان جوزيف بونابرت (الملك) والجنرال سافاري القائد الأعلى والذي حل محل «مورا» في إسبانيا، الصمود في مراكز أمامية حتى تصلهما النجدة، ولكن هذه الآمال تحطَّمَتْ بعد الحوادث التي ذكرناها، وصارت مهمة الجيوش الزاحفة أن تعيد من جديد فتح شبه جزيرة إيبريا، وأما هذه القوات الحاضرة من ألمانيا فقد بدأت طلائعها تجتاز ممرات البرانس في آخر شهر أكتوبر ١٨٠٨، وعندئذ كان الإمبراطور نفسه قد ولَّى وجهه شطر «إرفورت Erfurt».

لقد حاول نابليون مكافحةَ الأثر الذي أحدثتْه هزيمة جيوشه في إيبريا بالذهاب بنفسه إلى إسبانيا، لإعادة الأمور إلى نصابها هناك، ولتأكيد أن ما فَعَلَهُ في إسبانيا لم يكن عملًا «ثوريًّا»، ولكن من نتائج العهد القديم؛ لأن إسبانيا — كما قال — يجب أن تكون فرنسية، وهي الإرث الذي طَالَبَ به لويس الرابع عشر لابنه ولي العهد من زوجته ابنة فيليب الرابع ملك إسبانيا، ولحفيده الذي صار لويس الخامس عشر، فتلك «وصية» قال نابليون: إن الواجب يقتضيه قبولها مع تاج الملكية على فرنسا، طالما أن لويس الرابع عشر قد أَهْرَقَ الدماء الغزيرة من أجل أن تتبوأ نفس الأسرة عرش البلدين: فرنسا وإسبانيا، غير أن الإمبراطور ما كان يستطيع الذهاب بنفسه إلى إسبانيا دون أن يستوثق سلفًا من أن أوروبا لن تنتهز فرصة سحب أكثر جيوشه منها — لإرسالها إلى إيبريا — للقيام بالثورة في مؤخرته، هذا من جهة، وأن النظام القاري الذي ضرب الحصار على إنجلترة سوف يظل نافذًا وبنفس الصرامة التي استمر يُنَفَّذ بها بعد إبرام معاهدة تلست على وجه الخصوص مع روسيا (٧–٩ يوليو ١٨٠٧) وهذا من جهة ثانية.

ولذلك فقد بادر الإمبراطور بتسوية مسألة بروسيا بأن عقد معها اتفاقًا في باريس في ٨ سبتمبر ١٨٠٨، أخلى الفرنسيون بمقتضاه بروسيا، في نظير أن يَنْقُص عددُ الجيش البروسي إلى ٤٢ ألف رجل فقط، وأن تَدْفَع تعويضَ حربٍ لفرنسا مبلغ ١٤٠ مليون فرنك، وعلى شريطة أن تبقى حاميات فرنسية تحتل المواقع الثلاثة التالية: جلوجو Glogau، وكاسترين Küstrin، وستيتن Stettin، وكلها تقع على نهر الأودر، وذلك حتى تقوم بروسيا بتأدية التزاماتها وفق المعاهدة، ثم ذهب الإمبراطور لمقابلة القيصر إسكندر في إرفورت.
وفي إرفورت استمرت مقابلة العاهلين حوالي شهر تقريبًا (من ٢٧ سبتمبر إلى ٢٤ أكتوبر ١٨٠٨)، وكان في إرفورت أن شهد العهد النابليوني أزهى أوقاته إطلاقًا، حيث أقيمت الزينات وتميزت الحفلات بالبذخ والفخامة عندما احتشد رجال البلاط من روس وفرنسيين يحفون بالإمبراطور، وقام الممثل العظيم «تالما» بأداء تمثيليات كورنيل Corneille، وأصغى الجميع باهتمامٍ وعنايةٍ زائدة لكل ما أراد الإمبراطور أن يقصه من ذكريات الشباب عندما كان «ضابط مدفعية»، واستطاع عندما ذهب في رحلة قصيرة إلى فايمر Weimar، أن يُجْزِل العطاء لاثنين مِنْ أَلْمَع قادة الفكر الألمانيين وقتئذ، هما الشاعر جيته Goethe، والفيلسوف القصصي والمؤرخ ويلاند Weiland.
ولكن تلك كانت جميعها مظاهر خادعة؛ فالقيصر كان متحفظًا ولا يريد التورط في تعهدات جديدة، فهو كان قد توقف في كونجسبرج، قبل الذهاب إلى إرفورت وقابَلَ هناك ملك بروسيا فردريك وليم وزَوْجه لويزا، وهو إلى جانب هذا وجد في إرفورت «تاليران» يحذره من عواقب ترك نابليون يعمل من أجل توسيع رقعة إمبراطوريته، وكان تاليران قد أخلى مكانه في وزارة الخارجية ليحل محله «شامباني Champagny» وزيرًا لها، واستطاع — بمعاونة القيصر — أن يزوج ابن أخيه من أميرة كورلاند، وقد أشار تاليران على القيصر فوق ذلك بعدم الموافقة على مشروع نابليون الذي أراد الزواج من إحدى أميرات البيت القيصري، وأدرك نابليون أن المحالفة التي عُقِدَتْ أواصرها في تلست قد انتهى أجلها، ولكنه عمد إلى المراوغة كما فعل صاحبه؛ كسبًا للوقت، فوعد بإخلاء غراندوقية وارسو ليستخدم في إسبانيا الجنود الذين كانوا في احتلالها، واعترف بحق القيصر في امتلاك الإمارات الدانوبية، ملدافيا وواليشيا Walachia (البغدان والأفلاق) على أمل أن يتعهد القيصر بإقناع النمسا — وبالوسائل التي يراها — بالوقوف ساكنةً أطْوَلَ مُدَّة ممكنة يريدها نابليون حتى يتفرغ لنضاله المزمع في إسبانيا.
ويبدو أن القيصر قد أشار فعلًا على البارون دي فنسنت Vincent سفير فرنسوا الأول، إمبراطور النمسا، أن يتخلى هذا الأخير عن محاولة الالتجاء إلى الحرب مرة ثانية لحسم خلافاته مع فرنسا، وقَبِلَ القيصر إسكندر الاعتراف من جانبه بكل الإجراءات التي اتخذها نابليون في إسبانيا «واغتصاب عرشها»، ووعد بإمداده بمائة وخمسين ألف جندي في حالة نشوب الحرب ثانية بين فرنسا والنمسا.

وعلى ذلك فقد وقع الفريقان في ١٢ أكتوبر ١٨٠٨ «اتفاق إرفورت» الذي تناول الموقف في بروسيا وبولندة وفقًا لما سَبَقَ الاتفاق عليه في تلست، كما شمل مصير الإمبراطورية العثمانية، على أساس أن تستبقي روسيا مؤقتًا في حوزتها الإمارات الدانوبية، مع إرجاء الفصل نهائيًّا في هذه المسألة؛ خوفًا من أن يرتمي السلطان العثماني في أحضان إنجلترة، على أساس أن تمتنع فرنسا عن الاشتراك في الحرب إذا أعلن الأتراك الحرب على روسيا، ثم تعهد نابليون وإسكندر بالمحافظة على سلامة ما بقي من أملاك الدولة العثمانية، وكان واضحًا أن الإمبراطور في هذا الاتفاق قد حَرَمَ القيصر — على وجه الخصوص — من تحقيق أعز أمانيه، الاستيلاء على القسطنطينية ومضيق الدردنيل، وكان واضحًا كذلك — ولهذا السبب نفسه — أن القيصر لن يؤيد نابليون في أي إجراء يتخذه للضغط على النمسا وإهانتها، وهكذا؛ فمع أن العاهلين وَقَّعَا معًا على رسالة بَعَثَا بها إلى ملك إنجلترة جورج الثالث في ١٢ أكتوبر يطلبان منه الموافقة على عقد الصلح، ويهددانه بإلحاق الأذى ببلاده إذا تَعَطَّل بسبب رفضه إبرامُ السلام العام — ولم تُسْفِر هذه الرسالة عن نتيجة — فقد وَقَّعَ نابليون وحده على رسالة شديدة العبارة لتهديد إمبراطور النمسا.

ومع ذلك، فقد أسفر اتفاق إرفورت عن النتيجة المباشرة التي توخاها نابليون منه، وهي السماح له بالذهاب إلى إسبانيا «ليغزوها» من جديد، وكانت المقاوَمة في إسبانيا قد زادت شدة على شدتها عندما استطاعت قوات الماركيز دي لارومانا La Romana الإسبانية الإفلات من رقابة الفرنسيين والانضمام إلى القائدين الإسبانيين: كستانوس، وبلافوكس Palafox، وكان نابليون قد احتجز «لارومانا» بجيشه في جزيرة فونن Funen الدنماركية، ولكن «مؤامرة بايون» سببت تذمُّر هذه القوات الإسبانية، واستطاع الأسطول الإنجليزي أن ينقلها من شمال ألمانيا إلى إسبانيا.
وغادر نابليون باريس في ٢٩ أكتوبر ١٨٠٨ على رأس مائة وسبعين ألف مقاتل، قسمهم إلى سبعة جيوش بقيادة خيرة قواده: لان، سولت، ناي، فيكتور، ليففر، مورتييه، جوفيون سان سير، بينما تولى قيادة الحرس الإمبراطوري الجنرال بسييير Bessières، وحصل أول اشتباك عند زرنوسا Zornosa «بإقليم بسكاي الإسباني» في ٢٩ أكتوبر، وارتد الوطنيون الإسبانيون، وعند جامونال Gamonal أمام برجوس Burgos أَوْقَعَ بهم الإمبراطور هزيمة ساحقة في ١٠ نوفمبر، وكان الجيش الإسباني الصغير بقيادة إستريمادورا Estremadura وقد توالت الهزائم بعد ذلك على الإسبانيين؛ فانهزم القائد الإسباني بواكيم بليك Blake عند إسبينوزا Espinosa (١١ نوفمبر)، وانهزمت قوات كستانوس وبلافوكس في ٣٠ نوفمبر عند «توديلا Tudela» على يد الجنرال «لان».
وزحف نابليون بطابور واحد فقط من جيشه لاقتحام ممرات سوموسييرا Somosierra التي وقف على حمايتها الإسبان بقيادة بنيتوسان جوان Benito San-Juan فتم له ذلك بعد معركة قصيرة (٣٠ نوفمبر)، وفي ٢ ديسمبر كان نابليون على أبواب مدريد التي دخلها يوم ٩ ديسمبر ١٨٠٨ لِيَضَعَ أخاه جوزيف على عرش إسبانيا ثانية، وليُصْدِر طائفة من القرارات «الإصلاحية» والتي أنهى بفضلها الحقوق الإقطاعية، وألغى محكمة التفتيش، وأغلق ثلثي الأديرة.
وكان الإنجليز في أثناء ذلك قد اعترفت حكومتهم «ووزير الخارجية بها جورج كاننج» بالمجلس التنفيذي Junta الذي أنشأه الإسبان في قادش، على أساس أنه يمثل ملك إسبانيا الشرعي فردنند السابع، ويعمل باسمه، وأمد الإنجليز هذا المجلس — الذي اعترفوا له بحقوق الحرب — بالمعونة المالية وبالجيوش، وأرسلوا الإمدادات كذلك لتقوية جيشهم الرابض في البرتغال (بعد اتفاق كينترا بتاريخ ٣٠ أغسطس ١٨٠٨)، وقد عُهِدَ بقيادته إلى السير جون مور Moore (٦ أكتوبر)، ولكن هزيمة الجيوش الإسبانية ودخول نابليون إلى مدريد سرعان ما أَرْغمَت «المجلس التنفيذي» على الفرار إلى «إشبيلية Seville»، وتفرقت قوات الوطنيين الإسبانية في كل مكان، وباستثناء الجيش الإنجليزي بقيادة السير جون مور في البرتغال بدا كأنما قد صارت إسبانيا بأسرها على وشك التسليم للإمبراطور، ووجد الجنرال مور بعد هذه الحوادث أن موقفه قد بات شديد الحروجة؛ فشرع يتقهقر بجيشه إلى لشبونة (٢٨ نوفمبر) — وكان مور عقب توليه القيادة قد بدأ يزحف صوب إسبانيا ليضم قواته إلى جيوش حلفائه — فارتد الآن نحو العاصمة البرتغالية، ولكنه عاد فصمم على التقدم بعد أن تلقى من الممثل الإنجليزي في مدريد «فرير Frere» — وكانت هذه لم تسقط بعد في أيدي الفرنسيين — ما شجعه على المضي في مغامرة الزحف صوب مدريد؛ فبلغ سلامنكا Salamanca في (١٣–٢٣ نوفمبر)، ثم بقي بها ينتظر وصول مدفعيته (٣ ديسمبر) ليستأنف الزحف إلى بلد الوليد Valladolid، ولكن لم يلبث أن جاءته الأنباء عن هزيمة الإسبان وعن دخول نابليون إلى مدريد، وأهم من هذا كله لم يلبث مور أن علم بتحرك الجيوش الفرنسية، ونابليون نفسه للإطباق على قواته، فقَرَّرَ مور التقهقر بكل سرعة إلى جاليكيا Galicia (الإقليم الواقع في طرف إسبانيا الغربي)، ونَفَّذَ الإنجليز خطة تقهقرهم بنظام حتى وصلوا إلى «أستورجا Astorga»، ولكن بعد هذه الأخيرة ظهرت بوادر العصيان وعدم الطاعة؛ بسبب المشاق التي تَكَبَّدَها الجيش المتقهقر في إقليم جبلي، ووسط فصل الشتاء، وعندما بلغ الإنجليز المرتفَعات المطلة على «كورونه Coruna» الميناء الذي أزمعوا الإبحار منه إلى بلادهم، كان الجيش في حالةٍ يُرْثَى لها، وكان عندئذ أن حاول «سولت» محاوَلَةً يائسة ليمنع السير جون مور وجيشه من الوصول إلى هذا الميناء والإبحار منه.

وكان نابليون قد جاءته الأنباء بأن إمبراطور النمسا يعمل لفصم علاقاته مع فرنسا، وأنَّ مؤامرةً ضد حياة الإمبراطور قد اكْتُشِفَتْ في باريس؛ ولذلك قرر العودة إلى عاصمة مُلْكِه، فغادر إسبانيا يوم ٣ يناير ١٨٠٩ بعد أن عَهِدَ بقيادة الجيش إلى «سولت» وأوصاه «بإلقاء الإنجليز إلى البحر».

وطارَدَ «سولت» هؤلاء مطارَدَةً عنيفة حتى اشتبك بهم عند مرتفعات كورونه في معركة حامية يوم ١٦ يناير ١٨٠٩، أَسْفَرَتْ عن قتل قائدهم السير جون مور، ولكنها لم تنجح في مَنْع الإنجليز من الإقلاع على مراكبهم من كورونه يوم ١٨ يناير ١٨٠٩.

ووصل نابليون إلى باريس يوم ٢٣ يناير عن طريق بلد الوليد وبايون؛ ليوقف المؤامرة التي نمى إليه خَبَرُها ضد حكومته، وكان تاليران — أثناء حملة إسبانيا — قد اتفق مع فوشيه على التخلص من شخص الإمبراطور؛ ليحل محله الجنرال مورا، واكتفى نابليون بعد مشادة عنيفة مع تاليران بأن حَرَمَه من وظائفه (كبير الحجاب) ثم كان عليه مواجهة المحالفة الدولية الجديدة التي تشكلت ضده (المحالفة الدولية الخامسة).

فقد كان من أثر الثورة في إسبانيا أن نَفَضَت الشعوب الألمانية عنها ثوب الاستكانة والخنوع، الذي جعلها ترضى بالمصير الذي يريده لها نابليون من غير أن تُحَرِّك ساكنًا، فحركتها الثورة في إسبانيا من سباتها، وتضافرت الأسباب التي جعلت الألمانيين ينتقضون بدورهم على السيطرة النابوليونية، فهم قد غدت بلادهم تحت هذه السيطرة مَعْبرًا أو ممرًا للجيوش الفرنسية المتقاتلة في أوروبا «وفي إسبانيا»، مع ما يقترن بذلك من وجوب تقديم المؤن، ودَفْع الإتاوات، وكانت الغرامات العسكرية التي فُرِضَتْ — عليها إلى جانب هذا — عِبئًا ثقيلًا أبهظ كاهلهم، في وقتٍ اشتدت عليهم فيه وطأة الأزمة الاقتصادية بسبب نظام الحصار القاري الذي فَرَضَه نابليون على كل أوروبا الخاضعة لسلطانه، أو «المتحابة» و«المتحالفة» معه، وتلك شدائد تَحَمَّلَها الشعب الألماني بسبب الهزائم العسكرية التي لحقت به، وكان ضروريًّا لخلاصه منها أن يعمل لغسل الإهانات التي أتت بها هذه الهزائم العسكرية، فبدأ يستيقظ شعوره الوطني (القومي) رويدًا رويدًا، ويَتُوق للقيام بعمل يُنْهِي به السيطرةَ الأجنبية (النابليونية) التي أَذَلَّتْه كل هذا الإذلال، وأَفْقَدَتْه كرامته الوطنية.

ولقد أتيح للفيلسوف الألماني فيشته Fichte أَنْ يُعَبِّرَ عن هذا الشعور القومي الناشئ في ألمانيا، في سلسلة من المحاضرات «الأربع عشرة» التي ألقاها في دار «أكاديمية برلين» في شتاء ١٨٠٧-١٨٠٨ بعنوان: «أحاديث أو خطب موجهة إلى الأمة الألمانية» لم يَجِد البوليس سببًا لمنعه من إلقائها، واكتفت الرقابة بحذف المحاضرة الثالثة عشرة فقط؛ لأنها كانت عنيفة، وقد أجاز البوليس هذه المحاضرات على اعتبار أن صاحبها فيلسوف ألماني شهير، لا يبغي منها إلا إصلاح قواعد التربية والتهذيب في بلاده، والواقع أن «فيشته» أراد في محاضراته هذه أن يبين للشعب الألماني أنه هو وحده (أي الألمان أنفسهم) المسئول عن كل الأذى الذي لحق به بسبب الغزو الفرنسي، وأن في وسع الشعب الألماني وحده إزالة هذه المساوئ وإصلاح شئونه بنفسه، وعليه — قبل أي شيء آخر — إبراز القوى الكامنة في كل تلك الخصائص التي يتميز بطابعها كشعب ألماني، فلأن لهذا الشعب «ألمانيته» ومن واجبه الاحتفاظ بهذه «الألمانية»، صار يتحتم عليه الوقوف في وَجْه أية محاولةٍ للامتزاج بشعب آخر أجنبي عنه، والاندماج فيه لدرجة الاختفاء من الوجود بذاتيته «الألمانية»، وانصهاره في هذا الشعب الأجنبي، بل صار لزامًا عليه أن يُنْشِئ أو يخلق قومية مستقلة عن كل الأمم «والدول» الأخرى، وألمانيا فنن جرماني أي أحد فروع الشعب الذي رسالته أن يربط النظام الاجتماعي القائم في أوروبا العجوز بالدين الصحيح، كما هو محفوظ في آسيا المتوغلة في القِدَم، فيُعْمَل بذلك على بداية عهد جديد.

لقد احتفظ الشعب الألماني بمسقطه، وبلغة أجداده، وبعنصريته، ولكن الألمان خلال نصف القرن الأخير استبدت بهم الأنانية، وصاروا متصفين بالعجز؛ لأنهم تركوا أنفسهم يشردون في عالم الفكر النقي دون أن يزعجهم التفكير في شئون الدنيا حولهم، التي تأزمت فيها الأمور بدرجة صارت تدعوهم إلى أن يوجهوا قواهم الذهنية لعلاجها بعد أن يتجدد شباب هذه القوى بفضل ما هنالك من قابلية للعالم الإنساني للترقي وبلوغ مراتب الكمال، فإذا امتنع الألمان عن نسيان نوع الحياة القائمة على قوة الفكر، صار في وسعهم أن ينزعوا من يد القوة المتوحشةِ الهيمنةَ على مصائر العالم.

وكان عندئذ أن تألفت بعض الجمعيات السرية، نذكر منها خصوصًا «حلف الفضيلة Tugenbund» الذي أسسه ماكس لهمان Max Lehman الأستاذ والمؤرخ الألماني، بمعاونة أحد الموظفين «موسكا Mosque»، وقد أشاد كثيرون — وربما لدرجة المغالاة — بالأثر الذي كان لهذه الجمعية في نشر آراء «فيشته» وتوضيحها، وإذاعة أماني الألمان القومية، وجمع المؤيدين والأنصار حول هذه المبادئ القومية الجديدة.
واعْتُبِرَت بروسيا خيرَ مكان يتسنى فيه قيام «الأمة» الألمانية الناشئة، إذ إن بروسيا إلى جانب شعور شعبها بضرورة الإصلاح الذي لا معدى عنه للنهوض بالبلاد بعد كبوتها وهزيمتها في الحرب ضد نابليون، كانت كذلك موئل الألمانيين الذين صَحَّ عزمهم على التضحية بكل عزيز لديهم لتحرير بلادهم من السيطرة النابليونية، فكان «هاردنبرج Hardenberg» الوزير البروسي السابق الذي لجأ إلى «ريغا» تحت حماية القيصر، لا يزال يوجه سياسة مليكه فردريك وليم الثالث، ويذكر له المبادئ التي جَعَلَتْ في نَظَرِه الموظفين الفرنسيين — منذ قيام «الثورة» التي فتحت أمام المواطنين جميعهم باب الترقي — يُقْبِلون على خدمة الدولة بحماس، فالثورة جَدَّدَتْ شباب فرنسا عندما حطمت أعداء التقدم المتشبثين بالنظام الزائل، وقضت على المساوئ القديمة، وأيقظت القوى النشيطة من سباتها، وتلك هي المبادئ والقوى التي يستمد منها نابليون نفوذه وسلطانه، «إن روح القرن الذي نعيش فيه تدعو حتمًا — كما استمر هاردنبرج يقول — إلى أن تقوم الدولة ذات النظام الملكي على مبادئ ديمقراطية.»
ثم إن بروسيا وجدت في وزيرها البارون ستين Stein خيرَ مَنْ يَسْهَر على إدخال الإصلاحات الاجتماعية والإدارية التي تقوم على هذه المبادئ التي بسطها «هاردنبرج»، ومع أن كثيرين حَذَّرُوا من المغالاة في تقدير آراء «ستين» الحرة، فالذي لا شك فيه أن بروسيا مدينة للبارون ستين بوصولها لمرتبة الدولة القومية الألمانية بالصورة التي أَوْجَدَتْها العبقرية الألمانية ذاتها، والتي تتفق مع تقاليد ألمانيا ومصالحها، وكان «ستين» — الذي وُلِدَ في نساو — قد دَخَلَ في خدمة بروسيا قبل تأليف المحالفة الدولية الرابعة، ووصل إلى رئاسة الحكومة (الوزارة) على أثر ذهاب «هاردنبرج» إلى المنفى، فأصدر في ٩ أكتوبر ١٨٠٧ قرارًا بإلغاء الرق كان ذا أثر ضئيل؛ لأنه أعطى الفلاحين حَقَّ امتلاك الأرض دون أن يُمَكِّنَهم من امتلاكها فعلًا، ثم إنه أَعَدَّ مشروعًا للإصلاح الإداري على أساس اللامركزية في الأقاليم، وذلك بأن يستبدل «بالبيروقراطية» ممثلين بالانتخاب، يَعْرِفون أقاليمهم حَقَّ المعرفة بسبب عيشهم الطويل بها، وذلك حتى يتسنى إشراك الأمة في إدارة شئونها والسهر على مصالحها، وهو إجراء — في نظر كثيرين كذلك — لم يكن ذا أهمية بالغة.

وعلى ذلك فقد كانت هذه «الإصلاحات» لا تَبْعَث في حينها على الأمل العظيم في أنَّ عهدًا من الإصلاح الواسع المدى قد بدأ في بروسيا، أو أنه كان يُخْشَى من أثرها لتحريك الشعب على الثورة والانتفاض على سُلطة الإمبراطورية؛ ولذلك لم يَأْبَهْ نابليون لهذه الإصلاحات وآثارها، ولو أنه انتهز الفرصة للتخلص من «ستين» استنادًا على انتشار التذمر في وستفاليا.

وكان للإمبراطور علاقات بالمتذمرين بها، وعلى رسالة من القائد الروسي وتجنستاين Wittgenstein في ١٥ أغسطس ١٨٠٨ إلى الملك فردريك وليم الثالث يطلب إبعاد «ستين»، فأصدر نابليون وهو بإسبانيا أمرًا بنفيه (في سبتمبر ١٨٠٨)، فاضْطُرَّ «ستين» إلى مغادرة البلاد والهرب إلى النمسا، ولكن بعد عامين استطاع «هاردنبرج» أن يظفر برضاء مليكه عليه، فعاد إلى برلين ليتعاون مع «شارنهورست Scharnhorst»، «وجنسيناو Gneisenau» على إتمام الإصلاحات التي كان هذان الأخيران قد بدآها في الجيش، وأهم هذه الإصلاحات تسريح الجنود بمجرد تدريبهم على فنون القتال، بعد خدمة قصيرة، ليحل محلهم دفعات جديدة، يُدَرَّبون بسرعة حتى يأتي فوج آخر بعد تسريحهم، وهكذا، وذلك ليكون لدى بروسيا جيش كبير وقت الحاجة دون أن يزيد عدد الجيش النظامي عن ٤٢ ألف رجل، وهو الرقم الذي حددته معاهدة تلست لأقصى ما يمكن أن يبلغه الجيش البروسي.

ووَقَعَتْ في أثناء ذلك كله بعضُ الحوادث التي تَدُلُّ على وجود الاضطراب وانتشار القلق في أنحاء ألمانيا، والتذمر من السيطرة النابليونية، ومع أنه سَهُلَ دائمًا على السلطات الحكومية «الخاضعة لنظام الإمبراطورية» إخماد هذه الاضطرابات والفورات بكل سرعة، فلقد كانت في حد ذاتها كافيةً للتدليل على أن حوادث أكثر جدية لا بد واقعة في النهاية، وأن شعورًا «قوميًّا» أَخَذَ يشتد في ألمانيا، ولا يلبث حتى يقوى بدرجة تهدد بتقويض عروش الإمبراطورية النابليونية، وتنهي سلطانها من ألمانيا.

من ذلك «الثورة» التي قامت في إقليم التيرول، والتي اشترك في تحريكها كل من أندريا هوفر Höfer (صاحب حانة)، وراهب كبوشي يُدْعَى كاسبينجر Caspinger، ضد بفاريا التي كانت قد حصلت على التيرول من النمسا بمقتضى معاهدة برسبورج، أيْ نزولًا على رغبة نابليون، وقد استمرت مقاوَمة الثوار في التيرول حتى شتاء ١٨١٠ عندما قُبِضَ على «هوفر» وأُعْدِمَ رميًا بالرصاص في منتوا Mantoue، ثم كانت هناك محاولات أخرى أَخْفَقَتْ جميعها، منها: محاولة الضابط البروسي كاط Katt الاستيلاء على مجدبرج، والمحاولة التي قام بها الكولونيل دورنبرج Dörnberg من حرس الملك جيروم بونابرت لتحريك الفلاحين في وستفاليا على الثورة، فحَصَدَت المدافعُ الثوارَ تحت أسوار كاسل Cassel، ومنها المحاولة الفاشلة التي أراد بها الماجور «شل Schill» تحريكَ فرسانه على الثورة (٢٨ أبريل ١٨٠٩)، وكان «شل» محبوبًا من الشعب بسبب بسالته في حملة ١٨٠٦، واشتهاره بكراهيته للفرنسيين، فقد أَخْفَقَ وانهزم فرسانه، ولَقِيَ مصرعه في سترالسند Stralsund «شمال ألمانيا»، ومن ذلك أيضًا أن دوق برونزويك إولز Oels الابن الرابع للدوق برونزويك الذي انهزم في واقعة «أورشتاد»، والذي فَقَدَ أملاكه سنة ١٨٠٦، لم يلبث أن جَنَّدَ ضد الفرنسيين ما أُطْلِقَ عليهم اسم «فرسان الموت»، فاستطاع الاستيلاء على برنزويك (أملاكه القديمة) واسترجع قصر آبائه، ولكن ذلك لم يستطل إلا أيامًا معدودة، سرعان ما طُرِدَ بعدها من برنزويك، ثم طُورِدَ مطارَدة عنيفة وهو في طريق فِراره عَبْر وستفاليا، حتى كاد يُقْبَض عليه، ولكنه تَمَكَّن من بلوغ مصب نهر الوزر Weser بالقرب من برمن Bremen، حيث أَنْقَذَتْه سفينة إنجليزية هَرَبَ على ظَهْرها.

وتلك جميعًا كانت محاولات متفرقة، لا تستند على تدابير مُحْكَمَة، ولا تربط بينها خطة معينة للعمل، وكان لذلك مقضيًّا عليها بالفشل من البداية، ومع ذلك فهي تُعْتَبَر بَالِغة الدلالة على مقدار الضيق الذي شعر به الشعب الألماني حتى نفذ صبره، وما عاد يحتمل الخضوع لسلطان الإمبراطورية النابليونية، وهي كذلك تُعْتَبَر مُؤْذِنة بأنَّ انفجارًا «قوميًّا» ضد هذه السيطرة سوف يحدث لا محالة، وسواء في القريب العاجل أو بعد فترة من الزمن، وعند أول بادرة.

ولقد جاءت هذه البادرة التي فَجَّرَت بركان المقاوَمة الأهلية ضد نابليون والسيطرة الفرنسية في ألمانيا على يد النمسا.

فقد حَطَّتْ — ولا شك — معاهدةُ برسبورج من شأن النمسا في أوروبا، بعد أن أفقدها الإمبراطور كلَّ أملاكها في إيطاليا، وأرغمها على التخلي عن أكثر أملاكها في ألمانيا لحساب بفاريا وورتمبرج وبادن خصوصًا، ووَجَدَت النمسا أنها قد صارت بفضل هذه المعاهدة في عداد الدول الضئيلة القيمة، ولا تحتل في محفل الدول الأوروبية إلا مرتبة ثانوية، ولكن النمسا رَفَضَت الإذعان لهذا المصير، بل إنها وَجَدَتْ في المبادئ والتعاليم التي نادى بها «فيشته» للاحتفاظ بالذاتية الألمانية، الوسيلة التي تُمَكِّنها من جمع الشعوب الألمانية في صعيد واحد للنضال ضد السيطرة الأجنبية (الفرنسية) التي تبغي القضاء على الوطن الألماني، ومحو التقاليد والذكريات الجرمانية العتيدة التي تفخر بها الأمة الألمانية.

ووجدت النمسا في حوادث الاضطرابات والثورات الصغيرة التي ذكرناها في التيرول وفي وستفاليا ما يشجعها على المضي في محاوَلة إنقاذِ الوطن الألماني، وبدأت النمسا استعداداتها بإعادة تنظيم جيوشها، فأَشْرَفَ على هذا التنظيم وزيرُها الكونت فون ستاديون Stadion (الذي خلف كوبنزل Cobenzl)، والأرشيدوق شارل.
وفي ١٢ مايو ١٨٠٨ صدر قرار بإنشاء «الميليشيا الجديدة»، ووَعَدَتْ إنجلترة بمد هذه القوة الجديدة بالمال والسفن، وأما روسيا التي كان عليها أن تمنع النمسا من التحرك ضد نابليون ليفرغ لحربه في شبه جزيرة إيبريا فإنها هي الأخرى بدأت تفطن بعد إرفورت، وبفضل مساعي تاليران إلى حقيقة نوايا الإمبراطور، ولم يكن في وسع القيصر الاستغناء كليةً عن صداقة نابليون، وهو الذي يلوح أمام ناظريه بمشاريع «الشرق» العظيمة، ولكن إسكندر لم يكن يسعه كذلك أن يغفل أهمية وجود النمسا كحاجز بين إمبراطوريته وإمبراطورية غريمه، ويهمه كذلك الإبقاء على كيانها، وكان اعتمادًا على كل هذه الاعتبارات إذَنْ أنْ حاوَلَت النمسا انتزاع روسيا كلية من محالفاتها مع نابليون، فأوفدت إلى بطرسبرج سفيرها «شوارزنبرج Schwarzenberg» لهذه الغاية، ووعد القيصر أن يَبْذُل كل ما وُسْعه من جهد وحيلة ليتجنب امتشاق الحسام جديًّا ضد النمسا.

وكان اعتمادًا على هذه التأكيدات إذن أَنْ زَحَفَ الأرشيدوق شارل على رأس جيشه يوم ١٠ أبريل ١٨٠٩ صوب بفاريا، واقتحم حدودها، ومعنى ذلك أن النمسويين دخلوا أراضي «اتحاد الراين» الذي كان نابليون «حاميًا» له، ويُعِينُ استئنافَ النمسا القتالَ بهذه الصورة، تأسيسُ المحالَفة الدولية الخامسة ضد فرنسا؛ لأن الحرب التي أشْعَلَتْها النمسا الآن جاءت في وقْت تدور فيه الحرب في إسبانيا، ولأن إنجلترة أفادت من هذه الحوادث، فأرسلت النجدات إلى لشبونة وعَيَّنَتْ لقيادتها السير أرثر ولزلي محل السير جون مور.

وفي يوليو ١٨٠٩ بعثت بأسطولها لتحطيم الأحواض والأسطول الفرنسي في ميناء أنتورب — أو انفرس — (حملة جزيرة فالشيرين Walcheren) وقد أَخْفَقَتْ هذه المحاوَلة، واضْطَرَّت بقية الحملة إلى العودة لإنجلترة في أغسطس من السنة نفسها، ومن جهة أخرى اعتمدت النمسا في نضالها ضد الإمبراطور على عوامل أخرى لها خطرها، هي القوة المعنوية أو الروحية التي بدت في الحركات الثورية التي ذكرناها (حركة أندريا هوفر)، ثم التذمر المتولد من الضيق الاقتصادي بسبب سياسة الحصار القاري، وأخيرًا الغضب الديني من معاملة البابا بيوس السابع رئيس الكنيسة الكاثوليكية بالعسف والجور على يد العاهل الفرنسي.
أما نابليون فقد غادر باريس في حملة هذا العام (١٨٠٩) يوم ١٣ أبريل بعد أن أناب عنه في الحكم «كمباسيرس»، وكان جيشه في هذه الحملة يكاد يكون بتمامه جيشًا جديدًا يتألف ثلث قواته من فرق أجنبية «ألمانية»، بينما ضمت القوات الفرنسية إليها شبانًا يافعين لم يبلغوا السن القانونية للتجنيد، وتخرَّجوا في سرعة من المدارس الحربية في سان سير Saint-Cyr أو «لافليش La Flèche» المدرسة الحربية الإعدادية لأبناء الضباط، أو من المدارس الثانوية (الليسية)، كما ضَمَّتْ إليها جنودًا من المُسَرَّحِين من الخدمة العسكرية، ومع أن جيش نابليون كان أقلَّ عددًا من جيش النمسا؛ إلا أنه احتفظ بميزتين هامتين: المدفعية القوية، والسرعة في العمليات العسكرية التي اشتهر بها نابليون.
وعبثًا حاول النمسويون بقيادة الأرشيدوق شارل أن يفصلوا جيش «دافو» في راتزبون عن جيش «ماسينا» في أوجزبرج، فقد اشتبك معهم الإمبراطور في معركة (أو سلسلة من المعارك) دارت رحاها خمسة أيام (من ١٩ إلى ٢٣ أبريل ١٨٠٩)، كانت أهمها في «إكموهل Eckmühl» في ٢٢ أبريل — نال دافو على أثرها لقب أمير إكموهل — وعجز النمسويون بعد هذه المعارك عن وَقْف زحف الفرنسيين، فنشبت معركة دامية عند إبرزبرج Ebersberg في ٣ مايو، ودخل نابليون فينَّا للمرة الثانية في ١٣ مايو ١٨٠٩.
وجمع الأرشيدوق شارل فلول جيشه ليُعِدَّ جيشًا جديدًا من حوالي الثمانين ألف رجل، تَقَدَّمَ بهم على نهر الدانوب حتى صار على مقربة من فينَّا، وتهيأ نابليون لمقابلته، وفي ٢٠ مايو تمكن جيش ماسينا — من ٤٠ ألف — من اتخاذ مَوَاقِعِه على الضفة اليسرى للنهر في مكان يتوسط المسافة بين قريتي أسبيرن Aspern، وإيسلنج Essling، واشتَبَكَ الفريقان في معركة حامية، وتبادَلَ الجيشان المتقاتلان احتلالَ أسبيرن وإيسلنج مراتٍ عديدة، وانقضى يوم المعركة الأول (٢١ مايو) والأرشيدوق شارل يحتل هذا الموقع (أسبيرن)، وفي القتال الذي دار يوم ٢٣ مايو تَحَمَّل الفريقان خسائر جسيمة، ولم يَجِد الإمبراطور مناصًا من إصدار أَمْرِه بالتقهقر، وبلغت خسائر الفرنسيين في هذه المعركة ثلاثين ألفًا تقريبًا، وبلغت خسائر النمسويين عشرين ألفًا، وأصيب في هذه الواقعة القائد الفرنسي «لان» بجرح قاتل؛ ليقضي نَحْبه بعد أيام قلائل، وأما «ماسينا» فقد استطاع أن يجمع فلول الجيش الفرنسي، ونال ماسينا لقب أمير إيسلنج، ولكن هذه الواقعة — واقعة أسبيرن وإيسلنج — (٢١-٢٢ مايو) كانت ذات أثر خطير على سمعة نابليون.

وقد قضى نابليون ستة أسابيع بعد هذه الواقعة يعمل بكل همة لتعويض خسائره وإعادة بناء الجيش؛ استعدادًا لمحاوَلة جديدة من أجل عبور النهر (الدانوب، عند فينَّا) والالتحام مع العدو في معارك فاصلة على الضفة الأخرى.

وكان النمسويون عندما بدءوا تعبئة جيوشهم في يناير وفبراير ١٨٠٩ قد أَعَدُّوا جيشًا بقيادة الأرشيدوق جون John لغزو إيطاليا الشمالية الشرقية، بينما تهيأ الأرشيدوق فردنند للزحف من كراكاو Cracow بجيش آخر لاحتلال وارسو (عاصمة غراندوقية وارسو)، وقد تقدم هذا الجيش الأخير بكل سرعة داخل الأراضي البولندية، وأوقع الهزيمة بالوطنيين البولنديين بقيادة «بونياتوسكي Poniatowski» في ١٩ أبريل، وفي ٢٣ أبريل دخل وارسو، ولكن بونياتوسكي الذي جَمَعَ جيشه في غاليسيا Galicia لم يلبث أن احتل لوبلن Lublin (في ١٤ مايو)، ثم ساندومير Sandomir (على نهر الفستيولا) في ١٨ مايو.
وفي ٢٠ مايو استولى بعد هجوم عنيف على زاموس Zamosz «جنوب لوبلن، إلى الغرب من نهر الفستيولا»، وتقدم الروس (حلفاء الإمبراطور) في الوقت نفسه عبر الحدود الروسية-النمسوية إلى لمبرج Lemberg، بينما شَرَعَتْ قوات بولندية تزحف على وارسو وتقترب منها، فما إن وَجَدَ الأرشيدوق فردنند نفسه مهدَّدًا من كل جانب حتى قرر إخلاء وارسو يوم ٣ يونيو، والانسحاب إلى مكان بعيد منها، على أن ينسحب بجشيه أخيرًا إلى أولمتز Olmütz (الأراضي النمسوية) عن طريق كراكاو (يوليو ١٨٠٩).
وكما أخفقت عمليات النمسويين العسكرية ضد بولندة، لم يظفروا بنتيجة من حملتهم العسكرية في إيطاليا؛ فقد عَبَرَ جيش الأرشيدوق جون الحدود الإيطالية عند تارفيس Tarvis في ٩ أبريل، وأَنْزَلَ بعد ذلك بأيام قليلة هزيمةً كبيرةً بجيشٍ فرنسيٍّ إيطاليٍّ يقوده نائب الملك في إيطاليا البرنس يوجين بوهارنيه، عند ساشيل Sacile «إلى الجنوب» في ١٦ أبريل، ثم لم يلبث أن انتصر مرة أخرى على الفرنسيين عند كالديرو Caldiero في ٢٩ أبريل، ولكن أخبارًا سيئة لم تلبث أنْ وَصَلَتْه عن سوء الموقف في ألمانيا؛ قَرَّرَ بسببها الانسحاب إلى ما وراء الحدود الإيطالية (في بداية مايو).
وبعد عدة الْتحامات مع قوات البرنس يوجين الذي كانت قد وصلته النجدات عندئذ، ولم يُحرِز النمسويون أيةَ انتصارات جديدة، اضطر الأرشيدوق جون إلى التخلي عن إقليم كارينثيا Carinthia «النمسوي» لنائب الملك في إيطاليا، والانسحاب إلى المجر (هنغاريا)، فوصل يوم ٧ يونيو إلى «راب Raab» يتعقبه يوجين الذي كانت مهمته الآن تغطية تحركات الجيش الفرنسي الرئيسي الزاحف على المجر، ثم أَوْقَعَ يوجين بالنمسويين الهزيمةَ عند «راب» في ١٤ يونيو، وتقهقر الأرشيدوق إلى برسبورج عن طريق كومورن Komorn، وقد اسْتُدْعِيَ من برسبورج للاشتراك في واقعة واجرام Wagram.

وكذلك اضطر النمسويون الذين اشتبكوا في معارك مع قوات المارشال مارمون في كرواتيا ودلماشيا إلى الارتداد والانسحاب إلى الأراضي النمسوية.

وفي أثناء ذلك كله كانت العلاقات في هذه اللحظة ذاتها قد ساءت لدرجة بعيدة بين الإمبراطور والبابا بيوس السابع؛ فقد احتل الجنرال ميوليس Miollis — كما عرفنا — روما في ٢ فبراير ١٨٠٨ من أجل مراقَبة تنفيذ الحصار القاري، ومن ذلك الحين وَجَدَ البابا أنه في حَرْب «فعلية» مع الإمبراطورية الفرنسية، فقد أوقف ونفى سكرتير الدولة (البابوية) الكردينال جبرييلي Gabrielli؛ لأنه مَنَعَ الموظفين في الأملاك (أو الدولة) البابوية من حلف يمين الولاء للحكومة الدخيلة، وخلفه الكردينال «باكا Bacca» الذي سار في نفس سياسة المقاوَمة ضد السيطرة الفرنسية، وهي المقاومة التي امتدت إلى كل أنحاء إيطاليا.
وقد شرح الكردينال «باكا» لأعضاء الهيئة السياسية في البلاط البابوي (٣٠ نوفمبر ١٨٠٨) الحال السيئة التي صارت عليها حكومة رئيس الكنيسة الأعلى، تحت السيطرة النابليونية فقال: «إن الكنيسة المستعبدة قد صارت خاضعة لسلطان السلطة الزمنية، بينما قد بقي رئيسها الأعلى حبيسَ سجْنٍ ضيق منذ عشرة شهور، فريسة للإهانات والاعتداءات من كل نوع، محرومًا من وزرائه ومُبْعَدًا عنهم، مشلولَ السلطة للقيام بوظائفه.» ولكن نابليون لم يلبث أن أجاب على هذه المقاومة باستصدار قرار من فينَّا في ١٧ مايو ١٨٠٩، يعلن فيه أنه لم يعد هناك مسوغ لبقاء السلطة الزمنية التي يمارسها البابا، ذلك أن الأملاك البابوية قد ضُمَّت الآن إلى الإمبراطورية الفرنسية، وأن روما قد صارت مدينةً حرة وتابعة للإمبراطورية، وأراد نابليون أن يعوض البابا عن خسارته؛ فقرر زيادة أراضيه ومزارعه بدرجة تستطيع بها أن تُدِرَّ عليه ريعًا سنويًّا يبلغ مليوني فرنك، على أن البابا لم يلبث هو الآخر من ناحيته أن استصدر بعد ستة أسابيع فقط (١٠ يونيو ١٨٠٩) قرار حرمان ضد «أولئك الذين ارتكبوا، وأَمَرُوا، ورَحَّبوا بالاعتداءات التي وَقَعَتْ على السدة الرسولية، وأشاروا بها ووافقوا عليها»، وقاوَمَ البابا أمْرَ نابليون بالقبض على الكردينال «باكا» وأخيرًا ألقى الجنرال «رادت Radet» القبض على البابا نفسه في ٦ يوليو ١٨٠٩، ونقله إلى سافونا Savona (ناحية الغرب من جنوة) حيث بَلَغَها يوم ٢٠ أغسطس.
واليومُ الذي أُلْقِيَ فيه القَبْضُ على البابا بيوس السابع (٦ يوليو) كان اليومَ الذي أَحْرَزَ نابليون فيه النصر على النمسويين في واقعة (واجرام) الدموية؛ فقد عَبَرَ الجيش الفرنسي نهر الدانوب، وقد بلغ المائة والخمسين ألْفَ مقاتل، قبل ذلك بيومين (٤ يوليو)، ثم وقعت الواقعة عند واجرام على مسافة ٤ أميال من النهر، وساهم في المعركة نُخْبَة من القواد الفرنسيين: دافو، ماسينا، ماكدونالد، مارمون، أودينو Oudinot، وقد رُقِّيَ الثلاثةُ الأخيرون إلى مارشالات فرنسا، ثم لوريستون Lauriston، ودروت Drouot، وبرتييه Berthier الذي نال لقب أمير واجرام، وتَكَبَّدَ الفرنسيون في هذه المعركة خسائر لا تقل عن خسائر أعدائهم، كما أنهم عجزوا عن الاستفادة من هذا النصر؛ لافتقارهم للفرسان من جهة، ولعدم وجود قوات احتياطيةٍ كافِيَةٍ لديهم من جهة أخرى، ولكن فرانسوا الأول (إمبراطور النمسا) الذي كان يعوزه المال والحلفاء، لم يلبث أن اضْطُرَّ إلى توقيع الهدنة في زنايم Znaim في ١١ يوليو، وبدأت من ثم المفاوَضات بين مترنخ Metternich (عن الجانب النمسوي)، وشامباني Champagnz (عن الجانب الفرنسي) في ألتنبورج Altenbourg من أجل عَقْد الصلح، وسارت المفاوضات بخُطًى وئيدة.

ولا جدال في أن فرنسوا الثاني (عاهل النمسا) قد وَجَدَ نفسه مخدوعًا من ناحية القيصر إسكندر، الذي كان يرجو فرانسوا وجوده، والذي اعتقد أنَّ بوسْعه — إذا هَبَّ لنجدته، أو تَدَخَّلَ مع «حليفه» الإمبراطور — أن يَمْنَعَ هذا الأخير من التمادي في عدائه ضد النمسا، ووجد فرانسوا نَفْسَه مخدوعًا كذلك من ناحية بروسيا التي استسلمت لسلطان نابليون، ثم مخدوعًا أخيرًا من ناحية الإنجليز الذين أَخْفَقَتْ حملتهم على جزيرة فالشيرين.

ولم يكن نابليون متفرغًا تمام التفرغ لمفاوضات الصلح مع النمسا؛ فهو يشك في ولاء فوشيه مدير البوليس الذي تولى شئون وزارة الداخلية مؤقتًا بسبب مَرَض وزيرها «أمانويل كريتيه Cretet»، وقد انتهز فوشيه فرصة نزول الحملة الإنجليزية في جزيرة فالشيرين ليدعو الحرس الوطني للاحتشاد، وكان يتولى قيادته برنادوت، ويشك نابليون في ولائه كذلك.
ثم إن فوشيه صار يشجع الحركات التي تَجْمَع بين الجمهوريين والملكيين في جهد مشترك ضد نابليون لمناوأة «الطاغية»، واتَّخَذَ نابليون من جانبه الخطوات التي رآها كفيلة بإفساد هذه المؤامرات؛ فاستبدل بالقائد برنادوت، الجنرال «بسيير» في الدفاع عن أنتورب (أنفرس)، وأخذ يجرد تدريجيًّا الحرس الوطني من الأسلحة، وتظاهر بأنه لم يَرَ في مناورات فوشيه إلا دليلًا على شدة حماس هذا الأخير في خدمته، فرفعه إلى مرتبة الدوقية (في ١٥ أغسطس ١٨٠٩)، وغدا فوشيه دوق أوترانتو Otranto، ولكنه عَيَّنَ بوزارة الداخلية في أول أكتوبر مونتاليفيه Montalivet، وكان مَوْضِعَ ثقته، أَضِفْ إلى هذا أن الإمبراطور صَادَفَ متاعب كذلك في فينَّا عندما حاول أحد الألمان «ستابس Staps» الاعتداءَ على حياته (١٢ أكتوبر).
وأخيرًا وُقِّعَتْ معاهدةُ الصلح مع النمسا في فينَّا «شونبرون Schönbrunn» في ١٤ أكتوبر ١٨٠٩، وقد أَصَرَّ نابليون على إنقاص الجيش النمسوي العامل إلى مائة وخمسين ألف مقاتل وحسب، وعلى أن تدفع النمسا تعويضًا (٨٥) مليونًا من الفرنكات، ثم فَقَدَت النمسا من أملاكها غاليسيا الشمالية التي أُعْطِيَتْ إلى غراندوقية وارسو، على أن تنال روسيا إقليم تارنبول Tarnopol الملاصق لحدودها، وقد أراد نابليون بإعطاء تارنبول لروسيا أن يقيم الدليل على أنه لا يعمل لإحياء بولندة القديمة؛ وذلك حتى يقضي على مخاوف القيصر، وكذلك فَقَدَت النمسا سالزبورج Salzbourg، وبرونو Braunau وقد أُعْطِيَتَا لملك بفاريا، وأُدْمِجَتَا تبعًا لذلك في اتحاد الراين، ثم تنازلت النمسا عن موانيها على بحر الأدرياتيك (ميناء تريسته) وعن كارينثيا وكارنيولا Carniola وجزء من كرواتيا Croatia؛ ليتألف من كل هذه الأقاليم بالإضافة إلى دلماشيا (التي سبق أن تَخَلَّتْ النمسا عنها منذ ١٨٠٥) ما صار يُعْرَف باسم المقاطعات الأليرية Provinces Illyriennes، نسبةً للإقليم الجبلي المُطِلِّ على الأدرياتيك والذي يضم كارنيولا، وكارينثيا، وتريسته.

وقد أُدْمِجَتْ هذه (المقاطعات الأليرية) في الإمبراطورية الفرنسية؛ لإحكام نظام الحصار القاري في هذا الجزء من أوروبا، ثم إن إمبراطور النمسا اعترف رسميًّا بكل الملكيات والإمارات التي أوجدها نابليون، وتَعَهَّدَ بالامتناع عن إنشاء أية صلات ودية مع إنجلترة، والقيام على تنفيذ نظام الحصار القاري بكل دقة، وهكذا أصْبَحَت النمسا بفضل هذه المعاهدة (معاهدة شونبرون) مُجَرَّدَ دولة ثانوية تخضع لسلطان نابليون وتسير في فلك الإمبراطورية الفرنسية، وبَسَطَ نابليون سَيْطَرَتَه على كل أوروبا.

ولقد بدا مع ذلك هذا السلطان مزعزعًا، ما دامت تُحَاكُ المؤامرات ضد حياة العاهل الفرنسي، وما دام السلام الداخلي — في داخل فرنسا ذاتها — قد ظل مهدَّدًا لسببٍ هامٍّ؛ هو افتقار نابليون لوريث من صُلْبِه يكفل إنشاء «بيت بونابرتي»، أي: أسرة حاكمة يَلْتَفُّ حولها الفرنسيون لصيانة نظام الحكم وضمان الاستقرار والسلام في الداخل، ومن أجل المحافَظة على صَرْح الإمبراطورية النابليونية، كي يسود السلام في الخارج.

وانعَقَدَت الآمال في أول الأمر على أن ابن شقيق نابليون — ملك هولندة، لويس — من زوجته هورتنس، ابنة جوزفين بوهارنيه، ولكن هذا الوريث المنتظر «نابليون شارل» لم يلبث أن توفي في سن الخامسة (في ٥ مايو ١٨٠٧)، واستأثرت مشكلة وراثة العرش بتفكير كل من تاليران، وفوشيه، خصوصًا أثناء حملة ١٨٠٩؛ خوفًا من أن يصيب نابليون مكروه أو تلحق الهزيمة بجيوشه ويتصدع بناء الإمبراطورية، ثم فاتَحَ كلاهما «مورا» وغيره في هذه المسألة.

وأما نابليون نفسه فكان يفكر من مدة طويلة في الطلاق من زوجه جوزفين، ولكن يمنعه من اتخاذ هذه الخطوة عاطِفَتُه القوية نحوها، من جهة؛ ولأن جوزفين قامت دائمًا بدور الإمبراطورة خيرَ قيام، وساعَدَ بَذَخُها وإسرافها في إحياء الحفلات وتنظيم الحياة في البلاط الإمبراطوري على رواج التجارة وانتعاش السوق الباريسية، التي اشْتُهِرَتْ سريعًا بإنتاج الأطرزة الراقية من أدوات ومستلزمات التجميل، والملابس وما إلى ذلك، ومع ذلك فقد اشتهرت جوزفين بالاندفاع وعدم التريث، وأَسْرَفَتْ إسرافًا عظيمًا في الإنفاق على زينتها، أو على القصور الإمبراطورية، خصوصًا في تأثيث وتجميل قصر مالميزون Malmaison، قصرها الأثير الذي تخلو فيه بأصدقائها والمقربين إليها.

ثم إن جوزفين أَجْزَلَت العطاءَ دائمًا للغير في كَرَم وسخاء؛ فبلغ ما أنفقته خلال ثماني سنوات فقط خمسة وعشرين مليونًا من الفرنكات، ثم إن الإمبراطورة كانت مَدِينَةً بمبالغَ طائلةٍ (استطاع فوشيه تأديةَ بعضِ هذه الديون سرًّا من ميزانية البوليس)، وإلى جانب هذا كله، كانت جوزفين مَوْضِعَ كراهية الأسرة البونابرتية، لا سيما بعد أن عجزت عن إنجاب وليٍّ للعهد، ووريثٍ للعرش الإمبراطوري، الأمر الذي لم يَدَعْ مجالًا في نَظَرِ هذه الأسرة للشفقة والرحمة، وقاوَمَتْ جوزفين — ما استطاعت المقاومة — فكرةَ ومشروعَ الطلاق، ولكنها ما لبثت حتى وَجَدَتْ نفسها تخضع رويدًا رويدًا لقبول هذه الفكرة، عندما تخلى «فوشيه» عن تأييدها بعد أن صار يعتقد بضرورةِ إنجابِ وريثٍ للعرش، وصار يَصِفُ الطلاق بأنه التضحية التي يجب على جوزفين أن تفتدي بها فرنسا، ثم طفق ولداها يوجين وشقيقته هورتنس يبذلان قصارى جهدهما لإقناعها بضرورة هذا الطلاق، وقد عَهِدَ الإمبراطور إلى يوجين (في ٣ نوفمبر ١٨٠٩) بأن يقنع والدته بصورة نهائية بالموافقة على الطلاق، وفي ٣٠ نوفمبر أبلغ الإمبراطور زَوْجَه بعزمه على تطليقها، وعندئذ استدعى أعضاء بيت (أسرة) بونابرت إلى باريس (ما عدا لوسيان، وكان مغضوبًا عليه لزواجٍ غيرِ متكافئ أَقْدَمَ عليه دون موافقة نابليون، وما عدا جوزيف ملك إسبانيا، وإليزا)، وفي حضور الأسرة حصل الطلاق (١٥ ديسمبر ١٨٠٩)، وفي اليوم التالي صَدَّقَ مجلس الشيوخ (السناتو) على هذا الطلاق.

وكان هذا الطلاق طلاقًا مدنيًّا، ووجب تصديق البابا عليه حتى يستوفي شرائطه الدينية، وحاول نابليون عبثًا انتزاع هذه الموافقة من البابا الذي أقام دائمًا في أَسْرِه في سافونا، وعندئذ أَصْدَرَ مجلس الشيوخ قرارًا في ١٧ فبراير ١٨١٠، بأن الدولة البابوية (حكومة روما) — وهذه كان قد سَبَقَ ضَمُّها إلى فرنسا في الظروف التي ذكرناها، منذ حوادث ١٨٠٨، ١٨٠٩ — تُؤَلِّفُ جزءًا لا يتجزأ من الإمبراطورية الفرنسية، وأن مدينة روما هي المدينة الثانية في الإمبراطورية، ويحمل ولي العهد الإمبراطوري — والذي لم يولد بعد — لَقَبَ مَلِكِ روما، ويقيم أمراء البيت الإمبراطوري، أو عظماء الدولة «بلاطًا إمبراطوريًّا في روما»، ويصير تتويج الأباطرة في كنيسة بطرس الرسول في روما بعد أن يُتَوَّجُوا أولًا في كنيسة نوتردام في باريس، وذلك قبل مُضِيِّ السنة العاشرة من حُكْمِهم.

ولتأكيد استقلال العرش الإمبراطوري نَصَّ القرار على أن كل سلطة أجنبية عاجزة تمامًا عن ممارسة شيء من السلطات الروحية في داخل الإمبراطورية، وأن الواجب يقتضي البابوات حلف اليمين على عدم المساس في شيء بالقرارات التي اتخذها مجمع القساوسة في سنة ١٦٨٢، والتي قامت عليها الكنيسة الجليكانية (الفرنسية الأهلية)، والتي تقوم عليها كذلك كل الكنائس الكاثوليكية في أنحاء الإمبراطورية، وجاء في قرار ١٧ فبراير ١٨١٠ أن البابا «بيوس السابع» حُرٌّ في اختيار مكان إقامته، ولكن من الأفضل أن يكون ذلك إما في روما وإما في باريس، وأن تُخَصَّصَ له إيرادات، مليونان من الفرنكات، وأن تَتَحَمَّل الميزانية الإمبراطورية نفقات جميع الكرادلة في روما، ومنظمة الرسالات الكاثوليكية التبشيرية.

وفي أثناء ذلك كان الإمبراطور ينظر في اختيار زوجة جديدة له، وكَلَّفَ «كولينكور» أن يَجُسَّ نَبْض القيصر في زواج الإمبراطور من أميرة روسية (من أسرة القيصر)، وكان وزراء القيصر: روميانتزوف Roumiantzov، وسبيرانسكي Speranski — وهما اللذان يؤيدان التقرب من فرنسا — قد عقدا آمالًا كبيرة على عَقْدِ مصاهرة بين الأسرتين في بطرسبرج وباريس؛ من أجل استمرار اتجاه السياسة الروسية نحو التحالف مع فرنسا، ولكن مشروع نابليون سرعان ما اصطدم بصخرة عنيفة، هي مقاوَمة والدة القيصر إسكندر «صوفيا دورثيا Sophia Dorothea» الألمانية (أميرة ورتمبرج) وأرملة القيصر بول الأول المقتول في سنة ١٨٠١، وكانت هذه تَكْرَهُ كراهيةً شديدةً كُلَّ شيء يَمُتُّ بصلةٍ لفرنسا، وتَكْرَه ثورتها والرجلَ (أي نابليون) الذي جاءت به هذه الثورة وجنى ثمارها، وكان بسبب هذه الكراهية أن بادَرَ إسكندر بمجرد أن شعر باتجاهات نابليون بعد «إرفورت» بتزويج شقيقته كاترين — وتبلغ الثانية والعشرين — من الأمير جورج غراندوق أولدنبرج Oldenburg، ولكن كان لدى القيصر شقيقة أخرى تصغرها «سنها خمس عشرة سنة» هي الغرندوقة آن Anne، وهي التي تقدم نابليون — الآن — (يناير ١٨١٠) يطلب يدها.

وعلى ذلك فقد انتحل القيصر شتى الأعذار للتخلص من المصاهرة، تارة بدعوة أن القيصرة الأم متغيبة في رحلة بعيدة عن العاصمة ويجب انتظار عودتها، وتارة بالقول إن الغراندوقة الصغيرة لا ترغب في استبدال عقيدة أخرى بعقيدتها الأرثوذكسية، مما قد يعرضها لكراهية الشعب الفرنسي، أو على أحسن الفروض لانعدام الميل نحوها، وفوق هذا وذاك هناك الخوف الكامن دائمًا من محاولة نابليون بعث الدولة البولندية القديمة إلى الوجود، وتهديد كيان روسيا، وضرورة الحصول على ضمانات أوفى لتأمين روسيا من هذه الناحية.

وهكذا تعَدَّدَ إرسال الرسل بين باريس وسان بطرسبرج دون الوصول إلى نتيجة، وأَدْرَكَ نابليون في آخر الأمر أن طَلَبَهُ الزواج من أميرة روسية لا يلقى قبولًا، وعندئذ اتجه صوْب النمسا.

ولم يكن نابليون في قرارة نفسه راضيًا عن الزواج من أميرة نمسوية، وهو الذي اشتبك مع النمسا في حروب دموية، وأَوْقَعَ بجيوشها الهزائم البالغة مرة بعد أخرى، والتي يحقد عليها حقدًا شديدًا، وأما النمسا فقد نَظَرَ عاهلها «فرنسوا الأول» — كذلك هو فرنسوا الثاني بوصفه إمبراطورًا للإمبراطورية الألمانية — لمشروع المصاهرة مع الإمبراطور الفرنسي كخطوة يستطيع بها إنقاذ مملكته المهدَّدة بالفناء السريع أمام الجيوش النابليونية، وعَقَدَ وزيرها «مترنخ» الآمال الكبار على هذه المصاهرة من حيث استطاعته التفريق بين نابليون والقيصر إسكندر، وانتزاع نابليون من المحالفة مع روسيا، وجَذْبه بدلًا من ذلك إلى المحالفة مع النمسا؛ حتى يَحْفَظَ للنمسا بقاءها، ما دام صاحب السلطان في أوروبا، حتى إذا أَفَلَ نَجْمه وتبين أن صرح الإمبراطورية الفرنسية قد بدأ ينهار، انقلبت النمسا ضده، لتُسَدِّد إليه الضربة الغادرة، ومن حيث لا يتوقع نابليون أن تُسَدَّدَ إليه منها؛ لتقوض عروض هذه الإمبراطورية المنهارة.

وكان مترنخ هو الذي أشعر المسئولين الفرنسيين منذ ٢٩ نوفمبر ١٨٠٩ (في فينَّا) أن الأرشيدوقة ماري لويز ابنة فرنسوا الأول (منذ ١٨٠٤ بوصفه إمبراطورًا للنمسا) وتبلغ الثامنة عشرة لن يَرْفُض أحد تزويجها من العاهل الفرنسي إذا تَقَدَّم يطلب يدها، وجَرَتْ مباحثات في هذا الشأن في باريس، وأخيرًا جمع نابليون في باريس في ٢٩ يناير ١٨١٠ مجلسًا كبيرًا للتشاور، حضره كبار رجال الإمبراطورية وعددٌ من الوزراء، فكان كمباسيرس ومورا في صف المصاهرة الروسية، وفَضَّلَ يوجين بوهارنيه، وشامباني، وتاليران الزواج النمسوي، وكان نابليون نفسه يُؤْثِر زواجًا روسيًّا على كل ما عداه، ولكنه لم يلبث أن وافق على المصاهرة النمسوية؛ اعتقادًا منه بأن الزواج من إحدى حفيدات شارل الخامس ولويس الرابع عشر كفيل بأن يَحْفَظَ ثمرة انتصاراته، وأن فيه ضمانًا لضبط ألوية السلام العام.

وإلى جانب هذا كله فإن المصاهرة مع أقدم البيوت الحاكمة العريقة في أوروبا (أسرة الهابسبرج) لا بد أن يُضْفِيَ على بيت بونابرت الذي تأسس على أنقاض أسرة مالكة عريقة أخرى (أسرة البربون) صفةَ الشرعية التي تَرْفَع هذا البيت البونابرتي «المغتصِب» إلى مصافِّ البيوت المالكة في أوروبا، واعتقد نابليون أن الظفر بهذا الاعتراف بمشروعية البيت البونابرتي عن طريق المصاهرة مع أحد البيوت العريقة الحاكمة، سواء في ألمانيا (الهابسبرج)، أو في روسيا (رومانوف)، عَمَلٌ لا يقل في خطورة أَثَرِهِ عن إنجاب وريث للعرش من أجل المحافَظة على الإمبراطورية، وما ينطوي عليه ذلك من دعم السيطرة النابليونية في كل أنحاء أوروبا.

وعلى ذلك فإنه بمجرد أن وَصَلَتْه الأنباء الأخيرة من روسيا (٥ فبراير سنة ١٨١٠)، وانعدم كل أَمَلٍ في مصاهرة بيت رومانوف الروسي، كلف نابليون البرنس يوجين بوهارنيه أن يطلب من السفير النمسوي «شوارزنبرج» يد الأرشيدوقة ماري لويز، وفي ٢٣ فبراير جاءت الموافقة، وفي ٢ مارس وصل «برثييه» إلى فينَّا لعقد صك الزواج (٩–١١ مارس).

وغادرت ماري لويز فينَّا يوم ١٢ مارس في طريقها إلى باريس، وعند كورسيل Courcelles بالقرب من سواسون استقبل نابليون زَوْجَه ليسير بها إلى باريس، وفي أول أبريل صار الاحتفال بالزواج المدني «في سان كلو» ليَعْقُبه الاحتفال بالزواج الديني في قصر اللوفر في اليوم التالي.

وقام بالعقد الكردينال فيش، وامتنع عن حضور هذا الزواج عدد من كبار رجال الدين والكرادلة (١٣)، الذين اعْتَبَرُوا طلاقَ الإمبراطور من زوجته السابقة جوزفين غيرَ قانونيٍّ، وقد تَعَرَّضَ هؤلاء للنفي في الأقاليم «بسبب عصيانهم» مع مصادَرة أموالهم، ومَنْعهم من ارتداء أردية الكرادلة الحمراء.

ولم يلبث الإمبراطور أن غادر باريس يوم ٢٠ أبريل ١٨١٠ قاصدًا إلى البلجيك، واصطحب معه في هذه الرحلة زَوْجَه الجديدة لقضاء «شهر العسل»، ومن المعروف أن بلجيكا كانت من أملاك النمسا حتى انتزعتها فرنسا منها «أيام الثورة» سنة ١٧٩٢، وبقي عديدون من أهل بلجيكا يُكِنُّون الولاء للبيت النمسوي، إلا أن نابليون كان له غرض آخر إلى جانب قضاء شهر العسل في هذه البلاد الصديقة لزوجه، ذلك أنه كان يريد مراقَبة تنفيذ الحصار القاري في حدود إمبراطوريته المواجهة لإنجلترة التي لم يَفْتُر عداؤها له، ثم في حدود إمبراطوريته المتاخمة لهولندة وقد أصبحت هذه مركزًا نشيطًا للتهريب إلى إنجلترة ومنها، ويؤمها المصرفيون الذين يحاولون بمناوراتهم المالية إلحاق الأذى بالاقتصاد الفرنسي، وقد اختلطت بهذا كله المؤامرات المنبعثة عن الأطماع الشخصية لدرجة أنَّ أُفُقَ السياسة في أوروبا سرعان ما صار متلبدًا بالغيوم، ولعل السبب الرئيسي في ذلك كان إصرار نابليون على تنفيذ نظام الحصار القاري بكل صرامة.

وكان غرض نابليون من التشبث بتنفيذ الحصار القاري، التضييقَ على إنجلترة؛ حتى يُرْغِمها على التسليم وطلب الصلح، على أساس الاعتراف بإمبراطوريته، والخضوع لسلطانه الممتد على أوروبا، ولقد شعرت إنجلترة بالضيق ومرَّت بأزمة اقتصادية شديدة بسبب هذا الحصار القاري، ولكن الذي لا شك فيه كذلك أن أوروبا ذاتها شعرت بمثل هذا الضيق، وصارت هي الأخرى تمر بأزمة اقتصادية شديدة بسبب سياسة الحصار القاري، وكانت هولندة في طليعة الدول التي شَكَتْ من الأزمة بسبب حرمانها من حرية الملاحة والتجارة التي اعتمدت عليها حياتها الاقتصادية، ولم يتردد ملكها لويس بونابرت في إبلاغ الإمبراطور حقيقةَ الحالة، ورَفْض الحلول التي أشار بها نابليون لمعالجة هذه الأزمة، وكانت تدور حول خَفْض قيمة الفوائد وأقساط الديون التي تدفعها الحكومة الهولندية، وحَرص الملك لويس على الاقتصاد في نفقات الحكومة، وأغمض عينيه عن تجارة التهريب التي استطاع الشعب الهولندي بفضلها وحدها العيشَ وقتئذ، ثم قام بمحاولته في سبيل السلام مع إنجلترة، وكان وسيطاه في هذه المحاولة لابوشير Labouchère المصرفي الهولندي، وبارنج Baring المصرفي الإنجليزي.
وعندئذ ضاق نابليون بأخيه ذرعًا، ولم يلبث أن استدعاه إلى باريس في نوفمبر ١٨٠٩، وأَلْزَمَه بقبول موظفين فرنسيين لمراقبة الجمارك، وملاحظة الشواطئ الهولندية، ثم عَقَدَ معه بعد قليلٍ معاهدةً في ١٦ مارس ١٨١٠، انتزع بمقتضاها كل الضفة اليسرى لنهر الفال Vaal، وعَدَّ الملكُ لويس هذه الإجراءاتِ إهانةً له، وصَمَّمَ على الاستقالة، وقد نَصَحَهُ مستشاروه بالبقاء على عرشه (١٧ أبريل ١٨١٠).
على أن اقتطاع هذا الجزء الجديد من هولندة، لضمه إلى فرنسا من أجل تضييق الحصار القاري من هذه الناحية على إنجلترة، كان من أَثَرِهِ أن زادت صلابة الإنجليز وإصرارهم على المضي في النضال ضد العاهل الفرنسي، وقام مصرفي آخر «أوفرارد Ouvrard» — وهو فرنسي صديق لفوشيه، ويُولِيه الملك لويس حمايته — بنفس المحاوَلة التي قام بها من قبل كلٌّ من لابوشير وبارنج، واعْتَقَدَ أن في قُدْرَتِهِ أن يَعِدَ الإنجليز بالتخلي عن البلاد الواقعة خارج حدود فرنسا الطبيعية، ثمنًا لعقد الصلح معهم، ولكن الإمبراطور بمجرد أن عَلِمَ بالمؤامرة، عَزَلَ فوشيه من وزارة البوليس ليعهد بها إلى سافاري دوق دي روفيجو Rovigo، وذهب فوشيه «للمنفى» في تسكانيا، لينتقل منها (في ٢٧ أغسطس ١٨١٠) إلى أملاكه في أيكس Aix، ليَرْقُب من هناك تَطَوُّر الحوادث، ومؤامرات اليعاقبة أو الملكيين ضد الإمبراطورية، ثم إن نابليون لم يلبث أن تشاجر مع أخيه، وفي أول يوليو ١٨١٠ تنازَلَ لويس عن عَرْش هولندة، ليَخْلُفه وَلَدُه، وذهب إلى بوهيميا.

وفي ٩ يوليو استصدر الإمبراطور قرارًا بضم هولندة إلى الإمبراطورية، وفي ١٣ ديسمبر صَدَرَ قرارٌ من مجلس الشيوخ بتقسيم هولندة إلى مقاطَعات «فرنسية» تحت إدارة «لوبران»، وتنظيم الجمارك بها بصورة تربطها بنظام الجمارك الفرنسية، وخفْض قيمة الدين العام إلى الثلث.

وهكذا استطاع نابليون إنشاء رقابة فعَّالة على الشواطئ، ولكن إنجلترة — بفضل أسطولها الكبير — بَقِيَتْ محْتَفِظَة بالسيادة في البحار؛ فلم تنقطع علاقاتها التجارية مع مستعمراتها، ومع المستعمرات الفرنسية ذاتها، ونشطت لإنشاء هذه العلاقات مع البلاد التي ثارت في أمريكا لتظفر باستقلالها، مثل المكسيك، وكولمبيا (أبريل ١٨١٠)، كما صارت جزر هيلجولند في بحر الشمال، وصقلية، ومالطة في البحر المتوسط مراكز هامة للتهريب، ومخازن ومستودعات للبضائع، تصدر بها «التراخيص» لسفن الدول المحايدة لتمنع عنها التفتيش والمصادَرة.

وقد بَلَغَ عَدَدُ ما صدر من هذه التراخيص ٢٦٠٠ في سنة ١٨٠٧ و١٨٠٠٠ في سنة ١٨١٠، ولم يكن في وسْع نابليون إلا أن يبذل قصارى جهده لمسايرة هذا النظام (نظام التهريب) الذي هَدَّدَ بتحطيم مراسيم برلين وميلان لفرض الحصار القاري على إنجلترة، فأجاز في ١٢ يناير ١٨١٠ للقراصنة ولصوص البحر أن يعرضوا البضائع والمتاجر التي في حوزتهم للبيع في نظير أن تُحَصِّل الحكومة ضريبة بنسبة تتراوح بين ٤٠٪ و٥٠٪ من قيمتها، كما سَمَحَ هؤلاء بتصدير بضائعهم ومتاجرهم بعد دفع ضريبة بنفس النسبة، ثم لم يلبث أن صَدَرَ قرار آخر في ٥ أغسطس ١٨١٠ لزيادة نسبة الضريبة المُحَصَّلة على المحصولات والمنتجات الآتية من المستعمرات، سواء أكانت هذه إنجليزية أم فرنسية أم غير ذلك، فارتفعت الضريبة من ١٠٪ إلى ٥٠٪، وصدرت قرارات في ١٨ و١٩ أكتوبر ١٨١٠ بإنشاء محاكم جمركية، وفيما عدا المنتجات القطنية التي ظَلَّتْ تجارتها ممنوعة، صار نابليون نفسه — بفضل هذه الأنظمة «الجمركية» التي ابتدعها لمواجَهة النشاط الذي حاوَلَ به أصحابه اختراق الحصار القاري — «مهرِّبًا» هو الآخر، يسعى للاستفادة من حركة التهريب الواسعة هذه؛ ليملأ خزائنَه بالمال بدلًا من أن يستولي المهربون والقراصنة على أرباح هذه التجارة «السرية».

ولم يكن التهريبُ الوسيلةَ الوحيدة التي لجأت إليها إنجلترة في نضالها ضد الحصار القاري؛ فإنه سرعان ما تألف في شمال أوروبا حلف لصالح التجارة البريطانية، كان أهم أعضائه السويد، وإمارة أولدنبرج Oldenburg، وكانت السويد — لانحيازها الشديد للسياسة الإنجليزية — قد طَرَدَتْ مَلِكَهَا جوستاف «الرابع» أدولف منذ ١٣ مارس ١٨٠٩؛ لأنها عَدَّتْه مسئولًا عن خسارة بوميرانيا السويدية، التي فشل في محاولة استرجاعها سنة ١٨٠٧، وفنلندة «التي غزتها روسيا منذ مارس ١٨٠٨ واستولت عليها من السويد».
وكان الملك شارل الثالث عشر الذي خلفه على العرش لا وارث له؛ فقررت السويد في سنة ١٨١٠ اختيار أحد قواد نابليون لوراثة العرش على أمل أن تقربها هذه الخطوة من فرنسا ومن إمبراطورها المظفر، والذي يرمز إلى كل المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية، وانتظرت السويد أن ترفعها هذه العلاقة الجديدة إلى مصاف الدول الكبيرة وتزيل عنها آثار إهانة الهزائم السابقة، ووَقَعَ اختيارُها على المارشال برنادوت الذي كان من أصهار البيت الإمبراطوري لزواجه من ديزريه كليري Dèsirée Clary١ شقيقة زوجة جوزيف بونابرت «جوليا كليري»، فتم انتخاب برنادوت وليًّا للعهد ووارثًا لعرش السويد في ٢١ أغسطس ١٨١٠، فاتخذ اسم شارل جان «وصار الملك شارل الرابع عشر في سنة ١٨١٨»، ودَخَلَ ستوكهلم العاصمة في بداية نوفمبر.

وقد اعتمد نابليون على وجود برنادوت في السويد لتشديد الحصار القاري على إنجلترة من هذه الناحية وإغلاق السويد في وَجْه المتاجر الإنجليزية، ولكن وَلِيَّ العهد الجديد لم يشأ أن يكون أداةً يحركها الإمبراطور، ولم يكن يؤمن بسياسة الحصار القاري، وكان يريد ضم النرويج إلى السويد والاستيلاء عليها من الدنمارك، التي كانت متحالفة مع نابليون، وأَدْرَكَ برنادوت أن بوسعه الاستفادة من العلاقات المتقلبة بين فرنسا وروسيا لتحقيق برنامجه، وعلى ذلك فإنه لم يلبث أن أَعْلَنَ أنه يضع نفسه بملء الثقة في كنف القيصر إسكندر وتحت حمايته، ومن ذلك الحين صار بحر البلطيق مفتوحًا للسفن الإنجليزية، وفي أكتوبر ١٨١٠ استطاع الإنجليز تفريغ حمولة ستمائة سفينة على الشاطئ البروسي.

ولكنَّ «تهريبًا» على هذا النطاق الواسع لم يكن نابليون ليَغْفُل عنه، أو يرضى باستمراره دون اتخاذ إجراءٍ مضادٍّ؛ ولذلك ما لبث الإمبراطور حتى قَرَّرَ الاستيلاء على الساحل الألماني بطوله، وكان الإمبراطور منذ ١٤ يناير ١٨١٠ قد تنازَل لأخيه جيروم ملك وسْتفاليا عن كل «حقوق» له على هانوفر، أي على الإقليم الواقع عند مدخل بحر الشمال.

وفي ١٣ ديسمبر من السنة نفسها — وبالرغم من احتجاجات جيروم — عمد الإمبراطور إذن إلى تمزيق قرار ١٤ يناير، وأَمَرَ بضم كل مدن الهانسا إلى الإمبراطورية الفرنسية، ومدن الهانسا Hansa هي همبرج، برمن، لوبك Lübeck، كما ضم كل الأراضي الواقعة بين مصبات نهري إمز Ems، والوزر Weser، والإلب Elbe، فامْتَدَّ بذلك سلطان الإمبراطورية إلى بحر البلطيق، وعهد الإمبراطور بإدارة هذه الأقاليم إلى القائد دافو Davout الذي اتخذ مَقَرَّهُ في همبرج ليُشْرِف منها على حركة «التهريب» في ألمانيا الشمالية، ولتقديم المهرِّبين الذين يقبض عليهم للمحاكَمة أمام «محاكم تجارية» لا استئناف لأحكامها.

وشملت هذه الأراضي الممتدة على طول الساحل الألماني الشمالي التي ضَمَّها نابليون لإمبراطوريته إمارةً صغيرة هي إمارة أولدنبرج، كان من الصعب — بالرغم من صغرها — ابتلاعُها وإدماجُها في الإمبراطورية؛ لأن حاكمها الأمير جورج كان زوجًا — كما عرفنا — للغراندوقة كاترين شقيقة القيصر، وقد عَرَضَ عليه نابليون تعويضًا له؛ إرفورت والأراضي المجاورة لها، ولكن أمير أولدنبرج رَفَضَ هذا العرض، فاقترح القيصر إسكندر تنصيبه على عرش بولندة، ولكن القيصر عمد في آخر ديسمبر ١٨١٠ إلى فتح المواني الروسية لدخول السفن الأمريكية، دون أن يتحقق ما إذا كانت هذه السفن قد وَقَفَتْ في موانئ إنجليزية أم لا، ثم إنه عمد إلى جانب هذا — بدعوى أنه إجراء مالي وحسب — إلى مَنْع استيراد كل المصنوعات الفرنسية، وعندئذ لم يَرَ نابليون بدًّا من الإجابة على ذلك باتخاذ قرار في ١٨ فبراير ١٨١١، يجعل نهائيًّا الاستيلاء على الأراضي التي ضَمَّهَا قرار ١٣ ديسمبر من العام السابق إلى الإمبراطورية الفرنسية بما في ذلك إمارة أولدنبرج.

ولقد كان مِنْ أَثَر تصميمه على تنفيذ سياسة الحصار القاري، أن عناية الإمبراطور شَمِلَت ملاحظة حدود إمبراطوريته الداخلية (أو البرية)، كما شَمِلَتْ حدودها الخارجية (أو البحرية)؛ ليمنع تهريب البضائع أو المنتَجات الإنجليزية عبْر سويسرة إلى إيطاليا — وكانت هذه السوقَ الرئيسي للمنتجات الفرنسية من الأقمشة والمنسوجات خصوصًا — فاحتل الإمبراطور «تيسن Tessin» عند ممر سمبلون، وإقليم فاليه Valais (جنوب الجمهورية الهيلفيتية أو السويسرية) في ١٢ فبراير ١٨١٠، وكان إخضاعُ إسبانيا المشكلةَ التي استغرقت جانبًا كبيرًا من نشاطه.
فهو لتنفيذ سياسة الحصار القاري — كذلك — قد عهد منذ ٨ فبراير ١٨١٠ بالحكم في الأقاليم الواقعة في إسبانيا على الشاطئ الأيسر لنهر الإبرو Ebro (وهي: كتالونيا، وأرغونة، ونافار، وبسكاي) إلى قواد عسكريين، فاسْتُقْطِعَتْ كل هذه الأقاليم من حكومة أخيه جوزيف بونابرت في مدريد، وأغضب جوزيفَ أن يرى كل هذه الأقاليم أُخِذَتْ منه ليصبح هو — على حد قوله — «مجرد حارس لمستشفيات مدريد»، واستمر يشكو مُرَّ الشكوى إلى باريس ولكن دون جدوى، وقاوَمَ الوطنيون الإسبان مقاوَمة عنيفة، وقد ظلت قادش مَقَرَّ حكومتهم الأهلية، وحاول «سولت» مرات عديدة تضييق الحصار عليها دون نتيجة، ومع ذلك فقد استطاع المارشال «ماسينا» الاستيلاء — بعد معركة حامية — على سويداد رودريجو Cuidad Rodrigo في ١٠ يوليو ١٨١٠، ثم لم يلبث أن سَقَطَتْ في يده «ألميدا Almeida»، وكانت من أقوى الحصون في البرتغال، واضطر «ولزلي» بقواته البريطانية البرتغالية لاتخاذ موْقِعٍ للدفاع عن العاصمة «لشبونة» عند «توريس فدراس Torres Vedras» التي حُصِّنَتْ تحصينًا قويًّا لهذه الغاية، وطارد الفرنسيون جَيْشَ ولزلي (دوق ولنجتون)، ولكنهم انهزموا عند بوساكو Busaco في ٢٧ سبتمبر، واستطاع «ولنجتون» السَّيْرَ صوب لشبونة حتى بلغ مرتفعات توريس فدراس، واتخذ مواقعه بها (٩ أكتوبر ١٨١٠)، وبعد أن أخفق ماسينا في مهاجَمة خطوط توريس فدراس، اتَّخَذَ هو الآخر مواقِعَه على نهر التاغوس عند سانتارم Santarem في انتظار وصول النجدات إليه، حتى إذا استطالت إقامته بها دون أي أمل في زحزحة الإنجليز عن موقعهم في توريس فدراس، بينما نقصت لديه المؤن وصار جيشه يعاني مشقات شديدة — قرر ماسينا الانسحاب إلى إسبانيا، وفي ٥ مارس ١٨١١ غادَرَ مع جيشه سانتارم، وكان من أسباب انسحاب ماسينا — ولا شك — ما وَقَعَ من انقسامات بينه وبين قواده، خصوصًا «ناي» و«جونو» اللذين ساءهما أن يتولى القيادة العليا عليهما «ماسينا».
وفي ميادين إسبانيا الأخرى كان النصر حليفَ القائد «سوشيه» وحده، وذلك في كتالونيا، (حيث أخضع تاراجونا Tarragona في ٢٨ يونيو ١٨١١، بعد أن حاصر الثوار بها)، وفي فالنسيا حيث نجح في إقامة حكومة مستقرة بها.

وسياسة الحصار القاري نفسها هي التي جَعَلَت نابليون يفكر أثناء ذلك كله (مارس ١٨١١) في مَنْح الأمريكيين بعض التسهيلات التجارية؛ لتشجيعهم على إعلان الحرب ضد إنجلترة التي كانت من جانبها تعمل لتنفيذ الحصار البحري على فرنسا بكل شدة، حتى إنها صارت تقبض على السفن التجارية الأمريكية لتقوية بحريتها، وتجبر الملاحين الأمريكان على الخدمة في سُفُنها، إلى غير ذلك من الأعمال التي أَنْذَرَتْ بقيام الحرب — لو استمر الحال على ذلك طويلًا — بين الأمريكان والإنجليز، «وقد أعلن الأمريكان الحربَ فعلًا على هؤلاء في يونيو ١٨١٢»، بل إن نابليون مِنْ أجل استمالة الأمريكان (الولايات المتحدة) إلى جانبه، وتشجيعها على قَطْع علاقاتها بإنجلترة، صار يفكر في وَقْف قرارات الحصار القاري بالنسبة لهم؛ حتى يشعروا — كما قال — بثقل وطأة الطغيان الإنجليزي الذي لا يحتمله أحد.

وفي ربيع ١٨١١ والإمبراطورية قد اتَّسَعَتْ رُقْعَتُها كلَّ هذا الاتساع الذي وإن جعل ممكنًا بَسْط السيطرة النابليونية على أوروبا، كان ينطوي على عوامل الضعف التي هَدَّدَتْ بانهيار هذه الإمبراطورية عاجلًا أو آجلًا، وفي الوقت الذي كانت تجري فيه كل هذه الحوادث، وتُوَاجِه الإمبراطور المشكلات في إيبريا، وهولندة، وإيطاليا، وسويسرة، والسويد، وروسيا، والنمسا، وألمانيا بسبب الحصار القاري، وإصرار الإمبراطور على إحكام تنفيذ نظامه ضد إنجلترة لإرغامها على الخضوع لسلطانه، أَنْجَبَ نابليون في ٢٠ مارس ١٨١١ ابنًا، كان مجلس الشيوخ قد أَصْدَر قرارًا قبل ميلاده، بل وقَبْل زواج الإمبراطور، بإعطاء لقب ملك روما لولي عهد الإمبراطورية (١٧ فبراير ١٨١٠)، وكان الأباطرة الرومانيون يمنحون اللقب لوريث العرش، فأحيا نابليون هذا التقليد، وبدا الآن بمولد ملك روما أنَّ مستقبل البيت البونابرتي — في حكم الإمبراطورية النابليونية التي خَلَفَتْ الإمبراطوريةَ الرومانية المقدسةَ القديمة — قد بات مضمونًا.

فالإمبراطورية في ربيع ١٨١١ تتألف من ١٣٠ مديرية (أو إقليم)، وتمتد حدودها من الدنمارك إلى نهر الأبرو (في إسبانيا)، ومن هولندة إلى دلماشيا، وفي وسع نابليون — بكل جدارة — أن يرى نَفْسَه مساويًا لشارلمان، وفي مشروعاته العظيمة هذه ارْتَفَعَتْ باريس حتى صارت عاصمة العالم الغربي قاطبةً؛ يؤمها الناس من كل أنحاء أوروبا، وتزدان متاحِفُها بالتحف الفنية المجلوبة لها من كل البلدان، وباريس المدينة الأولى في الإمبراطورية التي صار بها كذلك مَقَرُّ البابا رئيس الكنيسة الأعلى، ولو أن مرتبته لم تَعُدْ تعلو — في هذا النظام الجديد — مرتبةَ مُجَرَّدِ كاهنٍ مُلْحَقٍ بخدمة الإمبراطور في شئون العبادة.

وازدحم بلاط الإمبراطورية في باريس بالأتباع من رجال الحاشية والوزراء وكبار الموظفين الذين انْحَنَوْا بخنوعٍ أمامَ نابليون «العظيم»، واختار الإمبراطور كبار موظفيه من بين النبلاء القدامى في العهد القديم، وكان لا مندوحةَ عن أن يضم البلاط الإمبراطوري هؤلاء النبلاء «الأصليين»؛ لإعطاء المظهر الأرستقراطي اللازم لحاشيةٍ أكثرها من أفراد العامة — أي الطبقة الوسطى الذين قامت «الثورة» على أكتافهم ووصلوا إلى مراكز الصدارة — ولقد كان في رأي كثيرين من المعاصرين أن البلاد لم تشهد عهدًا من الهدوء والسكينة — مفعمًا بالسعادة — كعهد الإمبراطورية وقتئذ، من أيام القنصلية، وشهد آخرون بأن الأرستقراطية الفرنسية — حتى في أزهى عصور الملكية — لم يبلغ ثراؤها مَبْلَغَ ما وَصَلَ إليه الآن، ولم تلمع أضواؤها بالدرجة التي بَهَرَت الأبصار في هذه الفترة من حياة الإمبراطورية النابليونية.

ومع ذلك فلم يكن هذا المجد الظاهري ينطوي على رخاء حقيقي، بسبب ازدياد البطالة والتعطل عن العمل المستمر، ولعجز الزراعة عن سد حاجة السكان، ولرداءة محصول سنة ١٨١١ على وجْه الخصوص، حتى نَزَلَ الضيق بالشعب وكَثُرَ تذمره، ومن ناحية أخرى كان مثل هذا التناقض ملاحَظًا في شئون البلاد التي خَضَعَتْ لسلطان الإمبراطورية؛ فالأقاليم التي لَقِيَتْ من نابليون عناية شخصية مثل جزء الأيونيان، وإيطاليا، واتحاد الراين، وفي كل مكان دَخَلَهُ نابليون بجيوشه، وصار ينشر فيه الآراء التي جاءت بها الثورة الفرنسية، نَشَطَ الأهلون في نهضة قومية جديدة يبغون إحياء أَمْجَادِهِم الماضية، وأما فيما عدا ذلك فقد صار الجميع يثنون من صرامة الديكتاتورية النابليونية، وشدة الطغيان الذي أرهقهم.

ووصف الكونت بالبو Balbo، من كبار الإداريين الطليان الذين استخدمهم نابليون في إيطاليا، وقد أحرز بالبو فيما بَعْدُ شهرةً كبيرةً كمؤرخ وكاتب، نقول: إنه وَصَفَ ظاهرة هذا التناقض في إيطاليا — وليس هذا الوصف مقصورًا على إيطاليا وحدها — في مُجْتَمَعٍ يخضع لعسف وطغيان السيطرة الأجنبية المفروضة عليه بحكم الغزو، ثم يشعر في الوقت نفسه بأنه مغمور بموجة من الرخاء، فيزدهر إنتاجُهُ ولا يَحُول الخضوع لسلطان الأجنبي دون إحساسه بالعزة، وتطلعه إلى بلوغ ذروة المجد الذي يسير في طريقه بخطًى ثابتة.

فقال بالبو ما معناه: «إن كل العهود التي خَضَعَتْ فيها إيطاليا للسلطان الأجنبي لم يعدل أَحَدُها مَبْلَغَ الرخاء والخصب والنفع والعظمة مثل ما بلغه عهد السيطرة النابليونية؛ فلم يَشْعُرْ أي إنسان بأن إهانةً ما قد لَحِقَتْه من جراء خدمة رجل ذي شهرة عالية ونشاط عظيم، كان نِصْف أوروبا يقوم على خدمته، وهو فوق ذلك إن لم يكن إيطاليًّا بحكم المولد، فهو بالأقل إيطالي بحكم أرومته، ويتسمى باسْمٍ إيطالي، حقيقةً حُرِمَ الطليان الاستقلالَ الحقيقي، ولكنهم عُوِّضُوا عن ذلك أن الأمل صار يملأ صدورهم في تحقيق أمانيهم في المستقبل القريب، وهم قد حُرِمُوا كذلك الحرية السياسية ولكنهم عُوِّضُوا عنها بمظاهر هذه الحرية السياسية، ثم سادت المساواة في الحقوق المدنية، وتلك في اعتبار كثيرين كانت تعويضًا عن الطغيان الذي اسْتَبَدَّ بهم، وإذا لم تكن هناك حرية في الكتابة والتعبير عن الرأي، فقد اختفى من جهةٍ أخرى شعورُ الحسد والحقد ضد المعرفة بكل أنواعها، واحتقار رجال العلم والقلم، وإذا كانت التجارة قد فَقَدَتْ نشاطها، فقد احْتَفَظَتْ بنشاطها الصناعةُ والزراعة وحرفة الجندية.

وفي عهد السيطرة النابليونية احترف مهنة الجندية أولًا أهل بيدمنت، وتَبِعَهُم الأهلون في لمبارديا، ثم رومانا، وأخيرًا أهل تسكانيا، ثم روما، ثم نابولي، فصار احترافُ الجندية الحياةَ التي اختارها الطليان؛ ليصبحوا إخوانًا في السلاح لأولئك الجند الذين هَزَمُوا أوروبا وأخضعوها، ولينالوا من هؤلاء كل مديح أثناء الخدمة في الجيوش الفرنسية، وبالجملة فإن السيطرة التي فَرَضَت الخضوع على إيطاليا لحكم نابليون قد جعلت الطليان يشاركون سادَتَهُم الاستمتاع بالحياة المفعمة بالنشاط والمباهج، ويشعرون بالكبرياء والعظمة التي يسعد بها هؤلاء السادة، ولم يَعُدْ هناك مكانٌ لشعور الضيق والكبت والإرهاق والعنت الذي كان يسود بينهم في الماضي، ولقد كان وقتئذ أن بدأ الأهلون ينطقون باسم إيطاليا في محبة وإعزاز، وإن أَخَذَتْ تختفي النزاعات والأحقاد والمنافسات الإقليمية المحلية، فإذا كانت نهاية القرن «الثامن عشر» تستأهل البداية الطيبة لهذا التحول، فإن هذا العهد — عهد السيطرة النابليونية — سوف يكون فاتحةَ عهدٍ جديد في مقدرات (أو مستقبل) إيطاليا.»

ولقد كان بسبب هذا التناقض نفسه بين لمعان المجد الظاهر، وما كان يُخَيِّم على الحياة الداخلية من مشكلات سياسية وأزمات اقتصادية في أنحاء الإمبراطورية النابليونية، كان من المتعذر في ٢٠ مارس ١٨١١ يوم مولد «ملك روما» أن يقطع أحدٌ برأي فيما إذا كانت الإمبراطورية آنئذ قد أشرفت على الموت والفناء، أو أن في وسع هذه الإمبراطورية «العظيمة» أن تبقى على الزمن، وأن المستقبل قد صار لها وحدها.

ولكن الأزمات الاقتصادية والمالية التي مرَّتْ بها الإمبراطورية وقتئذ كانت مشكلات مادية، قد يسهل اتخاذ الإجراءات الملائمة، والنشيطة لمحاوَلة التغلب عليها، ومع ذلك فقد كانت هناك مشكلات أدبية ودينية، أي روحية تأثَّرَ بها الرأي العام في أنحاء الإمبراطورية، لم تكن معالَجَتُها — بصورةٍ يرضى عنها هذا الرأي العام في الإمبراطورية — أمرًا سهلًا مُيَسَّرًا، نعني بذلك معاملة نابليون للبابا، رئيس الكنيسة الأعلى، وتداخُل السلطة الزمنية — النابليونية — في شئون الكنيسة «والدين» دائمًا، والذي لا شك فيه أن نابليون لم يكن مُوَفَّقًا إطلاقًا في علاقاته مع البابا بيوس السابع والكنيسة.

فقد رَفَضَ البابا أن يَخْضَعَ لسلطان نابليون ويُقِرَّ تدخله في شئون الكنيسة، فقال بيوس السابع: «إن الآراء المؤسَّسة على الإيمان والشعور بالواجب تَظَلُّ راسخةً رسوخَ الطود، وليس في وسْعِ قوةٍ مادية أو أدبية — مهما كانت — أن تنال شيئًا من قوةٍ روحية من هذا الطراز.»

وجَمَعَ نابليون مجمعين للكنيسة أحدهما: في سنة ١٨٠٩، والثاني: في سنة ١٨١١، وأَكَّدَ كلاهما أن حَلَّ كُلِّ المسائل الدينية المختلف عليها إنما هو في يد الإمبراطور، وأن المسائل التي تهم العالم الكاثوليكي قاطِبَةً لا يمكن أن يتناولها مجلس كنسي مستقلًا عن البابا، ولكن من المستطاع عَقْد مجلس أهلي من رجال الدين لينظر موضوع «الكونكردات»، أي الاتفاقية التي أُبْرِمَتْ مع البابا في ١٥ يوليو ١٨٠١ — على أيام القنصلية — ويفصل فيما إذا كان يجب العمل بها أو وقفها.

وفيما بين عامي ١٨٠٩، ١٨١١ قامَتْ محاولتان للوصول إلى تسوية مع البابوية، ولكن دون جدوى، الأولى: كانت على يد كونت لبزلتيرن Lebzeltern النمسوي الذي تَدَخَّلَ لدى البابا باسم الإمبراطور فرنسيس الأول (الثاني) وذلك في مايو ١٨١٠، والثانية: حصلت في شهر يوليو من السنة نفسها على يدي الكردينال سبينا Spina والكردينال كاسيلي Caselli، وهما المفاوضان في اتفاقية الكونكردات سابقًا، وقد أبدى لهما البابا غَضَبَه من نابليون، ورَغْبَته في العيش في روما.

ثم تفاقَمَت الأزمة عندما استصدر الإمبراطور أمرًا في ٣ أغسطس ١٨١٠ بأن يُبَادِرَ أساقفة أربعة بالذهاب إلى أبروشياتهم فور تسميتهم، دون انتظار التقليد «أو التنصيب» القانوني، ثم لم يلبث أن سَمَّى الإمبراطور بعد قليل أسقفين أحدهما: لمطرانية باريس (١٤ أكتوبر)، والآخر: لمطرانية فلورنسه (٢٢ أكتوبر)، وقد أجاب البابا على هذه الإجراءات باستصدار المنشورات البابوية، التي سرعان ما صادرها البوليس، وأثارت غضب نابليون.

وكان أثناء هذا التوتر أن صَمَّمَ نابليون على إخضاع الكنيسة والبابا لسلطانه نهائيًّا، وعلى غرار ما اعتقد أن شارلمان قد سَبَقَهُ إليه؛ فأعلن في ١٦ مارس ١٨١١ عَزْمَه على دعوة مَجْمَع كنسي، فقال: «إن العصر الذي نعيش فيه يعود بنا إلى عَهْد أو أيام شارلمان؛ فقد تَجَدَّدَتْ كل الممالك والإمارات والدوقيات التي أُنْشِئَتْ منها جمهوريات على أنقاض إمبراطوريته، وذلك بفضل الإجراءات التي صَدَرَتْ بها قوانيننا، إن كنيسة إمبراطوريتي هي كنيسة الغرب والمسيحية العالمية بأسرها تقريبًا، لقد قَرَّرْتُ عَقْد مَجْمَع كنسي للعالم الغربي، وذلك حتى تكون الكنيسة الخاصة بإمبراطوريتي كنيسة واحدة من حيث النظام السائد بها، كما هي كنيسة واحدة من حيث العقيدة التي تقوم عليها.»

ووَجَّهَ نابليون الدعوة لاجتماع هذا المجمع الكنسي في ٢٥ أبريل ١٨١١، على أن ينعقد يوم ٩ يونيو، ولكن الانعقاد تأجَّلَ حتى يوم ١٧ يونيو، بعد أن أخْفَقَتْ محاولة جديدة قام بها مطارنة تور Tours وتريف Trêve ونانت للحصول على تنازلات من البابا.

وقد ترأس هذا المجمع الكردينال «فيش»، وحضره (١٠٤) من كبار رجال الدين، من بين (١٤٩) كانت الدعوة قد وُجِّهَتْ لهم، وبَعْدَ مناقشات حامية، سُجِنَ بسببها ثلاثة من القساوسة، وأُغْلِقَ المجمع فترةً من الوقت، صَدَرَ قرارُ المجمع في ٥ أغسطس ١٨١١ بأنه بعد مهلة ستة شهور من تسمية الأساقفة يستطيع رئيس الأساقفة أو المطران «المتربوليتي» إعطاءَ التقليد القانوني، أو يقوم بذلك أيضًا أقْدَمُ الأساقفة، وقد انتهى الأمر بأن تنازل البابا عن موقفه (في ٢٠ سبتمبر سنة ١٨١١)، ولكنه اشترط النص على أن يفعل «المتربوليتي» ذلك باسم البابا القائم، وأنه ينبغي عليه أن ينال من البابا إنابةً أو تفويضًا رسميًّا يُخَوِّله إعطاء التقليد القانوني، وبهذا الشرط يكون البابا قد احتفظ بحقوقه أعلى من حقوق المجمع الكنسي.

فانتقم نابليون لنفسه بأن طارد أنصار أو أتباع كنيسة روما (أكتوبر ١٨١١)، وألقى «درسًا» في العقيدة على البابا نفسه الذي اتهمه بقصور الفهم وعدم التمييز بين القوانين والعقائد الدينية، وبين ما هو زمني وخاضع للتغيير، وأخيرًا ألغى الإمبراطور الاتفاقية مع البابا (الكونكردات) في ٢٣ فبراير ١٨١٢، فقال إنه يَعْتَبِر هذه الاتفاقية ملغاة، وإنه لا يسمح بتدخل البابا في مسألة تقليد الأساقفة القانوني، وفي ٢١ مايو ١٨١٢ أَمَرَ نابليون وهو بدرسدن «بألمانيا» أن يُنْقَلَ البابا إلى فونتنبلو (على مسافة قريبة من باريس)، وهو يرتدي ملابس القساوسة العادية حتى لا يَتَعَرَّف عليه أحد.

وفي ٩ مايو ١٨١٢ كان نابليون قد غادر سان كلو بعد أن جمع جيشًا ضخمًا يزيد عدده على مليون مقاتل، يريد أن ينقض به على روسيا؛ حتى يُصْبِحَ سيدًا على كل أوروبا، فلماذا لا يكون سيدًا على البابا؟

١  Desidérie Clary.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤