الفصل الثاني

لماذا تدرَس كتب الأطفال وكيف؟

يلخص أدب الأطفال نطاقًا من الروايات التي تشكل أدب «الكبار» القصصي ويوسعه ويعدله، ولكن لا يستخدم دارسو أدب الأطفال المناهج النقدية والنظرية نفسها فحسب، بل يعدلونها ويضيفون عليها أيضًا؛ فهناك — على سبيل المثال — مناهج تركِّز على الجمهور المستهدَف، ومناهج أخرى تنشأ عن دراسة الطفولة، وأخرى تراعي التفاعل بين الصورة والنص. ومع ذلك فبوجه عام، تُدرَس الكتابة للأطفال بالطرق نفسها التي تُدرَس بها النصوص الأخرى، رغم حقيقة أن كتب الأطفال تُصنَّف على أساس الفئة العمرية أكثر من الفترة، أو الجنس الأدبي، أو مؤلفيها، أو غيرها من أسس التصنيف المحتملة تعني النزعة لاستخدام بعض المناهج أكثر من غيرها. يتناول هذا الفصل النقاد والمناهج التي أثبتت فائدتها لدراسة أدب الأطفال بالتحديد أيًّا كانت أعمار القراء وأيًّا كانت الصيغة أو الوسيلة التي يصل من خلالها الأدب إليهم. لكن قبل تناول كيفية دراسة أدب الأطفال، يستحق الأمر أن نلقي نظرة على ما تقدمه هذه النوعية من الأدب للباحثين، وما يمكن تعلُّمه من قصص الأطفال في الماضي والحاضر.

الكبار يقرءون الكتابة المخصصة للأطفال

عندما يقرأ الكبار الكتابات المخصصة للأطفال لأغراض الأبحاث والتدريس، يمكن أن تكون النصوص المخصصة للأطفال تنويرية على عدة مستويات؛ فحيث إن كل الكبار كانوا أطفالًا في مرحلة من حياتهم، وإن كتب الأطفال تخاطب القراء من الأطفال وعادةً ما تتضمن صورًا للطفولة، فيمكن لكتب الأطفال على المستوى الشخصي أن تعيد إنشاء الصلة بين الكبار وأنفسهم في مرحلة الطفولة. وقد يزداد تأثير هذه العملية إذا ما كانت النصوص التي يقرءونها هي نفسها التي قرءوها خلال طفولتهم، فالكثير من الناس يشعرون بشيء من الإثارة عندما يقع بين أيديهم النسخة نفسها من كتاب كانوا يقرءونه خلال طفولتهم. وعلى الرغم من أن العودة إلى الكتب التي كنا نقرؤها ونحن صغار قد تثير في البداية بعض ردود الأفعال العاطفية والحنين للماضي، فإن أغلب الكبار يتغلبون على هذه المشاعر بردود فعل انتقادية مدروسة أكثر، وقد تصيبهم بعض النصوص بالإحباط بسبب أسلوبها الركيك أو تفاهتها. وفي حين أن هذه النصوص قد تحتوي على بعض المعلومات الثقافية الشائقة، فقد تتسبب أيضًا في إثارة الشك في أن الاهتمام بالكتابة للأطفال أمر طفولي في حد ذاته، وأن أدب الأطفال هو أمر يجب التخلي عنه عند الكبر وتركه كجزء من الماضي بدلًا من أن يكون أمرًا يستحق الدراسة الجادة. لكن لا يقتصر أسلوب الكتابة الركيك أو التفاهة على أدب الأطفال، وليس من الغريب على الكبار أن ينتجوا كتابات رجعية أو طفولية عن الأطفال وإليهم. وهذا هو الاتهام الذي وجهه تي إس إليوت لاستحضار هنري فون لذكريات الطفولة، حيث قال:

… يمكننا — إذا ما اخترنا أن «نسترخي إلى هذا الحد» — أن «نغرق» في «ترف» ذكريات الطفولة، ولكن إن كنا وصلنا لمرحلة النضج والإدراك، فإننا سنرفض أن ننغمس في هذا الضعف لدرجة الكتابة أو نظم الشعر عنه. إننا نعلم أن الطفولة أمر يجب دفنه ونسيانه، رغم أن جثمانها يمتلك العزيمة لأن يظهر على السطح من وقت لآخر.

قد يكون تصوير إليوت للطفولة على أنها جثمان مدفون صادمًا، ولكن إدراكه أن هذا الجثمان يمكنه أن يجد طريقه للظهور بصورة دورية يمثل اعترافًا منه بأن طفولتنا تستمر في الوجود داخلنا حتى بعد النضج، وهو سبب وجيه لإعادة فحصها، وكذلك لاستخدام المناهج النقدية القائمة على التحليل النفسي باستمرار في قراءة الكتابات المخصصة للأطفال.

ويتمثل أحد طرق العودة للطفولة في قراءة الكتب والقصص المصورة والمجلات وغيرها من الأعمال الأدبية التي قرأناها آنذاك، ولكن هذا لا يعني أن نحاول قراءتها من المنظور الذي كنا نقرؤها منه ونحن أطفال؛ فلا شك أن دراسات أدب الأطفال تعمد إلى تجنب هذا النوع من الترف الانتكاسي تحديدًا. إن من ينظرون إلى أنفسهم أو إلى أطفال آخرين كأمثلة للقراء من الأطفال، إنما يفعلون هذا في محاولة منهم لاكتشاف سبب أن بعض الكتابات تكون ذات تأثير كبير في مرحلة الطفولة وما يمكن لهذا الأمر أن يكشفه؛ فكتاب «الصيادون المسحورون» (٢٠١٠) لماريا تاتار — على سبيل المثال — يهتم بالطريقة التي ينسى بها الأطفال أنفسهم أثناء قراءة الكتب، فما الذي يميز الأطفال كقراء والكتب المعدة للأطفال والشباب لدرجة تجعلها شديدة الفاعلية في جعل الأطفال يهيمون بعيدًا عن العالم من حولهم؟ في كتاب «الطفل الذي ربَّته الكتب» (٢٠٠٢)، يكشف فرانسيس سبوفورد — وهو يسترجع ذكريات طفولته، وهو طفل محب للقراءة — عن أنه كان تحديدًا من نوعية القراء من الأطفال الذين يثيرون اهتمام الكاتبة تاتار؛ فهو يتذكر أنه كان «ينغلق عن العالم الخارجي حتى تتمكن (ذاته القارئة) من الانفتاح على العالم الداخلي»؛ مما تمخض عمَّا يطلِق عليه هو اسم «القراءة الفصامية».

وفي حين يهتم كلٌّ من تاتار وسبوفورد بتأثير الكتابات على القراء الصغار منفردين، فإن أغلب من يعملون في هذا المجال — باستثناء بعض التربويين (انظر الجزء الخاص بنقد استجابة القارئ فيما يلي) — يهتمون أكثر بما تكشفه هذه النصوص للأطفال عن موعد أو مكان أو جهة إصدارها. وقد يعني هذا إلقاء الضوء — على سبيل المثال — على المواقف من حركة الاستكشاف والاستعمار في قصص المغامرات التي نُشرت بالقرن التاسع عشر، أو اشتراك شخصين من نفس الجنس في تربية الأطفال في الكتب المصورة في القرن الحادي والعشرين. وكما أظهرت النظرة التاريخية الشاملة في الفصل الأول، يمكن للنصوص الموجهة للأطفال أن تساعد على نشر أفكار عن «طفولة» الدول بالقدر نفسه الذي تنشر فيه أفكار عن الطفولة الفردية. وفي حقيقة الأمر، بعض خصائص أدب الأطفال التي حُددت أثناء مناقشة ماهيته (خاصة في الفترة السابقة للمراهقة) — تحيُّزه تجاه البنى البسيطة نسبيًّا، وكذلك صلته بنظام التعليم على سبيل المثال — تعني أن المواقف الأيديولوجية والأجندات الخاصة عادة ما تكون أكثر صراحة ووضوحًا مما هي عليه في النصوص الموجهة للكبار. وهذا من شأنه أن يجعل الكتابة للأطفال مصدرًا للمعلومات التاريخية عن كل شيء، بدايةً من الحياة اليومية — إذ تدور أحداث الكثير من كتب الأطفال وأشعارهم وقصصهم في المنازل ودور الحضانة والمدارس، وتتضمن تلك الأنشطة البسيطة مثل التسوق والقيام بالأعمال اليومية الروتينية — ووصولًا إلى الجدل حول أمرٍ ما في أي وقت؛ ومن ثَمَّ، فإن دراسة كتب الأطفال يمكن أن تكون طريقة للتأمل في شخصياتنا أثناء الطفولة أو حتى ماضٍ جماعي لفترة ما، ولكن هذه فقط بعضٌ من الأسباب التي تجعل دراسة أدب الأطفال مثمرةً ومجزيةً للغاية.

إرساء المعايير وخرقها

نظرًا لأن الوسيلة الرئيسية للكتابة للأطفال هي اللغة، وحيث إن الأطفال خلال مشوار تعلم القراءة يكتسبون الكثير من المفردات والمفاهيم التي يستخدمونها للتفكير في أنفسهم وفي العالم من حولهم، فإن الكتابة للأطفال لديها إمكانية كبيرة للتأثير على ما يعتبره القراء المستهدفون أمرًا طبيعيًّا أو جيدًا أو مقبولًا أو مهمًّا أو غير عادل أو يجب الخوف منه. وهذا من شأنه أن يجعل كتابات الأطفال مصدرًا قيمًا للمهتمين بالتحولات الأيديولوجية والتغيرات الثقافية. على الرغم من أنه في النصف الثاني من القرن الماضي تَسبَّب دور أدب الأطفال في تثبيت الأنماط التقليدية الخاصة بالجنس والمنزلة الاجتماعية والعرق في إثارة جدل محتدم وحملات قوية لمقاومة هذه النزعات، فإن المدى الذي يمكن لأدب الأطفال أن يصل إليه في تشكيل شخصيات الأطفال عقليًّا واجتماعيًّا غالبًا غير معترف به. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تُستغل فيها الكتابة للأطفال في مساندة حملات متطرفة النزعة.

ونظرًا لأن الطبيعة التشكيلية لأدب الأطفال غير معترف بها أو يتم التغاضي عنها خارج الفصول الدراسية؛ فإن لديها القدرة على العمل بعيدًا عن أجهزة الاستشعار الثقافية والشخصية. وهذه مفارقة؛ فمن ناحية، يتسم أدب الأطفال بالتنظيم الشديد؛ حيث إن المشاركين في جعل الأطفال يهتمون بالكتابات المخصصة لهم عادةً ما يكونون حذرين فيما يتعلق بالكثير من مظاهر الكتابة للأطفال؛ مما يؤدي إلى فرض نوع من القوانين الذاتية المتعلقة باللغة والمحتوى الذي سبق وناقشناه. وعندما يعتقد الأشخاص والمجموعات أن أحد النصوص قد تخطى الحدود المقبولة، يمكنهم أن يعارضوه بشدة، كما اكتشفت الكاتبة الأمريكية جودي بلوم؛ فقد استفز الكثيرُ من كتب بلوم من عينوا أنفسهم أوصياء على أدب الأطفال، ولكن كانت روايتها «للأبد» (١٩٧٥) — التي صوَّرت فيها مراهقَيْن يمارسان الجنس، وعملية إجهاض، ومحاولة انتحار فاشلة قام بها أحد أشخاص الرواية خوفًا من أنه شاذ جنسيًّا (جميعها أمور غير مترابطة) — هي ما تسبب في كون بلوم واحدة من أكثر المؤلفين المحظورين في الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد تحدت رواية «للأبد» التقاليد بوضوح؛ حيث إن كتب الأطفال عادةً ما تكون أقل صراحة في الطريقة التي تطرح بها أسئلة هدامة عن الثقافة وتستكشف بها القضايا والسلوكيات والرغبات التي قد لا تعتبر مناسبة للأطفال. أحيانًا قد لا يكون المؤلفون و/أو الرسامون أنفسهم مدركين لما يقترحونه؛ وكان هذا صحيحًا على وجه الخصوص قبل أن يحدد سيجموند فرويد مفردات لوصف النفس. وقد أشار الكثير من القراءات لنصوص كلاسيكية مثل «أليس في بلاد العجائب» و«بيتر بان»، أن المؤلفين شعروا أنهم قادرون على استكشاف جوانب من أنفسهم أثناء الكتابة للأطفال ما كانوا ليدرجوها في كتاباتهم للكبار. وبدلًا من ذلك، قد يسعى المؤلفون تحديدًا إلى مخاطبة الجمهور اليافع؛ لأنهم يرغبون في تشكيل الجيل الصاعد من خلال تشجيعهم على رؤية الأمور من منظور جديد خارج عن الثقافة السائدة، أو لغرس طرق جديدة للتفكير والتصرف مقبولة رسميًّا. وقد استخدم المؤلفون في القرن السابع عشر كتب الأطفال لنشر أفكار معينة عن الدين والسلوك والحياة الاجتماعية، وفي القرن الثامن عشر نُشرت الأفكار العلمية والسياسية الجديدة بين الصغار من خلال كتبهم ومجلاتهم التي تصدر بشكل دوري، كما شجع الإصلاحيون في العصر الفيكتوري القيم الدينية والاعتدال والتبرع للأطفال الفقراء من خلال نشر صفحات من القصص الخيالية للأطفال، ولكن خلال الحقبة المكارثية في الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح أدب الأطفال مجالًا يستطيع من خلاله بعض المعارضين للمجتمع المحافظ تنمية الرؤى التقدمية للمجتمع.

اتساع مجال دراسات أدب الأطفال

على الرغم من أن جميع المناهج النقدية والنظرية الملائمة لدراسة النصوص يمكن استخدامها لتحليل الأعمال المخصصة للصغار، فإن بعضها قد أثبت فاعلية أكثر من غيره، وسيلقي الجزء المتبقي من هذا الفصل الضوء على أكثر تلك المناهج تأثيرًا. ومن الجدير بالذكر أنه في تسعينيات القرن العشرين لم يكن هناك الكثير من الدراسات النقدية عن أدب الأطفال، وقبل هذه الفترة كان من الممكن مناقشة بعض النصوص النقدية الفردية. وبحلول القرن الحادي والعشرين، وانعكاسًا لزيادة الاهتمام بدراسات أدب الأطفال وارتفاع منزلتها ونشاطها، ازداد عدد المنشورات في هذا المجال؛ مما جعلها أكثر تركيزًا على التوجهات في المقام الأول لا على الأعمال الفردية. ويعد النشاط الجم في الدراسات البحثية عن أدب الأطفال دليلًا على عوامل جاذبيته، ليس أقلها حقيقة أنه يقدم مجالًا جديدًا لم يتطرق إليه أحد من قبل؛ فهناك الكثير من الكتاب والنصوص والصيغ ومجموعات الأعمال وحتى الفترات التي لم تحظَ بسِوَى قدر ضئيل — أو لم تحظَ بأي قدر — من الاهتمام. هناك أيضًا الكثير من العمل الذي يجب القيام به عن التاريخ الببليوجرافي لأدب الأطفال. ويظهر جانب من ثرائه كمصدر من خلال فحص النصوص النقدية والتوجهات الرئيسية في دراسات أدب الأطفال.
fig4
شكل ٢-١: هذه القصة تستخدم نصًّا بسيطًا ودمية ورقية لتعليم القراء من الأطفال فضائل الطاعة والتواضع.1

المناهج المبكرة

بدأت الاستجابات النقدية لأدب الأطفال في الظهور بانتظام خلال القرن التاسع عشر. وكانت مجلة «حارس التعليم» هي أولى المطبوعات التي تنشر مراجعات جادة لكتب الأطفال، وقد تأسست عام ١٨٠٢ على يد السيدة المهيبة سارة تريمر، وهي والدة لاثني عشر طفلًا، وكاتبة وناقدة وعالمة تربوية. وكما يوحي اسمها، فقد اهتمت مجلة «حارس التعليم» بحماية الأطفال من خلال التأكد من أن التعليم الذي يتلقونه مفيد لهم. ويعكس وجود مثل هذه المجلة اهتمامًا بالطبيعة المهمة والمتقلبة للقراءة التي تزايدت خلال القرن التاسع عشر. فهؤلاء الذين كانوا يتمتعون بآليات التذوق الجيد ويتحلون بالتحكم في النفس (وكانوا جميعهم تقريبًا رجالًا كبارًا من الأثرياء وعلى درجة جيدة من التعليم) قد سُمح لهم بالقراءة بحرية، ولكن ساد اعتقاد بأن الفقراء والنساء والأطفال — خاصة الفتيات — يجب تنظيم قراءاتهم. أوضحت السيدة تريمر في العدد الثاني من مجلتها أهمية التأكد من أن الأطفال يقرءون ما يوافق عليه الكبار المسئولون عنهم:

يجب ألا يُسمح للأطفال بالاختيار بأنفسهم، أو أن يقرءوا أي كتب تقع بين أيديهم بالصدفة، أو تقدَّم إليهم لمطالعتها؛ بل يجب أن يتعلموا أنه من «واجبهم» أن يستشيروا والديهم في هذه المسألة الخطيرة.

وحقيقة أن امرأة هي التي نصَّبت نفسها مرجعًا في أدب الأطفال أمر له أهميته؛ حيث إنها أثارت الشكوك حول أحد المعتقدات المهيمنة على دراسات أدب الأطفال، ألا وهو أن الرجال كانوا هم المسيطرين على الأعوام الأولى من النشر الموجَّه للأطفال. وقد كان من السائد اعتبار الآباء المؤسسين لهذا النوع من الدراسات هما جون لوك وجان جاك روسو، اللذَين سيطرت نظرياتهما عن الأطفال والتعليم والحضارة — لا سيما كما رسماها في كتابيهما «بعض الآراء حول التربية» (١٦٩٣) و«إميل» (١٧٦٢) على التوالي — على تنشئة الأطفال وتعليمهم على مدار جزء كبير من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ فضلًا عن جون نيوبيري الذي يُنسب له فضل قيادة الناشرين التجاريين إلى مجال أدب الأطفال الجديد. ولكن تجاهلت هذه النسخة من ولادة أدب الأطفال الكثير من النساء اللاتي لعبن دورًا رئيسيًّا في تأليف مواد القراءة الأولى، وقد أشار الفصل الأول إلى إسهامات ماري كوبر وجين جونسون، وهناك أيضًا مؤلفات من النساء على غرار سارة فيلدينج، مؤلفة ما يُعتقد أنه القصة المدرسية الأولى، ألا وهي «المربية» (١٧٤٩)، وماريا إدجورث، التي صدر عملها الأول المخصص للأطفال، «مساعد الآباء»، عام ١٧٩٦.

ومن ثَمَّ، ليست سارة تريمر سوى واحدة فقط من نساء عديدات شكَّلن مجال النشر للأطفال في سنواته الأولى، وفي هذه الحالة من خلال عملها كناقدة. وقد استُخدِمت آراء تريمر القوية المعارضة للقصص الخرافية والمناصرة للعقلانية المسيحية لإظهارها في صورة الشخصية القاسية التي ترغم الأطفال على قراءة المواد المملة؛ مما ساهم في تثبيت مفهوم آخر خاطئ وواسع الانتشار، وهو: أن النساء اللاتي كُنَّ يكتبن أو يدرسن أدب الأطفال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كُنَّ عبارة عن «كتيبة من الوحوش» يسعَيْنَ لقتل السعادة في نفوس الأطفال ولا يتمتعن بقدرة كبيرة على رواية القصص المسلية، في حين كان الرجال — أمثال إدوارد لير وتشارلز كينجسلي ولويس كارول وجورج ماكدونالد — يقودون الأطفال للتمتع بمتع الخيال والهراء والروايات المحببة للأطفال. وكما أوضحنا مرارًا وتكرارًا (انظر الأقسام المتعلقة بالمناهج التاريخية والقائمة على النوع فيما يلي)، فإن هذا الوصف الذي يوضح تطور أدب الأطفال قد أساء إلى نساء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وكتاباتهن.

وبصفة عامة، كانت التعليقات المبكرة توجَّه إلى الآباء باعتبارهم المشترين المحتمَلين للكتب التي سيقرؤها أطفالهم، والذين كانوا يميلون — بما يتماشى مع منهج تريمر — إلى التركيز على ما إذا كان ما يُنشر من أجل الأطفال قد ينفعهم (على سبيل المثال، يعلمهم الأخلاق والسلوكيات الفاضلة) أو يضرهم. وكانت النصائح المتعلقة بتحديد ماهية الكتب الضارة تميل لأنْ تكون أكثر تعقيدًا من تلك النصائح المتعلقة باختيار الكتب المفيدة. كان النقاد الأوائل يفترضون بوجه عام أنهم يخاطبون جمهورًا من الطبقة الوسطى (ويمكن القول إن هذا الوضع لا يزال ينطبق على العصر الحالي)، وأن نوع المادة التي يعتبرونها ضارة يختلف باختلاف الطبقة وجنس القارئ؛ لذا، فقد كانوا يعتقدون أن براءة الفتيات يمكن أن تتضرر بسبب الكتب ذات الفكر الدنيوي، في حين تساعد هذه النوعية من الكتب على إعداد الصبية لمواجهة مخاطر الحياة واتخاذ القرارات التي يستتبعها كونهم ذكورًا. وقد كانت هناك مخاوف من أن انغماس أطفال الطبقة العاملة في القراءة قد يلهيهم عن القيام بأعمالهم، وربما يطلعهم على أفكار تجعلهم لا يتماشون مع وضعهم في المجتمع. وعلى النقيض، كان من شأن الكتب التي تتم الموافقة على قراءتهم لها — وهي بصفة أساسية الإنجيل والدعاية الدينية، ولاحقًا بعض أنواع الروايات التي أنتجتها دور النشر الدينية — أن ترشدهم نحو الآراء المناسبة وتشجعهم على المحافظة على الوضع الراهن. وعمومًا، اتفق النقاد الأوائل لأدب الأطفال على أن مرحلتَي الطفولة والمراهقة تمثلان الفترة التي يُحصِّل فيها المرء أكبر قدر من التعلم، والتي تتشكل فيها الشخصية؛ ومن ثَمَّ فإنه — كما قال إدوارد سالمون في كتابه «أدب الصغار كما هو» (١٨٨٨) — من المستحيل «أن نبالغ في تقدير أهمية أدب الصغار» على الشخصية القومية والثقافة.

اتفق نقاد القرن التاسع عشر على أهمية أدب الأطفال، ولكن كانت المحاولة الأولى المثبتة لاعتبار أدب الأطفال كيانًا من الأعمال الأدبية هي كتاب «كتب الأطفال في إنجلترا: خمسة قرون من الحياة الاجتماعية» (١٩٣٢) لمؤلفه إف جيه هارفي دارتون. فقد حوَّل دارتون بؤرة تركيز النقد من الآباء إلى هؤلاء الذين لديهم اهتمامات بحثية في مجال النشر للأطفال في تاريخ تدعمه التفاصيل الببليوجرافية وتنظمه التصنيفات. ويرى دارتون أيضًا تطور أدب الأطفال على أنه تطور بدأ بتعلم جافٍّ وذي نزعة مسيطرة لم ترتخِ قيوده إلا بصدور كتاب لويس كارول «أليس في بلاد العجائب» (١٨٦٥)، الذي ناصر فكرة «حرية الفكر». وقد استمر النمط والبنى التي حددها دارتون في التأثير على فهم تطور أدب الأطفال، إلا أنه في ستينيات القرن العشرين، ظهر انقسام بين المهتمين بتحليل النصوص، غالبًا باستخدام النظرية النقدية التي كان يتم إثراؤها باستمرار، والتي كانت تُدرَّس وتُطبق في الدوائر الأكاديمية، وبين أولئك الذين كانوا يركزون على الببليوجرافيا الخالصة. وعندما أصبحت دراسات أدب الأطفال جزءًا مهمًّا من التدريس والبحث الأكاديمي، سرعان ما تزايد عدد التحليلات والمسارد النقدية المتعلقة به وأنواعها. ولسنا هنا في مقام سرد أعمال كل فرد من الأشخاص الذين رسموا خريطة تطور فن الكتابة للأطفال، ولكن من الأهمية بمكان ملاحظة أن هذا الأمر قد نفذه عدد من هواة جمع الكتب وبائعيها وأمناء المكتبات والمعلمين والناشرين والكتَّاب والرسامين والمتحمسين — لبعض الكتاب وأساليب الكتابة على نحو خاص — وبعض الأكاديميين الأفراد الذين لم يحظَ اهتمامهم بهذا المجال بتقدير من زملائهم أو مؤسساتهم. وقد طور هؤلاء فيما بينهم بنية تحتية لدراسة أدب الأطفال، خاصة في صورة مجموعات ومنشورات ومعارض.

إذا كان دارتون هو رائد منهج دراسة أدب الأطفال الذي يتمحور حول الكتب، فإن بول هازارد — أستاذ الأدب المقارن بكلية كوليج دو فرانس — قد أخرج إلى النور المنهج الذي يتمحور حول الأطفال، حيث ألقى استطلاعه عن أدب الأطفال في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية — الذي يحمل اسم «الكتب والأطفال والإنسان» (١٩٣٢، وتُرجم إلى الإنجليزية عام ١٩٤٤) — الضوء على الاستثمار في خيال الأطفال كقوى متجددة، والذي ظهر في بدايات القرن العشرين، وأمل انتصار «دولة الطفولة العالمية» على الولاء القومي. وقد رأى هازارد أن كتب الأطفال هي محور هذه العملية، مُدَّعيًا أنه إذا تعرَّف الأطفال بعضهم على بعضٍ من خلال قراءة بعضهم كتب بعض، فهذا من شأنه أن يخلق تفاهمًا عالميًّا، بل — حسبما كان يأمل — من شأنه أن يضع نهاية للصراعات. وعلى الرغم من أن الكثير من المشاركين مهنيًّا في تحقيق التقارب والألفة بين الأطفال والكتب وضعوا رؤية هازارد في اعتبارهم، كما أن بعض المنظمات الرئيسية (المجلس الدولي لكتب اليافعين)، والمؤسسات (مكتبة الشباب الدولية بميونخ)، والجوائز الكبرى (جائزة أدب السلام للأطفال) قد خلَّدت أفكاره ومُثُله من حيث كيفية دراسة أدب الأطفال اليوم؛ فإن تراثه الأعظم يتمثل في مجال أدب الأطفال المقارن، الذي أرسى قواعده. وحقيقة أن هذا المجال ما هو إلا مجال محدود يلقى اهتمامًا أكبر في الدول التي لا تتحدث الإنجليزية تشير إلى طريق من اتجاه واحد لحركة كتب الأطفال بين الدول. وفي حين أنه لطالما كان من المعتاد ترجمة الكثير من كتب الأطفال المؤلفة باللغة الإنجليزية إلى لغات أخرى، فقد أصبح هذا النمط أكثر وضوحًا في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد استشرى بهذا الشكل بفضل انتشار اللغة الإنجليزية.

وعلى الرغم من أن هذه الدراسة لا تلقي الضوء على أيٍّ من التفاصيل المتعلقة بطريقة فحص أدب الأطفال من قِبَل المشاركين في عملية تعليم الأطفال، خاصة خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، ففي الغالب كان المعلمون والقائمون على تدريبهم هم أكثر الناس يقظة للجودة العالية والابتكار في الكتابة للأطفال وبعض إخفاقاتها. وقد تجسد الترابط والإثراء المتبادل بين المناهج الأدبية والتعليمية والنظرية، وكذلك الارتباط بين الأبحاث العلمية في إنجلترا وأمريكا الشمالية، في صدور مجلة «أدب الأطفال في التعليم». وتحتوي هذه المجلة — التي أُسست في عام ١٩٧٠ وحُررت تحريرًا مشتركًا بين أمريكا الشمالية والمملكة المتحدة — على أمثلة لجميع المناهج النظرية التي سنتعرض لها بالنقاش في بقية هذا الفصل.

مناهج التحليل النفسي والمناهج النفسية

من بين الاستخدامات الأولى للنظرية التي تُطبَّق بوعي على أدب الأطفال كانت تلك التي ركزت على العالم الداخلي للطفل؛ فبينما كانت نظرية التحليل النفسي وحدها هي التي تستخدم في نقد أدب الكبار، فإن الكتابة للأطفال قد استندت بشكل متكرر إلى نماذج ورؤًى من كلٍّ من التحليل النفسي وعلم نفس الأطفال. ويعود وجه الشبه بين هذين المنهجين وبين أدب الأطفال إلى العادة القديمة المتمثلة في استخدام القصص لمساعدة الأطفال على فهم أنفسهم وفهم المحيطين بهم. فتاريخ أدب الأطفال يزخر بالقصص المتعلقة بمخاوف الأطفال وما يقلقهم وردود أفعالهم الغاضبة و«سلوكهم السيئ»، والتي تقدم النصح حول كيفية التحكم بهم. على سبيل المثال، يبدأ كتاب «المربية» (١٧٤٩) — لمؤلفته سارة فيلدينج — بشجار بين الفتيات في أكاديمية السيدة تيتشام للفتيات الصغيرات؛ فيتعلمن أن يتغلبن على مواطن ضعفهن الفردية ورغباتهن الجامحة، وأن يعشن سويًّا في وئام عندما تقص كل واحدة منهن قصة اعترافية للأخريات. إن الطريقة التي يكشف بها هذا الكتاب الجوانب الخفية للنفس ويضفي عليها شكلًا قصصيًّا تشبه إلى حدٍّ كبير أسلوب التحليل النفسي، رغم أن النقاشات التي استخدمت في قصة فيلدينج مُتضَمَّنة في المخاوف المعاصرة آنذاك، على غرار التحكم بالنفس والواجب المسيحي.

وبعد مرور أكثر من قرن، ولكن قبل تطور المفردات العلمية ومجموعة المفاهيم الخاصة بالتحدث عن النفس، أظهرت قصص الأطفال التي كتبتها ماري لويزا مولسورث فهمًا عميقًا لسبب تصرف الأطفال بالطريقة التي يتصرفون بها. فعلى سبيل المثال، تتناول قصة «ساعة الوقواق» (١٨٧٧) تأثير الحرمان والوحدة والملل على الحياة الخيالية للفتاة جريسيلدا؛ في حين تتناول قصة «لغز شيلا» (١٨٩٥) قضية تنافُس شديدة بين الأشقاء. وبحلول منتصف القرن العشرين، اعتمد الكثير من الكتابات الموجهة للأطفال على فهم نفسية الطفل وعقله وعالمه الداخلي، كما فسرها علماء نفس الطفل. وفي بعض الأحيان — كما في حالة كاثرين ستور — كان مؤلفو كتب الأطفال من علماء النفس الممارسين. وقد ظهر مدى تضافر الاهتمامات الإبداعية والتشخيصية في كتاب «الشبكة الرائعة» (١٩٧٧)، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات التي جمعت آراء الكتاب والرسامين والنقاد الأدبيين وعلماء النفس وأمناء المكتبات والتربويين. وقد أضاف كتاب «الطفل والكتاب: استكشاف نفسي وأدبي» (١٩٨١) لعالِم النفس التربوي نيكولاس تاكر إلى هذا المنهج روابط محددة لنظريات تطور الطفل التي قدمها جان بياجيه. وبحلول القرن الحادي والعشرين، تجمع عدد هائل من التحليلات التي كانت في بعض الأحيان شديدة التخصص، والتي وظفت توليفة من أسلوبَي التحليل النفسي وعلم النفس. وقد وضع بعضًا من هذه التحليلات ممارسون متخصصون، مثل الكتاب الذي ألفه طبيبا الأطفال النفسيان مارجريت ومايكل راستن تحت عنوان «قصص عن الحب والخسارة» (١٩٨٧، وتمت مراجعته في ٢٠٠١)، والبعض الآخر وضعه متخصصون بالأدب، مثل كتاب كارن كوتس «نظارات الرؤية والأراضي الخرافية» (٢٠٠٤)، والتي تطبق نظريات جاك لاكان على عدد من النصوص الأدبية للأطفال. وقد اهتم كلا المنهجين في النهاية بمدى قدرة الكتابة للأطفال على تشكيل الذات واستكشاف الهوية النفسية، وأثناء ذلك يساعد الأطفال على فهم أنفسهم.

يمكن قول الشيء نفسه عن بعض النصوص الأدبية الأولى التي شكلت بوعي بعض القصص عن مشكلات الأطفال النفسية ومشكلات التطور. ومن بين الأمثلة الرئيسية على ذلك قصة كاثرين ستور «أحلام ماريان» (١٩٥٨)، وقصة موريس سينداك «أينما توجد الأشياء البرية» (١٩٦٣)، وقصة نيل جايمان، «كورالاين» (٢٠٠٢). ومن المثير للاهتمام أنه في كلٍّ من هذه القصص يدخل أبطال القصة عالم الأحلام/العوالم الثانوية؛ حيث يواجهون الشخصيات والسيناريوهات المخيفة المستقاة من المشكلات التي يواجهونها في حياتهم اليومية ويتغلبون عليها. وتمثل أهمية استحضار مخاوف الأطفال في القصص الخيالية التي يقرءونها وبعْث الطمأنينة في أنفسهم بأنهم سوف يتغلبون عليها محورَ إحدى أهم الدراسات حول علاقة الأطفال بالقراءة؛ ألا وهي دراسة برونو بتلهايم التي تحمل عنوان «استخدامات السحر: معنى القصص الخرافية وأهميتها» (١٩٧٨).

وقد تبع بتلهايم خطوات فرويد عن كثب؛ حيث ركزت تحليلاته عن القصص الخرافية الشهيرة على الرمزية والدور الرئيسي الذي تلعبه الدراما الأوديبية في تطورهم النفسي-الجنسي. ورغم أن دراسته قد لاقت نقدًا بسبب تطبيقها المختزل لنظرية فرويد، وكذلك فشلها في الانتباه إلى السياق التاريخي أو تاريخ القصص الفردية التي حللها، فإن قوله بأن الأطفال بحاجة إلى قصص تُظهر لهم مخاوفهم — من بينها المخاوف من أن تتملكهم مشاعر العدائية والرغبة القوية التي تستعر بداخلهم — كان له تأثير كبير على من يدرسون أدب الأطفال ومن يؤلفونه.

لقد تغلغلت أفكار فرويد عبر الثقافة؛ وعلى النقيض، فإن أفكار زميله وصديقه كارل يونج في بعض الأحيان أقل انتشارًا. ومع ذلك، فمن المزعوم أن لتلك الأفكار تأثيرًا أكبر على كتابة أدب الأطفال ونقده؛ ولا سيما اعتقاد يونج بأن الأطفال يولدون وداخلهم إحساس بالكمال يفقدونه على مدار المرور بأشياء كثيرة على غرار تحديد النوع وتعلم اللغة والتحكم الجسدي والذاتية — جميع المعايير الرئيسية للتطور الاجتماعي. وتؤكد آراء يونج عن التطور الشخصي على الحاجة إلى الانفصال والفردية كجزء من عملية النضج، ولكنه يرى أن هذا جزء من السعي لاستعادة الكمال النفسي. وقد اعتمد الكثير من الكتاب — خاصة كتاب روايات الصغار الخيالية — بشكل أساسي على نماذج يونج الأساسية — الرموز التي كان يؤمن أن الوعي واللاوعي يتواصلان من خلالها — والفكرة بأن النفس السليمة توازن بين الجوانب الذكورية والأنثوية.

لن يكتمل أي نقاش حول هذا الموضوع دون ذكر كتاب جاكلين روز «قضية بيتر بان: أو استحالة القصص الخيالية للأطفال» (١٩٨٤). يضرب عمل روز بجذوره في إعادة قراءة عمل فرويد الذي قدمه المحلل النفسي والطبيب النفسي الفرنسي جاك لاكان؛ حيث إنها تَعتبر أدب الأطفال ذا أهمية كبيرة في بناء الهوية الشخصية؛ إذ إن الذات نتاج اللغة، واللغة هي وسيلة الخيال؛ ومن ثَمَّ، فإن الأطفال أثناء القراءة يتعلمون ويجربون اللغة ويبنون هوياتهم في الوقت ذاته. ولكن الجانب من عملها الذي كان له عظيم الأثر هو تأكيدها بأن جذور البنى الخيالية للطفولة ترجع إلى احتياجات الكبار ورغباتهم. وقد أدى هذا إلى تصوير الطفولة على أنها رمز لمجموعة من رغبات الكبار — الرغبة في البراءة والتماسك والتوازن النفسي — التي لا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأطفال والطفولة. وقد حملت كلٌّ من كارن ليسنيك-أوبرشتاين (١٩٩٤) وكارن كوتس (٢٠٠٤) راية الاهتمام بمنهج لاكان واللغة والذاتية من بعد روز.

المناهج اللغوية والسردية والأسلوبية

من بين أولى الدراسات التي حاولت تحليل أدب الأطفال على أساس خصائصه الأسلوبية دراسة «قواعد أدب الأطفال» (١٩٨٦) لزوهار شافيت، والتي تلقي الضوء على كيف وأين يتواجد أدب الأطفال داخل ما تشير إليه على أنه النظام التعددي للأدب، أو الأنظمة المتداخلة والهرمية بشكل مختلف التي تنظم النصوص الأدبية على مستويات ثقافية وعالمية وتحدد شكلها. وقد تبنَّى آخرون بعض أفكار شافيت، ولكن قرارها بأن تستخدم أمثلة كنسية من تاريخ أدب الأطفال تسبب في مشكلات لتحليلها؛ إذ إن الكثير من النصوص الأدبية التي ناقشتها لم تكن موجهة في الأساس إلى الأطفال.

وفي كتاب «صوت الراوي: معضلة القصص الخيالية للأطفال» (١٩٩١)، قدمت باربرا وول أيضًا نظرة تاريخية شاملة لمساعدتها على تحديد المعايير الأسلوبية التي يمكن من خلالها تمييز كتب الأطفال عن غيرها من الكتابات الأخرى. وقد كانت جميع النصوص الأدبية التي ناقشتها باربرا وول مكتوبة خصوصًا من أجل الأطفال، وكانت تقصد بذلك القراء الذين تقل أعمارهم عن ١٢ عامًا. وقد خلصت إلى أن أغلب الكتابات الأولى التي أُدرجت في الدراسات التاريخية لقصص الأطفال الخيالية لم تكن في حقيقة الأمر تَمُتُّ بأية صلة لأدب الأطفال؛ لأنها لم تُكتَب بطريقة صُممت خصوصًا لتروق الأطفال (انظر المناقشة عن المخاطبة الفردية والثنائية والمزدوجة في الفصل الأول). وطبقًا لكتاب «صوت الراوي»، فإن أدب الأطفال ككيان أدبي مميز يمكن تحديده فقط عندما يطور الكاتب أساليب محددة لمخاطبة القراء من الأطفال؛ وهذا في حد ذاته يعتمد على وجود فهم متسق لماهية الطفل وكيف أن الأطفال يختلفون عن الكبار على المستويات الإدراكية والعاطفية والجسدية. وتخلُص وول إلى أن أدب الأطفال — إلى جانب أنه يستقي صورة وفهمًا ناشئين للطفولة — يعزز ويساعد في رسم ملامح صورة الطفل الذي يخاطبه.

أما العمل الرئيسي التالي الذي يركز على اللغة والأسلوب — وهو كتاب «اللغة والأيديولوجية في القصص الخيالية للأطفال» (١٩٩٢) لجون ستيفنز — فيطبق تقنيات تراوحت ما بين النقد السردي واللغوي (القصة وأحداثها، ووجهة النظر، وبؤرة الأحداث، وصوت الرواية، وختام القصة) جنبًا إلى جنب مع عدد من المناهج النقدية لنصوص الأطفال في القرن العشرين. وقد توصل ستيفنز إلى استنتاجات واسعة النطاق، ولكن ربما يكون أكثرها تأثيرًا هو إثباته أن الكتب التي يقرؤها الأطفال والشباب مؤثرة أيديولوجيًّا وتميل إلى مناصرة القيم الإنسانية المتحررة.

المناهج القائمة على الجنس والنوع

هناك قطاع كبير من الكتابة النقدية عن أدب الأطفال يتناول القضايا المتعلقة بالتوجهات النوعية والجنسية، وقد كان له أثر واضح على كتابة أدب الأطفال وشكله وتسويقه. وخلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أصبح مدى اشتراك أدب الأطفال في تخليد الصور النمطية عن النوع قضيةً ساخنةً مثيرةً للجدل الشديد؛ ففي البداية، ركزت المخاوف على تصوير الفتيات وكيف كانت النصوص تميل إلى الالتزام بالمثاليات النسائية التي قللت من قدرهن، حيث كانت تشير إلى أن الفتيات أقل ذكاءً وحيوية ومهارة من الصبية. وقد شرع الكتَّاب والناشرون في التعامل مع هذه المشكلة، من خلال وضع إرشادات وكتابة أعمال تهدف إلى مناهضة التمييز على أساس الجنس. وفي نهاية المطاف، أثمرت تلك الحملة عن مجموعة ضخمة ومتنوعة من النصوص التي قدمت الكثير من طرق تحقيق النجاح والمخصصة للفتيات. وقد تضمن جزء من هذه العملية إدراك أن توزيع القوى بين الجنسين لن يحرز أي تقدم بدون علاج مشكلة التصوير الذكوري؛ حيث بدأ كلٌّ من النقاد والكتاب في تلك المرحلة التركيز على مشكلات الصور النمطية الذكورية. وقد وقع بعضٌ من أكثر المناقشات المحتدمة حول الذكورة في أستراليا، والتي ظهر فيها أيضًا عدد من روايات أدب الشباب، والتي قدمت نماذج جديدة للذكور. وتعتبر مجموعة جون ستيفنز القصصية المنقحة والصادرة تحت عنوان «خصائص الذكورة: تصوير الذكورة في أدب وأفلام الأطفال»، العمل النقدي الأول والأكثر تأثيرًا الذي يتناول هذا الأمر، والذي ظهر عام ٢٠٠٢.

وبينما طرأت — بلا شك — تطورات في عدد ونوعية النصوص التي تقاوم تحديد الصور النمطية للنوع على مدار نصف القرن المنصرم، فمن الجدير بالذكر أن القرن الحادي والعشرين قد شهد إعادة إحياء للأدب الذي يستهدف قُرَّاءً من جنس معين، والذي يبدو أنه يعيد إحياء الأفكار السابقة عن طبيعة الذكور والإناث وقدراتهم؛ حيث كانت الكتب الموجهة إلى «الفتيات» وردية اللون، ومزينة بالحوريات للفتيات الصغيرات أو إكسسوارات الموضة للفتيات الأكبر سنًّا، وعادةً ما تفترض ضمنيًّا أن القارئات الصغيرات لا يهتممن بسِوَى مظهرهن وأن يَرُقْنَ الفتيان. أما كتب «الفتيان» فتكون عن الجنود أو الجواسيس الصغار أو أيٍّ من الشخصيات المشابهة مفتولة العضلات التي لا تُظهر الكثير من العاطفة وتركز فقط على تطوير المهارات البدنية التي تمنحها التفوق والسيطرة في أغلب المواقف. وتمتلئ صفحات تلك الكتب بالمعارك والآلات ومشاهد من الحياة في الهواء الطلق والشجاعة منقطعة النظير.

وقد حدثت هذه العودة إلى الأفكار القديمة رغم النشاط النقدي المستمر (انظر — على سبيل المثال — كيري ماليان، ٢٠٠٩)، والاهتمام المتزايد بنظرية تحرر الجنس (ماريا نيكولاييفا، ٢٠٠٩). وفي حين قد يبدو تصوير النوع رجعيًّا في بعض جوانب النشر للأطفال، فإن الوضع يختلف تمام الاختلاف عندما يتعلق بالتوجهات الجنسية. فهناك عدد متزايد باطراد من الأعمال الرئيسية والثانوية التي تؤيد وتحتفل بحياة الشواذ من الذكور والإناث ومزدوجي الرغبة الجنسية والمتحولين جنسيًّا من الشخصيات والقراء. وتشجع الكتب التي تقدم شخصيات غير محبة للجنس الآخر قراءها على تقمُّص توجه جنسي بديل خلال وقت القراءة — بالضبط كما يُطلب ممن لا يكونون من محبي الجنس الآخر أن يفعلوا — مما يشجع على فهم أن جميع الميول الجنسية يمكن تغييرها، وأن نظم التصنيف الحالية بدائية. علاوةً على ذلك، فإن رؤية العالم من خلال وجهة نظر شخصية تختلف ميولها الجنسية عن ميول القارئ بإمكانها أن تشجع التعاطف والتقمص العاطفي بطرقٍ نادرًا ما تنجح المعلومات المباشرة وتدريبات زيادة الوعي في فعلها. وهذه هي الاستراتيجية التي وظفها ديفيد ليفيثان في رواية «صبي يقابل صبيًّا» (٢٠٠٣)، والتي تدور أحداثها في مدينة فاضلة للشواذ ويرويها بطل القصة مِثْلِيُّ الجنس.

المناهج التاريخية

منذ عصر هارفي دارتون وحتى عصرنا الحاضر، كانت نسبة هائلة من الأبحاث المتعلقة بأدب الأطفال تاريخية، وقد ينقل هذا دراسة الكتب أو المخطوطات أو غيرها من المواد المطبوعة من الماضي من مستوى أغراض مادية تم إنتاجها في لحظة تاريخية بعينها، أو تحليل المناقشات المتنافسة حول قوة الخيال في الماضي، أو تأمل كيف كوَّن كتاب الماضي صورًا عن الطفولة مثلًا أو الأبوة أو النوع أو الحرب، أو دراسة كيفية إنتاج الكتب أو بيعها أو تلقيها. ولكن بصفة عامة، كانت الأبحاث التاريخية باستخدام نصوص الأطفال تقارب إلى حدٍّ كبير الأبحاث التي أُجريت على النصوص الأدبية للكبار، ولكن بسبب أن القيود المفروضة حول ما يمكن اعتباره أدب الأطفال واسعة للغاية ومسامية، فقد نتج عن هذا بعض الاختلافات.

إن العمل على أدب الكبار يميل إلى دراسة الأدب في صورة النصوص المطبوعة فقط تقريبًا؛ فإعداد النصوص لتحويلها إلى مسرحيات أو أفلام يُنظر إليه على أنه تخصص، إن لم يكن مجالًا منفصلًا تمامًا للدراسة، ويندر أن ينشب الجدل — إذا كان هناك جدل على الإطلاق — حول ما يشكل أدب الكبار. أما بالنسبة لأدب الأطفال، فهناك عدد من المعضلات، ينبع معظمها من الفشل في الاتفاق على تعريف واحد لماهية أدب الأطفال. عند تناول أعمال من الماضي، يمكن أن يقودنا هذا للتساؤل عن مدى صحة اعتبار نص مثل «رحلة الحاج» مثالًا على أدب الأطفال، حيث إنه لم يُكتب من أجل الأطفال، وعلى مدار قرن كامل من الزمان، نادرًا ما كان يقرؤه الأطفال (وبعد ذلك كان يُقرأ دائمًا في نسخ معدة خصوصًا للصغار). هل لا يزال يعتبر من أدب الأطفال؟ أو ماذا عن الكثير من الألعاب التي كانت تأخذ — ولا تزال — شكل الكتب مثل الدُّمَى الورقية ومسارح العرائس والكتب ذات الرسومات ثلاثية الأبعاد على سبيل المثال، أو ألعاب الورق والطاولة والألغاز واللعب وغيرها من الأغراض المؤقتة التي تستند فكرتها إلى الكتب؟ كل هذه الأشياء توجد في مجموعات كتب الأطفال التاريخية، والتي يمكن الكتابة عنها تحت عنوان عام هو «أدب الأطفال».

وهناك اختلاف أخير بين دراسة أعمال الماضي للكبار وللأطفال يتعين علينا أن نأتي على ذكره هنا؛ وهو يرتبط بصورة الطفل. يتفق مؤرخو أدب الأطفال على أهمية أن نظل يقظين إلى كيفية تكوين النصوص لصور الطفولة وكيفية اتصالها بمناقشات أكبر وتجارب حقيقية لأطفال حقيقيين وقت كتابة النص الأدبي. إن الحاجة لإدراك المعاني الرمزية والثقافية للطفولة في أي وقت محدد ما هي إلا مطلب إضافي ممن كانوا يعملون مع النصوص الأدبية للأطفال في الماضي. وفي حين أن بعض مؤرخي أدب الكبار يهتمون بقرائهم، فلا يوجد أي معنًى في تحديد صورة مشابهة لمرحلة النضج بما يتجاوز بعض أساسيات الجنس والطبقة والعرق.

مناهج مرحلة ما بعد الاستعمار

تعني حقيقة أن هذه الدراسة تتمحور حول أدب الأطفال في الدول المتحدثة باللغة الإنجليزية أنها تؤرخ لميراث من الأنشطة الاستعمارية. ونظرًا لأن كلًّا من بريطانيا وأمريكا الشمالية تتشاركان تاريخ الغزو والاستعمار (بما في ذلك الغزو البريطاني للكثير من أنحاء أمريكا الشمالية)؛ فلن يكون من المفاجئ أن هناك تاريخًا طويلًا من الكتابة المخصصة للأطفال عن تجربة الاستعمار. خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تخلل هذا التاريخ الإمبريالي أجناس أدبية رئيسية، مثل قصص المغامرات والاستكشاف، والتي تتضمن كلًّا من المؤلفات التي تصطبغ بالصبغة الواقعية التي ألفها جي إيه هنتي، والمؤلفات الخيالية مثل رواية «جزيرة الكنز» لستيفنسون. وعلى الرغم من وفرة المواد الأدبية الأساسية، فإن تطبيق نظرية ما بعد الاستعمار على أدب الأطفال محدود نسبيًّا حاليًّا. ومن بين الأمثلة الأولى مقال بيري نودلمان «الآخر: الاستشراق والاستعمار وأدب الأطفال» (١٩٩٢)؛ حيث طبق نودلمان أفكارًا من كتاب «الاستشراق» للكاتب إدوارد سعيد عن العلاقة بين الكبار والأطفال التي تظهر في نصوص الأطفال الأدبية، ويشير إلى أن أدب الأطفال ما هو إلا أدب استعماري يستعمر فيه الكبار الطفولة.

ومِن بين مَن شككوا في بعض استنتاجات نودلمان، تعد كلير برادفورد الأكثر انخراطًا في تطبيق نظرية ما بعد الاستعمار على النصوص الأدبية للأطفال. فقد عملت برادفورد — على سبيل المثال — على نصوص أدبية للأطفال من إنتاج سكان أستراليا الأصليين — في الماضي والحاضر — للمساعدة على تحديد سمات رواية القصة والرسم التوضيحي لديهم وتفسيرها. وفي خضم عملها، توضح كيف أنهم يعملون خارج إطار أنظمة المعارف والقيم التي يتسم بها الأوروبيون الغربيون الذين استعمروا أستراليا. وفي تحليلاتها للأعمال القصصية للمستوطنين، كشفت عن الاستراتيجيات السردية التي علَّمت القراء البريطانيين والأستراليين الشباب أنهم أعلى منزلة من السكان الأصليين، وأضفت شرعية على السلطة التي يمارسونها عليهم. وكما توضح برادفورد، فإن الكتابة للأطفال — بما تتسم به غالبًا من طرح أيديولوجيات واضحة ونزعة إلى إدراج مواد رسومية بها — يمكن أن تكون بؤرة تركيز مثمرة للغاية لتطبيق نظرية ما بعد الاستعمار.

نظريات استجابة وتلقي القارئ

نظرًا لأن أدب الأطفال يستقي تعريفه بصورة جوهرية من قاعدة قرائه، فلا عجب في أن تكون نظرية استجابة القارئ قد جذبت بعض الذين يدرسون الكتابة للأطفال. وقد شهد هذا المجال نشاطًا ملحوظًا من قِبَل التربويين — نظرًا لقدرتهم على التواصل مع أطفال حقيقيين كقراء وحاجتهم لذلك — سواءٌ أكانوا يسعون إلى فهم كيفية تطور الأطفال كقراء، أو الاستراتيجيات التي يوظفونها لجعل النصوص الأدبية ذات معنًى، أو كيف يمكن أن تؤثر النصوص الأدبية على فهم الأفكار والممارسات الاجتماعية. ويتسع نطاق الآراء حول استجابة الأطفال ليشمل كل شيء بدءًا من قراءة الأطفال للكتب المصورة إلى طريقة تفاعلهم عند «قراءة» ألعاب الكمبيوتر.

مبدئيًّا، قام عدد من الباحثين البارزين مثل لويز روزنبلات (١٩٣٨)، ودي دبليو هاردينج (١٩٦٢)، ونورمان هولاند (١٩٧٥)، وولفجانج إيزر (١٩٧٨)، وستانلي فيش (١٩٨٠)، بتطوير الأبحاث عن استجابة القارئ التي تطبق على مفاهيم ومنهجيات القراء من الأطفال من خلال العمل مع الكبار. وعلى غرار أعمال استجابة القارئ في حالة الكبار، فقد نتج عن هذا العمل أيضًا انقسام بين الذين يضعون كيفية قراءة الأطفال للنصوص الأدبية واستخراج المعاني منها على رأس أولوياتهم، وأولئك الذين يركزون على الكيفية التي تشكِّل بها النصوص الأدبية شخصيات القراء وتسعى إلى إثارة استجابات بعينها. تتركز أماكن الاستكشاف الرئيسية على كيفية عمل مفهوم القارئ الضمني في الكتابة للأطفال، وما الذي يضيفه الأطفال للنصوص الأدبية، وكيف يكملونها، وما الذي يمنحهم السعادة، وكيفية عمل المجتمعات التفسيرية للطفولة.

هناك عامل واحد ينفرد به عمل نظرية استجابة القارئ مع الأطفال ألا وهو السن؛ كيف أن المدى العمري الواسع لهؤلاء الذين صنفوا على أنهم قراء لأدب الأطفال يجعل من الممكن ملاحظة كيفية تطور الاستجابات للقصص من الطفولة إلى المراهقة، وما نوعية الاختلافات الموجودة بين القراء من الأطفال والكبار. أما بالنسبة لإضافات الأطفال للنصوص الأدبية — كيف يسهمون في معناها — فستكون مختلفة عن إضافات الكبار؛ لأنهم يمتلكون خبرة أقل عن الحياة، كما أنهم على الأرجح يعرفون عددًا أقل من النصوص الأدبية، كما أن النصوص التي يعرفونها — والتي تتضمن المواد على غرار القصص المصورة والبرامج التليفزيونية وقراءات المدرسة — ستكون مختلفة على الأرجح (على سبيل المثال، في نسبة الصور التي تحتويها) عن تلك التي يقرؤها الكبار عادةً. بالإضافة إلى هذا، ستؤثر خبراتهم المختلفة عن النصوص الأدبية على طبيعة الإشارات بين النصوص التي يستجيب لها القراء على الأرجح. وبالطبع، مع تقدم الأطفال في العمر، سيبدءون في إظهار استراتيجيات القراءة التي يتسم بها الكبار، ولكن أظهرت الدراسات كذلك وجود اختلافات جلية بين استجابات الكبار والأطفال حتى مع انتقال الأطفال إلى مرحلة المراهقة.

لم يتعلم الأطفال الصغار القراءة بعدُ؛ لذا فإن محاولتهم لفك شفرات الكلمات والصور تختلف تمامًا عن القراء الأكبر سنًّا الذين تعلموا كيفية البحث عن المعاني الخفية والتقنيات السردية. يُظهر الكثير من استجابات القراء أن القراء الصغار شديدو الابتكار والفاعلية في تكوين المعاني، لا أنهم عاجزون بسبب عدم تلقي التدريب. وبمجرد أن يتعلم الأطفال القراءة، عادةً ما يُطلب منهم القراءة في سياقات رسمية أو تحت إشراف الكبار، وغالبًا ما يكون ذلك استجابة لبروتوكولات محددة نادرًا ما يتقيد بها الكبار. تؤثر جميع هذه العوامل على الاستجابة، كما تفعل بعض العوامل العامة الأخرى مثل الطبقة الاجتماعية والجنس ودرجة التعليم. وقد أطلقت هذه الأبعاد الاجتماعية الخاصة بكيفية قيام القراء الصغار بتكوين المعاني مشروعاتٍ تسعى إلى فهم كيفية استجابة القراء الصغار للمشكلات الاجتماعية التي تناقشها الأعمال التي يقرءونها والتأثير عليها. وقد كان هذا النوع من الدراسات نشطًا في مجالين، وهما الموقف من المساواة الجنسية (كما في كتاب «معضلات النوع» (٢٠٠٩) لكيري ماليان)، والعنصرية (انظر كتاب «بأعين مَنْ؟ استكشاف العنصرية: القارئ والنص والسياق» (١٩٩٢) لبيفرلي نايدو).

ومن بين التطبيقات الأولى والأكثر تأثيرًا لنظرية استجابة القارئ فيما يتعلق بأدب الأطفال كان مقال «القارئ في الكتاب» (١٩٧٧) لأيدن تشامبرز، وهو المقال الذي يطبق أفكار لولفجانج إيزر ليوضح أن كتب الأطفال تشكل قراءً ضمنيين من خلال إنشاء علاقة خاصة مع الراوي، والذي يكون «شخصًا ودودًا من الكبار يعرف كيف يسلي الأطفال، وفي الوقت نفسه يبقيهم في الوضع المخصص لهم». ويؤكد تشامبرز على هذا من خلال المقارنة بين نسختين من إحدى قصص رولد دال: الأولى هي «بطل العالم» (١٩٥٩)، وهي قصة قصيرة للكبار، والثانية هي «داني: بطل العالم» (١٩٧٥)، وهي رواية للأطفال. وفي العديد من الجوانب، يعتبر عمل تشامبرز سابقًا لأعمال كلٍّ من شافيت وَوول؛ إذ إن تحليله يشير إلى أن طبيعة العلاقة بين الراوي والمتلقي تعتمد على الفهم المهيمن للطفولة في وقت كتابة النص الأدبي. ويشير كلٌّ من شافيت وَوول إلى أن تطور أسلوب محدد لمخاطبة القراء من الأطفال يمثل جزءًا مهمًّا لتطوير ما يمكن أن يقال عنه إنه كيان منفصل من الكتابة الخاصة بالأطفال. كانت النبرة الأبوية المتحكمة التي وصفها تشامبرز مشابهة لصوت الراوي الذي يربطه كلٌّ من شافيت وَوول بالكتابة التي تكون خالصة للأطفال.

ولكن هناك تفسيرات أخرى للعلاقة بين الراوي والمتلقي في أدب الأطفال. فعلى سبيل المثال، يفترض كلٌّ من تشامبرز وشافيت وَوول أن النص الأدبي يشكل قارئًا ضمنيًّا على أساس فكرة مسبقة عن الطفولة، ولكن من الممكن أيضًا أن نقول بأن النصوص الأدبية تشكل قراءها؛ ومن ثَمَّ فإنها تمتلك القدرة على التأثير على تلك الفكرة. ويمكن رؤية تنفيذ هذه العملية في مناقشة المناهج التاريخية والأيديولوجية لدراسة أدب الأطفال التي ناقشناها آنفًا.

النظريات المتمركزة حول الطفل

… من يهتم منا بأدب الأطفال يحتاج إلى أن يحذر من الفخ الذي نصبه لنا مفهوم «الأدب»، ومعايير أدب [الكبار] التي تدعي أنها (أو تطمح أن تكون) مسيطرة … إذا كنا نقدر [الأطفال كقراء يمكنهم صنع معنًى للنصوص الأدبية]، فعلينا أن نراهم يقومون بهذا في سياق ثقافتهم الخاصة.

هكذا يقول بيتر هانت، الناقد الذي جادل على نحو مقنع بأن نقد أدب الأطفال يحتاج إلى تجنب إصدار الأحكام بالنيابة عن الأطفال، بل يجب أن يتضمن آراء الأطفال. وتتصل رؤية هانت لما يطلق عليه «النقد من منظور الأطفال» اتصالًا وثيقًا باستجابة القراء، ولكنه يركز تحديدًا على الأطفال كقراء، وكذلك بوصفهم قراءً للصور. ويمثل النقد من منظور الأطفال إلى حدٍّ ما محاولة لمعالجة ما يعتبره البعض نقطة ضعف في دراسات أدب الأطفال، ألا وهي: النزعة لاستخدام نظريات من فروع معرفية أخرى بدلًا من ابتكار مناهج خاصة بها. ويعد هذا الأمر نقطة ضعف فقط إذا ما تم فصل أدب الأطفال عن الاتجاه السائد في الأدب، بدلًا من النظر إليه على أنه يهتم بكيفية مخاطبة الأدب للقراء الصغار، وفي هذه الحالة فإنه لا توجد حاجة لاستخدام مناهج نقدية منفصلة غير تلك القائمة على السن.

يمكن مقارنة النقد من منظور الأطفال بفرع من فروع النقد النسائي يُعرف باسم «أسلوب الكتابة النسائي»، والذي كان يهدف إلى التخفيف من حدة اللغة التي «صنعها الذكور» من خلال تطوير طرق مخصصة للنساء لاستخدام اللغة، لا سيما في الكتابة. ويحاول نقد الأطفال — إلى حدٍّ ما — علاج طبيعة أدب الأطفال التي «صنعها الكبار»، ولكن التشابه بين الحالتين ليس تشابهًا تامًّا؛ حيث إن الأطفال ليسوا هم من يكتبون أدب الأطفال أو من يُجرون الدراسات النقدية عليه. وهذا يعني أنه بدلًا من اعتبار الأطفال كتابًا أو السعي لصبغ الكتابة بصبغة السكنى في جسد و/أو نفس طفل (في الواقع، هذه الممارسات هي ما شغل بعض كتَّاب أدب الكبار مثل هنري جيمس وجيمس جويس وفيرجينيا وولف)، يركز النقد من منظور الأطفال على تحديد سمات معينة في الأطفال كقراء لكلٍّ من النصوص والصور واستكشافها.

لقد ألهمت روح النقد من منظور الأطفال العديد من المجالات الرئيسية في دراسات أدب الأطفال، من بينها محاولات فهم كيف استخدم الأطفال واستجابوا للنصوص في الماضي (جالبريث ١٩٩٧، وجرينبي ٢٠٠٩)، ومدى تأثير الألفة مع ألعاب الكمبيوتر على الطريقة التي يقرأ بها الأطفال الكتب المصورة (ماكي ٢٠٠٢). وعلى أي حال، فإن النقد من منظور الأطفال — في نهاية المطاف — يعتبر أقرب إلى كونه موقفًا من كونه منهجية في حد ذاته، فضلًا عن أنه يواجه باستمرار صعوبات نابعة من حقيقة أن الوسيط من الكبار مطلوب منه حتمًا أن يثير ردود أفعال الأطفال وسلوكياتهم ويحللها ويعرضها. ورغم أن مدى تدخل الكبار يقل بصفة عامة مع تقدم الأطفال في السن، فإن أغلب الروايات المتاحة للاستجابات النقدية للأطفال والشباب على النصوص الأدبية تتم إدارتها واستنباط معانيها من قِبَل الكبار.

طوَّر بيتر هانت هذا المصطلح وحاول أن يوضح كيف يمكن أن ينجح النقد من منظور الأطفال، ولكن كان الكاتب والناقد البريطاني أيدن تشامبرز هو أول من دعا إلى «أسلوب نقدي يضع في اعتباره الطفل على أنه قارئ». ويشجع تشامبرز الأطفال على الحديث عن الكتب بأسلوب نقدي من خلال تكوين مجتمعات للقراءة يتشارك فيها القراء الحماسة ويناقشون الأمور التي يجدونها مثيرة للحيرة، ويحددون أنماط الكتابة ويربطون بين الكتب وبعضها. وقد أكد تشامبرز — بعد أن حظي بفرصة للاطلاع على تفسيرات الأطفال لبعض الكتب — أنه في حين أن الأطفال قد يقرءون بطريقة تختلف عن الكبار، إلا أنهم قادرون على تكوين استجابات مدروسة وثاقبة للنصوص الأدبية، شأنهم في ذلك شأن الكبار، وهذه الاستجابات هي محور اهتمام النقد من منظور الأطفال. وبالنسبة لتشامبرز، فإن الاختلافات بين تفسيرات الكبار والأطفال غالبًا ما تكون متصلة بالنظام التعليمي؛ حيث إن الأطفال قبل أن يتعلموا الجوانب التي يقدرها المعلمون والمراقبون غالبًا ما يستجيبون لجوانب من النصوص مختلفة عن تلك التي يستجيب لها النقاد من الكبار. وهناك أمر آخر متعلق بهذه الملاحظة، ألا وهو الإشارة إلى أن القراء من الصغار — بصفتهم قراءً جددًا نسبيًّا لم يتقنوا الكثير من استراتيجيات القراءة مثل الكبار — ينغمسون في النصوص التي يقرءونها أكثر من الكبار. فإنهم يقرءون أنفسهم بالقدر الذي يقرءون به النصوص الأدبية، وهو ما يفسر جزءًا من ذلك الشعور بالانغماس والرضاء الذي يشعرون به عند قراءة نص قد يعتبره أحد الكبار تافهًا.

وهناك دراسة أخرى بها الكثير من القواسم المشتركة مع نظرية النقد من منظور الأطفال، وهي دراسة «علامات الطفولة في كتب الأطفال» (١٩٩٧) للكاتب بيتر هوليندال، والتي أشار فيها إلى أن كلًّا من الأطفال والكبار على حدٍّ سواء لديهم قدرة على الوصول إلى ما يطلق عليه «الطفولة» أو «سمة الطفولة». وتتميز هذه السمة بالقدرة على الاستجابة للتغيرات بطريقة غالبًا ما نفقدها أو نتجاهلها في مرحلة النضج. ويوضح فيليب بولمان أمرًا مشابهًا بطريقة أدبية، وذلك من خلال ابتكاره للشياطين في روايته «مواده المظلمة»، حيث يعرض شياطين الأطفال دائمة التغير، في حين أن شياطين الكبار ثابتة باستمرار. ويشير هوليندال إلى أن كتب الأطفال تخلق مساحة حيث يمكن للطفولة والنضج أن يلتقيا ويمتزجا، حيث يعيد الكبار تنشيط بعض جوانب الطفولة في أنفسهم — لا سيما إمكانات الطفولة والقدرة على التغير — في حين تتاح للأطفال فرصة الاطلاع على بعض جوانب الكبر. وقد لخص طبيعة هذه الديناميكية مؤلف كتب الأطفال والرسام سي والتر هودجز عندما أبدى ملاحظة يقول فيها إنه «إذا كان هناك داخل كل طفل شخص كبير يحاول الخروج، فإنه بالمثل هناك داخل كل شخص كبير طفل يحاول أن يعود به للطفولة. وفي نقطة التقاء هاتين الشخصيتين، نجد الأرضية المشتركة بينهما». وتشكل هذه الأرضية المشتركة سمة الطفولة، ولكن تختلف خبرة الطفولة بين كلتا المجموعتين، حيث لا يزال الأطفال يختبرون فترتَي الطفولة والشباب، في حين يستجمع الكبار ذكريات فترة الطفولة ويستجيبون إلى الأوامر التي يتلقونها من الأطفال الذين كانوا عليهم في الماضي والذين لا يزالون متواجدين عاطفيًّا في داخلهم. وعلى عكس تي إس إليوت وغيره ممن يعتبرون قراءة أدب الأطفال في مرحلة الكبر نوعًا من الارتداد، وأن قراءته في مرحلة الطفولة ما هي إلا استعداد لقراءة الكتب «الحقيقية» وأنهم سيتوقفون عن قراءته عندما يكبرون، فإن هوليندال يمنح أدب الأطفال قيمة كبيرة. وبالنسبة لهوليندال، يكمن جزء كبير من هذه القيمة في الخصائص الأدبية والاستراتيجيات السردية التي توظف في النصوص الأدبية، وينتج عن هذا اختلاف واضح في التأكيد والممارسات النقدية للنقد من منظور الأطفال؛ حيث لم يكن هوليندال مهتمًّا بالأطفال كقراء كاهتمامه بنصوص الأطفال ذاتها.

وقد اهتم كثير من النقاد الآخرين بالتبادل المشترك بين الكبار والأطفال الذي يقدمه أدب الأطفال. فعلى سبيل المثال، درس بيري نودلمان (١٩٩٨) كيف أن عددًا كبيرًا من كتب الأطفال والشباب يقدم متعة جمالية لمن يطلق عليه القارئ «الكبير الخفي». ويقدم كلٌّ من يو سي نوبفلامشير ومتزي مايرز في نقاشهما حول «الكتابة المتقاطعة» فهمًا مختلفًا لشخصية «الكبير الخفي»، حيث بدآ بالاعتراف بأنه أثناء الكتابة للأطفال يُجري المؤلفون «حوارًا لا يمكن تجنبه بين أنفسهم في الماضي والحاضر» (أي أنفسهم وهم أطفال في الماضي وأنفسهم وهم كبار في الحاضر)، ولكن عادةً ما يجري تجاهل صوت الكبير أو عدم تبنيه؛ ومن ثَمَّ فإنه يصبح خفيًّا. كما استكشفت ماريا تاتار أيضًا العلاقة بين الشخصيات في الماضي والحاضر في كتابها «الصيادون المسحورون» (٢٠٠٩)؛ حيث اهتمت تاتار بالطريقة التي تؤثر بها النصوص الأدبية عن الطفولة على القراء، بما في ذلك الطريقة التي يتذكر بها الكبار تجربة القراءة في الطفولة والاختلافات بين تجربة القراءة في الكبر والقراءة في مرحلة الطفولة. وقد جمع البحث الذي أجرته ماريا تاتار بين ذكريات القراء الكبار عن تجارب القراءة أثناء مرحلة الطفولة وانطباعاتهم عنها، وكانت النتائج التي توصلت إليها ذات حدين. ففي حين أن هذا يمثل — في الكثير من الجوانب — احتفاءً بالقوة التخيلية لأدب الأطفال، فإنه يدور أيضًا حول حساسية القراء الأطفال الذين يجدون أنفسهم خاضعين للكتب وما يفقدونه بمجرد أن يصبحوا قراءً كبارًا. ويعبر عنوان الكتاب عن هذه الرؤية، حيث إن اسم «الصيادون المسحورون» هو أيضًا اسم الفندق الذي يغوي فيه همبرت همبرت — الشخصية التي ابتكرها الأديب الروسي فلاديمير نابوكوف — الطفلة لوليتا؛ مما يؤدي إلى تغيير علاقتها بشخصيتها الطفولية شديدة الفضول تغييرًا حادًّا.

إن دراسة أدب الأطفال من منظور القارئ الطفل تفتح المجال أمام بعض المناقشات الفلسفية والأخلاقية المثيرة للاهتمام حول العلاقة بين الكبار والأطفال داخل وخارج نطاق النصوص الأدبية. وهناك منطقة في أدب الأطفال عادة ما تثير أسئلة معقدة، ألا وهي دمج الأعمال الأدبية التي تضم عنصرًا بصريًّا بارزًا، لا سيما الكتب المصورة والروايات الرسومية. وعلى مدار فترة طويلة في الغرب، كانت هذه أيضًا هي مجموعات الأعمال التي يمكن تمييزها بسهولة عن القصص الخيالية للكبار، والتي أصبحت الآن خالية من الصور رغم أن شعبية الروايات الرسومية تزداد بين القراء من الكبار. ولكن، لا يزال أدب الأطفال هو المجال الذي تنتج فيه النصوص المصورة على نحو واسع.

قراءة النصوص المصورة

معظم الأعمال النقدية التي تناولت النصوص المصورة ركزت على الكتب المصورة التي تُكرِّر فيها الكلماتُ والصورُ وغيرها من العناصر البصرية المعلوماتِ إلى حدٍّ بعيد، والكتب المصورة التي تكون فيها الكلمات والعناصر البصرية معتمدة بعضها على بعض (ولم توضع ضوابط للتمييز بين النوعين إلا مؤخرًا). وتحديدًا في الكتب المصورة، يكون التفاعل بين الكلمات والصور معقدًا ويحتاج إلى تحليل متأنٍّ — حتى عندما تكون الكلمات ضمنية — كما في الكتب المصورة التي لا تحتوي على نصوص مكتوبة. وكان ويليام موبيوس (١٩٨٦) من أوائل الباحثين الذين تناولوا موضوع تعقيدات قراءة الصور في أدب الأطفال؛ حيث ابتكر مجموعة من القوانين لتحليل الصور في الكتب المصورة المترابطة تدرس جميع جوانب الكتاب: من الرسومات على الورقة الأخيرة إلى حجم ووضع الرسومات الشخصية من خلال الإشارات الضمنية بين النصوص والرمزية إلى العلاقة بين الكلمات والصور. يهتم موبيوس بكيفية تأثير جميع أوجه التصميم — المنظور واللون والعلاقات بين الصور، وحتى سُمك الخطوط في الرسومات، والطريقة التي يؤثر بها التصميم، وتقليب الصفحات على سرعة الإيقاع — على المعنى. وهناك اهتمام مماثل للعناصر المادية والجمالية للنص الأدبي يثري أعمال بيري نودلمان، الذي يقدم كتابه «كلمات عن الصور: الفن السردي لكتب الأطفال المصورة» (١٩٨٨) تفسيرات تفصيلية للنصوص الفردية تسير على خطًى مشابهة لخطى موبيوس، إلا أن نطاق تناوله للموضوع كان أكثر اتساعًا. ويقدم نودلمان أيضًا رأيًا عامًّا حول العلاقة بين الكلمة والصورة في الكتب المصورة المترابطة؛ فمن وجهة نظره، أن هذا الأمر ساخر بصورة حتمية. وسواءٌ أكان هذا الأمر ينطبق على «جميع» الكتب المصورة أم لا، فإنه ينطبق على معظم الكتب المصورة المترابطة، لا سيما الكثير من الأعمال الأدبية التي تعرض نزعات ما بعد الحداثة. وقد شكلت هذه الافتراضات الأساس الذي بُني عليه كتاب «قراءة الكتب المصورة المعاصرة: تصوير النصوص» (٢٠٠١) لديفيد لويس، والذي يحدد ويوضح فيه مدى وقوة العلاقة بين الكتب المصورة المترابطة وحقبة ما بعد الحداثة، ومن خلال الدراسات المتأنية لمجموعة كبيرة من الكتب المصورة المترابطة الأكثر تعقيدًا التي أُنتجت في القرن العشرين، والتي أكدت افتراضات كلٍّ من موبيوس ونودلمان عن تعقيد تلك الصيغة الأدبية ولفتت الانتباه إلى نزعتها المرحة المتأصلة فيها.
fig5
شكل ٢-٢: «الظلمة تغمرك» من كتاب «الشجرة الحمراء» (٢٠٠١) لشون تان. إن التفاعل بين الكم الضئيل من النصوص وسلسلة الصور المعبرة التي يستخدمها شون تان يساعد القراء من جميع الأعمار على استكشاف مشاعر اليأس والعزلة.2

إن تحليل الكتب المصورة المترابطة يمثل مجالًا رئيسيًّا لا يتصل فيه أدب الأطفال بالأعمال الأدبية المتواجدة المخصصة للكبار، ومن الضرورة بمكان أن نتذكر أن أدب الأطفال يتضمن أنواعًا أخرى كثيرة من النصوص المصورة: القصص الخيالية الموضَّحة بالرسومات، والروايات الرسومية والقصص المصورة والمانجا (القصص المصورة اليابانية)، وكذلك — وبشكل متزايد — الروايات الإلكترونية منها تلك التي تكون في صورة ألعاب الكمبيوتر. وهناك دراسات متخصصة عن كلٍّ من هذه المجالات، وتم إجراء بعض الدراسات لتقديم مصطلحات فنية لمناقشة هذه النصوص الأدبية. ويعرض كتاب «كيف تعمل الكتب المصورة» (٢٠٠١) من تأليف ماريا نيكولاييفا وكارول سكوت مفردات محددة لدراسة الكتب المصورة المترابطة، ويوضح كيف أنها تتجاوز الحدود الدولية والثقافية، في حين يقدم كتاب «فهم القصص المصورة: الفن الخفي» (١٩٩٣) لسكوت ماكلاود دليلًا إرشاديًّا مفصلًا لتفسير أسس الرسوم الهزلية. أما كتاب «دراسة الرسوم الهزلية على شبكة الإنترنت: سرد نقدي ملخص ومفسر» فيقدم — كما يتضح من اسمه — سردًا نقديًّا للأعمال المرتبطة بالرسوم الهزلية بأشمل معانيها. بالإضافة إلى هذا، يقدم القسم الذي يتناول «رواية القصص وخشبة المسرح وشاشة التليفزيون» في مجموعة كتب جانيت مايبن ونيكولا واتسون المنقحة «أدب الأطفال: المناهج والمجالات» (٢٠٠٩)؛ نظرة شاملة وينصح بقراءة نوعيات النصوص الأدبية المصورة التي تشكل الأداء. ويعد البحث الذي أجرته مارجريت ماكي (٢٠٠٧) عن ألعاب وقصص الكمبيوتر العملَ الأكثر نضجًا واكتمالًا في هذا المجال، خاصة فيما يتعلق بأدب الأطفال.

دراسة أدب الأطفال في المستقبل

إن الأفكار المتكررة في هذا الفصل تمثل الطبيعة المتنوعة لأدب الأطفال والطريقة التي يتجاوز بها نطاق أدب «الكبار». فانتقائية عناصره الأولية تمخضت عن كلٍّ من مواطن القوة (الشمولية والتنوع والفضول)، ومواطن الضعف (اتساع التفكير بدلًا من عمقه وافتقاد التخصص وقصور المعرفة السياقية) لدراسات أدب الأطفال في الوقت الحالي. والآن، بعد أن أصبح أدب الأطفال مجالًا بحثيًّا ودراسيًّا معترفًا به في التعليم العالي، يمكن أن نتوقف عن اعتباره مجالًا قائمًا بذاته، وأن ندمجه في إطار التصنيفات المتعددة التي تُطبق على أدب «الكبار». إن وضع دراسات أدب الأطفال ضمن السياقات البحثية مكتملة الأركان المتصلة بفترات و/أو أجناس أدبية و/أو كتَّاب و/أو ممارسات نشر و/أو مناهج نقدية بعينها من شأنه تعزيز حالة النصوص الأدبية للأطفال ومؤلفيها وإعادتها من محيط الدراسات الأكاديمية. وهناك بعض الفوائد الأخرى المحتملة التي يمكن الحصول عليها من هذا التغيير؛ ففي الوقت الحالي، مطلوب من معظم «المتخصصين» في أدب الأطفال أن يكون لديهم نطاق اهتمامات واسع؛ إذ تمتد أغلب المسارات الأدبية على مدار فترات تاريخية هائلة، وتشمل الكثير من الأجناس الأدبية، وبالمثل، تحاول معظم الأعمال المرجعية تغطية جميع المجالات والجوانب المصنفة حاليًّا على أنها من أدب الأطفال. ويمكن أن يكون هذا الموقف ضد عمق المواد الأدبية والاستكشاف المستمر لها. وهناك حركة قائمة بالفعل في هذا الاتجاه، لا سيما بين هؤلاء الذين يدرسون المواد الأدبية من عصور سابقة، ولا سيما دراسات العصور الوسطى وعصر النهضة والقرن الثامن عشر.

وعلى الرغم من وجود الكثير من الفوائد التي يمكن الحصول عليها من إدراج أدب الأطفال في التيار الرئيسي للدراسات الأدبية، فهناك أيضًا خسائر محتملة؛ حيث إن البحث الجيد في مجال أدب الأطفال يتطلب دراية جيدة بتاريخه ونصوصه الأدبية وأنواعه الأدبية واستخدامه للعناصر البصرية وتكوين فترة الطفولة عبر مختلِف الثقافات والحقب، علاوةً على عناصر الأسلوب التي تطورت خصوصًا كاستجابة لمهمة الكتابة من أجل الأطفال. وفي الوقت الحالي، يبدو أن هذه الحركة لم تنضج تمامًا؛ لا سيما أن الكتابة للأطفال — كما يعرض الفصل التالي — قد تتحرر من بعض قيودها مع الكتابة للكبار.

هوامش

(1) By permission of the Rare Book and Texana Collections, University of North Texas Libraries, Denton, Texas.
(2) Reproduced with permission from The Red Tree, by Shaun Tan. Lothian Children’s Books, an imprint of Hachette Australia, 2001.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤