الفصل الأول

دراسة تاريخية موجزة عن النشر للأطفال باللغة الإنجليزية

البدايات

على الرغم من أن «خرافات أيسوب» — التي تُرجِمَت ونُشِرَت على يد ويليام كاكستون عام ١٤٨٤ — عادةً ما كانت تُدرج بموضع ما في الدراسات التاريخية لأدب الأطفال حتى نهاية القرن المنصرم، فإن الدراسات التاريخية عن الكتابة للأطفال غالبًا ما بدأت في القرن السابع عشر بنماذج من أعمال بعض المنشقين عن الكنيسة، والتي عادةً ما تبدأ بكتاب «العالم المرئي بالصور» الذي ألَّفه الإصلاحي التربوي التشيكي جون آموس كومينيوس. وقد أتيحت نسخة باللغة الإنجليزية لكتاب «العالم المرئي بالصور» — والذي كُتِب باللغة الألمانية عام ١٦٥٨ — في العام التالي في طبعة ظلت تُنشَر حتى القرن التاسع عشر، بما فيها نسخة منقحة الصور نُشرت في الولايات المتحدة عام ١٨١٠. ويكشف تاريخ هذا الكتاب الصغير — الذي لا يتعدى حجمه ١٤٢ × ٨٣ ملليمترًا (ما يقرب من ٦ × ٣ بوصات) — الكثير عن تاريخ الكتابة للأطفال، ولا سيما كيف أنه — قبل وقت طويل من عصر الاتصالات الفورية والعولمة — كانت بعض كتب الأطفال تنتقل بسرعة بين البلدان. وقد تُرجم كتاب «العالم المرئي بالصور» إلى العديد من اللغات الأوروبية. وفي كل الطبعات، يبدأ الكتاب بالأبجدية، ثم يسعى — من خلال مزيج من الكلمات والصور — إلى تمثيل كل شيء في العالم، بداية من المخلوقات والنباتات، وحتى المفاهيم المجردة مثل الثالوث القدوس.
fig1
شكل ١-١: يعتبر نص كومينيوس التعليمي مزدوج اللغة (اللاتينية + لغة أخرى) أيضًا كتابًا مصورًا طموحًا يحاول أن يقدم صورة تمثل كل اسم يذكره، مهما كان ذلك الاسم مجردًا، وهو يهدف لتعليم الأطفال من خلال تسليتهم.1

ويجسد كتاب «العالم المرئي بالصور» عدة خصائص للكتابة المبكرة للأطفال، بدايةً من افتراضاته بشأن السن، فكومينيوس كان يكتب من أجل الأطفال الصغار؛ أي الأطفال تحت سن السادسة، ويتعلمون القراءة بلغتهم الأصلية، وبعدها — بدايةً من سن السادسة — يتعلمون القراءة باللغة اللاتينية (فكانت نصوص الكتاب مكتوبة باللغة المحلية واللغة اللاتينية معًا). وبينما كان صغر سن القارئ المقصود سمةً مميزة لأدب الأطفال عبر تاريخه منذ أيام كومينيوس، فإن الطفولة كمرحلة من مراحل الحياة قد توسعت باطراد لدرجة أن بعض الأعمال الحديثة التي أصدرتها دور نشر كتب الأطفال تستهدف «اليافعين» الذين هم في سن الثامنة عشرة. ومع ذلك فحتى نهاية القرن التاسع عشر، كانت كتب الأطفال موجَّهة للأطفال قبل مرحلة البلوغ، والذين عادةً ما كانوا إما على أعتاب بدء تعليمهم، أو في المراحل المبكرة منه. وبعد تعلُّم القراءة، كان الأطفال في معظم الحالات يتشاركون النصوص مع الكبار، الذين غالبًا ما تكون مهارات القراءة لديهم على نفس المستوى تقريبًا. فعلى سبيل المثال، كان بإمكان كلٍّ من الصغار والكبار قراءة كتيِّبات الحكايات والأشعار، وهي كتيِّبات صغيرة الحجم رخيصة الإنتاج، بدأت في الظهور في القرن السادس عشر. فمن خلال نصوصها البسيطة (التي عادةً ما تستند إلى الحكايات الشهيرة، والقصائد القصصية، وما شابهها من مواد شعبية) والرسوم بالقوالب الخشبية، جذبت كتيِّبات الحكايات والأشعار القراء الصغار، بالرغم من أن نماذجها المؤلَّفة خصوصًا للأطفال لم تبدأ في الظهور حتى القرن الثامن عشر.

وكان المقصود من كتاب «العالم المرئي بالصور» أن يكون أداة تعليمية، وهناك جدال قوي يدور عبر تاريخ أدب الأطفال بين النظريات التعليمية والكتابة للأطفال، رغم أنه من الشائع الآن التمييز بين الكتب المعلوماتية/التعليمية — مثل كتاب كومينيوس — والأدب القصصي الذي أصبح الآن القوة المسيطرة في عالم أدب الأطفال. ومع ذلك، فعندما نتتبع أصول أدب الأطفال، فإن الدراسات التاريخية عادةً ما تشمل كل أشكال الكتابة المخصصة للأطفال، وتعتبر كتاب «العالم المرئي بالصور» كعلامة فارقة. وعلى غرار كتاب «العالم المرئي بالصور»، فإن معظم الكتابات المخصصة للأطفال في القرن السابع عشر كانت مستلهَمَةً من مجموعة من المنشقِّين عن الكنيسة، والذين غالبًا ما يشار إليهم باسم «البيوريتانيين»؛ ولهذا، فإن تلك الكتابات كانت تسعى — إلى جانب تعليم الأطفال القراءة — إلى تعليمهم كيف يعيشون حياة صالحة، ويبتغون النعيم الإلهي، ويحاولون اجتناب عذاب الجحيم. وأحد الأمثلة النموذجية لهذا النوع من الكتابة التي نشأت في إنجلترا هو كتاب جيمس جانواي «دليل للأطفال» (١٦٧١-١٦٧٢)، والذي يعتبر في مضمونه شهادة حية على «الهِداية، والحيوات المقدسة والنموذجية، والميتات السعيدة لعدد من الأطفال الصغار»، مثلما يبين العنوان الفرعي للكتاب.

ويعد مجلد جانواي — الذي اشتُهر بإنجلترا والولايات المتحدة (في نسخة موسعة كتبها كوتون ماثر ونُشرت عام ١٧٠٠) لفترة تجاوزت المائتي عام، وأعيد طبعه على نحو منتظم، وكذلك زاد حجمه وأُعِيدَت صياغته — علامةً بارزةً ومفيدةً في أي تسجيل لنشأة وتطور أدب الأطفال؛ فهو يخاطب صغار القراء بشكل واضح (رغم أنه يفترض كذلك أن الكبار سوف يشتركون في عملية قراءة الكتاب، مثلما يتضح من الخطاب الافتتاحي الموجَّه للوالدين ولكل المشتركين في عملية تعليم الأطفال)، ويقدم نطاقًا من الأفكار والرؤى الثاقبة حول كيفية فهم المجتمع للأطفال والطفولة في بدايات إنجلترا الحديثة. ومن خلال محتوى كتاب «دليل للأطفال» التعليمي الصريح، وأسلوبه التدريسي، وافتراضه بأن الأطفال يولدون مذنبين، يشير الكتاب إلى العلاقة بين تأسيس مرحلة الطفولة في أي فترة زمنية وتاريخ الكتابة للأطفال؛ فقد أصبحت هذه العلاقة من مواضع الاهتمام الرئيسية في دراسة أدب الأطفال. وكثيرًا ما تُستخدَم النصوص البيوريتانية أيضًا لدعم وجهة النظر القائلة بأن تاريخ أدب الأطفال هو تاريخ قد انتقل من الاقتناع بأن الكتابة للأطفال يجب أن تركِّز على توجيه قُرَّائها نحو الطريقة التي يجب أن يتصرفوا بها، والأفكار التي يجب أن يؤمنوا بها، إلى الرغبة في تسليتهم. ورغم أن هذا التفسير لتطور أدب الأطفال قد ظل غير مُختَلَفٍ عليه لعقود طويلة، فقد أصبح الآن يعتبر تفسيرًا منقوصًا؛ وذلك لأن الكثير من كُتَّاب الأطفال المبكرين قد فهموا الحاجة لاستخدام «شبكة العنكبوت من أجل اصطياد الذباب»؛ فجعلوا نقل الرسالة التعليمية داخل الكتابة أكثر جذبًا من خلال استخدام شخصيات الأطفال، والقصائد الشعرية، والأحاجيِّ، والألغاز، والحوارات الدرامية، والإشارات إلى ألعاب الأطفال. إن المصادر الرقمية الجديدة والمتعددة، والتي تتيح الوصول بسهولة للنصوص المنشورة قبل عام ١٩٠٠ عبر شبكة الإنترنت، تُسهِّل على أي شخص مهتم بهذا النقاش أن يطَّلع على عينة واسعة مما نُشر للأطفال قبل عام ١٩٠٠، وأن يتحقق إلى أي مدًى كان التعليم والتسلية متضافرَين إلى حدٍّ كبير.

أحد الأسباب التي تجعل الدراسات التاريخية الأولى لأدب الأطفال عادةً ما تبدأ في القرن السابع عشر، هو أنه بحلول ذلك الوقت كانت المواد المخصصة للأطفال قد صارت تُطبَع بهدف التوزيع العام بدلًا من أن تُكتَب بخط اليد من أجل الاستخدام الخاص، أو تُستخلَص من الكتابات المخصصة للكبار؛ وهذا رسخ هذه الكتابات كجزء من ثقافة الطباعة، وغالبًا ما مثَّل الاهتمامُ بتاريخ المواد المطبوعة نقطة انطلاقة للدراسات التاريخية المبكرة لكتب الأطفال. ونظرًا لأن المواد التي كانت تؤلَّف للأطفال كانت قليلة نسبيًّا — كما رأينا في حالة كومينيوس وجانواي — فقد بقيت الأعمال الشهيرة تُطبَع لفترات طويلة، وغالبًا في مجموعة متنوعة من الصيغ المزينة بالرسوم، وكثيرًا ما كانت تظهر في مجموعات الكتب والمذكرات. فعلى سبيل المثال، يتذكر تشارلز لامب — الذي وُلد في عام ١٧٧٥ — أنه كان يحب «كتابًا عظيمًا عن الشهداء»، هو («كتاب فوكس عن الشهداء» الذي نُشر للمرة الأولى عام ١٥٥٤، وتُرجِم للإنجليزية في عام ١٥٦٣). إن التاريخ الطويل والمتنوع لهذه الأعمال يجعلها دراسات حالة مثيرة للاهتمام من أكثر من منظور؛ فمن الممكن استخدامها لاستكشاف تقنيات الطباعة والتسويق، والأفكار المتغيرة عن الطفولة والتعليم، والجدال السائد بخصوص الدين والسياسة والنوع والعلم وتجربة الحياة اليومية، وغير ذلك الكثير من الموضوعات. ومع ازدياد الاهتمام بالدراسات التاريخية عن الطفولة والكتب وأدب الأطفال، صارت هناك مواد جديدة تُدرس؛ لأنه أصبح من الواضح أن الكتابة للأطفال قد بدأت قبل جيمس جانواي ومعاصريه بوقت طويل.

أدب الأطفال في العصور القديمة والوسطى

يشتمل كتاب «تاريخ أدب الأطفال» الذي ألَّفه سيث ليرر عام ٢٠٠٨ على مناقشة لنصوص إغريقية، ورومانية، وقروسطية قدمت للأطفال. ويوضح ليرر أنه في كلٍّ من تلك الفترات، رُسِّخت التقاليد التي كان لها تأثير مستمر — ولكن غير معترف به لوقت طويل — على أدب الأطفال (كانت المواد التي ناقشها ليرر مكتوبة باللغة اللاتينية، ولكن كما رأينا في كتاب «العالم المرئي بالصور»، فإن اللغة اللاتينية ظلت على مدار قرون لغة أساسية في التعليم؛ ومن ثَمَّ فإن تلك الأعمال أثرت على النصوص التي كُتبت وقُرئت باللغة الإنجليزية). على سبيل المثال، كان أطفال الإغريق والرومان يتعلمون مهارات المواطنة، وسمات البطولة، وتعقيدات الأخلاق والفضيلة، والسلوكيات الملائمة للجنسين، وذلك من خلال تعلم ترديد مقاطع من نصوص تشمل «خرافات أيسوب» و«الإلياذة» و«الإنياذة». وبينما كان ما يتعلمونه عبارة عن فقرات مأخوذة من نصوص موجودة بالفعل مخصصة للجمهور العام، وليس نصوصًا مكتوبة خصوصًا للأطفال، فإن الطريقة التي عُدِّلت بها تلك النصوص لكي تلائم احتياجات واهتمامات الأطفال تضع هذه الأعمال داخل نطاق أدب الأطفال. على سبيل المثال، كانت المقتطفات تُختار وفقًا لملاءمتها للأطفال، وتُعدَّل لكي تناسب قدراتهم وتصبح أكثر جاذبية من خلال توظيف عناصر كالقافية الشعرية، وإدراج رسوم توضيحية. أثناء العصور الوسطى في إنجلترا وعبر أوروبا، كانت هذه الخصائص تُستخدم في الكتابة خصوصًا للأطفال، بدءًا من كتاب «مرآة للأمراء» بما يحتويه من دروس للملوك، ومرورًا بتوجيه الصبية المتمرِّنين على المهن، ووصولًا إلى النصح المقدم للأطفال الذين يُربَّون في الأديرة والذين يتعلمون فضائل حياة التعبد. ويقترح ليرر أنه مِن رَحِمِ هذه الخصائص وُلدت الكثير من الأساليب الأدبية التي تستمر في الظهور داخل الكتابات المخصصة للأطفال.

وتكشف المناطق الجديدة للدراسات الأدبية عن أمثلة جديدة للكتابة للأطفال؛ مما يغيِّر بدقة علامات بارزة وراسخة في تاريخ أدب الأطفال. فعلى سبيل المثال، كانت الدراسات التاريخية لأدب الأطفال تحتفي — على نحو تقليدي — بانطلاق النشر التجاري من أجل الأطفال في القرن الثامن عشر على أنها اللحظة التي شهدت ميلاد أدب الأطفال كما نعرفه اليوم. وعلى الرغم من أن حقيقة أن إمكانية بيع المواد المطبوعة بمختلِف أنواعها للأطفال قد استُثمرت للمرة الأولى من قِبَل أصحاب المطابع الناشرين بالقرن الثامن عشر تظل صحيحة، فقد أصبح واضحًا الآن أن هذا الأمر لم يكن تطورًا تلقائيًّا، وإنما كان جزءًا من متسلسلة أدبية ظل فيها الآباء والمعلمون وغيرهم من الكبار المشاركين في تعليم وتثقيف الأطفال يجربون لوقت طويل طرقًا لتأليف مواد جذابة ومشوقة لكي يقرأها الأطفال.

مجال النشر للأطفال: ابتكارات القرن الثامن عشر

كانت إحدى طفرات فهم القوى التي شكَّلت النشر التجاري للأطفال في القرن الثامن عشر هي الاكتشاف الذي حدث في تسعينيات القرن العشرين، لمجموعة من المواد مكتوبة بخط اليد، كتبتها جان جونسون في أربعينيات القرن الثامن عشر من أجل تعليم أطفالها القراءة. فقد قدمت البطاقات والألعاب والدمى والكتب الشخصية التي صمَّمتها جونسون بإبداع من أجل أطفالها، وجسدت فيها شخصياتهم، دليلًا واضحًا على وجود تقليد تأليف أدب الأطفال بالمنزل، والذي استوحى الأفكار من النصائح والممارسات التعليمية الحالية، ولكن قام بتعديلها لكي تناسب الاحتياجات الخاصة بأطفال محددين. ولقد أثبتت الأبحاث التي أعقبت الاكتشاف الخاص بجان جونسون أن الناشرين التجاريين لم يخترعوا طرقًا جديدة للكتابة للأطفال، ولكنهم كانوا يعدِّلون الممارسات التي كانت موجودة بأشكال متنوعة منذ عدة قرون. لقد صار واضحًا الآن أن الشخصيات الرائدة في مجال الطباعة والنشر، مثل جون نيوبيري (١٧١٣–١٧٦٧)، وماري كوبر (تُوُفِّيَتْ عام ١٧٦١)، وجون هاريس (١٧٥٦–١٨٤٦)، وويليام جودوين (١٧٥٦–١٨٣٦)؛ كانوا يحاولون استنساخ الرابطة بين مواد القراءة التي تم إنتاجها في المنزل وشخص بالغ مهتم — والذي عادةً ما يكون الأم — يقرأ للأطفال ويعلمهم، وذلك بغرض استبدال نسخهم المطبوعة من هذه المواد بالنسخ التي كانت تُكتَب منزليًّا. (من المفترض أن معظم المواد المصنوعة في المنزل كانت أقل دقة وأقل عناية من تلك التي كتبتها جان جونسون).
fig2
شكل ١-٢: «هذه الفتاة لكي تحصل على المال»: واحدة من العديد من البطاقات التي ألفتها جان جونسون من أجل أطفالها في أربعينيات القرن الثامن عشر.2
على عكس الوالدين، كان أصحاب المطابع الناشرون ينتجون مواد القراءة للأطفال بغرض بيعها، بمعنى أنه كان لا بد لموادهم أن تجذب الكبار الذين كانوا يشترون الكتب والمواد المطبوعة الأخرى وتُرضيهم مثلما تُرضي القُرَّاء الأطفال، وربما قبلهم. وهذا الإحساس بوجود جمهور مشترك من الكبار والأطفال يتضح أيضًا في الأعمال المبكرة، والتي من أمثلتها ذلك الخطاب الموجَّه للآباء، الذي يحثهم على بذل كل الجهد من أجل إنقاذ أطفالهم، والذي افتتح به جيمس جانواي كتابه «دليل للأطفال». وعلى يد محترفي القرن الثامن عشر — أصحاب المطابع والناشرين والرسامين والمدرسين — صارت ممارسة مخاطبة الكبار والأطفال في الوقت نفسه تتم بطريقة مؤسسية. وقد بدأ المشاركون في إنتاج المواد المطبوعة للصغار — ربما من أجل مقاومة آثار مخاطبة الكبار — في تجربة خصائص النصوص الموازية المصممة خصوصًا لكي ترسخ فكرة أن أعمالًا بعينها مخصصة للأطفال. وقد ركزت هذه التجارب في بعض الأحيان على الحجم، فالكثير من الكتب كانت تتضمن كلمة «صغير» في عناوينها، وكان حجم الكتب بالفعل صغيرًا، كما هو الحال مع كتاب «مكتبة ليليبوتيان» (١٧٧٩) المكوَّن من عشرة مجلدات تبلغ أبعاد كل مجلد منها ٩٩ × ٧٨ ملليمترًا (٤ × ٣ بوصات). ومن بين الطرق الأخرى لابتكار مظهر جذاب للقراء الأصغر سنًّا استخدام الورقات الأخيرة ذات الألوان المبهجة، واستخدام الألوان والرسومات والقصاصات والتغليف المبتكر، مثل مجموعات الكتب التي تشبه المكتبات المصغرة. وهذه العناصر جعلت عمليةَ التعرف على كتب الأطفال سهلةً، ومن خلال ذلك أكدت على فكرة أنه يجب السماح للأطفال بالوصول إلى الكتب بأنفسهم؛ ومن ثَمَّ زادت من المبيعات. وكان أسلوب تقديمها يشير إلى أن تلك المواد جيدة ومناسبة للأطفال.
fig3
شكل ١-٣: الدمج ما بين الحجم المصغَّر والتقديم التفصيلي — على شكل خزانة كتب ورفوف على طراز مكتبي مليئة بالكتب المصغرة الكاملة — سمة للطاقة الإبداعية التي استُخدمت في التسويق للقراء الصغار.3

وبالطبع كما تتغير الأفكار الخاصة بالطفولة، فإن فهم ماهية الأشياء المناسبة للأطفال وما يستمتع به الأطفال يتغير أيضًا؛ بمعنى أنه قد يكون من الصعب على العين المعاصرة أن تدرك جاذبية الكثير من المواد التي كانت رائجة في أيامها. ومع ذلك، فهناك أدلة جوهرية توضح أن الكثير من الكتب التي نُشرت في تلك الفترة — بما فيها كتب مثل «رحلة الحاج» الذي كتبه جون بانيان عام ١٦٧٨، والتي لم تُكتب في الأساس للأطفال ولكن أعيد تقديمها من أجلهم — بقيت مفضلة لدى القراء الصغار لفترة طويلة بعد ظهورها لأول مرة. على سبيل المثال، في عام ١٨٦٢، كتب الكاتب البريطاني جورج كراب لأحد أصدقائه أن ابنته ذات الأعوام الستة كانت متعلقة للغاية بحكاية بانيان لدرجة أن «الطفلة المسكينة قد ضبطتها مربيتها التي كانت نائمة وهي تقرأ في الكتاب في الخامسة من فجر هذا اليوم، وهي لا تطيق صبرًا — وهي طبيعتنا نحن البشر — حتى تنتهي من الكتاب الممتع». وبالمثل، فإن شخصيات وتعبيرات كتب الأطفال قد صارت مألوفة للغاية لدرجة أنها دخلت اللغة الشائعة بين الناس وظلت باقية حتى يومنا هذا. ويعد تعبير «الفتاة الطيبة ذات الحذاءين» مثالًا لتلك الشخصيات، بينما سيكون من الصعب أن نجد مجموعة مختارة من أشعار الأطفال لا تحتوي على إحدى الأغنيات التي جُمعت للمرة الأولى في «كتاب أغاني تومي ثامب الجميلة»، المجلد الثاني (١٧٤٤)، ومن بينها «باه، باه، العنزة السوداء»، «من الذي قتل الديك روبن؟»، «أيها الفتيان والفتيات، تعالوا لكي نلعب»، «الخنفساء الصغيرة، الخنفساء الصغيرة».

ولكن ما يعتبره الكبار «مناسبًا» قد لا يتوافق دائمًا مع ما يستمتع به الأطفال أو ينتابهم الفضول لقراءته. وإحدى المناطق الأخرى لدراسات أدب الأطفال، والتي تغيِّر من فهم تاريخ الموضوع، هي دراسة كيف قرأ أطفال القرن الثامن عشر المواد التي أُعطيت لهم وكيف استجابوا لها، وذلك وفقًا للأدلة المستقاة من الملاحظات والرسومات الموجودة على هوامش الكتب، وكذلك معرفة إلى أي مدًى كان الأطفال يشتركون في عملية اختيار تلك المواد. إن مقارنة التعليقات والرسومات الموجودة في الكتب التي كانت يومًا ما ملكًا للأطفال بالصور التي يظهر فيها أطفال يمسكون بكتب بين أيديهم، أو يحاولون خلسة الوصول إلى الكتب التي وُضعت بعيدًا عن المتناول، يعرِّفنا عن إلى أي مدًى كان الأطفال يستاءون أو يستمتعون بالمواد التي كانت تُمنح لهم لكي يقرءوها، وإلى أي مدًى كانوا يرغبون في الحصول على ما كانت ممنوعةً عنهم قراءتُه. وهذا النوع من التحليل هو نموذج للطريقة التي يتوسع بها فهم الموضع الملائم لأدب الأطفال في تاريخ القراءة والثقافة المطبوعة والطفولة؛ حيث صار يتوافد على هذا المجال المزيد من الباحثين من خلفيات متنوعة.

وقد وُضِعَت القوى التجارية والتربوية والفلسفية التي شكلت منظومة النشر للأطفال في القرن الثامن عشر ضمن سياق حركة التنوير، بما اتسمت به من التزام تجاه المنطق والتفكير العلمي والتقدم. وبالنسبة للعصور القديمة، فقد اعتُبِرَت الكتابة للأطفال جزءًا من تعليمهم لكي يصبحوا مواطنين ذوي فائدة وقيمة كبيرة؛ فكما ساعد أدب الأطفال في تعليم الأطفال القراءة، فقد حذر من الخرافات ومخاطر الإخفاق في اكتساب تعليم شامل. وقد علَّم أدب الأطفال مبادئ المنطق، وتناول بعض أوجه الظلم في ذلك الوقت مثل العبودية. وبوجه عام، فإن القُرَّاء الصغار المعنيِّين بقراءة نصوص القرن الثامن عشر المخصصة للأطفال كانوا متحررين من وصمة الخطيئة الأصلية التي اتسمت بها كتابات الأطفال في القرن السابع عشر؛ إلا أن الأعمال المخصصة للأطفال كانت تذكِّر القراء بانتظام بجهلهم وقلة خبرتهم وإمكانية ارتكابهم للأخطاء. وتؤكد قصص كالتي يحتويها كتاب ماريا إدجورث «مساعد الوالد» (١٧٩٦) على الحاجة إلى اليقظة الدائمة والتوجيه المستمر من جانب الكبار كي يمنعوا الأطفال من الخروج عن الطريق القويم.

وعلى نحو تقليدي، فقد وصف مؤرخو أدب الأطفال كتاباتِ القرن الثامن عشر بأنها استمرار للتحيُّز المبكر تجاه التعليم والتوجيه، بينما تقدمت التسلية للصفوف الأمامية فقط على أيدي مجموعة من كتاب ورسامي القرن التاسع عشر، مثل واشنطن إيرفنج (١٧٨٣–١٨٥٩)، وناثانيال هوثورن (١٨٠٤–١٨٦٤)، وإدوارد لير (١٨١٢–١٨٨٨)، وتشارلز كينجسلي (١٨١٩–١٨٧٥)، ولويزا ماي ألكوت (١٨٣٢–١٨٨٨)، ولويس كارول (١٨٣٢–١٨٩٨)، ووالتر كرين (١٨٤٥–١٩١٥)، وراندولف كالديكوت (١٨٤٦–١٨٨٦)، وكايت جرينواي (١٨٤٦–١٩٠١)، وجويل تشاندلر هاريس (١٨٤٨–١٩٠٨)، وهوارد بايل (١٨٥٣–١٩١١). وقد ظهر الكثير من الأعمال ذات المستوى الأدبي الراقي والجدارة الفنية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى إن تلك الفترة صارت تُعرَف باسم «العصر الذهبي» لأدب الأطفال. ولكن مثل هذه المسميات العامة غير التفصيلية أصبح مفهومًا أنها مسميات مختزلة؛ فقد كان هناك الكثير من الأعمال من أجل تسلية وجذب القراء المبكرين، ونُشرَ كَمٌّ كبير من كتابات الأطفال سيئة الصياغة ذات الأسلوب التعليمي المباشر في القرن التاسع عشر. ولكن ما حدث هو أنه خلال القرن التاسع عشر، حدث تراجع تدريجي للطفل العقلاني الجاهل، كما صوره أدب الأطفال في عصر التنوير، ليحل محله أطفال تركيبتهم أكثر تعقيدًا — سواء كشخصيات أو قراء — في حين أتاحت التطورات في تكنولوجيا النشر إنتاج تشكيلة كبيرة من الكتب والمطبوعات الدورية، والمقالات المطبوعة من أجل الأطفال — والتي تتميز جميعها بألوانها الغنية وتصميماتها الجذابة — بكميات ضخمة وأسعار متنوعة.

أصبح أدب الأطفال مجالًا مربحًا للغاية بالنسبة للكثير من الناشرين، لا سيما دور النشر الدينية، مثل «جمعية الأعمال الأدبية الدينية» (بدايةً من عام ١٧٩٩)، و«جمعية نشر المعارف المسيحية» (بداية من ١٦٩٨)، والتي انطلقت لمواجهة ذلك النوع من الأدب الرائج المتجسد في الغايات التي يغلب عليها الطابع الحسي لنشر كتيبات الحكايات والأشعار، وكذلك المطبوعات الحسية الرخيصة المسماة «بيني دريدفول». وفي حين أن معظم هذه المطبوعات لم تكن مكتوبة للأطفال، إلا أنه غالبًا ما كان الأطفال هم من يقرؤها. وقد حارب ناشرون، مثل «جمعية الأعمال الأدبية الدينية» و«جمعية نشر المعارف المسيحية»، والكثير من الناشرين التجاريين الذين ساروا على نهجهما، هذا الاتجاه باستخدام السلاح نفسه من خلال استخدام استراتيجيات سرد وتقديم مشابهة — كالحبكات الروائية المفعمة بالحيوية، والشخصيات الصغيرة المثيرة للتعاطف، والرسومات الجريئة — من أجل إيصال رسائل تتماشى مع الجهات الدينية التي يمثلونها. ولم ينتج عن دوافعهم الجديرة بالاحترام بالضرورة نصوصٌ مثيرةٌ للضجر؛ فمن أجل إظهار عواقب الخطيئة، كان لا بد للحبكات الروائية لتلك الأعمال أن تبرز أولًا الرذائل والشرور، في حين أنه من أجل الحض على الإحسان، روى المؤلفون حكايات مثيرة للشفقة عن ضحايا من الأطفال البؤساء والأمهات الفاضلات الذين عانوا حتى الموت بسبب الفقر. وبنهاية القرن التاسع عشر، امتد النشر للأطفال ليشمل كل شيء بدايةً من هذه القصص الهادفة ذات المغزى الديني والتي تُدمي القلب، ووصولًا إلى الخيال والقصص الخرافية والقصص التافهة ومجموعة من الأجناس الأدبية التي تشمل المغامرات وقصص الحيوانات والقصص المدرسية، وكان هناك أيضًا كتب مصورة مبتكرة ومطبوعات دورية. لقد صار مجال النشر للأطفال ديناميكيًّا للغاية وناجحًا تجاريًّا حتى إنه في عام ١٨٩٩، وبينما كان هنري جيمس يتفكر في «مستقبل الرواية»، أبدى هذه الملاحظة الغاضبة:

إن ذلك الأدب — كما يمكن أن نطلق عليه من باب التيسير — المخصص للأطفال هو صناعة تحتل في حد ذاتها مساحة كبيرة للغاية تصل إلى ربع الساحة الأدبية. وقد علمنا أنه يمكن تحقيق ثروات عظيمة — إن لم تكن شهرة عظيمة أيضًا — من خلال الكتابة لصبية المدارس …

وقد نبع جانب كبير من سخط جيمس من حقيقة أنه كان يعمل على إنتاج أعمال أدبية فائقة الجودة تحتل مكانة بارزة، وشعر بأن جهوده يعرقلها سوق تجاري لا يميز بدقة بين الكتابة الجيدة وتلك التي يستمتع بها هؤلاء الذين اعتبرهم «غير مفكرين وليست لديهم قدرة على التمييز»، وبخاصة النساء والأطفال. ولكن الواقع هو أنه بنهاية القرن التاسع عشر، كان سوق النشر يحدد فروقًا دقيقة بين القراء، ولم يحدث ذلك في أي مجال أكثر من مجال النشر للأطفال المقسم إلى طبقات، والذي تعمَّد تقسيم جمهوره إلى فئات، وحرص على إرضاء أذواق القراء من مختلِف الأعمار والطبقات الاجتماعية ومستويات الدخل والاهتمامات ومن كلا الجنسين. لكن جيمس كان مُحقًّا في نقطةٍ ما؛ فما يُسمى الآن «الروايات مختلطة الجمهور» — وهي نصوص تروق جمهورًا مختلطًا من الكبار والأطفال — كان موجودًا في الماضي أيضًا. ففي الأصل، كان الأكثر شيوعًا هو أن «يَعبُر» الأطفال إلى نطاق نصوص الكبار، ليجلبوا تلك الأعمال التي تروقهم إلى النطاق الخاص بهم. والكثير من النصوص المبكرة التي عادةً ما تُدرَج ضمن تاريخ أدب الأطفال تنتمي لهذه النوعية، وتعتبر روايتا «رحلة الحاج»، و«روبنسون كروزو» (١٧١٩)، وروايات شارلوت ماري يونج (وبخاصة «سلسلة ديزي» ١٨٥٦) أمثلةً لهذه النوعية. ولكن تمامًا مثلما انجذب الكبار في نهايات القرن العشرين إلى سلسلتَي «هاري بوتر» و«مواده المظلمة»، فإن كثيرًا من كتب الأطفال خلال القرن التاسع عشر قد حظيت بمتابعة كبيرة لا يشوبها أي شعور بالقلق من قِبَل الكبار. والأمثلة المبكرة للأدب القصصي مختلط الجمهور تتضمن رواية تشارلز كينجسلي «أطفال الماء» (١٨٦٣)، وروايتَي لويس كارول «أليس في بلاد العجائب» (١٨٦٥) و«عبر المرآة» (١٨٧١)، والقصة اللقيطة التي ألَّفتها هيسبا ستريتون بعنوان «الصلاة الأولى لجيسيكا» (١٨٦٧)، ونسبة كبيرة من أعمال مارك توين (١٨٣٥–١٩١٠). وربما كانت قصص مغامرات الصبية هي أهم منطقة من مناطق القراءة المختلطة. وقد كان الرؤساء ورؤساء الوزراء من بين الكثيرين من الكبار الذين أرجعوا الفضل لقصص الصبية — كتلك التي كتبها كابتن ماين ريد (١٨١٨–١٨٨٣)، وجي إيه هنتي (١٨٣٢–١٩٠٢) — في تعليمهم الكثير عن العالم الطبيعي والتاريخ والجغرافيا عندما كانوا صغارًا، والذين عندما كبروا، صاروا قراءً متحمسين لقصص روبرت لويس ستيفنسون المخصصة للصبية، وبخاصة رواية «جزيرة الكنز» (١٨٨١).

لقد اشتكى هنري جيمس من القصص المكتوبة لطلاب المدارس، مع أن نطاقًا مكتمل التطور من الكتابة للفتيات قد تطور بنفس الدرجة خلال القرن التاسع عشر. فعندما بدأ النشر التجاري لكتب الأطفال، عادةً ما كان الفتيان والفتيات يتشاركون الكتب والقصص نفسها، حتى لو طُبعت تلك الكتب بزخارف نصوص موازية مختلفة قليلًا. على سبيل المثال، كتاب «كتيب صغير وجميل للجيب» (١٧٤٤) لجون نيوبيري، كان المقصد منه توجيه وتسلية كلٍّ من «السيد الصغير تومي» و«الآنسة الجميلة بولي»، وكان يوزَّع معه كرة ثنائية اللون للصبية أو وسادة دبابيس للفتيات، وكانت التعليمات تُعطَى لكليهما بأن يطلبا من مربيتهما أن تغرز دبوسًا في الجانب الأحمر عند قيامهما بعمل جيد، ودبوسًا في الجانب الأسود عند قيامهما بعمل سيئ. وكجزء من تقسيم الأسواق إلى طبقات في القرن التاسع عشر، كان الكثير من الكتب يستهدف الصبية «أو» الفتيات. وفي الغالب، كانت هذه قصصًا متوازية. على سبيل المثال، كتبٌ تدور قصصها في مدارس للصبية، وأخرى تدور قصصها في مدارس للفتيات، ولكن كان هناك أيضًا اختلافات نوعية؛ فقصص المغامرات كانت تميل إلى أن توجَّه بالأساس إلى الصبية، بينما كانت القصص المنزلية أو العائلية توجَّه للفتيات. وعلى الرغم من أن معظم قصص الفتيات كانت تفتقر إلى البيئة المذهلة والحبكات المثيرة التي تتسم بها حكايات الاكتشافات والمعارك الموجهة للصبية، فإن الكثير من الشخصيات النسائية الشابة التي لا تُنسَى ولدت في تلك المرحلة، واستمرت في جذب المتابعين المتحمسين لفترات طويلة. وكان المؤلفون من أمريكا الشمالية بارعين على نحو خاص في تأليف الكتب التي تحتوي على شخصية فتاة جذابة ومفعمة بالحيوية، والأشهر بين تلك الشخصيات هي شخصية «جو مارش» التي قدمتها لويزا ماي ألكوت في كتابها «نساء صغيرات» (١٨٦٨)، ولكن كان هناك تراث سابق من القصص المكتوبة عن هذه النوعية من الفتيات. على سبيل المثال، كان لرواية «هايدي» (١٨٨٠-١٨٨١، وتُرجمت سنة ١٨٨٤) للمؤلفة السويسرية جوهانا سبيري، متابعة جيدة خلال القرن الماضي، وفي عام ١٩٣٧ كانت واحدًا من أوائل كتب الأطفال التي يتم تحويلها إلى فيلم سينمائي من إنتاج شركات هوليود، وهو الفيلم الذي كان محطة الانطلاق للنجمة شيرلي تمبل. وقد استمر تدفق شخصية الفتاة الجذابة من أمريكا الشمالية في القرن التالي مع روايات مثل «آن في المرتفعات الخضراء» (١٩٠٨)، و«ريبيكا من مزرعة سونيبروك» (١٩٠٣)، و«بوليانا» (١٩١٣).

كتب الأطفال في عصرٍ تمركز حول الطفل

إن ذلك السيل من شخصيات الفتاة الحيوية في بدايات العقد الأول من القرن العشرين ما هو إلا عَرَض للولع الثقافي بفكرة الطفولة (كمفهوم مستقل عن الأطفال الحقيقيين) الذي اتسمت به بدايات القرن العشرين، والذي وصل إلى أقصى ذروته في رواية جيمس ماثيو باري «بيتر بان، الصبي الذي رفض أن يكبر»، والتي عُرِضَت نسختها المسرحية الأصلية سنة ١٩٠٤؛ فقد استلهم باري روح العصر الخاصة ببداية القرن العشرين؛ مما ساعد في التبشير بقدوم «قرن الطفل»، ذلك القرن الذي شهد احتفاءً بمخيلة وإبداع الطفولة. والدليل على الأهمية المستمرة التي أعطيت للطفولة موجود في المناقشات حول الحداثة والقوة الرمزية التي مُنِحت للأطفال في فترة ما بعد الحرب، حينما كان الأطفال يمثلون الأمل في المستقبل بعد حربين عالميتين والدخول إلى عصر الذرة. ومنذ عام ١٩٨٩، سعت اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل إلى دعم حقوق الأطفال في حماية احتياجاتهم الأساسية في الحياة والازدهار. إن الأفكار المتغيرة بشأن الأطفال والطفولة والمثبتة بوضوح في هذا الملخص الموجز قد رُسمت ملامحها تفصيلًا في الكتابة للأطفال.

خلال النصف الأول من القرن العشرين، سيطرت رؤية خاصة للغاية عن الطفولة على أدب الأطفال الأنجلو-أمريكي؛ فشخصيات الأطفال في أدب الأطفال، أو القراء الأطفال الذين يُفترض أنهم يقرءون ذلك الأدب، كانوا — مع بعض الاستثناءات القليلة للغاية — في مقتبل البلوغ من أبناء البِيض ومن الطبقة المتوسطة، يعيشون في عائلات بها والدان ميولهما الجنسية سوية — وغالبًا ما يكون هناك بعض الخدم بمنزل الأسرة — وفي ثقافة أبوية. وكانت الطفولة مرتبطة بقوة بالطبيعة، وكان الأطفال في تلك الكتب عادة ما يظهرون شديدي البراعة، سواءٌ أكانوا يرتحلون ويعسكرون في مخيمات، أم يبحرون في السفن ويركبون الأحصنة، أم يحلون الجرائم، بل وكثيرًا ما كانوا يُتركون دون إشراف لأيام متتالية. وبوجه عام، كان أدب الأطفال يصور الطفولة كمرحلة متحررة من القلق أو الاحتياج، وهو ما دعم الإحساس بالحنين إلى الطفولة، والذي تجلى في بعضٍ من الكتب الخالدة التي أُلفت ما بين عامي ١٩٠٠ و١٩٥٠، ومن بينها رواية «الريح في أشجار الصفصاف» (١٩٠٨) لكينيث جراهام، ومجموعة كتب «ويني الدبدوب» (١٩٢٦–١٩٢٨) لآلان ألكسندر ميلن. وهذه النغمة أكثر تكرارًا في الكتب البريطانية عنها في الكتب المؤلَّفة في الولايات المتحدة، ولعل ذلك يعكس انخراط إنجلترا الأطول والأكثر تكلفة في حربين عالميتين، وأفول إمبراطوريتها الذي تزامن مع البزوغ العالمي لنجم الولايات المتحدة. وهكذا يمكن مساواة الحنين إلى الطفولة بإدراك ثقافي أكبر بأن التغييرات المرتبطة بالحداثة كانت تعمل كحلقات وصل تربط الحاضر بالماضي.

تطورات القرن العشرين

بحلول العقود الوسطى من القرن العشرين، لم يعد الحنين إلى الطفولة هو اللازمة المسيطرة على الكتابة للأطفال، وربما يكون أحد أسباب ذلك هو أن فترة الطفولة نفسها صارت أطول؛ حيث ارتفعت سن الانتهاء من الدراسة في إنجلترا والولايات المتحدة على حدٍّ سواء، بمعنى أن عددًا أكبر من الأطفال ظلوا معتمدين على أولياء أمورهم لفترة أطول؛ ومن هنا — وعلى الأقل كنوع من رد الفعل لهذه التعديلات — وُلدت ثقافة المراهقين؛ ففي أعقاب نشر رواية «الحارس في حقل الشوفان» (١٩٥١) للكاتب جيروم ديفيد سالينجر، بدأت أولى الكتب المكتوبة خصوصًا للمراهقين في الظهور على قوائم كتب الأطفال في الولايات المتحدة، وقد تبع ذلك — بعد فترة من التأخير — ظهور تلك الكتب في المملكة المتحدة. وقد مالت أولى الكتب المخصصة للمراهقين — مثل رواية «الغرباء» (١٩٦٧) للكاتبة سوزان إلويز هينتون — إلى رفض نموذج الشباب خالي البال، وبدلًا من ذلك، وتماشيًا مع الدراسات المؤثرة مثل دراسة «الطفولة والمجتمع» (١٩٥٠) التي أعدها إيريك إريكسون، فقد ركزت على المشكلات التي تواجه الشباب في كفاحهم لكي يكونوا مستقلين. علاوةً على ذلك، بدأ أدب الأطفال — بما يتضمنه من أفلام وأعمال تليفزيونية وغيرها من المصادر الأخرى للمعلومات والتسلية التي يستخدمها الشباب — في تقديم أفكار وتوفير خبرات بديلة من نوع كان يُعتبر قبل ذلك خارج نطاق الطفولة. وهذا الأمر قد قاد البعض إلى الادِّعاء بأن مرحلة الطفولة — التي تقاس بقلة الخبرة، وبعيدًا عن أنه قد تم تمديدها — كانت في الواقع في طريقها للاختفاء.

ما لم يكن في طريقه للاختفاء — مع أنه بالتأكيد كان يتعرض لتحديات كبيرة في أدب أطفال منتصف القرن العشرين — هو ذلك العالَم المليء بالعائلات السعيدة من الطبقة المتوسطة البيضاء ذات الميول الجنسية السوية. فبدايةً من كتب المبتدئين والحكايات الخرافية ووصولًا إلى روايات اليافعين، بدأت صفحات كتب الأطفال والقصص المصورة والمجلات تمتلئ بالأطفال والشباب من مختلِف الخلفيات الاجتماعية والأعراق، ولاحقًا التوجُّهات الجنسية. وقد ساندت الجوائز الجديدة والمناهج الدراسية هذه التغيرات، فقد أظهرت رواية «ساحة جامبل» (١٩٦١) للكاتب جون رو تاونسند، أطفالًا منبوذين من الطبقة العاملة يعيشون في بيئة حضرية مزدحمة، وهم يحاولون إعالة أنفسهم ويتجنبون نقلهم إلى إحدى دور الرعاية. ويعد هذا مثالًا يوضح كيف أن تغير الزمن كفيل بأن يعيد في النهاية بعض جوانب مجال النشر على الأقل إلى نقطة البداية؛ إذ إن رواية تاونسند — في العديد من الجوانب — أشبه بقصة كان يمكن لجمعية الأعمال الأدبية الدينية أن تنشرها قبل قرن مضى، ولكن من ناحية الأسلوب، فإن رواية «ساحة جامبل» تنتمي بلا نزاع للقرن العشرين، تمامًا مثلما تنتمي إليه تلك المشاهد الصريحة والقاسية في روايتَي الأديبة الأمريكية روزا جاي — «الأصدقاء» (١٩٧٣)، و«روبي» (١٩٧٦) — اللتين ترويان قصة فتاة تنتقل أسرتها من البيئة الريفية بترينيداد إلى حي هارلم بمدينة نيويورك، حيث تموت والدتها، ويعرِّضها والدها للإيذاء الجسدي، ويتعين عليها أن تتعامل مع التحيز والتحامل وصعوبات الحياة في شوارع مدينة أمريكية حديثة.

وعلاوةً على إدراج المزيد من أنواع الأطفال، بدأ مؤلفو أعمال الأطفال في استخدام أساليب كتابة متنوعة — كالواقعية والخيال، والتراجيديا والكوميديا — من أجل مواجهة نطاقٍ من القضايا الموضوعية؛ فرواية «فستان بيل الجديد» (١٩٨٩) للكاتبة آن فاين — والتي تحكي عن تلميذ اسمه بيل سيمبسون، يستيقظ في صباح أحد الأيام ليكتشف أنه قد تحوَّل إلى فتاة ترتدي فستانًا ورديًّا مزركشًا للذهاب إلى المدرسة — هي رواية كوميدية، ولكنها تمثِّل استجابة قوية لقضية عدم المساواة بين الجنسين. بينما تتناول رواية «إننا جميعًا نسقط» (١٩٩١) للكاتب روبرت كورماير، التداعيات المأساوية لعنف المراهقين العشوائي وتخريب الممتلكات، في حين تستكشف رواية «السقوط» (١٩٩٥، وتُرجمت إلى الإنجليزية سنة ١٩٩٧) للكاتبة البلجيكية آن بروفوست، العلاقات بين خيانة اليهود السرية للنازيين أثناء أحداث الهولوكوست وبين الصعود الحالي لجماعات اليمين المتطرف في مدينة صغيرة بفرنسا، بينما يتخيل ديفيد ليفيثان مدينة فاضلة للشواذ جنسيًّا في روايته «صبي يقابل صبيًّا» (٢٠٠٣). وكما تشير هذه السيناريوهات، فإن الكتابة للأطفال صارت الآن تعكس الكثير من أشكال الطفولة المختلفة، وتجارب المراهقة المختلفة في أنواع كثيرة من العائلات: العائلات التي يعيش معها أحد الوالدين فقط، والعائلات التي فيها الوالدان من نفس الجنس، والعائلات التي بها أولاد من زواج سابق، إلى جانب العائلات النموذجية التقليدية.

ليس المقصد من هذا هو التلميح بأن مهمة جعْل أدب الأطفال معبرًا عن كل الطوائف قد اكتملت الآن؛ فحتى في البلدان التي تتمتع بصناعة نشر مكتملة التطور، يظل هناك الكثير من المجموعات التي تعتبر — على أفضل تقدير — غير ممثلة بالقدر الكافي؛ ففي أمريكا الشمالية — على سبيل المثال — لا يوجد سوى قدر محدود من أدب الأطفال عن السكان الأصليين للبلاد، وقدر أقل من تأليفهم. وأحد التفسيرات المحتملة لذلك هو أن فهم هؤلاء الناس لكيفية سرد القصص مختلف للغاية عن ذلك الفهم الخاص بالثقافة السائدة لدرجةٍ قد لا تجعل المحررين يتعرفون على ذلك الأسلوب، بحيث إذا ما قدم الكتَّاب من السكان الأصليين قصصًا للنشر، فقد لا يدرك المحررون أنها قصص، وإذا أدركوا ذلك، فربما لا يدعمونها بحجة أنه من غير المحتمل أن تحقق مبيعات تُذكَر. ولو نُشِرت إحدى قصص السكان الأصليين، فإن نوع التغييرات التي قد تتعرض لها أثناء عملية النشر — بداية من التحرير إلى إضافة الرسومات — ربما يغير القصة الأصلية بدرجة كبيرة، حتى إنها لا تعود جزءًا أصيلًا من تلك الثقافة. وسواءٌ أكانت تلك التغييرات متعمدة أم تتم دون تفكير، فإن العواقب تظل واحدة. وفي البلاد التي لا يوجد بها بنية أساسية قوية لأدب الأطفال، أو التي يتحدث سكانها بأكثر من لغة — كما هو الحال في أجزاء من أمريكا الجنوبية وأفريقيا والهند — فقد تمنع المشكلات الاقتصادية واللوجستية بعض المجموعات من المشاركة في تأليف أدب قصصي للأطفال. وغالبًا ما يكون الأعضاء المنتمون إلى الثقافة السائدة في أي بلد هم الحراسَ الرئيسيين للبوابات المؤدية إلى عالم أدب الأطفال — كمؤلفين وناشرين ومعلمين وأمناء مكتبات وأولياء أمور — وما يختارون أن يقدموه سوف يتأثر قطعًا بفهمهم الخاص للطفولة والأدب، وطموحاتهم بشأن كليهما.

بالنسبة للكثير من الأطفال والشباب اليوم، ربما توفر شبكة الإنترنت طريقة لتخطي عدد كبير من هؤلاء الحراس، ويعد التجسيد الأحدث والأوسع نطاقًا للمدى الذي وصل إليه هذا التخطي — عبر سنوات القرن الماضي — هو أن جزءًا كبيرًا بشكل متزايد من مرحلة النمو قد تضمن استخدام الوسائط الجديدة وتقنيات المعلومات. ويلقي الفصل الثالث نظرة تفصيلية على التغييرات التي تُحدثها هذه الوسائل على ممارسات القراءة والكتابة، ولكن أي دراسة تاريخية لأدب الأطفال لن تكون مكتملة دون بعض المناقشات حول كيف، وإلى أي مدًى تعامل الكتاب والناشرون مع الطرق الجديدة لسرد القصص وتأليف النصوص، والتي أتاحتها التقنيات الجديدة المتعاقبة.

قصص الأطفال المعاصرة والوسائط الجديدة

أحد الجوانب المهمة في التاريخ الطويل لأدب الأطفال يتعلق بالكيفية التي جرب بها المؤلفون والرسامون والناشرون بانتظام طرقًا جديدة لإنتاج أدب الأطفال بأسلوب جذاب وزهيد التكلفة. ومنذ الأيام التي كانت فيها الرسومات تُلوَّن يدويًّا، ووصولًا إلى الكتب المصوَّرة العصرية المليئة بالرسومات، فإن أحد طموحات ناشري كتب الأطفال على مر العصور هو إنتاج كتب جذابة وغنية بالألوان قدر الإمكان، وفي نفس الوقت زهيدة الثمن و(مربحة) قدر المستطاع؛ وهذا يعني أن أدب الأطفال كان دومًا سبَّاقًا إلى تجربة تقنيات الطباعة الجديدة، والابتكارات في هندسة تصنيع الأوراق من أجل إنتاج كتب مبتكرة مثل المطويات المصورة، والكتب المجسمة، وغيرها من الكتب ذات الأجزاء المتحركة. والخط الفاصل بين الكتب والدُّمَى والألعاب كان دائمًا خطًّا رفيعًا، وعلاوةً على أن هذا الأمر قد أدى إلى اكتشاف طرق جديدة لتقديم المواد المطبوعة إلى الأطفال، فقد أثر أيضًا على طريقة سرد القصص، ويظهر هذا التأثير بوضوح في سلسلة كتب الألعاب «اختر قصص المغامرات الخاصة بك» التي اشتُهرت لفترة وجيزة في ثمانينيات القرن العشرين، والتي استفادت كثيرًا من صيغ وقصص ألعاب تقمُّص الأدوار، مثل «سجون وتنانين». وقد قدَّمت هذه الكتب البسيطة للقراء العديد من الحبكات والنتائج المحتملة، والتي تتحدد من خلال مزيج من الحظ (رمية النرد)، والاعتماد على استراتيجية في اللعب.

كان لظهور وسائط جديدة تأثير أيضًا على القوالب والصيغ وتقنيات السرد الخاصة بالكتابة للأطفال. وقد تمت معالجة قصص الأطفال لتناولها في الأعمال السينمائية والتليفزيونية، وكُتبت لكي تُقرأ عبر الإذاعة، وسُجلت على أسطوانات وشرائط كاسيت وأقراص مضغوطة، وتم التعامل معها على أنها أدب قصصي إلكتروني أو مسجل على أقراص مدمجة أو منشور عبر الإنترنت. وكان لكل وسيطة جديدة تأثيرها على كيفية كتابة القصص، وكيف وأين يمكن العثور عليها، بل وحتى ما يعنيه قراءتها. وديناميكيات هذه العلاقة هي موضوع الفصل الثالث، ولكن من الضروري أن ننهي هذه المراجعة التاريخية بإيضاح نقطتين: الأولى هي أن العاملين في مجال أدب الأطفال قد وسَّعوا لبعض الوقت نطاق اهتماماتهم لكي يشمل كل الصيغ التي يصادف الشباب من خلالها السرد القصصي، سواءٌ على صفحة كتاب، أو على الشاشات، أو على المسرح، أو في كلمات أغنية، أو من مصادر شفوية، أو عبر أي أداة أو وسيطة أخرى. والنقطة الثانية تتعلق بدور الأطفال في إنتاج أدب الأطفال.

وكما أوضحت هذه الدراسة التاريخية الموجزة، فقد كان أدب الأطفال يكتبه بشكل تقليدي الكبار من أجل جمهور من الأطفال، ومن المعتاد في مجال نقد أدب الأطفال — على العكس من أشكال الكتابة الأخرى — أنَّ الجمهور هو من يحدد ويُعرِّف أدب الأطفال؛ إذ لا يتم تعريفه من خلال خصائص مثل الجنس الأدبي أو الفترة الزمنية أو الأسلوب أو المؤلف. وتاريخيًّا، لم يكتب الأطفال المواد التي «نُشرت» كأدب للأطفال؛ لأنه لم تتح لهم إمكانية كبيرة للوصول إلى الأدوات الضرورية للقيام بذلك، وحتى في الوقت الذي وصل فيه تقدير قدرة الأطفال على التخيل إلى ذروته، كان هناك افتراض عام بأن الأطفال لا يمتلكون خبرة كافية بهذا العالَم أو بحرفة الكتابة لكي يكون لديهم ما يقولونه، أو لكي يقولوا ما يدور برءوسهم بطريقة مثيرة للاهتمام. وفي الواقع، لقد كان الأطفال دائمًا «منتجين» للقصص والألغاز والشعر والنكات وغيرها من المواد الأدبية (بما في ذلك الروايات والقصائد والمسرحيات وغيرها من الأعمال الأدبية الأكثر وضوحًا)، وفي عصر النشر المكتبي، والروايات التي يؤلفها المعجبون، وغيرها من أشكال المنشورات عبر الإنترنت، فإن الأطفال والشباب صاروا يعثرون على طرق للكتابة لجمهور يتخطى نطاق عائلاتهم وأصدقائهم وأقرانهم، وما زال الوقت مبكرًا لكي نحدد نوع التأثير الذي سيتركه هذا الأمر على فهمنا للعناصر التي تشكِّل أدب الأطفال، ولكنه قد يلعب دورًا مهمًّا في إعادة النظر في مدى فائدة مسمى أدب الأطفال، على الأقل فيما يخص الدراسة الأكاديمية للكتابة الموجهة للأطفال.

الكتابة للأطفال

وفي سياق وصف نوع المادة الأدبية التي اعْتُبِرت أدبًا للأطفال في أزمنة مختلفة وكيف تغير هذا التوصيف، فقد اتضحت بعض الخصائص المقترنة بالكتابة للأطفال والشباب، وقبل المضي قدمًا ودراسة التطورات الأخرى التي طرأت على هذا المجال، حريٌّ بنا أن ننظر إلى بعض النزعات المسيطرة في القصص الخاصة بالأطفال والشباب، وكيف ترتبط تلك النزعات بصور الأطفال وفترة الطفولة وفترة المراهقة.

وبالرغم من التغيرات المحيطة بأدب الأطفال وقُرَّائه، فقد كان هناك — على مر السنوات — اتفاق هائل حول المقومات التي تجعل أحد النصوص «مخصصًا للأطفال» على مستوى الأسلوب والمحتوى. وبعد أن حللت باربرا وول (١٩٩١) الطريقة التي يؤسس بها عدد من كُتَّاب روايات الأطفال الكلاسيكية المؤثرين العلاقةَ بين الراوي والقراء، توصَّلت إلى أن الطريقة التي يخاطب بها الكُتَّابُ الكبارُ القراءَ من الأطفال مشابِهة للطريقة التي يتحدث بها الكبار إلى الأطفال، وتؤثر على نبرة الصوت والمفردات واختيار الكلمات وكَمِّ التفاصيل المتضمَّنة في التوصيفات والتفسيرات. وتحدد باربرا وول ثلاثة أساليب استُخدمت على نحو تقليدي في الكتابة للأطفال: الأسلوب الأول هو المخاطبة المزدوجة، والتي يتنقل الراوي فيها بين مخاطبة القراء الأطفال ومخاطبة الكبار الذين من المفترض أنهم يقرءون بصحبتهم، أو يراقبون عملية القراءة، وعادة ما يظهر الراوي متحدثًا بلغة تفوق مستوى استيعاب الأطفال، ومتواطئًا مع الكبار. إن المخاطبة الفردية تخاطب القارئ الطفل فحسب، بينما تنجح المخاطبة المزدوجة في مخاطبة القراء من الأطفال والكبار في وقت واحد وبقدر متساوٍ؛ مما ينتج عنه تجربة قراءة ممتعة ومرضية لكليهما. ومراعاة تصنيفات باربرا وول لأنواع المخاطبة قد يكون مفيدًا في تحديد إلى أي مدًى يَفترض الكتاب أن قاعدة القراء من الأطفال، ويساعد في تتبع التغيرات التي تطرأ على علاقات الكبار والأطفال في النصوص الأدبية بمرور الوقت. وكما رأينا في بعض الأمثلة التاريخية التي ناقشناها من قبل، فقد كانت الكتابة المبكرة تميل إلى استخدام المخاطبة المزدوجة، حتى وصل الأمر إلى إدراج أقسام مخصصة للكبار في كتب الأطفال. وبداية من القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر، سيطرت المخاطبة الفردية على الكتابة للأطفال الذين يقرءون الكتب باستقلالية تامة. أما الكتب المصورة — والتي عادة ما يقرؤها الكبار للأطفال — فقد استَخدمت في الغالب المخاطبة الثنائية أو المزدوجة، في حين أن المخاطبة الثنائية تعد سمة مميزة للكتابات مختلطة الجمهور.

ولا يمثل أسلوب المخاطبة الاختلاف الوحيد بين الكتابة للأطفال والكتابة للكبار؛ ففي مقارنة بين الأسلوبين، كثيرًا ما يتم اقتباسها، توصَّلَ مايلز ماكدويل إلى أن:

كتب الأطفال عادةً ما تكون أقصر، وتميل إلى تفضيل المعالجة النشطة وليس السلبية، مع وجود حوار وأحداث بدلًا من الوصف وسبر أغوار النفس؛ فأبطال القصص من الأطفال هم المسيطرون، وتستخدم الأعراف والتقاليد بكثرة، والقصة تتطور بداخل بنية أخلاقية واضحة … وتميل كتب الأطفال إلى أن تكون تفاؤلية وليست كئيبة، واللغة موجهة للأطفال، وتتميز الحبكات الدرامية بترتيب متميز، والاحتمالية غالبًا ما تكون مستبعدة، وقد يستمر المرء في الحديث عن السحر والخيال والبساطة والمغامرة إلى ما لا نهاية.

والدليل الذي يدعم الملخص الذي قدمه ماكدويل قدمه الباحث الدانماركي توربن فاينريش (٢٠٠٠)، الذي أوضح أن عملية تعديل نصوص الكبار لتناسب الأطفال تتطلب جعْل تلك النصوص أقصر وأبسط، وإضافة رسومات إليها في أغلب الأحيان. وقد اختتم بيري نودلمان الفصل الأول من تحليله المفصل لأدب الأطفال، والمُعَنوَن «الكبير الخفي: تعريف أدب الأطفال» (٢٠٠٨)، بقائمة أطول، ولكن شديدة الشبه بالقائمة التي أعدها ماكدويل. وكما يستفيض نودلمان قائلًا إنه من المهم أن نفرِّق بين الكتابة البسيطة والكتابة المفرطة في التبسيط؛ وذلك لأن الكثير من كتب الأطفال التي تبدو بسيطة تتحدث عن أشياء مثيرة للتفكير ببساطة راقية، بل وأحيانًا خادعة. على سبيل المثال، تناقش روايتا «شبكة شارلوت» (١٩٥٢) لإي بي وايت، و«الرجل» (١٩٩٢) لرايموند بريجز — إلى جانب قضايا أخرى — قضيتَي الموت والتهميش على التوالي (انظر الشكل رقم ٦-٢) بمهارة وأسلوب فلسفي. وكذلك، فليست كل كتب الأطفال مكتوبة ببساطة؛ فروايات مثل «الفأر وطفله» (١٩٦٧) لراسل هوبان، و«كودي» (١٩٩٤) لويليام ماين، و«الكاذب» (٢٠٠٩) لجاستن لاربالستيير، تتسم بصعوبة الأسلوب بالنسبة للقراء من أي سن أو مستوًى ثقافي.

وحتى أواخر القرن العشرين، كان هناك نوع من الاتفاق غير المكتوب بألا تشتمل كتب الأطفال على الجنس أو اللغة البذيئة أو العنف غير المبرر، على أساس أن الكتابة للأطفال هي جزء من عملية التربية الاجتماعية؛ ولذا يجب أن تُقدِّم نماذج طيبة، وتساعد القراء على تعلم السلوكيات المقبولة، التي ستساعدهم — على الأرجح — على عيش حياة ناجحة ومُرضِية. كما كانت هناك نزعة لتجنب النهايات الكئيبة، على افتراض أن الصغار يحتاجون للشعور بالثقة في المستقبل، وفي قدرتهم على التغلب على العقبات. ومع تغير الأفكار المتعلقة بالطفولة، انهار الإجماع على هذه الخصائص بشكل كبير، ولا سيما بالنسبة للقراء الأكبر سنًّا الذين لم يُعتبروا في معظم فترات تاريخ أدب الأطفال جزءًا من الجمهور الذي يستهدفه هذا النوع من الكتب. وقد مثَّل دمج الكتابة للمراهقين داخل أدب الأطفال تحديًا للكثير من الافتراضات المتعلقة بأدب الأطفال، والتي ظلت سائدة لفترة طويلة؛ ونتيجة لذلك، يوجد الآن عدد كبير من كتب الأطفال المعقدة من ناحية الأسلوب، والتي تتضمن تلميحات جنسية وسبابًا وعنفًا عشوائيًّا، والتي تنتهي نهاية كئيبة. ومع تحرك النطاق العمري الذي يستهدفه أدب الأطفال بانتظام إلى أعلى، وبعد أن أصبحت القصص مختلطة الجمهور أكثر شيوعًا، أصبح مسمى «أدب الأطفال» إشكاليًّا بشكل متزايد.

وما يساهم في زيادة إشكالية أدب الأطفال هو حقيقة أن الكتابات الجديدة تتواجد جنبًا إلى جنب مع الكتابات المتراكمة المخصصة لصغار القراء. على سبيل المثال، الكثير من ناشري كتب الأطفال لديهم قوائم ضخمة بالكتب القديمة، والتي عادةً ما تتضمن أعمالًا «كلاسيكية» مثل «أطفال الغابة الجديدة» (١٨٤٧)، و«نساء صغيرات» (١٨٦٨)، و«بينوكيو» (١٨٨٣)، و«الحديقة السرية» (١٩١١)، والتي تم تأليفها عندما كانت الأفكار المتعلقة بالطفولة مختلفة للغاية. ولا تتعلق الاختلافات فقط بالكيفية التي نفهم بها الأطفال؛ فبالنسبة للأعين المعاصرة، عادةً ما تبدو الطريقة التي كُتب بها الكثير من الأعمال القديمة — والتي تدرج عادةً في الدارسات التاريخية لكتب الأطفال — بعيدةً كل البُعد عن أن تكون قصيرة وبسيطة وحيوية وموجهة للأطفال، والأمثلة الواضحة على ذلك هي تلك الكتب التي أضافها الأطفال إلى قائمة قراءاتهم عندما لم يكن أمامهم الكثير من الروايات الأخرى لكي يقرءوها، كتب مثل «رحلة الحاج»، أو «رحلات جاليفر»، أو «الفارس الأسود» (١٨١٩). والكتب التي كُتبت «خصوصًا» للأطفال وكانت شديدة الرواج بين القراء الصغار في وقت نشرها تعقد الصورة بشكل أكبر، ومثال على ذلك رواية «عالم واسع، واسع جدًّا» (١٨٥٠) لإليزابيث ويذريل، والتي تعد عملًا ذا أبعاد ملحمية وأسلوب ديني مذهل. وحقيقة أن الكثير من هذه الأعمال لم تعد تُقرأ اليوم إلا في المناهج الجامعية حصريًّا — هذا إن كانت تُقرأ من الأساس — قد فتحت الباب للجدل حول ما إذا كان لا يزال من الجائز أن نعتبرها جزءًا من أدب الأطفال أم لا.

وعلى الجانب الآخر، فإن محاولات ضمان أن النصوص الموجهة للأطفال مناسبة على أساس بساطة اللغة والأسلوب قد باءت بفشل متكرر، فما الذي يمكن أن تفعله أو تقوله عن رواية بياتريكس بوتر، «حكاية الأرنب بيتر» (١٩٠٢) التي لا تزال محبوبة بشدة، والتي «تناشد» فيها العصافيرُ الأرنبَ بيتر بأن «يخلِّص» نفسه بعد أن تعلقت أزرار قميصه في شبكة نبات عنب الثعلب الخاصة بالسيد ماكريجور؟ (وقد قيَّم بعض التربويين الأمريكان المفردات المستخدمة في رواية بياتريكس بوتر بأنها مناسبة لأولئك الذين يدرسون بالمرحلة الإعدادية وحتى الجامعة). ويعد طول الكتاب أيضًا إشكاليًّا بالقدر نفسه؛ ففي حين أن الكثير من كتب الأطفال الآن أقصر من تلك التي صدرت في الماضي، فإن شعبية سلسلة روايات «هاري بوتر» — التي يزيد طول كل مجلد منها في المعتاد عن ٤٠٠ صفحة (المجلد النهائي وصل إلى ٩٠٠ صفحة) — قد فتحت الباب للكثير من سلاسل الروايات الخيالية الطويلة المخصصة للأطفال.

وبالنظر إلى نطاق المواد التي صُنِّفت كأدب للأطفال طوال تاريخ ذلك الأدب، فليس من المفاجئ أنه قد ثبت مدى استحالة الوصول إلى طريقة مُتَّسقة لوصف ذلك الأدب وتعيين حدوده. وفي النهاية، فإن كثيرًا من العاملين في هذا المجال يتفقون مع جون رو تاونسند — الناقد الأدبي ومؤلف كتب الأطفال — الذي توصل في عام ١٩٧١ إلى أن «التعريف العملي الوحيد لكتاب الأطفال في هذه الأيام، هو أنه ذلك الكتاب الذي يظهر في قائمة كتب الأطفال الخاصة بأحد الناشرين». لكن هذا الأسلوب البراجماتي لم يعد مجديًا بالقدر نفسه الآن؛ لأن الكتب ربما تظهر في قوائم كتب الكبار والأطفال في الوقت نفسه، كما حدث مع رواية سلمان رشدي «هارون وبحر القصص» (١٩٩٠)، ورواية إيان ماكيوان «الحالم في النهار» (١٩٩٤)، ومعظم روايات جاين جاردام، وبالطبع الروايات مختلطة الجمهور لكلٍّ من جي كيه رولينج وفيليب بولمان ومارك هادون، والتي ذكرناها من قبل. ويبدو أنه إذا كنا سنتوصل لتعريف لأدب الأطفال، فربما يعتمد ذلك التعريف على الطريقة التي كُتِب بها النص والموضوع الذي يناقشه، بدرجة أقل من اعتماده على علاقته بالأطفال والطفولة وطريقة صياغته لكلٍّ منهما. هذا هو الاستنتاج الذي توصل إليه بيري نودلمان الذي يذكرنا بأن الأطفال والكبار مختلفون، وأنه مثلما يتوجب على الأطباء وعلماء النفس والمعلمين والمهندسين المعماريين ومصممي الأزياء أن يضعوا احتياجات الأطفال في اعتبارهم، كذلك يتطلب الأطفال أشياءَ مختلفةً فيما يقرءونه. ومع ذلك، فإن ما يتطلبه الأطفال يحدده الكبار استنادًا إلى ذكرياتهم عن الأطفال والطفولة، وملاحظتهم عنهما والتفاعل معهما، ومجموعة من المعلومات السابقة والآراء المستقاة والصور عنهما.

الطفل داخل الكتاب وخارجه

رغم أن مصطلحات «الطفل» و«الطفولة» و«الأطفال» و«المراهقة» تُستخدم بانتظام فيما يتعلق بأدب الأطفال، فإنه لا توجد نسخة موحدة من أيٍّ من هذه المصطلحات، ولا رؤية واحدة للطفولة خلف أدب الأطفال. وبينما كان لتأثير الحركة الرومانسية أثر عميق ومستمر على كثير من جوانب الطفولة في القصص الخاصة بالأطفال، وظهرت سيطرة بعض السمات (مثل إظهار الأطفال كمخلوقات بريئة ومحبوبة وقابلة للتعليم ومتحضرة)، فقد كان هناك أيضًا شخصيات أطفال شريرة وقاسية ومتوحشة وغير قابلة للإصلاح. ويتضمن كل جانب من جوانب أدب الأطفال مجموعات متعددة من الأطفال والشباب؛ بداية من شخصيات الأطفال في النصوص الأدبية إلى القراء الأطفال الضمنيين (المتخيَّلين) ووصولًا إلى القراء الحقيقيين من الأطفال. وفي حين أن الشخصيات والقراء الضمنيين ربما يكونون ثابتين على نحوٍ ما، فإن القراء الحقيقيين يتغيرون باستمرار؛ ولذلك فعندما نتعامل مع كتاب من الماضي، فإن مصطلح أدب الأطفال يشمل القراء الذين قرءوه في وقت نشره، وأولئك الذين يقرءونه حاليًّا، وكل القراء بين هاتين الفترتين.

وكما أشرنا من قبل، فقد اخْتُزل الآن مصطلح أدب الأطفال في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية في الكتابة الموجهة للقراء من سن صفر وحتى ١٦ عامًا (أي منذ لحظة الولادة وحتى السن التي يحق للشخص فيها ترك المدرسة بصورة قانونية)، ولكن هذا الأمر يختلف من دولة لأخرى، وقد تغير أيضًا بمرور الزمن؛ فهؤلاء الأطفال يأتون من خلفيات متعددة، وسوف يكون لديهم — كأفراد وأعضاء في مجموعات — مجموعة من الاحتياجات والقدرات والخبرات، إذنْ، فكما كان من المستحيل تحديد مجموعة واحدة من السمات الثابتة الشائعة في الكتابة للأطفال، فإنه من المستحيل أيضًا تحديد الطفل في أدب الأطفال. ومع ذلك، فإن القصص الموجهة للأطفال تخاطب أشكالًا من الطفولة وتكوِّنها، وفي أثناء ذلك، فإنها تؤثر على كيفية فهم الأطفال والطفولة، وبخاصةٍ من قِبَل الصغار. ومن بين العناصر المحورية لهذه العملية حقيقة أن الكبار هم من يؤلفون أدب الأطفال، وهم يفعلون ذلك طبقًا لتوقعاتهم لما يجب أن تكون عليه الطفولة. وبينما قد تتفاوت هذه التوقعات تفاوتًا كبيرًا من وقت لآخر، ومن مكان لآخر، ومن شخص لآخر، فحقيقةُ أن الأطفال في أدب الأطفال هم شخصيات رسم ملامحها الكبار قادت ماريا نيكولاييفا (٢٠٠٩) إلى أن تستنج أنه يوجد على الأقل شيء واحد ثابت في أدب الأطفال؛ ما تطلق عليه اسم «معيارية الكبار»، أو الطريقة التي تحكمت بها معايير الكبار في أنماط أدب الأطفال، منذ نشأته وحتى يومنا الحالي. وعلاقة القوة ربما تكون صحيحة، ولكن معايير الكبار ليست أكثر ثباتًا من تلك المعايير المحيطة بالطفولة؛ ومن ثم فإن ملاحظة نيكولاييفا تعد أكثر قيمة بسبب مجموعات الأسئلة التي تتمخض عنها من قيمتها كسمة مميزة لأدب الأطفال.

وأيًّا كانت طريقة تحديدها، فإن الفوائد المكتسبة من دراسة الكتابة للأطفال — سواء كأدب للأطفال أو كجزء من المعارف المتخصصة الأخرى — كثيرة للغاية. ولتوضيح هذا القول، ستتفرغ الفصول المتبقية من هذه «المقدمة القصيرة جدًّا» بعد مناقشة بعض المناهج التي تُستَخدَم باستمرار في دراسة أدب الأطفال، لتقديم أمثلة للمجالات التي يثير فيها البحث في أدب الأطفال نقاشات أكاديمية أو يزيد منها.

هوامش

(1) Private collection/The Bridgeman Art Library.
(2) Courtesy of the Lilly Library, Indiana University, Bloomington, Indiana.
(3) Private collection/photo: Gen Larose.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤