التجربة الشعرية

بقلم صاحب الديوان

للشعر مقومات تتنوع في تركيبها ولكن لا ينفرد أيُّها به. وأولى مقومات الشعر الصادق التجربة الشعرية؛ أي تأثر الشاعر بعامل معين أو بأكثر واستجابته إليه أو إليها استجابة انفعالية قد يكتنفها التفكير وقد لا يكتنفها، ولكن لا تتخلى العاطفة أبدًا عنها، إذ إنهما حينما تبتعدان يتجرد الشعر من أبدع صفاته الأصيلة ويصبح نظمًا خلابًا على أفضل تقدير، أو ينعت «بشعر الذكاء» تجاوزًا. والنماذج لذلك كثيرة غالبة، ومهمة النقد الفني تثبيطها بل استئصالها. وحينما يُصبح الشعر موضوعيًّا فإنَّ الشاعر القدير في قصته أو في ملحمته يتمثل العواطف لشخصيات روايته ويخلعها عليها كما يصنع الممثل على المسرح، أو يُعبر عن إحساسه ضمن الموضوع الذي يُعالجه.

والتجربة الشعرية قد تكون عظيمة كما قد تكون تافهة في ظاهرها، ولكنَّ الشاعر الكبير قادر بتأثره وتفاعله على إبداع الجليل من التافه؛ لأنَّه يراه بمرآة نفسه الكبيرة التي كيفتها عوامل شتى ممتازة، ويتمثل الإنسانية عامة لا شخصية فردٍ في شعره، وهكذا يأتي بالممتاز المعجب من أبسط التجاريب في ظاهرها المألوف. وقد تكون العاطفة متجلية في الشعر، كما قد تكون مستورة. ومن الطراز الأول عاطفة الود التي أنطقت المتنبي بمثل هذه الأبيات الخالدة التي تناسب كل زمان ومكان، وتعبر عن شعور الإنسان إطلاقًا، وإن كانت مناسبتها الظاهرة عتب المتنبي على سيف الدولة قُبيل النزوح عنه:

يا من يعزُّ علينا أن نفارقهم
وجداننا كلَّ شيءٍ بعدكم عدمُ
ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ
لو أن أمركمو من أمرنا أممُ
إن كان سرَّكمو ما قال حاسدنا
فما لجرحٍ إذا أرضاكمو ألمُ
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
أن لا تفارقهم فالراحلون همو

فهنا الحرقة أو اللوعة لا تخص أبا الطيب وحده، وإنَّما هي شعور الإنسانية عامةً إزاء الود الضائع والعقوق والكفران. ومن الطراز الثاني عاطفة الإعجاب التي أوحت مثل هذا الشعر إلى ابن هانئ الأندلسي في وصف الخيل وقد كان مفتونًا بها:

وصواهل لا الهضب يوم مغارها
هضبٌ، ولا البيدُ الحزون حزونُ
عرفت بساعة سبقها، لا أَنَّها
علقت بها يوم الرهان عيونُ
وأجلُّ علم البرق فيها أنَّها
مرت بجانحتيه وهي ظنونُ

فهذا الفتون ببراعة الخيل وجمالها هو بمثابة تصوف في لون من جمال (الطبيعة) وهو شعور إنساني خالد. وكلا النموذجين من النسق العالي، وكلاهما يمتزج فيه الفكر بالعاطفة امتزاجًا سائغًا، وهذا عندي أرقى الشعر، وإن عددت في مستواه نماذج من الشعر الصافي يمليها العقل الباطن وحده. ومن النماذج الرائعة المرددة للشعر الفكري العاطفي دالية المعري الرثائية التي يقول في مطلعها:

غير مجدٍ في ملتي واعتقادي
نوح باكٍ ولا ترنُّم شادِ
وشبيه صوت النعي إذا قيـ
ـس بصوت البشير في كل نادِ
أبكَتْ تلكمو الحمامة أم غنـْ
ـنَت على فرع غصنها الميَّادِ؟
صاحِ! هذي قبورنا تملأ الرَّحـ
ـب، فأين القبور من عهد عادِ؟
خفف الوطء! ما أظنُّ أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجسادِ!
وقبيح بنا، وإن قدم العهـ
ـد هوان الآباء والأجدادِ

فالجانب العاطفي في هذه التجربة الشعرية الرائعة هو ألم المعري من الحياة، كما كان يألم شوبنهاور، واشتهاؤه زوالها وقد أَنَّ من الألم:

تعبٌ كلها الحياة فما أعـ
ـجب إلا من راغب في ازدياد!

والجانب الفكري متغلغل في صميمها وإن برز مستقلًّا في مثل هذين البيتين:

والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
فاللبيب اللبيب من ليس يغترْ
رُ بكون مصيره للفساد

وهو في هذا الشعر العظيم المعبر الأمين عن مأساة الإنسانية وحيرتها الكبرى في جميع الأزمان.

ومن نماذج الشعر الصافي الذي تدعمه العاطفة مستقلة في مجمله في النهاية ولا تجد فيها الإنسانية إلهامًا ولا عزاء أو سلوى. وبين الشواهد على ذلك نظم الكثيرين الذين روى لهم السيوطي في (نظم العقيان).

إنَّ التجربة الشعرية هي الدعامة الأولى للشعر، فإذا افتقدت لم تكن للموسيقى النظمية ولا لمتانة الديباجة ولا للتخيل المصطنع أية فائدة للفن، بل كانت جميعها مفردات أو تراكيب للافتعال وللتحايل على الشعر، وما كان التطفُّل على الفن فنًّا. والشاعر الذي لا تشمل روحه الكونيات الخالدة ليس إلا شاعر نفسه أو بيئته أو زمنه أو موضوعه المحدود.

وكان بودي أن أضمِّن هذا التصدير الوجيز في التجربة الشعرية نماذج خالدة من الشعر العصري وعلى الأخص في العالم الجديد تؤيد وجهة نظري المتقدمة، لولا أنَّها عديدة، ولولا أني لا أحب أن يتوهم استشهادي بالبعض دليلًا على عدم اعتباري لما عداه، في حين أنِّي أعتز بالشعر العربي الأصيل الجميل قديمه وحديثه أينما كانت مصادره ومواطنه وكأني صاحبه. وما أقصد بهذا التصدير — استجابة إلى دعوة الناشرين — إلا خدمة الناشئين بين قرائي، وإجابة السائلين عن بعض آرائي الفنية، ثم الدفاع عن الشعر وعن حق الشعراء في تنويع إنتاجهم وفي التعبير عن تجاريبهم الشعرية حسب أذواقهم وحدها فهي — دون غيرها — التي تكيِّف نماذج الشعر وتغني آدابنا بروائعه المنوَّعة التي لن تحد ما تنوعت الإنسانية وما تجددت الحياة وما تعددت ضروب التفاعل معها.

بقيت كلمة لا غنى عنها لمجانبة عامل غريب أساء إلى التجربة الشعرية في أدبنا، ألا وهو الأسلوب الخبري التقريري الذي يقوم على البيت وتصنع الحكمة المنظومة، فإنَّ هذا العامل التقليدي لم ينفع إلا الفحول من الشعراء المطبوعين الكلاسيكيين، وشتان بين قوة ابن دُريد في مثل هذا الشعر الحكيم الداعي إلى التبصر والمبشر بالكفاح والاحتمال:

لو لابس الصخر الأصم بعض ما
يلقاه قلبي فض أصلاد الصفا١
إذا ذوى الغصن الرطيب فاعلمنْ
أنَّ قصاراه نفادٌ وتوى٢
لا تحسبنْ يا دهر أنِّي صادع
لنكبة تعرقني عرق المدى٣
مارست من لو هوت الأفلاك من
جوانب الجو عليه ما شكا!

أو قول أبي الطيب في الطبيعة الإنسانية:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدَّمُ
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعله لا يظلم
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن غيه وخطاب من لا يفهم

أو قول أبي تمام في حرية الفكر والقول وفي الاضطرار إلى الهجرة:

سأصرف وجهي عن بلاد غدا بها
لساني معقولًا وقلبي مقفلا
وإن صريح الحزم والرأي لامرئ
إذا بلغته الشمس أن يتحولا

وبين ألوف الأبيات النظمية السطحية التي تكومت أنقاضًا جيلًا بعد جيل إلى يومنا هذا، حتى أفسدت في أزمنة ذوق الأدباء وعرفانهم للجمال. وقد يطيب لي بحكم ذلك أن أحبذ الأسلوب الرمزي والأسلوب القصصي، وأنْ أتفاءل بتذوق أدباء العرب في أمريكا لهما، وأنْ أتمنى أن يعاون نهجهما على اجتثاث الإيحاء النظمي الفاسد وعلى تربية الملكة الشعرية حيثما يستطاع ذلك، فإنَّ الشعر على أيِّ حال طبعٌ وموهبة لا بهرج وصناعة، بل عقيدة فنية يُسعدني أنْ أقدِّم هذا الديوان المتواضع أحد قرابيني لها.

١  أصلاد الصفا: أحجار الصخور الصلبة.
٢  التَّوى: الهلاك.
٣  تعرقني: تزيل لحمي عن عظمي. والمدى: السكاكين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤