الفصل الثالث

انهيار السيطرة النابليونية

تمهيد

حاوَلْنا في الفصلين السابقين تَتَبُّع رَدِّ الفعل الذي حَصَلَ ضد السيطرة الفرنسية في مختلف أنحاء أوروبا، وهو رد الفعل الذي جَعَلَ الشعوب تحاول التحرر من سلطان الحكومة الأجنبية، والذي أدى لذلك إلى مولد «القومية» ومَهَّدَ لظهورها، ولقد شاهَدْنا كيف أن المحاولات الناجمة مِنْ رَدِّ الفعل الذي حَصَلَ كانت «فردية» أو «محلية» أو «منعزلة» عن غيرها؛ فلم يكن مَبْعَثَها شعورٌ عامٌّ، وجهد منسَّق يَجْمَع كل عناصر الأمة، سواء في ألمانيا، أو في إيطاليا، أو في غيرهما من البلدان التي خَضَعَتْ لهذه السيطرة الفرنسية في «ثورة» واحدة أو قومة «وطنية» تبغي التحرُّرَ والخلاصَ من هذه السيطرة وإنهاءَها؛ لتُقِيمَ في مكانها «وحدة قومية» ألمانية أو إيطالية.

على أن الذي نريد بيانه الآن، أن هذه السيطرة الفرنسية لم تلبث أن انهارت بفعل الحروب التي حصلت في أوروبا في غضون سنتي ١٨١٣-١٨١٤ والتي عُرِفَت «بحروب التحرير والخلاص»،١ والتي مَهَّدَ لها تحطيم «الجيش الأعظم» في حملة روسيا، وغَزْو ألمانيا وانقلاب النمسا على الإمبراطور «نابليون»، وثورتها على السيطرة الفرنسية، وكل تلك كانت حوادث بمثابة اختبار لقُوَى ذلك الشعور القومي الذي شَهِدْنا بدايته أو بزوغه في كل أنحاء أوروبا.

ونحن في هذا الفصل سوف نحاول بيان مدى مساهَمة الشعوب في الحوادث أو الحركات السياسية والعسكرية التي أَفْضَتْ إلى سقوط نابليون، ثم طَرْده وإنهاء سيطرته من أوروبا الوسطى أولًا، والتي أَفْضَتْ إلى هزيمة فرنسا وإنهاء حكومته بها ثم طَرْده منها أخيرًا، وواضح أنَّ مِثْل هذه المحاوَلة سوف تستلزم حتمًا تَتَبُّع الفكرة القومية ومراقبتها عن كثب في كل «مظهر» تَتَّخِذه هذه الفكرة، ثم عند انتقالها مِنْ حَيِّز الفكر إلى ميدان العمل: عسكريًّا وسياسيًّا؛ لتبرز أخيرًا إلى عالم الوجود على أنقاض السيطرة النابليونية والإمبراطورية الفرنسية.

(١) بولندة

وكانت بولندة البلد الأول الذي انْحَسَرَ عنه سلطان الفرنسيين، وفي حين بقي القواد العسكريون، مثل «بوفياتوسكي» على ولائهم للإمبراطور نابليون، كان السياسيون يبذلون قصارى جهدهم للمحافظة على المظهر القومي الذي صار على كل حال لبولندة بإنشاء غراندوقية وارسو، وعلى ذلك فقد طَلَبَ البرنس «تزارتوريسكي» — الذي عَرَفْنا أنه من الموالين لروسيا — من القيصر إسكندر بَعْث مملكة بولندة القديمة، بإنشاء مملكة جديدة يكون مَلِكُها أحد أشقاء القيصر نفسه، أي الغراندوقات الروس، فقال «تزارتوريسكي» — مخاطبًا القيصر: «فإذا حانت الساعة لتنتقم الأمة البولندية من الغزاة، ولَقِيَت المعاونة من جلالتكم في ذلك، وحارَبَتْ لتحقيق هذه الغاية، فإن أَثَرَ ذلك سوف يكون عظيمًا رائعًا، بل ويتجاوز كل ما قد تنتظرونه، وإني متعهد بالتوقيع على كل شيء دون إبطاء.»

ولقد عَرَضَتْ كذلك من ناحية أخرى «حكومة وارسو» التسليم لروسيا على شرط إعادة أو إحياء بولندة حتى ولو كان ذلك تحت حكومة روسية مع اتحادها مع «ليتوانيا»، واستصدار دستور لها.

ولكن هذه العروض «البولندية» لَقِيَتْ مقاوَمة ومعارَضة شديدة من جانب الوطنيين الروس، مثل «نسلرود Nesselrode»، بل ومن جانب البارون دي ستين الذي ذَكَرْنا أنه لجأ إلى بطرسبرج، وصار أَحَدَ مستشاري القيصر، فكان من رأي «ستين» الذي ذَكَرَه في رسالة له بتاريخ ٧ نوفمبر ١٨١٢؛ أنَّ الواجب مَنْع إنشاء مملكة بولندة مهما كان الثمن؛ لأن إنجلترة والنمسا سوف تتَّحِدان في مقاوَمة هذا العمل، ثم إنه يَخْشَى على وَجْه الخصوص أن يتَرَتَّب على إحياءِ أو إعادةِ تأسيس مملكة بولندة، اصطدامَ النمسا مع روسيا، والحيلولة دون نجاح التحالف الدولي ضد فرنسا، فكان تحت تأثير «ستين» من جهة، ومعارَضة «نسلرود» من جهة أخرى، أنْ تَجَنَّبَ القيصر الاستجابة لعروض البولنديين (١٣ يناير ١٨١٣)، وراح يَبْذُل الوعود المعسولة لهم، الأمر الذي كان — على الرغم من ذلك — كافيًا لأن يَلْزَم البولنديون السكينة ليشهدوا سقوط الغراندوقية دون أن يُحَرِّكوا ساكنًا، وليتمكن الروس من الاستيلاء على وارسو دون قتال في ٩ فبراير ١٨١٣.

وأما «موقف» المعارَضة الذي وَقَفَه «ستين» من إعادة تأسيسِ أو إحياءِ مملكة بولندة القديمة، فيفسره أن القومية الألمانية قد وَقَفَتْ — بمجرد ظهورها — مَوْقِف العداء من القومية البولندية، ورَفَضَ الألمانُ أن يَتَمَتَّع البولنديون بالمزايا التي لهذه الحياة القومية، والتي كان الألمان يريدونها لأنفسهم.

(٢) بروسيا الشرقية

وكانت بروسيا الشرقية، التالية بعد بولندة في ترتيب البلدان التي انحسرت عنها السيطرة النابليونية «الفرنسية»، وكانت ثورة بروسيا الشرقية أوَّل مَظْهر لوجود القومية الألمانية، والجدير بالذكر هنا أن الكارثة التي حَلَّت بالإمبراطورية الفرنسية بسبب حملة نابليون في روسيا، لم يكن ممكنًا إدراك أهميتها أو عُمْق أَثَرها في التو والساعة في أنحاء الإمبراطورية، بل إن إدراك مقدار الخسارة الفادحة التي سَبَّبَتْها هذه الكارثة لم يَحْدُث إلا تدريجيًّا، حتى إذا اتضحت هذه الحقيقة أَخَذَتْ تتساقط «خطوط» الفرنسيين العسكرية والسياسية، واحدًا بعد واحد، وصار الفرنسيون لا يقفون في تقهقرهم، مرحلة بعد أخرى، إلى أن تَخَلَّصَت الأراضي الألمانية من وجودهم، وتحررت من سيطرتهم بانحسار مَوْجَة المد الفرنسي عن ألمانيا انحسارًا مطردًا، أولًا عن «خط» الفستيولا، فيصل الفرنسيون في تقهقرهم إلى خط الأودر (في نهاية فبراير ١٨١٣)، ثم يرْتَدُّون بعدئذ إلى نهر «الإلب».

ولقد شاهَدْنا في الفصول السابقة — عند الكلام عن انهيار الإمبراطورية النابليونية — كيف أن القوات الفرنسية في أقصى الشمال كان عليها أولًا الارتداد إلى نهر «النيامين» في النصف الثاني من شهر ديسمبر (١٨١٢)، فصَدَرَ الأمر إلى «ماكدونالد» بالانسحاب إلى «تلست» في ١٨ ديسمبر ١٨١٢، ثم تَبِعَ ذلك الانسحاب إلى «الفستيولا» من نهر «النيامين» وهو الانسحاب الذي تَرَتَّبَ عليه الجلاء عن بروسيا الشرقية.

ولقد كان بفضل هذه الحوادث أن تسنى قيام الثورة في بروسيا الشرقية، فقد كان «ماكدونالد» يتولى حينئذ قيادةَ أقصى الميسرة، حيث يؤلِّف الجيش العاشر قِسْمًا من «الجيش الأعظم» في احتلال إقليم «كورلاند Courland»، وكان فريق من هذا الجيش العاشر يتألف من البروسيين بقيادة الجنرال «يورك Yorck»، وهو من الطبقة الأرستقراطية البروسية المحافظة، وكان «يورك» أصلًا من الذين يكرهون «الثورات» كراهية شديدة، ولا يريد بحالٍ من الأحوال أن تكون ألمانيا — على حد قوله — مسرحًا لحوادث دامية كتلك التي حَصَلَتْ أثناء «الثورة» في فرنسا، ثم إنه كان من الذين يحرصون بقوة على تقاليد الجيش البروسي، من عهد فردريك الأكبر (الثاني)، وحَزَّ في نفسه كثيرًا لذلك أن يرى هذا الجيش وقد وَصَلَ إلى حال سيئة، ولقد تسنى لهذا القائد «البروسي» بحكم موقع قواته في أقصى اليسار أن يكون مُلِمًّا بالأنباء المفصَّلة عن حقيقة الموقف، أكثر من القائد العام الفرنسي «ماكدونالد» الذي بقي في عُزْلَة، ويجهل ما كان يدور في مؤخرة جيشه.
وأما الذي حَدَثَ في «مؤخرة» جيش ماكدونالد فهو أن عروضًا تَقَدَّمَ بها الروس في نهاية شهر سبتمبر ١٨١٢ إلى الجنرال «يورك» على يد الحاكم الروسي في «ريجا Riga» — والذي كان إيطاليًّا يُدعَى «باولوتشي Paulucci» — وعلى يد القائد الأعلى للقوات الروسية، وبعث «يورك» يطلب تعليمات من حكومته في «برلين»، ولكن هذه تركته دون أية تعليمات، وبقي «يورك» يماطل الروس مدة شهرين، ويسعى ليَظْفَر بفسحة من الوقت في اتصالاته بقائده الأعلى «ماكدونالد».

ولقد عَمِلَ «يورك» — من تلقاء نفسه — على توسيع نطاق المفاوَضات التي عَرَضَها عليه الروس، وكان يريد الحصول على ضمانات للمملكة بأسرها، أي الدولة البروسية؛ فحصل من القيصر إسكندر في ١٨ ديسمبر ١٨١٢ على تَعَهُّد بعدم إلقاء روسيا السلاح قبل إعادة تأسيس بروسيا بالأقاليم التي كانت لها حتى تسترد مكانتها بين الدول الكبرى، وهي المكانة التي كانت متمتعة بها قبل سنة ١٨٠٦.

وهكذا استطاع هذا القائد — الذي كان في عزلة عن حكومته ودون تلقي تعليمات منها — أن يُحِيلَ مفاوضات «عسكرية» بدأت لإبرام هدنة لوقف القتال إلى مفاوَضة «سياسية»، وعندما وَصَلَتْه في ٢٩ ديسمبر ١٨١٢ أوامر «ماكدونالد» باللحاق به عند «تلست» خلف نهر «النيامين»، بادَرَ «يورك» بعد تردُّد قصير بالتسليم للروس في اتفاق «تاوروجين Tauroggen» في ٣٠ ديسمبر ١٨١٢.

وكان تسليم «تاوروجين» على غاية من الأهمية، بل ويعتبر نقطة التحول في «الحركة الألمانية»؛ فمن الناحية العسكرية وَجَدَ «ماكدونالد» نَفْسَه مكشوفًا بسبب هذا التسليم في جناحه الأيسر، فاضْطُرَّ إلى التقهقر من «النيامين» صوب «الفستيولا»؛ وكنتيجة لذلك اضْطُرَّ إلى إخلاء «بروسيا الشرقية»، ومع ذلك فلا يجب اعتبار هذا «التمرد» الذي حصل من جانب «يورك» — بالرغم من جسامة الآثار الناجمة من هذه الخطوة — حركةً قومية ألمانية، بل إن الذي حَدَثَ لا يعدو أن يكون «ردَّ فِعْل» عسكري ووطني من جانب أحد البروسيين فحسب.

ولقد صار الموقف متغيرًا بسرعة عظيمة بعد تسليم «تاوروجين»؛ لأن بروسيا الشرقية كانت حالُها على درجة كبيرة من السوء بسبب التخريب والدماء الذي حَلَّ بها، نتيجةً للقتال الذي دارَ في أرضها أثناء حملة ١٨٠٧ (معركتا إيلو وفريدلاند)، ثم أثناء عمليات سنة ١٨١٢ عند إعداد الحملة ضد روسيا، وأثناء الحملة نفسها، فأُنْهِكَتْ قوى بروسيا الشرقية تمامًا — وعلى وجه الخصوص — بسبب مصادَرة المؤن وغير ذلك من المنتَجات التي اسْتَوْلَتْ عليها فرنسا «لتموين» جيوشها، الأمر الذي هيأ بروسيا الشرقية لأن تشعر بالعداء المستحكم ضد فرنسا.

على أن «بروسيا الشرقية» كانت — إلى جانب هذا — القسمَ من ألمانيا الذي شاهَدَ أهلُهُ وحدهم «الجيش الأعظم» بعد أن حَلَّتْ به الكارثة في روسيا؛ فشَهِدُوا «الهاربين» المهزومين من الجنود الذين اجتازت فلولهم هذا الإقليم، في طريق تقهقرهم المطرد وقد استبد بهم الهلع والفزع بعد الهزيمة التي أصابتهم، أَضِفْ إلى هذا أن «الموظفين» في بروسيا الشرقية كانوا من البروسيين «الوطنيين»، الذين أرادوا تخليص «وطنهم» من وطأة السيطرة الأجنبية.

تلك إذن كانت الأسباب التي أَدَّتْ إلى إشعال الثورة في بروسيا الشرقية، ولقيت هذه الثورة كلَّ تأييد من جانب «شون Schoen» رئيس الإدارة البروسي، والذي كان منتميًا لنفس الجماعة الوطنية التي الْتَفَّتْ حول «ستين»، ثم من جانب القائد الأعلى في بروسيا الغربية الجنرال «بولو Bulow» الذي أَخَذَ على عاتِقِه دعوة كل «المسرَّحين» إلى الخدمة.

وأما «يورك» فقد بدأ من تلقاء نفسه يشن هجومًا على خطوط الفرنسيين الخلفية، في الوقت الذي استمر فيه الروس يهاجمون هؤلاء، وبالرغم من أن «الحكومة البروسية» كانت لا تزال «حليفة» لنابليون. والذي تَجْدُر ملاحظته أن كل النشاط الذي حَدَثَ أثناء هذه الثورة كانت الهيئات المختلفة في الإدارة والجيش معًا هي القائمة به، ولكن دون تصريحٍ من هذه الحكومة ذاتها أو اعتراف من هذه به، وخارج نطاق «المسئولية الحكومية».

والواقعة الحاسمة في هذه الثورة كانت وصول البارون «ستين» إلى كونجزبرج في ٢٢ يناير ١٨١٣، وقد حضر «ستين» مزوَّدًا بتفويضٍ كامل من القيصر إسكندر للعمل ضد الفرنسيين، ولقد كنا ذَكَرْنا عن «ستين» أنه كان في تفكيره «ألمانيًّا» ولا يَأْبَه كثيرًا بمصالح بروسيا في حَدِّ ذاتها، ومنفصلة عن صالح ألمانيا، فكان «ستين» مدفوعًا في نشاطه بعدائه وكراهيته لفرنسا؛ ولذلك فقد وَجَّهَ اللوم بمجرد وصوله هو «وجنسناو» إلى رئيس الإدارة في بروسيا الشرقية «شون»؛ لأنه لم يذبح الفرنسيين الذين مَرُّوا من «مقاطعته»، ولم تكن في نظر «ستين» ثورة بروسيا الشرقية إلا أداة أو وسيلة للقيام بعمل أعظم؛ هو خلاص ألمانيا وتحريرها، وتأسيس ألمانيا «جديدة» مرة أخرى.

وكان من أجل خلاص ألمانيا وتحريرها وإعادة إنشائها، أن عمد «ستين» إلى رَفْع «الحصار القاري» فورًا، والذي كان عبئًا ثقيلًا على بروسيا، وإلى جمع الإتاوات للإنفاق منها على المقاوَمة التي يُعْزَى إليه كلُّ الفضل في تنظيمها بأن بادَرَ بجمع «مجلس الطبقات» الإقليمي في بروسيا الشرقية لتقرير إنشاء وتنظيم الجيش، واستطاع «ستين» أن يؤسس من العناصر المحلية نوعًا من «الحكومة» تتولى شئون الإدارة والحكم وتنظيم المقاومة في غيبة الحكومة الملكية.

أما المجلس الإقليمي فقد اجتمع في «كونجزبرج» في ٥ فبراير ١٨١٣، وفي ٧ فبراير أَقَرَّ المشروع الذي كان قد أعده «ستين» لإنشاء الجيش، وعندئذ غادر «ستين» بروسيا الشرقية ليذهب إلى الروس تاركًا لأصدقائه الذين خَلَّفَهم بها مهمة تنظيم الثورة، وكان «المجلس الإقليمي» يتألف من سبعين عضوًا؛ نصفهم من ممثلي طبقة النبلاء، والنصف الآخر ممن يمثلون المدن والمهن الحرة، وكان هذا المجلس في حقيقة أَمْرِه مجلس نبلاء فحسب؛ حيث لم يشترك الشعب في انتخاب أعضائه، فبقي الشعب بعيدًا عن هذه الحركة.

على أن هذا المجلس بسبب انعقاده دون صدور دعوةٍ له بالاجتماع من الملك، وبفضل القرارات التي اتَّخَذها، نَجَمَ من وجوده افتئات على حقوق الملك، كما كان إجراءً ثَوْريًّا في صميمه، بالرغم من كل تصريحات وإعلانات الولاء لمليكهم التي أَصْدَرَها أعضاؤه، وتأكيدهم الخضوع للملكية.

ولذلك فقد تَمَيَّزَت الحركة البروسية بظاهرتين، بَقِيَتَا تلازمانها في كل أدوارها، أولاهما: أنها كانت حركةَ «نبلاء» قامت بها الطبقات العليا في المجتمع البروسي، وثانيتهما: أن هذه الحركة لم تكن «حكومية» ولم تَخْشَ العمل خارج النطاق الحكومي، وصارت لذلك تدعو لمبادآت العمل الثورية، فكان أنْ أتم «المجلس» تأليف الجيش الإقليمي، عندما اتخذ قرارًا بذلك في ٧ فبراير ١٨١٣ بأن يصير تشكيل هذا الجيش الإقليمي Landwehr خارج نطاق الجيش النظامي، والسبب في ذلك أنه كان لا يزال يسود الطبقات المتنورة في بروسيا شعورٌ بعدم الارتياح، أو بالعداء ضد الجيوش المحترفة، وهو الشعور الذي كان ملحوظًا بين أوساط هذه الطبقات في أواخر القرن الثامن عشر، أما هذا الجيش الإقليمي Landwehr المؤلَّف من أهل البلاد، فهو الذي يجب أن يكون الأداة اللازمة للدفاع عن أرض الوطن ضد الغزو الأجنبي من جهة، وكذلك أداة الثورة ضد السيطرة الأجنبية بمجرد اختراق العدو لحدود البلاد.

والْتَحَقَ بهذا الجيش الإقليمي كل الشباب والرجال من سن الثامنة عشرة إلى سن الخامسة والأربعين، المتطوعون منهم أولًا، ثم أولئك الذين يأتي دورهم للخدمة العسكرية بطريق «القرعة»، على أن يكون لهؤلاء الاختيار في الوقت نفسه في أن يأتوا بمن يحل محلهم في الجيش.

والذي تجب ملاحظته أن هذا الإجراء الأخير لم يكن مذكورًا في مشروع «ستين» الأصلي، الذي ذكرنا أن «المجلس» كان قد اقْتَرَعَ بالموافقة عليه في يوم ٧ فبراير نفسه، ولكن لم تلبث أن طلبت «الطبقة الثالثة» — التي تمثل المدن — إدخاله، كما أبدى الجنرال «يورك» رغبته في ذلك، ولقد بدأ التنفيذ فورَ الاقتراع على مشروع إعادة تأسيس الجيش وتنظيمه، دون انتظار موافقة الملك الذي كان بعيدًا.

ولكن للمرء أن يتساءل عن أَثَرِ أو صَدَى هذه الثورة التي حَصَلَتْ في بروسيا الشرقية على سائر المقاطعات التي تتألف منها دولة بروسيا، فإن الذي حصل كان أنْ غادَرَ الملك برلين في ٢٢ يناير ١٨١٣ قاصدًا إلى «برسلاو Breslau» بعد أن عمل على تنحية الجنرال «يورك» من قيادته، وبعد أن وَجَّهَ اللوم إلى «مجلس الطبقات» في كونجزبرج بسبب القرارات التي اتخذها، وعلى ذلك فإنه لم تلبث أن تُرِكَتْ حكومة الملك جانبًا، وتشكل نوع من «الحكومة المضادة» من الوطنيين في براندنبرج، وعمد القُوَّاد الذين شاهدناهم على رأس الثورة، مثل «يورك» و«بولو» إلى التفاهم مع القائد الروسي الأعلى «ويتجنستين Wittgenstein»٢ مِنْ أَجْل الزحف صوب نهر «الأودر» ضد الفرنسيين، وضَغَطَ هذا الإجراء على يد الملك؛ فوجَّه فردريك وليم الثالث في ٣ فبراير ١٨١٣ دعوةً للمتطوعين للانخراط في صفوف الجيش حتى يُزِيدوا من قُوَّته، وفي ٩ فبراير أَوْقَفَ الملكُ كُلَّ الاستثناءات من الخدمة العسكرية في طبقة الشبان من سن السابعة عشرة إلى الرابعة والعشرين، فكان من أَثَر هذه الترتيبات أن أصيب الشعب البروسي «بحمى» خفيفة من أجل الدفاع عن الوطن وخلاصه.
ولقد كان «الجيش الإقليمي» إذن — Landwehr — بمثابة حجر الأساس للقومية البروسية، عندما أقبل على التطوع به البروسيون من مختلف الطبقات، وخصوصًا الطبقات المثقفة التي لوحِظَتْ فيها الملامح الأولى للقومية الألمانية، فاعْتَنَقَ أهلها — بحماس شديد — فكرةَ التسليح العام للنضال ضد فرنسا، فصار أساتذة الجامعات يتولَّوْن «شرح وتفسير» مرسوم الدعوة للمتطوعين (منذ ٣ فبراير)، فَعَلَ ذلك «فيتشه» في برلين، و«ستفان Stefens» في برسلاو، وغيرهما في سائر الجامعات في «هال» و«كونجزبرج»، وحتى في بروسيا القديمة التي كانت قد ضمتها إليها «الدولة الفرنسية»، ثم في «يينا» في شهر مارس (١٨١٣).
وجذبت هذه الحركة — على وجه الخصوص — كل الشباب؛ فكان شباب الجامعة هم الذين الْتَحَقُوا «بالجيش الإقليمي» أولًا، وبقيت جامعة برلين مدة من الزمن تكاد تكون خالية من طلابها؛ فلم يوجد بها سوى ثلاثة وعشرين وحسب، واشتركت طبقتا النبلاء والبورجوازي مع الشباب في حركة التطوع هذه، وكان لذلك أن صارت هذه الحركة، حركة الأوساط المثقفة والطبقات العالية، وقَدَّمَتْ برلين وحدها ستةَ آلاف متطوع، في حين بَلَغَ عدد سكانها وقتئذ مائة وخمسين ألفًا، ولقد تَرَتَّبَ على حماس الرغبة في التطوع أن خَلَت الكليات في أماكن أخرى من طلابها، وتَعَدَّدَت الأمثلة على صِدْق هذه الرغبة؛ ففي «سيليزيا» طَلَبَتْ كل هيئات الموظفين أن تحل هيئات أخرى محلها ليتطوع أفرادها في الجيش، ثم عمد أحد القواد الشبان «لوتزوف Lützov» إلى إنشاء فرقة من «القناص السود Chasseurs Noirs»، مُهِمَّتُها إدخال المتطوعين في صفوف الجيش الإقليمي، من الذين يريدون ذلك في جهات أو أقسام ألمانيا الأخرى.

على أن هذه الحركة لم تلبث — على ما يظهر — أن أَزْعَجَت السلطات الحكومية في ألمانيا وخارجها، فانزعج «مترنخ» مما أسماه «بهياج الخواطر الفظيع» المنتشر في سيليزيا، وفي بوهيميا، ووستفاليا، ثم في التيرول كذلك، فكتب في ١٨ فبراير ١٨١٣: «إنه ليس بالأعمى الذي لا يرى خطورة هذه الحركات الشعبية المستثارة باسم شَرَف ألمانيا واستقلالها؛ لأن هذه سوف لا تلبث أن تحطم الصلات والروابط السياسية والاجتماعية»، ولقد كان الانزعاج الذي حَصَلَ وقتئذ هو مبعث كل ذلك الانزعاج والتخوف الذي غشي الحكومات الأوروبية بعد انقضاء عهدي الثورة الفرنسية وإمبراطورية نابليون، والتي صارت تتوجس خيفة من كل حركة شعبية تتوقع أن تنقلب — عاجلًا أو آجلًا — إلى «ثورة» عارمة تجرف هذه الحكومات نفسها.

وأما هذه الجيوش «أو القوات» البروسية الكبيرة؛ فقد صارت مدفوعة في نشاطها بحدة العاطفة «الوطنية» وشعور الكراهية العظيمة، الذي كان مَبْعَثه كل تلك الأحقاد التي أثارتها السيطرة الفرنسية، وزَرَعَها في القلوب النظام النابليوني. ولقد طغى شعور الكراهية هذا على كل ألمانيا؛ فامتدَّ الهياج حتى شَمِلَ كل ألمانيا الشرقية، ثم ألمانيا الشمالية عندما ضمت «حركة التطوع» إليها مدينة «همبورج» وأقاليم الهانسا.

ومع أن «حكومة» بروسيا أرادت التزام خطة «التحفظ»، وكانت تبغي رَبْط قضيتها بمصالح النمسا، وتشعر بالارتياب من ناحية روسيا، وكانت متحذِّرة من أطماع القيصر إسكندر، ويستبد بها القلق والخوف من الأساليب والأعمال الثورية التي اقترنت بنشاطِ الحركة الوطنية، فقد اضْطُرَّت هذه الحكومة إلى العمل تحت ضغط هذا التيار الجارف من الشعور الوطني، ورَضَخَ فردريك وليم الثالث لآراء «ستين» الذي حَضَرَ بنفسه إلى «برسلاو» — المكان الذي قصد إليه الملك كما ذَكَرْنا بعد مغادرته برلين — فكان بسبب ضغط «ستين» عليه أنْ قَبِلَ فردريك وليم الثالث المحالفة مع روسيا في معاهدة «كاليش Kalisch» في ٢٧ فبراير–أول مارس سنة ١٨١٣، وقد كانت تلك معاهدة مزعجة تمامًا لحكومة بروسيا؛ لأن القيصر مُقَابِلَ التحالف ضد فرنسا قد تَعَهَّدَ «في مادة سرية» بإرجاع بروسيا إلى الحدود التي كانت بها سنة ١٨٠٦، دون أن يَصْدُر منه أيُّ تأكيد بأن تسترجع بروسيا الأقاليمَ جميعها التي كانت في حَوْزتها قبل سنة ١٨٠٦، ودون الحصول على أي ضمان بإعادة تأسيس بروسيا بالصورة التي كانت عليها قبل الغزو الفرنسي، وذلك في مقابل هذه المخاطرة العظيمة: الاشتباك في حَرْب جديدة مع روسيا ضد فرنسا.

ولقد كان وصول القيصر نفسه إلى برسلاو في ١٥ مارس ١٨١٣ ضروريًّا ليعلن فردريك وليم الثالث الحرب على فرنسا في ١٦ مارس، وليتخذ في اليوم التالي (١٧ مارس) قرارًا على جانب عظيم من الأهمية؛ هو أن يعمم نظام «الجيش الإقليمي» الذي نشأ في بروسيا الشرقية، حتى يشمل كل مقاطعات أو أقاليم المملكة، ولكن مع فارق هامٍّ، هو إلغاء حق الاختيار الذي يخوِّل الأفرادَ المقترعين للخدمة تسميةَ غيرهم ليحلُّو محلهم في هذه الخدمة العسكرية — على نحو ما سَبَقَ تفصيله — وفي ١٢ أبريل ١٨١٣ قَرَّرَ الملك نوعًا من «التعبئة العامة» في بروسيا من طراز ما فَعَلَتْه «الثورة الفرنسية» في سنتي ١٧٩٢-١٧٩٣، وفُرِضَت الخدمة العسكرية الإجبارية على البروسيين مدة اشتعال الحرب.

وهكذا تبدو هذه الحركة البروسية «تلقائية» من نوع أخلاقي، تلتقي فيه الحركتان اللتان سَبَقَ أن تناولنا كلًّا منهما على حدة: المقاومة البروسية الصحيحة ضد السيطرة الفرنسية، أو الحركة «الوطنية» البروسية، ثم «فكرة» الإحياء والتجديد أو الانتعاش الأخلاقي التي كان قد أَخَذَ بها الرؤساء والقادة الألمان المثقفون وعملوا بها من أَجْل خَلْق ألمانيا جديدة، بِبَثِّ الروح القومية بها.

ولمعرفة مدى اشتراك المجتمع البروسي مع سائر المجتمعات في ألمانيا في هذه الثورة ضد فرنسا، كانت ضروريةً دراسةُ التنظيم العسكري الذي حَصَلَ على أثر الحوادث التي وَقَعَتْ في بروسيا، أي الوقوف على مقدار الأثر الذي كان للقرارات التي ذكرناها في شهري فبراير ومارس ١٨١٣ والأسلوب أو الطريقة التي نُفِّذَتْ بها.

وبشأن التنظيم العسكري الذي حدث، لا مناص من التمييز بين عنصرين تتألف منهما القوات المقاتلة، هما: «المتطوعون»، و«الجيش الإقليمي Landwehr»؛ فالأولون كانت تضمهم فرق مخصوصة ومعزولة، لكل واحدة منها رئيسها، فلم تَدْخُل في نطاق الجيش، ومبعث هذا النوع من التنظيم كان احترام آراء كل أولئك الذين ظلوا يسيئون الظن «بالجيش المحترف» ويضمرون العداء له، وهم الذين تَجْمَعُهُم الطبقات المتنورة والغنية في بروسيا؛ فكان انخراط المتطوعين في مجموعات منفصلة، وفرق «حرة» بمثابة الامتياز الذي صار لأهل الطبقات المثقفة والمتعلمة والتي كانت في بحبوحة من العيش، وعلى ذلك فقد قل عدد المتطوعين لدرجة كبيرة جدًّا في سلاحَي المدفعية والمهندسين، وهما «السلاحان» اللذان لم يكن بهما «متطوعون»، أو أن هؤلاء كانوا قد اندمجوا فيهما اندماجًا كليًّا مع سائر الجند، وأما عدد «المتطوعين»؛ فقد بَلَغَ في شهري مارس وأبريل ١٨١٣ حوالي خمسة عشر ألف متطوع، وذلك رقم قياسي، تَدَرَّبَ من هؤلاء حوالي سبعة أو ثمانية آلاف بدرجة تؤهلهم للاشتراك في العمليات العسكرية، ابتداء من شهر مايو، وأما الجيش الذي انهزم على يد نابليون في واقعتي «لوتزن» و«بوتزن» — في مايو ١٨١٣ — فقد كان الجيش النظامي البروسي، لم يكد يزيد حجْمه على ما كان عليه في وقت السلم، ولم ينضم إليه إلا عدد قليل من قوات المتطوعين، والرديف Krümper فبلغ عدده خمسة وثلاثين ألف مقاتل.

وأما «الجيش الإقليمي»؛ فقد عَظُم به عدد المتطوعين الذين استجابوا لنداء الدولة، وكان تنظيم هذا الجيش بطيئًا، وتَمَّ في صور غير متكافئة، وإن كان قد صار يشكل في مجموعِهِ «جيشًا وطنيًّا» مؤسَّسًا على «التعبئة العامة»، ومع ذلك فقد صار هذا الجيش الوطني في حقيقته تنظيمًا إقليميًّا؛ لأن «مجالس» المقاطعات أو الأقاليم هي التي قامت بتنظيمه وتشكيله، فأنشأت هذه لجانًا من اثنين من النبلاء واثنين من ممثلي العامة لتعيين الضباط، ولم يتم تنظيم «الجيش الإقليمي» بدرجة متساوية في كل من سيليزيا وبروسيا الغربية، أي في بروسيا القديمة البولندية، فقد كَثُر فرار المجنَّدين من صفوف الجيش، وأكثر الذين هربوا من الخدمة — بدلًا من الالتحاق بالجيش — كانوا من أصل بولندي، فعَبَرُوا الحدود إلى خارج البلاد.

وفي بروسيا الشرقية كان كذلك عدد الهاربين من التعبئة العسكرية كبيرًا، وفي بوميرانيا استطاع الفارون من الخدمة العسكرية — وكانوا كذلك كثيرين — الهروب بطريق البحر واللجوء إلى السويد أو إلى الجزر الدنماركية، وعجز «الفلاحون» في الريف عن «الفرار» من الخدمة؛ لوقوعهم من أجيال عديدة تحت نفوذ وسلطان سادتهم من «اليونكر»، ومع ذلك ففي أحايين كثيرة شوهد هؤلاء الأسياد «اليونكر» يقودون بأنفسهم «فلاحيهم» إلى مراكز الخدمة العسكرية، ولكن نجاح «الجيش الإقليمي» كان محقَّقًا في المقاطعات أو الأقاليم التي كانت أصلًا بمثابة الدروع الواقية ضد الغزاة على حدود بروسيا، فكثر عدد الذين انخرطوا في سلك «الجيش الإقليمي» دون انتظار «للقرعة العسكرية» ومدفوعين بالواجب الوطني؛ ففي حين بَلَغَتْ في المتوسط نسبة الملتحقين بالجيش الإقليمي بطريق «القرعة» ١٢٪ فحسب، وهي نسبة ضئيلة، وَصَلَتْ هذه في أقاليم الثغور في بروسيا الشرقية ٢٧٪، وفي وسط براندنبرج كانت ١٤٪، وفي بقية المقاطعات بلغت حوالي ٨٪، وتلك الأرقام تدل — ولا ريب — على أنه كان هناك نوع من «الزعزعة» الوطنية.

ولكن لا يجب أن يغيب عنا كذلك أن نظام القرعة لم يشمل كل «المجندين» في الجيش الإقليمي؛ فقد أُرْغِم قسم كبير من الأهلين على الانخراط في سلك الجيش إرغامًا بطريق التجنيد الجبري.

وفي هذا الجيش Landwehr احتفظ النبلاء بالمراكز والوظائف العسكرية العليا؛ فوحَّدوا صفوفهم لِيُبْعِدوا من هيئة الضباط — بكل ما وسعهم من جهد — أفرادَ الطبقة المتوسطة (البورجوازية)؛ فصار النبلاء هم الذين يَشْغَلون وظائف «الضباط» في هذا الجيش، وكان هؤلاء من الذين عني «شارنهورست» في السنوات السابقة بتدريبهم وتهيئتهم لملء هذه المناصب.

وبلغ عدد قوات «الجيش الإقليمي» حوالي المائة والعشرين أو المائة والثلاثين ألفًا من مجموع الجيش البروسي بأسره، الذي قُدِّرَ بنحو مائتين وسبعين ألف مقاتل، وكان في شهر أغسطس ١٨١٣ أن ظهر «اللاندفهر» في ميدان المعارك، وكان يؤلف وقتئذ حوالي نصف عدد القوة «العاملة»، ولا جدال في أن وجود «الجيش الإقليمي» قد أَدْخَلَ تغييرًا كاملًا على طابع الجيش البروسي و«شَكْله» الذي كان حتى هذا الوقت «جيشًا محترفًا»، على أن الذي يجْدُر ذِكْره أن تشكيل «الجيش الإقليمي» والتغيير الذي حدث بسببه على طابع وتكوين الجيش البروسي عمومًا، لم يؤدِّيَا بحال من الأحوال إلى اندماجِ أو امتزاجِ «الطبقات الاجتماعية» في الفرق العسكرية؛ وذلك لأن الجيش الإقليمي لم يكن «تعبئة ديمقراطية» على غرار التعبئة العامة التي حصلت على يد حكومة «الثورة» في فرنسا، بل إن هذا الجيش الإقليمي كان مجرد تنظيم عسكري، ولا غَرَضَ من إنشائه إلا الحرب والقتال فحسب، فلم يكن غير «المتطوعين» في هذا الجيش الإقليمي ممن يعتبرون عنصرًا وطنيًّا وقوميًّا حقيقة.

وهكذا، فالذي يبدو من هذه الدراسة أن الحركة الوطنية أو القومية البروسية قد بَقِيَتْ غيرَ مستكمَلة، وبالدرجة أو الصورة التي بَقِيَتْ بها غير مستكملة كذلك إصلاحات «هاردنبرج» والحكومة البروسية التي ذكرناها في ميادين الاجتماع والإدارة؛ ولذلك فإن هذا «الجيش الإقليمي» مع ما كان يَرْمُز إليه من نهضة أخلاقية ووطنية، كان لا يعدو كَوْنَه أداة مواتية لمواجهة موقف عسكري، هو ضرورة القتال للتحرر من السيطرة الأجنبية.

(٣) سائر ألمانيا

ذلك إذن كان أَثَر الثورة التي حصلت في «بروسيا الشرقية»، والتنظيم العسكري الذي أَوْجَدَ «الجيش الإقليمي» على بروسيا.

أما في خارج بروسيا، وبمعنًى آخر في سائر ألمانيا؛ فالذي لا شك فيه أن ألمانيا بأَسْرها كان يحركها للثورة شعورُ الكراهية والعداء العظيم لفرنسا، وهو شعور وطني، ومع ذلك فإن هذه الحركة لم تتغلغل بالدرجة الكافية ليتأثر بها المجتمع الألماني بأجمعه، ولم تكن عامَّةً في كل أنحاء ألمانيا، ولا يجب لذلك المغالاة في تقدير قيمتها، أو التسليم بادعاء الأسطورة القائلة بأن ألمانيا بشعوبها قد هَبَّتْ متكتلةً في ثورة عارمة شاملة ضد السيطرة النابليونية، وتلك حقيقة سوف توضحها الحوادث التالية.

فقد بذل «ستين» بادئَ ذي بدء وجماعتُه قصارى جهدهم لإحداث ثورة عامة في كل أنحاء ألمانيا لإشعال حرب قومية «ألمانية» ضد فرنسا، فأكْثَرَ من توجيه النداءات وإذاعة الدعوة التي شَفَعَهَا بالإنذارات والتهديدات لتحريك هذه الثورة «القومية»، وآثَرَ «ستين» العملَ في هذا الميدان — على نحو ما جَرَتْ عليه عادته — بالتعاون مع روسيا، فأصدر — بالاشتراك مع «نسلرود» في ١٩ مارس ١٨١٣ باسم ملكيهما — نداء موجَّهًا «لألمانيا» أَوْضَحَا فيه أن خلاص ألمانيا هو الغرض من الحرب، ودَعَوَا للاشتراك في هذه الحرب التحريرية كلَّ شعوب وملوك وأمراء ألمانيا، ولقد رَسَمَ هذا النداء صورة لما سوف يكون عليه الوضع سياسيًّا في ألمانيا بعد إنهاء السيطرة النابليونية؛ فأعلن «ستين» و«نسلرود» انحلال «اتحاد الراين الكونفدرائي» على أن تحل محله «لجنة مؤقتة» لإدارة الأراضي الألمانية المستنقذة من السيطرة الفرنسية، وتتألف من مجلس مندوبين عن روسيا وبروسيا والحكومات الأخرى التي تنضم إليهما، مع تسمية «ستين» رئيسًا لهذه الإدارة.

وبمقتضى البرنامج الذي وضعاه تصبح البلاد مقسَّمة إلى خمسة أجزاء، من: سكسونيا، ووستفاليا، وغراندوقية برج Berg، وأقاليم «ليب Lippe»، ومصبات نهر الإلب مع مكلنبرج، ثم راح الاثنان في هذا النداء يتهددان كل أمير ألماني يتخلف عن إجابة الدعوة بفقد ممتلكاته. وواضح من لهجة هذا النداء والأغراض التي هَدَفَ إليها أن «ستين» نفسه كان إلى حد كبير مسئولًا عنه.

وإلى جانب هذا النداء صَدَرَ نداء آخر، وجَّهَه إلى ألمانيا القائدُ الروسيُّ المعروف «كوتوزوف» في ٢٥ مارس ١٨١٣، وهذا النداء يُفَسِّر الغرض من «الحركة» أو الثورة بقوله: «إنه مساعَدة الشعوب والأمراء في ألمانيا على استرجاع ذلك التراث الذي اغْتُصِبَ منهم، والذي يَتَعَذَّر النيلُ بشيء منه، ونعني بذلك حرياتهم واستقلالهم، الشرف والوطن! فلا يَسَعُ كل ألماني مستحِقٍّ لهذه التسمية إلا المبادرة بالانضمام إلى صفوفنا فورًا … وبقدر استناد قواعد هذا العمل ومبادئه على الروح القديمة التي للشعب الألماني واقتدائه بها، سوف يتسنى لألمانيا — التي تَجَدَّد شبابها، وزاد نشاطها، وصارت مُتَّحِدَة — أن تعود للظهور ثانية؛ لتتبوأ مركزًا ممتازًا بين أمم أوروبا.»

ولقد كانت تلك التي صدر بها هذان النداءان في ١٩ و٢٥ مارس «لغة ثورية»، الأمر الذي كان في حد ذاته شيئًا جديدًا في ألمانيا، والذي تَرَتَّبَ عليه من جهة أخرى أن طَفِقَ الألمان يفسرونه بأنه بمثابة التعهُّد المزدوج، في صالح الحرية السياسية من ناحية، وفي صالح الوحدة القومية من ناحية أخرى.

وأما هذه الحركة «القومية» التي وُجِّهَت الدعوة للألمان من أجلها، فقد أَثْمَرَتْ في التو والساعة حركةً من القريض الوطني، حيث نبت جيل جديد من الشعراء، عرفنا منهم «تيودور كرونر» الذي ذَكَرْنا أنه قُتِلَ في واقعة «ليبزج»، والذي جُمِعَت أغانيه وأناشيده بعنوان «المزهر والسيف»،٣ كما كان منهم الشاعر «روكيرت Rüekert» الذي نَشَرَ منظوماته، ثم «شينكندورف Senenkendorf»، ثم «أوهلاند Uhland» وغير هؤلاء كانوا كثيرين.

على أن «الحكومات» الألمانية وَقَفَتْ — على العكس من ذلك — موقفًا في غاية «التحفظ» من الأحداث الجارية؛ فلم تشأ هذه الحكومات «الانتقاض» على نابليون إلا في خريف سنة ١٨١٣، أيْ بعد أن تأكَّدَ لديها أن سقوط نابليون وهزيمته قد صار أمرًا محقَّقًا، وذلك على خلاف ما حدث في ألمانيا الشمالية، التي انتشرت بها الثورة بكل سرعة في «همبورج» في ١٨ مارس، ثم في «مكلنبرج» التي قَدَّمَتْ وحدها عددًا من «المتطوعين» بلغ ستة آلاف، أما «بفاريا» فإنها لم تَنْبِذ الولاء لنابليون إلا يوم ١٦ سبتمبر، وكان في ٨ أكتوبر فقط أن أَعْلَنَت الحرب ضده، وانتظرت «ورتمبرج» هزيمة نابليون في واقعة «ليبزج» بين ١٦–١٩ أكتوبر لتعلن موقفها العدائي منه أخيرًا في ٢٣ أكتوبر، ولقد كانت هذه الحكومات تَتَّجِه بنظرها صَوْب النمسا، وتوجيهات الحكومة النمسوية «ووزيرها مترنخ»، وليس صوب المجموعة البروسية الروسية التي يُشْرِف على توجيهها — كما شاهدنا — «ستين» بالتعاون مع «نسلرود».

ثم إن حركة المقاومة هذه أو الثورة لم تمتد إلى ألمانيا الغربية، بل بقيت لا تتعدى ألمانيا الشرقية والشمالية؛ فظلت بلاد الراين بعيدةً عن هذه الحركة، حتى إن «بوجنو Beugnot» القائم الفرنسي بشئون الحكم والإدارة في غراندوقية «برج» لم يلبث أن لاحظ — كما أثبت ذلك في جورناله — كيف أن الطبقات العليا الراينية وحدها كانت تُقَابِل بالسرور خَبَرَ انكسار الجيش الفرنسي في روسيا، في حين أن سواد الأهلين قد أَحْزَنَتْهُم حزنًا عميقًا هذه الكارثةُ، على أن الذي يجب ذِكْرُه على كل الأحوال أن الإدارة الفرنسية في إقليم الراين قد خَلَّفَتْ آثارًا بعيدة الغور سوف يظهر تفاعُلُها من جديد فيما سوف يَقَعُ من حوادث بعد سنة ١٨١٥ خصوصًا.

ولقد صادَفَتْ هذه الحركة الثورية «في ألمانيا» صعوبات عديدة، مبعثها رغبة أصحاب «المصالح» السياسية في سد الطريق أمامها، وفي مقدمة هؤلاء كان الوزير النمسوي «مترنخ»، الذي اتخذ الاحتياطات اللازمة ضد هذه الحركة الثورية، بأن أخضع «ستين» ولجنته الإدارية التي سَبَقَ الحديث عنها لإشراف «لجنة دبلوماسية» خاصة، ثم أثار أصحابُ البنوك الألمان المصاعبَ عندما رفضوا قبول السندات الإنجليزية التي قدمها الإنجليز إلى الحكومة الألمانية لتمويل العمليات العسكرية التالية، ثم كان من هذه الصعوبات التي صادفَتْها الحركة الثورية أنه لم توجد «عصابات» للمناوشات المحلية خلف الخطوط الفرنسية، على غرار ما حدث في الحرب الإسبانية.

وهكذا، لم تكن هذه الحركة — كما ذكرنا — ثورة عارمة عَمَّتْ ألمانيا بأسرها ضد السيطرة الفرنسية، ولو أنه مما لا شك فيه أن البلاد (ألمانيا) في مجموعها قد قامت بالثورة فعلًا، مدفوعة بعاطفةِ أو شعور الكراهية الشديدة ضد فرنسا.

ولقد كان على أساس هذه الكراهية لفرنسا وللاحتلال الفرنسي في البلاد أن ارتكَزَتْ نهائيًّا وبصورة حاسمة العاطفةُ أو الشعور القومي في ألمانيا.

وكان أثناء «المباحثة» في الشروط التي يجب عَقْد الصلح مع فرنسا على أساسها في سنة ١٨١٤، أن بَرَزَ هذا الشعور القومي — بمعنى الانبثاق من الكراهية لفرنسا ولسلطانها — في إطارات معينة؛ فقَدَّمَ «ستين» إلى القيصر مشروعًا للصلح، طلب فيه أن تكون حدود ألمانيا عند نهر الموز Meuse، ولكسمبورج، ونهر الموزيل، وجبال الفوزج Vosges، وعلى أن يَدْخل في نِطَاقها كذلك قسم من الدنمارك، وفي سنة ١٨١٤ صار «ستين» يؤيد ادعاءات روسيا وبروسيا على بولندة وسكسونيا، في الوقت نفسه الذي طالب فيه باتساع ألمانيا من ناحية الغرب.
وفي سنة ١٨١٥ صار «ستين» يحاول إقناع القيصر إسكندر بأن سلامة ألمانيا وأَمْنها يُحَتِّمان وصول حدودها الغربية إلى نهر الموز، وفي مذكرة أعدها في ١٨ أغسطس ١٨١٥، ذَكَرَ «ستين» أن العاهل الفرنسي لويس الرابع عشر كان في سنة ١٧١٠ قد نَظَرَ موضوع التخلي عن «الألزاس»، وذلك في مفاوضات «جيرترودنبرج Gertruydenberg» بالأراضي المنخفضة والتي حصلت على أثر هزائمه في حرب الوراثة الإسبانية، وهي الحرب التي انتهت بصلح بوترخت في مايو ١٧١٣.
ولقد وجد فريق آخر من أنصار القومية الألمانية عند النظر في شروط الصلح المرتقب مع فرنسا، وكان «جوزيف جوريز Goerres» الذي سَبَقَ ذِكْره كثيرًا، متزعم هذا الفريق، فنشر سلسلة من المقالات في الجريدة الراينية «عطارد الراين»٤ يبين فيها إرجاع فرنسا إلى حدودها التي كانت لها في سنة ١٧٩٢، إنما يعتبر حلًّا رديئًا للمسألة؛ لأن سلامة القومية الألمانية تتطلب أن تكون الحدود عند جبال الفوزج وهضبة الأردين Ardenne، وفي أثناء حكومة «المائة يوم» عند عودة نابليون من جزيرة إلبا إلى فرنسا، كتب «جوزيف جوريز» مقالًا بعنوان «فرنسا المقسمة» أو فرنسا المصفدة٥ أعلن فيه أن أوروبا لن تعرف السلام إلا إذا أُنْزِلَتْ فرنسا إلى مرتبة الدولة من الدرجة الرابعة.
وفي مقال آخر كتب «جوريز»:

إنه لن يكون هناك أي أمل في السلامة والأمن من جانب هذا الشعب الفرنسي إلا إذا صار عاجزًا تمامًا، وصار للألمان من ناحية أخرى قوة ساحقة، ولا يجرؤ على التفكير في تحدي هذه القوة أحد، والفرنسيون عاجزون عن التمسك بأية قيم أخلاقية، وليس هناك أساس لإمكان الاعتماد عليه في التعامل معهم؛ ولذلك فقد وجب علينا أن ننتزع منهم أملاك شارل الجسور، أو عند تَعَذُّر ذلك الإلزاس واللورين وملحقاتهما.

ولقد طالبت صحيفة أخرى Deutsche Blätter باسترجاع كل الأقاليم التي اقْتُطِعَتْ من ألمانيا في مختلف العصور؛ الأراضي المنخفضة، الدنمارك، والمقاطعات البلطيقية، وكورلاند، فطالبت بضم كل مكان «أو إقليم» تَقْطُن به أُسَر ألمانيَّة من الإلزاس، حتى «ليفونيا Livonia»، ومن أقاليم «جريسون Grisons» حتى «شلزويج» حيث يتطلب الاشتراك في اللغة والعادات، والمزاج «أو العبقرية» أن يتأسس نَوْع من التنظيم السياسي المشترك أو المتحد، يَبْسُط حمايته على بلجيكا وهولندة في الغرب، وجوتلندة Jutland في الشمال، وعلى أن يحد هذا التشكيل السياسي من الغرب هضبة «الأردين» وغابتها، وجبال الفوزج والجورا Jura، ومن الجنوب جبال الإلب حتى بحر الأدرياتيك، ومن الشرق جبال الكربات، وأما داخل هذه الحدود فلا يجب أن يكون هناك غير لغة واحدة، ومثل سياسي واحد.

وواضحٌ أن هذه المطالب إنما تستند على الآراء التي نادى بها «هردر»، وتكاد تكون صورةً طبق الأصل من نظريَّته القائلة باستناد القومية على اللغة، ولكن مع توسُّع في الصورة السياسية التي سوف تَتَجَسَّم فيها هذه الفكرة بدرجةٍ لا شك في أنها مما قد يُدْهَش له «هردر» كثيرًا.

وهكذا كانت القومية الألمانية عند بدء ظهورها، أو في فَجْر بزوغها، قوميةً تدعو للألمانية أو الجرمانية، كما أنها كانت تمتاز بذلك الطابع الديني الذي جعل «الجيش الإقليمي Landwehr» يتخذ شعارًا له: «مع الله، ومن أجل الملك والوطن»، والذي جَعَلَ المجندين أو المتطوعين للالتحاق بهذا الجيش، يبدءون حياتهم فيه بحضور صلاة دينية، حتى إن الجنرال «بولو» كتب لأحد أصدقائه في مارس ١٨١٣ أن بوسعه — وكما فعل أوليفر كرمويل «الإنجليزي» — أن يُعْطِيَ كُلَّ فارس من فرسانه نسخة من الكتاب المقدس ليحملها معه في سرج جواده، ولقد أُقِيمَ نصب تذكاري بأسماء القتلى في الحرب في كل كنيسة لوثرية، وأما هذا الطابع الديني فقد نَهَضَ وجوده دليلًا على ذلك الاتجاه الذي حَصَلَ منه انبثاق الروح القومية في ألمانيا، ليجعل من ألمانيا «أداة» في يد الإله، يَصْدُر نشاطها عن مشيئة الإله نفسه ولتأدية الرسالة التي يريدها المولى.

(٤) بقية أوروبا

وفي غير ألمانيا: لم تَتَّخِذ حروبُ التحرير ذلك الشكلَ العنيف، ولم يكن لها ذلك الأثرُ الفعلي النافذُ بالدرجة التي شوهدت في ألمانيا.

ففي إسبانيا

كانت حركة التحرير العبءَ الذي وَقَعَ على كاهل القوات العسكرية، وخصوصًا القوات العسكرية الإنجليزية؛ فقد انتشرت الثورة في هذه البلاد في خريف ١٨١٣ في أقاليم بسكاي ونافار، بصورة ألزمت فريقًا من القوات الفرنسية بقيادة «كلوزيل Clausel» على الوقوف وعدم الحراك في أماكنهم، ثم كان من نتيجة الزحف الذي قام به «ولنجتون» على «سلامنكا» من جهة، ثم قيامه من عند نهر «دورو» قاصدًا إلى «جاليكيا Galicia» لإمداد الثوار بالمساعدة من جهة أخرى، أن اضْطُرَّ «جوزيف بونابرت» إلى الانسحاب من مدريد مع عسكره حتى نَهْر «الإبرو Ebro»، ولقد ذَكَرْنا عند الكلام عن الحرب الإسبانية ضد نابليون، كيف أن «ولنجتون» — بعد أن أَنْزَلَ الإنجليزُ جنودَهم على الساحل الإسباني بعد تحريره — استطاع أن يُحْرِزَ انتصارًا عظيمًا على الفرنسيين في واقعة «فيتوريو» في ٢١ يونيو ١٨١٣، وهو النصر الذي أَرْغَمَ جيش «جوزيف بونابرت» على التقهقر خلف نهر «البيداسوا»، أي إنه أُرْغِمَ على ترك إسبانيا بأسرها، وأما جيش «كلوزيل» في «جاليكيا» فقد التقى به خلف الحدود الإسبانية كذلك، في حين تقهقر جيش «سوشيه Suchet» صوب «روسيليون Roussillion»، وبالجملة فإن الذي حصل في إسبانيا لم يكن إلا تعاونًا كاملًا بين الثورة القومية أو الوطنية في البلاد والحملة الإنجليزية العسكرية.

•••

على أن الوقائع العسكرية في أوروبا الشمالية الغربية — على خلاف ما حَصَلَ في إسبانيا — لم يكن لها أَثَرٌ حاسم في حركة التحرير التي حَدَثَتْ، بل كانت الوقائع السياسية قبل كل شيء آخر هي التي فَعَلَتْ ذلك؛ بمعنى أن «السياسة» التي جَرَتْ عليها البلدان في هذا القسم من أوروبا، كانت المسئولةَ عن خلاص الشعوب والحكومات وتحريرها من السيطرة النابليونية.

ومن ناحية الترتيب الزمني؛ حصل تحريرُ أوروبا الشمالية الغربية بعد تحرير أوروبا الوسطى، ولا جدال في أن وجود عنصر سياسي — كعامل جوهري — وأكثر أهمية من العنصر العسكري في بَعْث أو مَوْلِدِ الشعور القومي في هذه المنطقة، مما يضفي على تاريخ «القومية» طابعًا فريدًا في نوعه.

ففي هولندة

اضْطُرَّ حاكمها الفرنسي «لوبران» — القنصل القديم في عهد القنصلية بفرنسا — إلى مغادرة العاصمة في ١٦ نوفمبر ١٨١٣، وكانت خطة الإنجليز أن يزحف «برنادوت» مع قواته — التي تؤلف الجناح الشمالي الأقصى لجيوش الحلفاء — على هولندة بكل سرعة لينتزعها من الفرنسيين، وأن يمد يد المساعَدة للقوات الإنجليزية المنتظر نزولها في هذه البلاد، ولكن بدلًا من الزحف صوب هولندة مباشرة، آثر «برنادوت» أن يزحف عن «هولشتين Holstein»، مدفوعًا بمصالحه الخاصة، حيث أراد إرغام الدنمارك — وقد وصل إليها «الآن» بقواته — على التخلي له «وللسويد» عن النرويج، وعلى ذلك فقد وَجَدَ الهولنديون — بسبب تخلف «برنادوت» — أنه صار عليهم وحدهم القيامُ بكل الأعباء والجهود اللازمة للتحرر والخلاص، وكان من هذه الحقيقة أن اتخذت حركة الخلاص والتحرر في هولندة طابعًا قوميًّا في جوهره؛ فبدأت الثورة في ١٧ نوفمبر ١٨١٣ في لهاي وأمستردام، وتشكلت حكومة ثلاثية برياسة «هوجندروب Hogendrop» — أحد رجال السياسة.
وطلبت هذه الحكومة النجدات من لندن، ووجَّهَتْ نداءً للبرنس أورانج حتى يحضر لقيادة الثورة، وبالفعل نزل «أورانج» في البحر عند «شفيننجن Scheveningen» في ٣٠ نوفمبر ١٨١٣ وسط مظاهرات الشعب الحماسية، وذلك في حين أن القائد البروسي «بولو» لم يلبث أن وَصَلَ من الغرب مخترقًا هولندة في بداية شهر ديسمبر؛ فبلغ «أوترخت» التي أَصْدَرَ منها بتاريخ ٩ ديسمبر ١٨١٣ منشورًا موجَّهًا إلى البلجيكيين، وكان الموظفون الفرنسيون في أثناء ذلك كله قد بادَروا بمغادرة البلاد بكل سرعة، خلال النصف الأخير من شهر نوفمبر وبداية شهر ديسمبر من سنة ١٨١٣.

وواضح أن انتهاء السيطرة الفرنسية من هولندة لم يكن نتيجة عمليات عسكرية، ولقد كان من أَثَر ثورة الهولنديين لخلاص بلادهم، أن انتقل خط الدفاع الفرنسي إلى بلجيكا ودون أن يكون لهذا «الدفاع» قُدْرَةٌ ما على الافتئات أو «الاعتداء» على هولندة، وثمة حقيقة يجب ذِكْرها، هي أن السيطرة الفرنسية في سنواتها الأخيرة في هولندة — «كحكومة» أجنبية شديدة الوطأة على البلاد — قد أَفْلَحَتْ في أن يزيد تَعَلُّق الهولنديين بأُسْرة أورانج ومحبَّتهم لها، فرَحَّب هؤلاء في حماسٍ عظيم بحكومتهم الجديدة، واستقبلوا بهذا الحماس نفسه «استقلالَهم القومي» الذي كان لهم في الماضي، والذي استرجَعُوه الآن بزوال السيطرة الفرنسية.

وفي بلجيكا

تضافَرَتْ في أول الأمر عوامل عدة جَعَلَتْ من اليسير انحياز البلجيكيين إلى جانب السيطرة الفرنسية، من ذلك تسوية الخلاف مع الكنيسة بفضل «الكونكردات»، أي الاتفاق الذي أَبْرَمَتْه الحكومة القنصلية الفرنسية مع البابا بيوس السابع في ١٥ يوليو ١٨٠١ «وصار نافذًا من التصديق عليه في ١٠ سبتمبر، ومنذ أن اعْتُبِرَ أحدَ قوانين الدولة في ١٨ أبريل ١٨٠٢»، فأعيدت الديانة الكاثوليكية رسميًّا في بلجيكا — والبلجيكيون من المتمسكين بالكاثوليكية، ومن ذلك الفوائدُ التي صاروا يجنونها من الإصلاحات الاجتماعية والإدارية التي أدخلها الفرنسيون في بلادهم — ولقد ساد الرخاء فترة من الزمن في أول الأمر، نتيجة لسياسة «الحصار القاري»، فانتشر الهدوء والأمن الداخلي، ولم يَصْعُب على البلجيكيين حينئذ قبول السيطرة الفرنسية.

أَضِفْ إلى هذا أن البلجيكيين لم يشعروا بأية عاطفةِ ولاءٍ نحو النظام الذي كان قائمًا في بلادهم قبل عهد «الثورة الفرنسية»، حيث كانت بلجيكا — الأراضي المنخفضة الجنوبية — جزءًا من الأملاك النمسوية، وخَضَعَتْ لذلك لسيطرة نمسوية كانت شديدة الوطأة عليها، ومصحوبة بنوع من التعسف والطغيان الاجتماعي، الذي أَخَذَ به «السادةُ» — كبار أصحاب الأراضي والأملاك ورجال الدين — الشعبَ مأخذًا شديدًا، والذي أَوْجَدَهُ — مِنْ وجهة نظر الكنيسة من ناحية أخرى — فَرْضُ سلطان الحكومة على الكنيسة ذاتها.

ولم يكن هناك وجود تحت السيطرة النمسوية وفي عهدها «لأراض منخفضة» أو «بلجيكا»، أو أية «ذكريات» قد تربط البلجيكيين بتراث «قومي»، ولكن ذلك كله لم يلبث أن أَخَذَ في الظهور تحت السيطرة الفرنسية بسبب ثقل وطأة هذه السيطرة على البلجيكيين، وخصوصًا في السنوات الأخيرة منها، وأثناء انهيار الإمبراطورية الفرنسية، فكان عندئذ أن بدأت تبرز الخطوط الأولى لما سوف يصبح «قومية بلجيكية»، ولما سوف يَصْنَع كلَّ تلك العوامل التي أفضت بين عامي ١٨١٥–١٨٣٠ إلى مولد الدولة البلجيكية بعد حوادث الثورة التي قامت في بروكسل، وامتدت إلى سائر البلاد في شهر أغسطس ١٨٣٠ على نحو ما سيأتي تفصيله في موضعه.

ولقد كان العنصر الأول في هذه الحركة الوطنية — والذي كان على درجة كبيرة من الأهمية — تلك «المقاوَمة الدينية» التي وُجِّهَتْ ضد الحكومة الإمبراطورية، وكان مبعث هذه المقاومة قبل كل شيء تلك «التعاليم الإمبراطورية الدينية» التي تَحَدَّثْنا عنها في فصول سابقة،٦ والتي جَعَلَتْ معارَضة النظام الإمبراطوري السائد إنما يستحق مرتَكِبُها اللعنةَ الأبدية، ورَفَضَ رجالُ الدين والبلجيكيون عمومًا قبولَ هذا النوع من «التعاليم الدينية» أو المسيحية الإمبراطورية، وأثار نضال الإمبراطور مع البابا بيوس السابع الذي أَخَذَ يشنه في بداية سنة ١٨١٠ — واضطهاد نابليون للبابا — تَذَمُّر وغَضَب البلجيكيين.
ومنذ سنة ١٨١٠ بدأت حركة عميقة من جانب رجال الدين والأهلين الكاثوليك في بلجيكا، قوامها المعارضة للحكم الفرنسي، وتزعم المعارضة والمقاومة الأساقفة «حتى الذين كانوا من أصل فرنسي»، نذكر من هؤلاء القادة الكنسيين: أسقف «جاند Gand» وأسقف «تورناي Tournai»، ومن كبار رجال الدين والمطارنة: «دي بروجلي Broglie» و«هيرن Hirn» ثم غير هؤلاء، وقد كانوا جميعًا يتمتعون بنفوذ عظيم على الشعب، خصوصًا اثنان منهم، هما: «فاند فلد Van de Velde»، و«دوفيفيه Duvivier»، ولقد تصدى هذان الأسقفان لمعارَضة مشروعات نابليون التي اتضحت في «المجمع الكنسي Concile» الذي عقده في شهر يونيو ١٨١١، والتي كان الغرض منها — على نحو ما ذكرناه في موضعه — أن يَنْتَزِع الأساقفةُ حَقَّ رسامة القساوسة، وهو الحق الذي رَفَضَ البابا أن يكون لهم، وكان الأسقفان البلجيكيان في مقدمة المعارضين لهذه المشاريع، فألقى نابليون القبضَ عليهما، وسرعان ما نَجَمَ من هذه الخطوة انتشار روح تمرُّد وعصيان حقيقي بين رجال الدين في بلجيكا، كان على درجة بالغة الخطورة.
فقد رَفَضَ القساوسة في أبرشياتهم أو أسقفياتهم، الاعتراف بمن يحل في مكان هذين المقبوض عليهما، ثم إنهم رفضوا الاعتراف بالأساقفة الذين صار تعيينهم في «مالين Malines»، وفي «لييج Lièges» بقرار من الحكومة، وصدر الأمر بتولي العمل في أبرشياتهم دون انتظار لرسامة البابا (منذ شهر أغسطس ١٨١٠)، وكان هذان هما الرئيس الديري «برادات L’Abbé Pradt» وزميله «لوجياز Lejeas».
ثم إن تلامذة المدارس الأكليريكية كانوا أقوياء الشكيمة، لم يلبثوا أن آثروا الالتحاق بالجيش على الاعتراف بالرؤساء الديريين الجدد، فأُلْقِيَ بِعَدِيدِينَ منهم (حوالي مائة وثلاثة وتسعين من تلاميذ المدارس الأكليريكية في جاند) في سجون بلدة «ويزل Wesel» الواقعةِ على نهر الراين، ومات منهم كثيرون، أما الخوارنة فقد رَفَضُوا أن يطلبوا الخير وطول الحياة في تراتيلهم بعد القداس، بل صاروا بدلًا من ذلك يُحَرِّضون الفلاحين على الثورة، ثم كَثُرَ عدد أولئك الذين أَخَذُوا يَقُصُّون خَبَر «المعجزات» التي أجازت السماءُ حدوثَها — «إشارةً» إلى قُرْب زوال عهد السيطرة الفرنسية، وأُفُول نجم الإمبراطور نابليون — وكَثُرَ عدد أولئك «المتنبئين» والضاربين في عالَم الغيب الذين شَرَعُوا يجولون في طول البلاد وعَرْضها يوزعون على الأهلين «الرسائل» التي أَخْفَوْها تحت أرديتهم وعباءاتهم.

ولقد تضافَرَت الأدلةُ على أن مقاوَمة القساوسة ورجال الدين هذه كانت تلقى تأييدًا كبيرًا من جانب «الرأي العام» في بلجيكا، الأمر الذي جَعَلَ لهذه المقاوَمة آثارًا بعيدة.

وثمة سبب ثانٍ لهذه المقاوَمة ضد السيطرة الفرنسية كان منشأه الأزمة الاقتصادية التي ساعَدَتْ على اتساع دائرة التذمر والغضب من الإدارة الفرنسية، والذي كان أصلًا — كما شهدنا — تذمرًا دينيًّا؛ فصار يشمل الآن كل تلك الطبقات التي كانت ذات ميول عدائية ضد الكنيسة، ثم تلك التي كانت أثناء عهد الرخاء تَدِينُ أكثر من غيرها بالآراء الفرنسية، والذي تَجِبُ ملاحظته أنه بالرغم من التدين الذي اشتهر به البلجيكيون عمومًا، وإيمانهم العميق بالعقيدة الكاثوليكية؛ فقد كان هناك فريق من السكان أو الأهلين في بلجيكا، اتخذوا — على العكس من ذلك — موقفًا عدائيًّا من الكنيسة، وأيدوا الحركة «التعقلية»، وتلك حقيقة هامة؛ لأن العداء كان مستحكمًا بين هذين العنصرين، وهو عداء بين «مثاليتين» كان موجودًا من أيام السيادة النمسوية، ثم إنه لا يلبث أن يتضح مرة أخرى عندما يصبح هذان التياران المتناقضان أساسَ تأليف الأحزاب السياسية في بلجيكا، عند استقلال البلاد بعد ذلك وإنشاء الملكية بها.

أما الأزمة الاقتصادية فقد بدأت تستفحل سنة ١٨١٣، نتيجة لنظام الحصار القاري خصوصًا الذي أصاب صناعة النسيج بالعجز؛ لتعَذُّر الحصول على المواد الخام اللازمة لها؛ فاضطر الغزالون في «جاند» مثلًا أن يستغنوا عن ألف وثلاثمائة عامل دفعة واحدة، وفي خريف ١٨١٣ نَزَلَ إنتاج الأقمشة إلى العُشْر فقط من مقداره السابق، وفي المقاطعة التي بها «بروكسل» خرج حوالي ستة آلاف من العمل «بأن نَقَصَ عدد العمال من خمسة عشر ألفًا إلى تسعة آلاف فقط».

ومنذ ١٨١١ كان قد بدأ يتزايد إفلاس المصارف (البنوك) وأَشْهَرَ عديدون من التجار كذلك إفلاسهم، ولَحِقَ الأذى بالمواني مثل «أوستند»، و«انتورب» حيث أصيب بالشلل نشاطهما نتيجةً للحصار القاري، وكان من المتوقع أن يؤدي الحصار القاري إلى ارتفاع تكاليف المعيشة الذي مَبْعَثه هذه الأزمة الاقتصادية ذاتها، والذي كان سببه كذلك الضرائب الثقيلة التي فَرَضَتْها الحكومة الفرنسية تنفيذًا لسياسة الحصار القاري، ولأنه تَعَذَّرَ بفضل هذا الحصار نفسه ورود المواد الخام وغيرها من السلع من الخارج، وقد عانى سواد الشعب البؤس والضنك نتيجةَ غلاء المعيشة والأزمة الاقتصادية، ثم زاد تذمره بسبب «التجنيد» الذي أَخَذَتْ تشتد وطأته يومًا بعد آخر؛ فبلغ عدد المجندين من شعب بلجيكا القليل مائة وعشرة آلاف في سنة ١٨١١، ثم ارتفع هذا الرقم إلى مائة وعشرين ألفًا في سنة ١٨١٢، وإلى مائة وستين ألفًا في سنة ١٨١٣، يضاف إلى ذلك «الحرس الأهلي» الذي بَلَغَ مائة ألف رجل.

وكَثُرَتْ محاولات الشباب الإفلات من الجندية، وساعَدَت المجالس البلدية هؤلاء الشبان على الفرار من الخدمة العسكرية، ولم تَتَعَاوَنْ مع السلطات المسئولة عن التجنيد، حتى إنه لم تلبث أن صارت «الجندرمة» تُطَارِد الصالحين للخدمة العسكرية، وكان من بين الحوادث الكثيرة المتصلة بهذه المسألة قيام المجندين بعصيان كبير في مدينة «بروج Bruges» في شهر أبريل ١٨١٣، فأوسعوا رئيس هيئة التجنيد بها ضربًا حتى قَتَلُوه، ثم مَزَّقُوا سجلات التجنيد والتعبئة، وتزايَدَتْ وطأة التجنيد حتى صار يشمل الأسر الموسرة والأعيان؛ فقد صار يؤخذ أبناء الطبقة المتوسطة (البورجوازي) لإدخالهم المدارس الحربية، وفي سنة ١٨١٣ فَرَضَ نابليون على هؤلاء تأليف حرس شرف، فبعث هذا الإجراءُ الرعبَ والفزعَ في قلوب الأسر البورجوازية، عندما رأى الأثرياءُ الذين دفعوا مبلغًا كبيرًا من المال (خمسة آلاف أو ستة آلاف فرنك) لإعفاء أبنائهم من الخدمة العسكرية، هؤلاء يُنْتَزَعُون منهم «لتجنيدهم» بالرغم من هذه التضحية.

ولقد كان هناك سببٌ ثالث للتذمر الذي حدث من السيطرة «والحكومة» الفرنسية، مَبْعَثُه ذلك النظام البوليسي الذي تأسَّسَ في بلجيكا، والذي نَشَرَ نوعًا من الاضطهاد والضغط تزايَدَتْ صرامته يومًا بعد آخر، حتى صارت الحياة في البلاد تُشْبِه الحياة في ظِلِّ محاكم التفتيش الرهيبة في الأزمان السالفة، فعَظُمَ الحجْرُ على حرية الرأي وحرية الفرد، بفضل التنظيمات التي أنشأها الحكم الفرنسي.

فمنذ سنة ١٨١١ صار تنظيم «هيئة عليا للبوليس Haute Police» في بلجيكا، ذات وكالات أو قوميسيريات خاصة٧ «ولجان عامة»٨ لا تخضع للمديرين أو مأموري البوليس، ولكنها تتلقى أوامرها من باريس مباشرة، وفي بعض الأحايين ضد هؤلاء «المأمورين» أنفسهم، لدرجة أن هؤلاء لم يَلْبَثوا أن شعروا بوطأة هذه «الجاسوسية» المهيمنة عليهم وعلى الأهلين على السواء، وعلى ذلك فقد كانت هيئة «البوليس العليا» هذه «سلطة» تعسفية، تتدخل في شئون كل إنسان وفي دقائق كل مسألة، ومع ذلك فقد عَرَفَ البلجيكيون كيف يتشبثون بحرياتهم الشخصية، حينما كانت الحرية الشخصية — أي حرية الفرد — مع تقاليد الحكم الذاتي عن طريق المجالس البلدية، أقوى الخصائص التي تَمَيَّزَ بها شعور البلجيكيين السياسي.
ولقد حَدَثَ في اللحظات الأخيرة للإمبراطورية أن ثارت «فضيحة» أَحْدَثَتْ رجة عنيفة بين أهل البلاد، وذلك عندما ألقى البوليسُ القبضَ على «وربروك Werbrouck» عميد بلدية «أنتورب» الذي ارتاب البوليس خطأ — ولا شك، ودون أن ينهض دليل على ذلك على كل الأحوال — في أنه يُشَجِّع «التهريب» لاختراق الحصار القاري، ومع أن رئيس البوليس تَقَدَّمَ بشخصه ضامنًا له، فقد أُوقِفَ عميد البلدية عن عمله ووظائفه، ثم لم يلبث أن صَدَرَ أَمْر شخصي من الإمبراطور نابليون؛ فأُلْقِيَ القبض عليه وقُدِّمَ للمحاكمة في نفس الوقت الذي صودرت فيه أملاكه بصورة غير قانونية، وبالرغم من أن قضاة المحكمة والمحلفين قد «اختيروا» بعناية؛ فقد بَرَّأَتْ محكمة بروكسل ساحة «وربروك» في ربيع ١٨١٣ بعد أن تولى الدفاع عنه أحد المحامين الفرنسيين «برييه Berryer» — الذي سوف يتولى الدفاع بعد عامين من هذه الحوادث عن المارشال «ناي Ney» في فرنسا (١٨١٥).

وقابَلَ الرأيُ العامُّ تبرئةَ «وربروك» بمظاهرات صاخبة، وجُنَّ جنون نابليون الذين كان في هذه اللحظة مشغولًا بقيادة العمليات العسكرية في سكسونيا؛ فأصدر أوامره من «درسدن» إلى مجلس الشيوخ لإلغاء الحكم الصادر من محكمة بروكسل، وتقديم عميد بلدية أنتورب للمحاكمة من جديد أمام محكمة أخرى؛ فأُعِيد القبض على «وربروك» وأودع السجن، وكان «وربروك» متقدمًا في السن فلم يلبث أن توفي في محبسه، وقبل أن يظهر أمام محكمة أخرى، ولكن في أثناء ذلك كانت إمبراطورية نابليون قد تقَوَّضَتْ عروشها.

وعلى ذلك، وبسبب كل هذه العوامل الدينية والاقتصادية والسياسية، تَحَوَّلَ الرأي العام في بلجيكا في غضون سنتي ١٨١٣-١٨١٤ تحولًا تامًّا ضد فرنسا؛ فكل الطبقات في غضب شديد ضد السيطرة «والحكومة» الفرنسية، وكان تحت تأثير السخط والتذمر أن «استيقظت» الذكريات القديمة، فارتسمت في أذهان البلجيكيين صور «زاهية» لذلك الحكم الذاتي الذي «تمتعوا» به قَبْل السيطرة الفرنسية، وشعر المسنون — خصوصًا وهم يؤلفون الطبقة المحافظة — بالحنين لذكريات «السيطرة النمسوية» التي كانت سيطرة «أبوية» لم تُسَبِّب للأهلين إرهاقًا ولا عنتًا.

ومنذ هزيمة الجيش الأعظم في روسيا وتقهقره من موسكو، وذيوع هذا الخبر في بلجيكا، أَبْلَغَ مديرو البوليس عن إشاعات «مؤذية» صارت رائجة في كل مكان تقريبًا، في مقاطعة «ليز Lys»، وفي أكثر المقاطعات اصطباغًا بالفرنسية في بلجيكا مقاطعة «أورت Ourthe»، أي في الجنوب الشرقي، وفي إقليم «لييج» حَذَّرَ مديرُه السلطات من «أن رغبة الأهلين عامة إنشاء دولة منفصلة»، وفي شهر أبريل ١٨١٣ انزعج مديرٌ جديد عُيِّنَ لهذا الإقليم عندما شاهَدَ عند وصوله إلى بروكسل الجدران في كل مكان وقد غَطَّتْها اللافتات والإعلانات ذات العبارات الشديدة اللهجة والمعادية لفرنسا، ولقد تَبَيَّنَ من تقارير المديرين في مجموعها أن ثلاثة أخماس الأهالي في مقاطعة «أورت» كانوا لا يزالون متعلقين بالفرنسيين ومتمسكين بولائهم لهم قبل معركة ليبزج، ولكن في المقاطعات الأخرى لم يلبث أن صار أربعة أخماس السكان — على العكس من ذلك — أعداءً لفرنسا بعد معركة ليبزج، وانتشر روح التمرد والعصيان انتشار البارود بينهم.
ولقد كان للثورة التي قامت في هولندة آثار عميقة في بلجيكا؛ فقد اشتعلت الثورة في هولندة — كما شاهدنا — في ١٧ نوفمبر ١٨١٣، فلم تَمْضِ أيام قلائل حتى أَعْلَنَ مدير بروكسل في ٢١ نوفمبر أنه يخشى من حدوث ثورة عامة، ولم يَلْبَثْ أن امتنع الناس عن دفع الضرائب، ورَفَضَت المجالس البلدية أن تَبْعَثَ للإمبراطور بالخُطَب والالتماسات التي طُلِبَ منها إرسالها له، وامْتَنَعَ المجندون عن الالتحاق بالجيش، وتَأَلَّفَتْ في المدن فرق من «الحرس» الخاص بالمدن،٩ مُهِمَّتُها — من حيث المبدأ — الدفاع عن هذه المدن ضد الغزاة أو المعتدين على البلاد، ولكن لم يلبث «المدير» في جيماب أن صار يتساءل: إذا لم تكن مهمة هذا «الحرس» الحقيقية هي مد يد المساعدة لجيوش الحلفاء عند حضورها؟ ولقد حضرت جيوش الحلفاء فعلًا إلى بلجيكا في آخر ديسمبر ١٨١٣، فجاءت طلائعها أولًا، ثم جاءت بعدها الجيوش ذاتها في شهر يناير ١٨١٤ فدَخَلَتْ بروكسل في أول فبراير آتية من الشمال، وقد استمرت العمليات العسكرية في بلجيكا حتى نهاية شهر مارس ١٨١٤ تقريبًا.

ولكن هؤلاء البلجيكيين الذين اتفقت كلمتهم على الكراهية لفرنسا، واتحدت جهودهم ضد السيطرة والحكم الفرنسي، ثم حضَرَتْ جيوش الحلفاء لتحرير بلادهم واستنقاذها من هذه السيطرة الفرنسية البغيضة، لم يكن لهم رأي مسموع لدى دوائر هؤلاء الحلفاء أنفسهم — العسكرية والسياسية — بشأن مستقبلهم، ذلك أن تقرير مصير البلاد سوف لا يكون مرتبطًا بالرغبات التي يبديها البلجيكيون «لحلِّ» مسألتهم، بل إن «الحلفاء» هم الذين سوف يتوَلَّوْن إيجاد حلٍّ للمسألة البلجيكية، يستند على اعتبارات سياسية عامة، قوامها المحافظة على توازن القوى في أوروبا، ودون استشارة الشعب البلجيكي نفسه، أو حتى التفاهم معه على «المصير» المنتظر له.

ففي اللحظة التي دَخَلَ فيها الجنرال «بولو» مدينة «بوترخت» وَجَّهَ نداء للبلجيكيين يدعوهم فيه للثورة، ثم إن دوق «ساكس فايمر» الذي كان قد وَقَعَ عليه الاختيارُ أولًا ليَحْكم البلاد، لم يلبث هو الآخر أن أصدر منشورًا من بروكسل في ٧ فبراير ١٨١٤، جاء فيه: «إن الطغيان قد انتهى أَجَلُه، وإن النظام قد أصبح يسود البلاد من جديد، وإن استقلال بلجيكا قد صار أمرًا لا شك فيه»، ودعا البلجيكيين إلى أن يكونوا هم «المحررين» لبلادهم.

ولكن الذي يجب التساؤل عنه، هو هل قام البلجيكيون بالثورة العامة، أو بمجهود مُسَلَّح تمَخَّضَت عنه كراهيتهم الشديدة للفرنسيين وتذمُّرُهم من الحكم الفرنسي، فساهَموا في استنقاذ بلادهم إلى جانب جيوش الحلفاء التي حَضَرَتْ إلى بلجيكا لإنهاء السيطرة الفرنسية منها؟

الحقيقة أن سواد البلجيكيين كانوا قانعين بأن يشاهِدوا نهاية الحكم الفرنسي تَتَقَرَّر على أيدي جيوش الدول المتحالفة ضد نابليون، دون أن يُسْهِموا هم أنفسهم في العمليات المحقِّقة لهذه الغاية، فلم تَحْذُ أية مدينة من المدن البلجيكية حذو المدن الهولندية، مثل أمستردام أو لهاي أو غيرهما، بل على العكس مما حدث في هولندة كان موقف البلجيكيين مدموغًا بعدم الاكتراث، و«البلادة» أو الخمول، وعدم المبالاة بما يجري حولهم؛ فهم لم يشتركوا في المعركة، لا في جانب الحلفاء «المحرِّرين»، ولا في جانب الفرنسيين، بل تركوا الأمور تجري في أعنتها، وراحوا ينتظرون ما سوف تُسْفِر عنه من نتائج.

ولقد أَفْصَح «هوجندروب» زعيم الثورة الهولندية عن اشمئزازه من مسلك البلجيكيين، فكتب في يناير ١٨١٤:

لو أن البلجيكيين أَظْهَروا من النشاط ما يكفي لأن يَنْجَحوا وحدهم في طرد الفرنسيين من بلادهم؛ لصار يَحِقُّ لهم أن يُقَرِّروا هم أنفسهم مصيرهم، ولكن المرء لا يسمع منهم إلا مقالة واحدة تتردد من كل مكان، إنهم يريدون مشاهدة جنود الدول المتحالفة ومجيئ هؤلاء إلى بلادهم، وبمعنى آخر إنهم يريدون أن يفتتح غيرهم بلادهم وأن يغزوها.

ولا جدال في أن بعض السبب في ذلك التخاذل أو عدم الاكتراث، كان مَرَدُّه إلى ذلك الخلاف والانقسام الذي أَشَرْنا إليه في صفوف البلجيكيين بين جماعة الطاعنين في السن، من المحافظين الذين ذَكَرْنَا أنهم كانوا يحنون لذكريات العهد النمسوي، ويريدون عودة النظام القديم، والذين طالَبوا باجتماعِ ممثلي الأمة عن مجلس الطبقات في كل من وِلَايَتَيْ «برابانت Brabant»، و«هينولت Hainault»، واتَّصَلُوا من أجل ذلك بالإمبراطور النمسوي فرنسيس الثاني، اعتقادًا منهم بأن النمسا سوف يهمها الأمر باعتبار أنها الدولة التي كانت تملك الأراضي الواطئة «البلجيكية» قبل «الثورة الفرنسية»، على أن جماعة الشباب من الذين لم يَعْرِفوا «النظام النمسوي»، ومن الأهلين الذين اشتغلوا بالصناعة، والذين صارت لهم مصالح جديدة، كانوا جميعًا من أنصار «حقوق الإنسان»، وعدم إلغاء الإجراءات التي تم بها «بيع» الأملاك الأهلية.

ولقد حَكَمَ الحلفاءُ بلجيكا بواسطة قومسييرين من النمسويين، ثم إنهم احتفظوا — أو على الأقل تظاهَروا بأنهم يريدون الاحتفاظ — بالجهاز الإداري الذي أَوْجَدَه الفرنسيون دون إدخال تعديل عليه؛ فعيَّنوا بدلًا من الفرنسيين في الوظائف الكبرى، موظَّفين من أهل البلاد، ولكنهم أَبْقَوا الفرنسية لغة رسمية، وكان في الأقاليم الفلمنكية فقط أن اضْطُرُّوا إلى ترجمة الكتابات الرسمية إلى اللغة الفلمنكية، بجوار النص الفرنسي.

وفي ٧ مارس ١٨١٤ صَدَرَ قرار بإلغاء «الكونكردات»، وتَوَلَّتْ الكنيسة رعاية الشئون الدينية، وكل تلك كانت اتجاهات دَلَّت على أن الحلفاء يريدون انتهاج سياسة تستجيب لمطالب الأهلين، وتُرْضِي رغبتهم في الاستقلال، ولكن سرعان ما صار «احتلال الحلفاء» عبئًا ثقيلًا، أَرْهَق الأهلين أكثر مما أَرْهَقَهم الاحتلال الفرنسي السابق؛ لأن الحلفاء الذين عَرَفُوا أن احتلالهم «مؤقت» ولن يدوم بقاؤهم في بلجيكا، طفقوا يصادرون ويستولون على الأموال والمواد من الأهالي دون شفقة أو هوادة، حتى إن احتلال هؤلاء «المحررين» سرعان ما صار موضع كراهية أشد من تلك التي أثارها الاحتلال الفرنسي الذي تَخَلَّصَت البلاد منه.

ولقد بَقِيَ الشعب البلجيكي في واقع الأمر، يتخذ موقفًا سلبيًّا وسط كل هذه الاضطرابات وهياج الخواطر الذي شمل أوروبا بأسرها وقتئذ، حتى إن البارون فنسنت Vincent — وهو «القومسيير العام» أو الحاكم الذي تولى الحكم في بلجيكا إلى أن يَحِينَ موعد الفصل في مصيرها — سَجَّلَ في مذكراته عند الكلام عن البلجيكيين:

إن المرء لا يسعه في حكومة بلادهم إلا أن يتوخى — أكثر من اللازم في إدارة الشئون العامة بها — الحرص على تجنيب السلطات خَطَرَ وجود نَفْسها في موضع يجعلها تصطدم بادعاءات ومطالب الأهلين الديمقراطية من جهة، وبذكريات الدساتير «أو الأنظمة القديمة»، وهي الذكريات التي يَكْمن الخطر كذلك في إحيائها وبعثها.

ولعبارات هذا الحاكم العامِّ النمسوي أهمية كبيرة من حيث إنها تشير إلى وجود ذلك الانقسام الذي تَكَلَّمْنا عنه بين فريق المحافظين من الأهالي المشدودين إلى الماضي، وفريق الشباب المربوطين بالإصلاحات التي جاءت بها «الثورة الفرنسية» والمبادئ التي نادت بها.

وكان هذا الانقسام مَبْعَث عَجْز البلجيكيين، ومبعث المنازعات التي حصلت بينهم، ومع ذلك فقد لَمَسَ هذا الحاكم النمسوي في الوقت نفسه وجود رغبة واحدة لدى الفريقين، هي تحقيق الحرية المحلية، سواء اتخذت هذه الرغبة صورة «العزلة» والحياة الإقليمية، أو إنشاء الوطن القومي البلجيكي، ولقد كان متعذرًا أن تتحقق هاتان الغايتان معًا وفي وقت واحد، ولا جدال في أن «تفاعل» كل منهما على حدة من ناحية، ثم وجودهما «بآثارهما» إلى جانب بعضهما بعضًا، إنما يؤدي إلى ذيوع نوع من الفوضى في «الفكر» و«العاطفة»، وينهض في الوقت نفسه دليلًا على وجود هذه الفوضى في تفكير البلجيكيين وعواطفهم.

والحقيقة أن البلجيكيين في هذه المرحلة، وبعد إنهاء السيطرة الفرنسية من بلادهم لم يكونوا بَعْدُ قد بَلَغوا الوضع الذي يؤذن بتأسيس «الدولة»؛ فهم دائمًا متمسكون بحرياتهم وحقوقهم وتقاليدهم المحلية، وأنظمتهم الإقليمية ومجالسهم البلدية، وتعوزهم الرغبة أو الإرادة في أن تكون لهم حريات أسمى وأعلى من تلك التي يتمتعون بها في ممارسة أعمالهم المحلية «الصغيرة»، ولقد كان هناك — من ناحية أخرى — إدراكٌ كامل لكل تلك المصالح الاقتصادية، أو الحقوق المدنية التي نشأت من أيام «الثورة الفرنسية»، والتي ظَلَّتْ قائمةً بعد سقوط فرنسا، ولكن من المقطوع به أنه لم يكن هناك وجودٌ بَعْدُ «لِقومية بلجيكية»، بل كان كل الذي حَدَثَ أن احتوى الانقسام الذي شهدناه بين فريقي المحافظين، كبار السن، والشباب المتأثرين بالإصلاحات والمبادئ «الفرنسية» الحديثة، على البذور التي نَبَتَ منها فيما بعد الشعور القومي في بلجيكا.

وفي إيطاليا

كانت البلاد مسرحًا للمؤامرات والتيارات السياسية المختلفة التي كان بعضها يستهدف الوحدة الإيطالية، أو خَلْق الأداة التي تفيد في بلوغ هذا الغرض في النهاية، ولكن دون أن يتفق ذلك مع «حركة» ما من جانب سواد الشعب الإيطالي، ودون أن يعني انتقال الفكرة «الإيطالية» — فكرة إنشاء دولة إيطاليا — إلى دور الشعور السياسي وإلى ميدان العمل، حتى بين الطبقات التي كانت أكثر نموًّا وتطورًا في تفكيرها السياسي من غيرها، وكانت تدين بهذه الفكرة ذاتها.

وفي عهد السيطرة الفرنسية في إيطاليا، كان يساند الفكرة القومية عدد من «الجماعات» التي ظَهَرَتْ في ميدان السياسة؛ فحَاوَلَ فريق منهم أن يفيد من أطماع بعض كبار السياسيين أو يبثوا في نفوسهم هذه الأطماع، وفريق آخر كان مدفوعًا بمَصَالِحِه الشخصية، ثم كان أولئك الذين هم أكثر «مثاليَّة» ويدينون حقيقةً بآراء قومية، وهؤلاء الأقوام هم الذين التفوا حول «يوجين بوهارنيه» نائب الملك في «مملكة إيطاليا» في الشمال، أو حول «يواكيم مورا» في الجنوب، ولقد قامَتْ مؤامرات كبرى ثلاث على أيدي أنصار هذه الجماعات، لم تلبث أن صفيت واحدة منها بسرعة كبيرة، وهي التي كان يحكيها «يوجين بوهارنيه»، وبقيت الأخريان من تدبير «مورا» و«مترنخ» وتحريكهما.

وقد بدأ الفريقان نشاطهما بالتعاون فيما بينهما، ثم انتهى الأمر إلى قيام المنافسة الشديدة بينهما بشأن مصير البلاد، وقد كان بفضل السياسات التي اتبعها هؤلاء الثلاثة: «يوجين بوهارنيه»، و«مورا»، و«مترنخ» أن صار ممكنًا وَضْع المسألة الإيطالية على بساط البحث، ثم إخراج هذه المسألة في الوقت نفسه من دائرة نشاط الدول القارية المباشر، والتي لم تكن تهتم بالمسألة الإيطالية، والتي تُرِكَتْ بين أيدي النمسا وحدها فقط، منذ بداية سنة ١٨١٣، تدبير حل لهذه المسألة.

إلا أن إنجلترة — بالرغم من ذلك — صارت الدولة التي أَوْلَتْ اهتمامها المسألةُ الإيطالية؛ فهي قد أَيَّدَتْ أسرة البربون اللاجئة في صقلية، ثم إن سفيرها في نابولي، لورد «بنتينك Bentinck» قد أَخَذَ من تلقاء نفسه، ولدرجة معينة — دون انتظار تعليمات بهذا الشأن من حكومته — يفرض إرادته على فردنند الرابع ملك نابولي (ملك الصقليتين)، وساهَمَ في توجيه السياسة الإيطالية ضد «مورا» الذي حل محل «فردنند» على عرش نابولي.
وفي إيطاليا الشمالية: كانت «مؤامرة» يوجين بوهارنيه تدور حول رغبة هذا الأخير في الاحتفاظ لنفسه «بمملكة إيطاليا»؛ فلا يقنع بمنصب نائب الملك، بل يريد أن يكون الحُكْمُ من حقه مباشرةً بأن يستمر بقاء هذه المملكة، وأن يكون هو الملك المتوَّج عليها، وبعد معركة «ليبزج» (في أكتوبر ١٨١٣) — وكان يوجين قد اشْتَرَكَ في هذه الواقعة التي انهزم الفرنسيون فيها — رَجَعَ «يوجين» إلى ميلان، ورَفَضَ إخلاء إيطاليا الشمالية على خلاف الأوامر التي صدرت إليه من نابليون، ليفعل ذلك، وليعود مع الموظفين الفرنسيين إلى فرنسا، ومع ذلك فقد كان مركزه على درجة كبيرة من الخطورة من الناحية العسكرية، بسبب زحف النمسويين الذين جاءوا من المقاطعات «الإلليرية» بطريق نهر الدراف Drave من جهة، ثم مجيئ نمسويين آخرين بطريق نهر «الأديج» من جهة أخرى، مما أرغم «يوجين» على الارتداد والتراجع إلى لمبارديا فيما وراء «الأديج»، في حين احتل النمسويون من ناحية إقليم الرومانا، ثم جبال الألب من ناحية أخرى.
ومع ذلك فقد كان «يوجين» نفسه مترددًا؛ فهو يريد البقاء على «عرشه» ثم هو لا يجرؤ على خيانة نابليون خيانة علنية، ثم هو لا يجرؤ كذلك على دعوة ممثلي الشعب للاجتماع؛ ليعتمد على تأييد الشعب له، وحاول «يوجين» المفاوَضة مع الحلفاء ليُقِرَّ هؤلاء بقاءَه على العرش، وبالرغم من أنه في لحظة من اللحظات لَقِيَ تأييدًا من القيصر إسكندر، إلا أنَّ تَنَازُل نابليون عن العرش «في ٦ أبريل ١٨١٤» لم يلبث أن تَرَتَّبَ عليه إرغام «يوجين بوهارنيه» عسكريًّا على التسليم إلى القائد النمسوي «بيلجارد Bellegarde» في ٢٦ أبريل ١٨١٤.

ولقد ظهرت في ميلان في هذا الوقت الأحزاب السياسية، فكان أحدها «الحزب النمسوي» الذي تَأَلَّفَ قبل كل شيء من أولئك الذين آثروا السكينة والسلام على أية اعتبارات أخرى، ثم من أولئك «الرجعيين» الذين أرادوا عودة «النظام القديم»، ثم من أولئك الذين عَقَدُوا آمالهم على النمسا، فتوقعوا أن تنال لمبارديا حكمًا ذاتيًّا، وقاموا بحملة دعاية عريضة في صالح النمسا، ولقد وُجِدَ إلى جانب هذا الحزب النمسوي، حزب لا شك في أنه يثير اهتمامًا أكبر، هو «الحزب الحر الإيطالي» الذي شَمِلَ أكثريةَ النبلاء في إقليم ميلان (الميلانيز)، والذين أرادوا استقلال ميلان (الميلانيز)، على أن تكون ميلان المستقلة دولة أكبر اتساعًا، هي مملكة إيطاليا لا يعنيهم أن يكون الأمير أو الملك المنتظر تتويجه على هذه المملكة نمسويًّا أو إنجليزيًّا أو إيطاليًّا؛ طالما قد تَحَقَّقَ استقلال المملكة، واطمأنوا لدوام هذا الاستقلال، ولاحتفاظ مدينة ميلان بأهميتها كعاصمة لهذه المملكة، وبما كان لها من سيطرة في إيطاليا الشمالية، وطالما صحب تأسيسَ هذه المملكة المستقلة إعطاؤهم حقَّ الإشراف على شئونها وتوجيه نشاطها.

وكان رئيس هذا الحزب الحر الإيطالي «كونفالونييري Confalonieri» الذي بادَرَ مع حزبه بتحريك أهل ميلان للقيام بالثورة عند تَنَازُل نابليون عن العرش؛ حتى يُرْغِمَ مجلس الشيوخ في ميلان على دعوة الدوائر الانتخابية، فقامت الثورة فعلًا في ٢٠ أبريل ١٨١٤، وأنشأ مجلس بلدية ميلان حكومةَ «وصاية» لم تلبث أن أَوْفَدَتْ «كونفالونييري» نفسه إلى باريس ليتباحث مع الحلفاء في موضوع استقلال مملكة إيطاليا الشمالية وإعطاء هذه المملكة دستورًا، ولكن «كونفالونييري» وَصَلَ إلى باريس متأخرًا وبعد فوات الفرصة؛ لأن النمسويين كانوا «المنتصرين» في الحرب من ناحية، ولأن «الحلفاء» كانوا قد قرروا من ناحية أخرى تسوية المسألة الإيطالية دون انتظار لمعرفة رغبات الطليان أنفسهم؛ فدخل «بيلجارد» ميلان في نهاية شهر مايو ١٨١٤، وصار يبذل الوعود الطيبة للأهالي، في الوقت الذي اتَّخَذَ فيه احتياطات عسكرية معينة، بالتخلص من القواد الطليان الذين كان محتملًا أن يتزعموا المقاوَمة ضد السيطرة النمسوية.

والحقيقة أن هذا «الحزب الحر الإيطالي» لم يكن بالقوة التي كان يجب أن تكون له لو أنه كان يمثل حركةً إيطالية عامة؛ ذلك بأن هذا الحزب لم يكن إلا عنصرًا من عناصر هذه الحركة وحسب، فهو حزب محلي (ميلاني) وليس حزبًا «إيطاليًّا»، واقتصر تفكيره على مصير ميلان، ولم يشمل إيطاليا في مجموعها؛ فهو حزب وطني محلي، كان قوامه الجيش إلى جانب النبلاء، وكان الجيش على أهبة الاستعداد لتأييد حكومة مستقلة إذا وُجِدَتْ هذه الحكومة، ولكنه في جوهره كان حزبًا محليًّا، أَضِفْ إلى هذا أن الدولة المستقلة أو مملكة إيطاليا المنتظرة — حسب تقدير هذا الحزب — لم تكن تتعدى الأقاليم الميلانية (الميلانيز)، وأقاليم البندقية، وعندما جَمَعَ الحزبُ الدوائرَ الانتخابية حَدَثَ ذلك فقط في الجهات التي يتكلم أهلها باللهجة المحلية اللومباردية.

ولقد كانت الدعوة أو النداءات التي صَدَرَت عن القائمين بالحركات التي تزعَّمَها «مورا» أو تلك التي دَبَّرَها «مترنخ» تنطوي على «فكرات» أوسع مدًى وأبعد عمقًا من تلك التي نادى بها هذا الحزب الميلاني (الحزب الحر الإيطالي)، واستطاع أولئك الذين الْتَفُّوا حول «مورا» و«مترنخ» تأدية مهمتهم بنجاح، حتى إن هذين سرعان ما صارا مدفوعين رويدًا رويدًا، إلى اعتناق أو قبول «الفكرات» أو «المدركات» الواسعة التي نَبَتَ أو تَوَلَّدَ منها ما صار يُعْرَفُ باسم «إيطاليا».

أما «مترنخ» فقد أراد قبل كل شيء — وتلك كانت نقطة البداية في سياسته — أن يَفْصِل إيطاليا من نابليون، أي أن ينتزعها منه، وأن يفصل «مورا» من الإمبراطور؛ حتى يتسنى له التخلص من «يوجين بوهارنيه»، واستنقاذ إيطاليا الشمالية من الفرنسيين المسيطرين عليها، ولقد كان بسبب هذا الدافع أن صار «مترنخ» ميَّالًا عند الضرورة للتفاهم مع «مورا»، وبقي «مورا» في نابولي بعد التقهقر من روسيا (٤ فبراير ١٨١٣)، وانحصرت غايته في الاحتفاظ بتاجه وعرشه، وكان «مورا» يَعْلَم جيدًا أنه موضع ريبة وشك من جانب نابليون، بسبب سلوكه كثيرًا مَسْلَك «الملك» المستقل، وبدليل أن نابليون كان قد هَدَّدَه بالعزل، وبطلب استدعائه؛ ولذلك فقد كان «مورا» على أهبة الخروج على نابليون والتخلي عنه عند الضرورة، في نظير بقائه على عرش نابولي، ومنذ عودته إلى مقر مُلْكه بادر بإيفاد بعثة إلى فينا برياسة الأمير «كارياتي Cariati»، مُهِمَّتُها الحصول على ضمانات في صالحه، معلنًا استعداده في نظير ذلك للترحيب بزحف الجيوش النمسوية على إيطاليا.

ووفد إلى نابولي، والتف حول «مورا» أناس صاروا يغرونه على المضي في طريقه، وهؤلاء كانوا أعضاء «الكاربوناري» الذين هم عنصر ثوري، ويدينون بآراء جمهورية في جملتها، ويرفضون عودة «النظام القديم» بحال من الأحوال، والذين اشتد عداؤهم له، وإلى جانب هؤلاء «الكاربوناري» الثوريين وُجِدَ الوطنيون الذين اعْتَنَقُوا فكرة إنشاء إيطاليا حقيقة، والذين كانوا من الطبقة المتوسطة (البورجوازية) ومن «المستنيرين» الذين أرادوا إنقاذ الحريات المدنية، والإصلاحات الحرة التي أَدْخَلَتْها إلى البلاد السيطرةُ الفرنسية، والذين كانت تَجِيش في صدورهم الروح الوطنية (القومية) في الوقت نفسه.

ثم وُجِدَتْ إلى جانب هؤلاء وأولئك جماعةُ المناوئين للحركات الثورية، والذين لا يترددون إذا قامت الثورة في استخدام أسوأ أساليب السياسة لإخمادها، ولقد دَفَعَ هؤلاء «مورا» إلى السير في سياسته دون أن يخشى من أية اضطرابات داخلية قد تَحْدُث بدعوى أن النمسويين سوف يتدخلون لا محالة عندئذ لإخمادها ولإعادة النظام إلى نصابه بعد ذلك.

ثم كانت هناك تحريضات لورد «بنتينك» السفير الإنجليزي الذي أنشأ وهو بصقلية علاقات مع «مورا»، ويريد استخدام «مورا» ضد الفرنسيين، وعَرَضَ عليه إرسال نجدة من خمسة وعشرين ألف إنجليزي على شرط أن يسلم «مورا»، «جيتا Gaëte» لينزل بها هؤلاء من البحر، والذي لا شك فيه أن السفير الإنجليزي كان يعمل لخديعة «مورا»؛ إذ من الثابت أن «بنتينك» إنما كان يخدم مصالح الملك البربوني «فردنند»، في صقلية، في الوقت الذي حَاوَلَ فيه إقناع «مورا» وجَعَلَهُ يعتقد أن «بريطانيا العظمى» مستعدة لتأييده في أي عمل يأتيه ضد «الطاغية»؛ أيْ: نابليون.

كل هذه «المجموعات» حول «مورا» اشتركت في مداهنته وتملُّق كبريائه، وزَيَّنَ هؤلاء له المجدَ والشهرة مما سوف يصبح حقًّا له إذا صار «مُحَرِّرَ إيطاليا ومُنْقِذَها»، واستخدموا كل ما لديهم من وسائل الضغط والإغراء ليقنعوه بتزعُّم حركة التحرير؛ ليصبح بَطَلَ الحرية الإيطالية، وتردَّدَ «مورا»، وفجأة بمجرد أن طَلَبَ نابليون منه الانضمام إليه في حملة ألمانيا، تراجَعَ «مورا»؛ فكتب إلى الإمبراطور يُلَبِّي الدعوة في ١٢ أبريل ١٨١٣، وبادَرَ بالذهاب إليه، وحارَبَ في معركة «ليبزج»، ولكن قبل الهزيمة الأخيرة صَحَّ عزم «مورا» على التخلي عن المصلحة الفرنسية نهائيًّا؛ فترك نابليون في «إرفورت»، وعاد إلى نابولي في ٤ نوفمبر ١٨١٣، وفي هذه اللحظة كان «مورا» قد قَرَّرَ إيثار صالِحَه الخاص على صالِح نابليون، والعملَ لِنَفْعه الشخصي هو وحده.

ولقد اقْتَرَحَ «مورا» على نابليون في ١٠ نوفمبر ١٨١٣، إعلان استقلال الطليان، وإنشاء أمة واحدة في إيطاليا، ومن المحتمل أنَّ مبعث هذا الاقتراح كان رغبة «مورا» في اتخاذ رَفْض نابليون له عذرًا يسوِّغ به انتقاضَه عليه وانفصاله عنه، أو كان مبعثه أن «مورا» نفسه يريد أن يقوم بهذا الدور ذاته — إعلان استقلال إيطاليا، وإنشاء «الأمة» الإيطالية — وقد لَخَّصَ «كولينكور» المقترحات التي تَقَدَّمَ بها «مورا» في مذكرة لتُعْرَض على نابليون، كان مما جاء بها تعليقًا على ما يقترحه «مورا»:

إن الغرض الذي يريده الملك «مورا ملك نابولي» هو استقلال إيطاليا … ولقد صنعتم جلالتكم — مخاطبًا نابليون — من إيطاليا أمةً، وتريد أكثرية الطليان أن تكون لهم حياة سياسية، ولقد أدرك ذلك مَلِك نابولي؛ فأخذ يبذل قصارى جهده مستخدمًا كل الوسائل ليصبح هذا هو الرأي السائد في كل مكان، وليَجْمَعَ في صعيد واحد — إذا استطاع — كلَّ أعضاء (أقسام) إيطاليا.

وفي تلك العبارات تتجسم للمرة الأولى فكرة إنشاء إيطاليا موحدة ومستقلة، وعلى أن يكون «مورا» صاحب صولجان الحكم بها.
ولقد كانت النمسا صحيحةَ العزم آنئذ على انتزاع «مورا» من جنب نابليون، وانتزاع إيطاليا من السيطرة النابليونية، وفي أثناء حملة ألمانيا، كان «مترنخ» على اتصال مستمر بزوجة «مورا» الملكة كارولين — شقيقة نابليون — يتفاوَض معها، وبعد عودة «مورا» — عقب واقعة «ليبزج» — إلى نابولي، أَوْفَدَتْ إليه النمسا — بموافقة إنجلترة وروسيا — سفيرًا هو الجنرال «نايبرج Neipperg»، تَقَرَّرَ سفره إلى نابولي في ١٠ نوفمبر ١٨١٣، فبَلَغَهَا في آخر ديسمبر، وجَرَت المفاوضات بين «نايبرج» و«مورا» بكل سرعة؛ فأبرم «مورا» في ١١ يناير ١٨١٤ معاهدةَ تحالُفٍ متبادلٍ مع النمسا؛ فضَمِنَتْ النمسا تاج «مورا» وتعهَّدَتْ باستخدام وساطتها لدى الحلفاء لاستمرار هذا التاج في حوزته، ولقد أُلْحِقَ بهذه المعاهدة اتفاقٌ سِرِّيٌّ تَعَهَّدَتْ فيه النمسا بأن تبذل قصارى جهدها؛ لتحصل على تنازُل من فردنند البربوني عن كل حقوقه في عرش نابولي، ولتقنع إنجلترة بإبرام السلام فورًا مع «مورا»، وفي هذا الاتفاق السري قَبِلَت النمسا كذلك أن يزداد حجم مملكة «مورا»، بضم بعض الأراضي من الأملاك البابوية إليها، بزيادة أربعمائة ألف نسمة.
وبالفعل تَمَكَّنَ «مترنخ» من إقناع لورد «بنتينك» بإبرام «هدنة» بين الإنجليز و«مورا» في ٣ فبراير ١٨١٤، وكان «مورا» نفسه — تنفيذًا لمعاهدة التحالف مع النمسا — قد قَطَعَ كل صلة له بنابليون منذ ١٤ يناير، وأَعْلَنَ الحرب عليه، وبدأ عملياته العسكرية باحتلال رومة في ١٩ يناير، ودَخَلَ الجيش النابوليتاني أنكونا في ٣٠ يناير، وفي ٣١ يناير دخلوا «بولونا»، في حين احتل النمسويون من جانبهم الأملاك البابوية في رافنا Ravenna، وفرارة Ferrara، وبولونا، وبذلك تكون قد انهارت السيطرة الفرنسية في إيطاليا الوسطى؛ كانهيارها في أكبر قسم من إيطاليا الشمالية — على النحو الذي شهدناه عند تسليم «ميلان» للنمسويين في ٢٦ أبريل، واحتلال هؤلاء لها — وبمجرد إعادة البابا «بيوس السابع» إلى إيطاليا بعد أن فُكَّ إساره من «فونتينبلو» التي كان نابليون قد نفاه إليها منذ مايو ١٨١٢، حاوَلَ «مورا» جهْد طاقَتِه — منذ وصول البابا إلى إيطاليا في آخر مارس ١٨١٤ — لإقناعه بالتنازل له عن جزء من الأملاك البابوية.

والذي تجدر ملاحظته أن كل «الترتيبات» والمباحثات التي حَصَلَتْ حتى هذه اللحظة بين «مترنخ» و«مورا» كانت تدابير سياسية بحتة، وذات صبغة محلية، وبصفة شخصية بحتة كذلك، ولكن من اللحظة التي نجحا فيها في تحطيم السيطرة الفرنسية في إيطاليا اتَّسَعَ برنامج كل منهما طفرة واحدة؛ فتزايدت أطماع «مورا» الذي استمر يتكتل حوله الطليان من الجماعات التي سَبَقَ ذِكْرها، وأَخَذَ يَفِدُ — ضِمْن مَنْ وفدوا عليه في نابولي — وفود من رومة يرجونه الاستيلاء على مدينتهم، وأراد «البناءون الأحرار» الماسون — الذين كان «مورا» أستاذًا أعظم لهم — أن يضعوه على رأس إيطاليا بأجمعها، وكان تحت تأثير كل هذه العوامل وحتى يزيد عَدَدُ أتباعه وأنصاره أن سار «مورا» حثيثًا في طريق الإصلاحات الدستورية التي أرادها لمملكته، وجاءه التأييد من كل جانب، من ناحية أولئك الذين ابتاعوا أملاك الكنيسة بعد أن صارت هذه علمانية، وصارت أملاكها أموالًا عامة، أو الذين ابتاعوا كذلك أملاك النبلاء التي بيعت.

وكان «مورا» قد أَوْضَحَ للسفير النمسوي، أن النمسا لن تَرْبح شيئًا من كل تلك الدويلات الصغيرة التي تريد إنشاءها في إيطاليا، ولكن الهدوء والسكينة سوف يسودان إيطاليا، ونفوذ النمسا سوف يتوطد بها إذا جَعَلَ النمسويون في قدرة «مورا» أن يكون لديه دائمًا جَيْش من ستين ألف مقاتل، وفي الوقت نفسه أَخَذَ «مورا» يتراسل مع نابليون في جزيرة إلبا، واستمر يتفاوض مع البابا كي يحصل منه على الاعتراف بتاجه، ولينال قسمًا من الأملاك البابوية، يضمه إلى مملكته في نظير استرجاع البابا لبقية أملاكه «أو الدولة» البابوية، وكان لدى «مورا» برنامجان للعمل يستندان على وجود «احتمالين»، مبعثهما اعتقاد «مورا» أن سقوط نابليون قد أَلْحَقَ الضعف على كل الأحوال بمركزه، فهو إما أن ينجح في الاعتماد على وجود «رأي عام» إيطالي قوي يؤيده في إنشاء دولة إيطالية تحت حكمه، وإما أن يحصل نهائيًّا على تاج نابولي إذا أَخْفَقَ المشروع الأول.

وأما «مترنخ» الذي تسنى له الخلاص من نابليون، فقد أَخَذَ يُفَكِّر الآن في الخلاص من «مورا»، ولكنه كان مقيَّدًا بالمعاهدة — معاهدة التحالف — المبرمة بين مورا والنمسا في ١١ يناير ١٨١٤، ثم بالاعتبارات المرتبطة بالطريقة التي أراد بها «مترنخ» التصرف في مصير الأملاك (الدولة) البابونية، و«الأرشيدوقات» النمسويين الذين يريد ترتيب نظام للحكم لهم في إيطاليا، و«دويلاتها» الصغيرة المبعثرة.

وأراد «مترنخ» أن يضع للمسألة الإيطالية حلًّا يوجِد بها ترتيبات، من نَوْع تلك الترتيبات التي حصلت في ألمانيا؛ فيؤسِّس اتحادًا كونفدرائيًّا إيطاليًّا، يكون أعضاؤه من المؤيدين لسياسة النمسا، والخاضعين لنفوذها، فتحتفظ النمسا بمملكة إيطاليا باسم «مملكة لمبارديا فينيسيا»، وفي بيدمنت يُرَتِّب زواج أحد الأرشيدوقات النمسويين من ابنة «فكتور عمانويل» الذي لا ولد له ذكرًا، فيتسنى عندئذ — وبعد إلغاء قانون الوراثة المعمول به، والذي يَمْنَع النساء وأولادهن من الملك — أن يُصْبِح هذا الأرشيدوق مَلِكًا على بيدمنت وسردينيا، وفي تسكانيا ومودينا تأسست بها حكومة الأرشيدوقين، أما «ماري لويز» الإمبراطورة القديمة، وكذلك الحكام من أسرة البربون في بارما، فقد أراد مترنخ أن يكون لهم الحكم في وسط إيطاليا، وكل هذه الحكومات الخاضعة لنفوذ النمسا هي التي يضمها الاتحاد الكونفدرائي الذي أراده مترنخ.

ولذلك فقد وُجِدَ برنامجان متعارضان لتقرير مصير إيطاليا، هما برنامج «مورا» و«مترنخ»، ولكن من المستطاع أن يُؤَدِّيَ كل منهما إلى إعادة تنظيم إيطاليا، وذلك بتأسيس دولة «إيطاليا»، إما في صورة «مملكة»، وإما في شكل «اتحاد كونفدرائي»، وكِلا النوعين إنْ هو إلا تنظيم عامٌّ وشامل، لم يَسْبِق أن شَهِدَت له إيطاليا مثيلًا في حياتها كلها.

ولكن الفشل كان مزدوجًا؛ لأن «مورا» اعْتَقَدَ أن عودة نابليون بعد فراره من إلبا سوف تُمَكِّنه من تحقيق مشروعه، وكان «مورا» قبل ذلك قد طَلَبَ من مترنخ إعطاءه حق المرور بقواته عبر الأملاك البابوية لمقاومة النفوذ النمسوي، وقابَلَ مترنخ هذا الطلب بالرفض، ولكن «مورا» لم يلبث أن بدأ عملياته العسكرية بعد نزول «نابليون» في «فريجوز»، باختراق خط الحدود الذي يفصل بين نابولي والأملاك البابوية؛ فقد طلب في ١٩ مارس ١٨١٥ حَقَّ المرور لقواته عبر إقليم «كامبانا» الرومانية، ورَفَض البابا؛ فاحتل جيش «مورا» إقليم «كامبانا Campagne»، وفي ٢٩ مارس اجتاز خط الحدود النمسوية، ودخل إلى «الرومانا»، فكان معنى ذلك قَطْع العلاقات مع النمسا، وعمد «مورا» إلى إصدار «نداء» من «ريميني Rimini» في ٣٠ مارس، موجَّهًا للإيطاليين، جاء فيه:

إن الساعة قد حانت ليتحقق مصير إيطاليا المجيد، فإن الله يدعو الإيطاليين ليكونوا «أمة مستقلة»، فَلْتُدَوِّ إذن صيحةٌ واحدة تَتَجَاوَب أصداؤها من جبال الألب في الشمال، إلى مضايق صقلية في الجنوب، تنادي باستقلال إيطاليا … إن ثمانين ألفًا من الطليان يزحفون تحت أوامر مليكهم، ويحلفون يمينًا مغلظة أنهم لن يذوقوا طَعْم الراحة حتى تتحرر إيطاليا.

واختتم «مورا» هذا النداء بأنْ طَلَبَ من كل الأحرار الشجعان في إيطاليا أن يلتفوا حوله؛ ليخوضوا المعركة سويًّا، وفي ٢ أبريل دَخَلَ «مورا» بولونا، ثم بعد يومين (٤ أبريل) دخل «مودينا».

ومع ذلك فإن «الحركة القومية» التي بنى «مورا» آماله على إثارتها والاستفادة منها لم تحدث؛ فلم تُثِرْ «حركة» مورا هذه أيَّ حماس، اللهم إلا بين قسم من الشباب وبعض الطبقات المستنيرة المثقفة؛ فألَّفَ الموسيقار «روسيني Rossini» «أنشودة الاستقلال»، وتَعَيَّنَ «روسي Rossi» أستاذُ القانون في «بولونا»، قومسييرًا للمقاطعات الأربع، وكان من أنصار هذه الحركة القومية، وتألَّفَتْ هذه الجماعة أو هذا الحزب الوطني (القومي) من عناصر جاءت جميعها من بين الطبقات المتعلمة، إلى جانب بعض النبلاء ورجال الجيش، فلم يكن هناك وجود لحركة «شعبية» أي من جانب سواد الشعب، وظَلَّ الخمول وعدم الاكتراث يسيطران تمامًا على سواد الأهلين؛ واضطر «مورا» إلى الاعتماد على قواته المقاتلة وحدها، فكان عندئذ أن سَهُلَتْ هزيمته على يد الجيش النمسوي الذي أَرْغَمَ «مورا» على التقهقر بكل سرعة صوب «نابولي»، ثم لم يلبث أن تنازل عن عرشه وسَلَّمَه للإنجليز، ثم غادَرَ البلاد إلى «كان Cannes» في ٢٠ مايو ١٨١٥، ثم ذهب إلى «كورسيكا» التي لم يَلْبَثْ أن غادرها في ٢١ سبتمبر؛ ليقوم بحركة لاسترجاع عَرْشه المفقود، فأُلْقِيَ القبضُ عليه عند نزوله من البحر في «بيزو Pizzo» في أرض «كلابريا»، وحُكِمَ عليه بالموت وأُعْدِمَ رميًا بالرصاص في ١٣ أكتوبر ١٨١٥، على نحو ما سَبَقَ ذِكْرُه في موضعه.

ولقد كان بفضل «تدابير» وترتيباتٍ شخصيةٍ، أن تَسَنَّى «لمورا» أن يُصْبِحَ بطل «القضية الإيطالية» عندما أراد استخدام هذه التدابير «البسيطة» كوسيلة لصنع أو خلق «دولة» إيطالية، ولم يكن هناك وجود في الحقيقة لذلك «الحزب الوطني» أو القومي الذي وَجَّهَ له «مورا» نداءاته؛ لأن هذا الحزب الوطني لم يكن يوجد إلا في صورة طائفة من المبادئ والأفكار المثالية لم تُتَحْ لها الفرصة بعدُ للذيوع والانتشار، والتي كان يعتنقها بعض العناصر من المثقفين والعسكريين، والذين تأثروا كذلك بالفكرة الدستورية.

وكما أَخْفَقَتْ تدابير «مورا» المستَنِدة على «الملكية» و«القومية»، ولتأسيس دولة إيطالية موحَّدة؛ فقد أَخْفَقَتْ كذلك تدابير «مترنخ» لإنشاء دولة اتحادية (كونفدرائية) في إيطاليا؛ فقد تخلى «مترنخ» عن جزء من أطماعه عندما صار ضروريًّا الانتهاء سريعًا من وَضْع تسويات الصلح في فينَّا، فكان من المستحيل أن يحصل على الأملاك البابوية، بل استرجع البابا أقاليم «رافنا» و«فرارة» و«بولونا» لتعود أملاكه إلى الوضع الذي كانت عليه في سنة ١٧٨٩، وكانت الدول — بعد انتهاء الخطر الذي كان يتهددها من ناحية نابليون بعد هزيمة هذا الأخير في «واترلو» — قد صارَتْ تقابِلُ بتحفُّظٍ وحَذَرٍ شديدَيْن مقترحاتِ مترنخ، وتَقِفُ من «سياسته» موقفًا أكثر استقلالًا من الماضي، وتشعر بأنها صارت قوية بالدرجة التي تَقْدر فيها على مقاومته، وكانت تلقى الدول تأييدًا في مَوْقِفها هذا من جانب روسيا وفرنسا.

وعلى ذلك فقد «تجنب» ملك نابولي (فردنند الرابع، أعيد إلى عرشه الآن باسم فردنند الأول)، والبابا وملك بيدمنت، الإصغاءَ لمقترحات مترنخ، ورفضوا «الكونفدرائية» التي اقترحها «مترنخ» حلًّا للمسألة الإيطالية، بل إنهم رفضوا كذلك — بعد فترة من الزمن قصيرة — اقتراحًا لإنشاء «اتحاد بريدي» لتنظيم البريد بين الدويلات والإمارات الإيطالية؛ وعلى ذلك فقد بَقِيَتْ إيطاليا «مصطلحًا جغرافيًا»، حسب التعريف الذي صاغه مترنخ نفسه بعد ذلك ليصف به إيطاليا.

ولعل أَهَمَّ ما تجدر ملاحظته عند المقارنة بين الحركتين الإيطالية والألمانية أن ثمة اختلافًا كبيرًا يميز كلًّا منهما عن الأخرى؛ ذلك بأن الطليان لم يشتركوا — وعلى نحو ما فَعَلَ الألمان — في تحرير بلادهم واستنقاذها من السيطرة الفرنسية، فلم يَعُد الدور الوحيد الذي قاموا به، تأليف ذلك الحزب الميلاني الذي أسمى نفسه «الحزب الوطني الإيطالي»، والذي لم يكن إلا حزبًا محليًّا، ثم تقوية كل تلك الأماني الوطنية التي صارت مرتكزة على النشاط الذي سوف يقوم به «مورا»، والتي كانت في الحقيقة لا تستند على أصول عريقة ولا تنسيق يربط اتجاهاتها ويوجِّه نشاطها.

ومن ناحية أخرى فقد كان هناك أصحاب المصالح الذين أَزْعَجَهُم ضياع كل الإصلاحات والتغييرات التي حَصَلَتْ على أيام السيطرة الفرنسية، وصاروا لا يريدون عودة «النظام القديم»، بل لقد كانت الفكرة القومية يحوطها الإبهام الشديد، حتى في تفكير الأدباء والمثقفين، والذين عُرِفُوا بالتقدم الذهني أكثر من سواهم، وصفوة القول: إن من المتعذِّر ملاحظة يقظة قومية في إيطاليا، من طراز تلك اليقظة القومية التي شوهدت في ألمانيا آنئذ.

١  Guerres de la delivrance.
٢  Louis Adolph, Prince of Sayn.
٣  Hymne de la Lyre et L’épée.
٤  Rheinsche Merkur.
٥  La France Partagée ou la France Enchainée.
٦  Catéchisme Imperial.
٧  Commissariats Spéciaux.
٨  Commissions Généraux.
٩  Gardes Urbaines.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤