الفصل الرابع

الأجناس الأدبية والأجيال: القصة العائلية مثالًا

في بعض الأحيان، يُشار إلى أدب الأطفال بوصفه جنسًا أدبيًّا مستقلًّا على أساس أنه صِنف متميز من النشر له تقاليده المميزة التي ترسخ توقعات محددة لدى قرائه. وإحدى مشكلات هذا المنظور هي أن أدب الأطفال «يتضمن» كذلك كل الأجناس الأدبية والأجناس الأدبية الفرعية التي تُستخدَم في تصنيف أجناس الكتابة، بدءًا من المصطلحات القديمة والقائمة على نطاق واسع مثل التراجيديا، والكوميديا، والملحمة، والشعر، والدراما، ووصولًا إلى التسميات الحديثة والأكثر تخصصًا مثل «أدب المراهقات». وفي الواقع، فإن التركيز على الأجناس الأدبية المترسخة والأدب القصصي الشعبي شديد في مجال النشر للأطفال مقارنةً بالنشر للكبار، ويعكس ذلك العديد من الدراسات التاريخية والمقدمات والأعمال المرجعية المخصصة لأدب الأطفال. فالغالبية العظمى منها تغطي موضوعات أساسية مثل قصص المغامرات، وقصص العائلات، وقصص المدارس، وقصص الحيوانات، وربما كذلك روايات الفانتازيا، والروايات الواقعية، والشعرية، والتاريخية وروايات الحروب. ووفقًا لطبيعة العمل، فقد تتناول هذه الأجناس الأدبية موضوعات أكثر تخصصًا تمتلك مع ذلك أعرافًا محددة وثابتة بوضوح مثل قصص الخيول، أو القصص الأخلاقية. وليس مقدار الأدب القصصي الذي يحدده الجنس الأدبي وحده هو ما يميز الكتابة للأطفال عن الكتابة للكبار، لكنَّ الطرق التي يُستخدم بها، والأجناس الأدبية الأكثر هيمنة داخله، وتأثيرات الكتابة في تقاليد الأجناس الأدبية يمكن أن تكون أيضًا مختلفة تمامًا.

جاذبية الأدب القصصي الشعبي للصغار ومكانته

ترجع تسمية «الأدب القصصي الشعبي» إلى حقيقة أن هذا النوع من الكتابة يجذب أعدادًا كبيرةً من القراء عن طريق تقديم تجارب قراءة مألوفة. وهو ينزع إلى القيام بذلك عبر الالتزام بالتقاليد، وتوظيف الصور النمطية، واتباع صيغ معينة، وربما اللجوء إلى التعبيرات المبتكرة. وقد يفسر المستوى الرفيع للأدب القصصي الشعبي الذي يشكل أدب الأطفال تفسيرًا جزئيًّا السبب في أنه — كقالب أدبي — غالبًا ما ينبذ لأنه لا يتطلب كثيرًا من المهارة، ولأنه شيء ينبغي التخلي عنه عند الكبر. ومع ذلك، فإن هذا التوجه نحو الأدب القصصي الشعبي، سواءٌ أكان للكبار أم للأطفال، يعجز عن الأخذ في الاعتبار حقيقة أن الأدب القصصي الشعبي يتمحور حول التقاليد — التي لا تسفر في حد ذاتها عن كتابة مبتذلة أو خيال فقير — أكثر مما يتعلق بالأسلوب. وفي الواقع، قد تكون قيود التقاليد في حد ذاتها عاملًا محفزًا للابتكار؛ حيث تستفز الكُتاب لاستكشاف احتمالات الامتثال بالتوقعات المرجوَّة من الجنس الأدبي وتجاوزها في آنٍ واحد. فكثيرًا ما يأتي فيليب بولمان بابتكارات عبر وضع الجنس الأدبي تحت التجربة؛ فروايته رباعية الأجزاء «سالي لوكهارت» (١٩٨٥–١٩٩٤) تُحيي نمط روايات التشويق التي سادت إبان العصر الفيكتوري؛ أما روايته «كنت جرذًا» (١٩٩٩)، فتتلاعب بتقاليد القصة الخيالية، في حين أن روايته «الرجل الصالح يسوع والمسيح الشرير» (٢٠١٠) — وهي ليست كتابًا للأطفال — تعيد سرد أجزاء من الأناجيل الأربعة.

من المهم أن تضع نصب عينيك أنه في حين أن المؤلفين قد يكتبون في إطار الأجناس الأدبية التقليدية، فإن هذه النصوص بالنسبة لمعظم القراء الأطفال تمثل تجاربهم الأولى مع الأجناس الأدبية المتفردة؛ ومن ثَمَّ لن يجدوها مألوفة أو متوقعة. وعلى الرغم من أن صغار القراء قد يكونون على دراية بأن أنواعًا معينة من الكتب توجد في أماكن مخصصة لها في المكتبات العامة أو متاجر الكتب، فإنهم يستغرقون وقتًا على الأرجح ليفهموا التقاليد التي تحكمها أو ليدركوا أنهم أنفسهم لديهم توقعات حول نوع تجربة القراءة التي تقدمها مجموعات معينة من الكتب.

إن التعرف على تقاليد الأجناس الأدبية جانب مهم من تعلم القراءة. فالقدرة على توقع ما يدور يمكن أن تساعد على تنمية الثقة في القدرة على القراءة، والقدرات العقلية، والشعور بالرِّضَى، بينما يعد التعرف على سمات الأجناس الأدبية خطوة أولى أساسية في تمكين القراء من الاستجابة لأساليب معينة من الكتابة مثل المحاكاة الساخرة أو بعض جوانب التناص. ونظرًا لأن العديد من الروايات التي يصادفها الأطفال تكون في أشكال غير مطبوعة؛ فقد ينتهي بهم الحال إلى فهم الأجناس الأدبية جزئيًّا من خلال استقاء المعلومات من وسائط أخرى. على سبيل المثال، الخصائص المحيطة بالنص — مثل أغلفة الكتب — دائمًا ما تشير إلى الأجواء، والنبرات، وأنماط الخطوط، والصور الخاصة بالأفلام، مما يبرز تقاليد الجنس الأدبي التي ربما بدأ التعرف عليها من خلال الشاشة. وتقدم لنا طريقة تقديم سلسلة الروايات الشهيرة «قمة الرعب» — التي ظهرت في تسعينيات القرن العشرين — مثالًا جيدًا على هذا النوع من نقل المعلومات. فقد استخدمت هذه السلسلة شعارًا منمقًا وأغلفة داكنة وكئيبة، والتي كان من الواضح أنها مستلهمة من الأفكار التقليدية التي طُورت للدعاية لأفلام الرعب؛ وذلك للإيحاء بتقديم تجربة قراءة على القدر نفسه من الرعب.

ومؤخرًا، استخدم غلاف رواية «الشفق» للكاتبة ستيفاني ماير (٢٠٠٥) خلفية سوداء قوية لتمثل إطارًا لصورة تتألف من أيادٍ بيضاء تنشب أظافرها في تفاحة حمراء زاهية. وكانت الألوان والخط والصورة تثير طابعًا قوطيًّا وتقدم الفكرة المحورية القوطية المميزة المتعلقة بالحب الممنوع والشهوات المحرمة. أما العروق المرئية بوضوح في الأرسُغ الموضحة بالصورة، فهي تبرز ضعف اللحم البشري، وتمهد الطريق أمام مصاص الدماء العاشق (وهي سمة أخرى شائعة من سمات الفن الروائي القوطي) ليكون في مركز الحبكة. ونظرًا لأن القراء الضمنيين الأصليين لرواية «الشفق» كانوا على الأرجح يعرفون المسلسل التليفزيوني «بافي، قاتلة مصاصي الدماء» (١٩٩٧–٢٠٠٣)؛ فإن دافع مصاص الدماء المراهق كعاشق نبيل سيكون مألوفًا، مثلما سيكون مألوفًا أيضًا ذلك الالتواء العاطفي المفاجئ للعرف السائد في روايات الرعب التقليدية بأن ينال مصاص الدماء من الفتاة الطيبة. إن الأيقونية التي نُسِجَت حول سلسلة الكتب (٢٠٠٥–٢٠٠٨) والأفلام (٢٠٠٨– ) التي شكلت ملحمة «الشفق»؛ قد قدمت بدورها الأساس لوفرة من الروايات القوطية المقلدة للمراهقين والتي أفرزتها سلسلة روايات ماير، موضحة كيف أن تعريف القراء الصغار بتقاليد الجنس الأدبي، وكما هو الحال مع كل ما يتصل بأدب الأطفال، يمد الجسور بين الوسائط المختلفة ويخلط بينها. كما أن ذلك يعد مؤشرًا على كيف أن تفضيل بعض الأجناس الأدبية على غيرها يختلف ما بين أدب الكبار وأدب الأطفال في وقت بعينه.

أوقات متغيرة وأجناس أدبية متغيرة

معظم الأجناس الأدبية تمتد ما بين كلٍّ من أدب الكبار وأدب الأطفال، ولكن بعض هذه الأجناس أكثر تطورًا في الكتابات الموجهة للأطفال، وتأتي قصص الحيوان والمدارس في المقام الأول بين تلك الأجناس الأدبية. وليس من الصعب تفسير السبب وراء كون هذه الأجناس الأدبية (التي يتسع نطاقها لدرجة أنها تتضمن أنواعًا أدبية فرعية متطورة تمامًا؛ مثل قصص الخيول وقصص المدرسة الخاصة بالفتيات) ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأدب الأطفال. في حالة قصص المدرسة، فإن كل الأطفال تقريبًا يذهبون إلى المدرسة؛ ومن ثَمَّ، فإن الظروف ونوعية الأحداث المرتبطة بالمدرسة — على الأرجح — ذات جاذبية فورية بالنسبة لهم وعلى علاقة مباشرة بهم. وعلاوةً على ذلك، ونظرًا لأن خبرة الأطفال بالحياة محدودة للغاية بطبيعة الحال؛ فإن عالم المدرسة الصغير يتيح استكشاف مجموعة مختلفة من الموضوعات والقضايا في سياق وعلى مستوًى يفهمونه بسهولة؛ حيث إن الحديث عن سياسات البرلمان قد تكون محيرة بالنسبة للأطفال وغريبة عن عالمهم، ولكن سياسات فناء المدرسة شديدة الارتباط بهم وينبغي مناقشتها. وليس من المثير للدهشة في شيء إذنْ أن قصة المدرسة واحدة من أقدم الأجناس الأدبية المرتبطة بأدب الأطفال وأكثرها تطورًا.
fig6
شكل ٤-١: رواية «حياة وجولات فأر» (١٧٨٣ تقريبًا) للكاتبة دوروثي كيلنر. كانت دوروثي كيلنر واحدة من كاتبات القرن الثامن عشر الكثيرات اللاتي اكتشفن طرقًا جديدة لجذب اهتمام القارئ الصغير من خلال إجراء العديد من التجارب على المنظور الروائي والصوت السردي؛ وفي هذه الحالة، راوي القصة فأر.1

أما قصص الحيوان، فهي أطول وأكثر تنوعًا. وقد كانت «خرافات أيسوب» من بين أوائل الكتب التي طبعها كاكستون، كما أن هناك العديد من الحيوانات في القصص الشعبية والخيالية والنصوص الدينية. وقد استخدم كتَّاب القرن الثامن العشر الحيوانات لتعليم الأطفال المسئولية تجاه الاعتناء بالعالم الذي يعيشون فيه — كما هو الحال في قصة «تاريخ عائلة طائر أبو الحناء» (١٧٨٦) للكاتبة سارة تريمر — وكذلك واجباتهم كأطفال ورعايا في القصص الأخلاقية كما في قصة «حياة وجولات فأر» (١٧٨٣) للكاتبة دوروثي كيلنر. لقد كانت قصة كيلنر نقطة الانطلاق لتقليد جعل الحيوان يروي أحداث حياته بنفسه؛ مما أدى إلى ظهور جنس أدبي فرعي انحدرت منه بعض الأعمال البارزة مثل قصة «الجمال الأسود» (١٨٧٧) لآنا سويل، وقصة «بن وأنا: جانب من الحياة الرائعة لبنجامين فرانكلين مع فأره الطيب آموس» (١٩٣٧) لروبرت لاوسون. وهناك قصص الحيوان الطبيعية مثل رواية الكاتب جاك لندن «نداء البرية» (١٩٠٣)، والقصص التي تخلع على أبطالها من الحيوانات صفات بشرية إلى حدٍّ بالغ، مثل رواية «الريح في أشجار الصفصاف» (١٩٠٨) لكينيث جراهام، وقصص الحيوان الخيالية مثل قصة «النمر، النمر» (١٩٩٦) لميلفن بيرجس، والتي تدور أحداثها حول أنثى نمر تمتلك قدرات خارقة للطبيعة تحمي نوعها من الانقراض من خلال تحويل صبي صغير إلى نمر ذكر يتزاوج معها. وكما توضح الأمثلة السابقة، فإن كُتَّاب قصص الحيوان يجعلون الحدود بين الحقيقة والخيال ضبابية بصورة حتمية تقريبًا؛ وذلك نظرًا لأن هذا النوع القصصي يتطلب منهم تقديم أفكار الحيوانات بلغة البشر. في المراحل الأولى من النشر التجاري على وجه الخصوص، كان هناك شعور بالقلق بشأن مثل هذه الأساليب الخيالية على أساس أنها قد تصعِّب على الأطفال التمييز بين الحقيقة والخيال. وبالرغم من اعتماد قصص الحيوان على أسلوب الحيوانات المتكلمة الخيالي، فإنها تعتبر جنسًا أدبيًّا أساسيًّا في أدب الأطفال منذ القرن الثامن عشر.

لقد طُرِحَ العديد من الأسباب للاستخدام الشائع للحيوانات في أدب الأطفال. على سبيل المثال، يشير النقاد إلى أوجه التشابه في المنزلة بين الأطفال والحيوانات، والتي تجعل من الحيوانات نقاط تطابق فعالة بالنسبة للقارئ الصغير. والحيوانات المستأنسة على وجه التحديد قد تشارك الأطفال بعض أوجه الشبه؛ حيث إنها ضعيفة نسبيًّا، ولا يمكنها التعبير عن نفسها، ومغلوبة على أمرها مقارنةً بالكبار. في حين أن هناك رأيًا آخر يرى أن الظهور المتكرر للحيوانات في قصص الأطفال والصغار يُعزَى إلى أن نقل الموضوعات التي قد تكون مزعجة — مثل الموت والجنس والعنف وسوء المعاملة — من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان يجعل التعامل معها أكثر سهولة. وهذه النوعية من الفصل يمكن أن تعمل بأشكال شتى. فعلى سبيل المثال، منح الحيوانات قدرة الإنسان على الكلام وعقلانيته يمثل مرآة تعكس سلوكياتنا؛ مما يمكِّن القراء الصغار من فهم أساليب مثل الهجاء أو استيعاب النقد السياسي. وتقدم فكرة الشياطين من الحيوانات في رواية «مواده المظلمة» لفيليب بولمان وجهًا مختلفًا لهذه الوظيفة للحيوانات في أدب الأطفال؛ حيث تُظهر جوانب من الطبيعة الداخلية لشخصيات الرواية. وفي حين أن الشياطين التي تظهر في صورة إنسان ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنوع والميول الجنسية، فإن الشخصيات الحيوانية تُستخدم غالبًا بدقة لتقليص الحاجة إلى الإسهاب في موضوعات مثل السن والنوع والطبقة والانتماءات العرقية. هذه الوظيفة يمكن أن تكون مفيدة على وجه الخصوص بالنسبة للرسامين الذين يرغبون في تجنب توضيح هذه المعلومات.

من المهم أن تتذكر أن تصوير العلاقة بين الأطفال والحيوانات خارج كتب الأطفال غالبًا ما يكون مختلفًا تمامًا عن ذلك الموجود في قصص الحيوان الموجهة للأطفال. فهناك — على سبيل المثال — القليل من الإحساس بالتعاطف بين الأطفال والحيوانات في رواية ويليام هوجارث المؤثرة «المرحلة الأولى من القسوة» (١٧٥١)، وحتى معظم أدب الأطفال في القرن التاسع عشر يتضمن توجيهات بعدم إيذاء الحيوانات أو سرقة البيض من عشش الطيور خاصة لأن ذلك كان سلوكًا شائعًا بين الأطفال.

كما أن أوجه التغير الاجتماعي التي حولت الموقف من الحيوانات أثرت أيضًا على مكانة الأجناس الأدبية. فنسبة كبيرة مما يُعرَف الآن بأدب الأطفال يتألف من الأجناس الأدبية التي كانت يومًا ما من أساسيات الكتابة للكبار، ولكنها باتت الآن موجهة للأطفال بشكل أكبر، ومن بين هذه الأنواع القصصية الخرافات والأساطير والقصص الشعبية والخيالية وأدب الهراء. ووفقًا لجاكلين روز، يُتهم أدب الأطفال بالاهتمام بأشكال أقدم من النصوص الأدبية كوسيلة للحفاظ على قيم تُعتَبر على «شفا الانهيار» في الثقافة المعاصرة واستعادتها. إن حقيقة أن أدب الأطفال يعمل كمستودع للأنواع الأدبية لا يعني أن هذه الأنواع تضمر أو تصبح طفولية بمجرد دخولها إلى مجال أدب الصغار. في الواقع، في كتابي «أدب الأطفال الراديكالي: رؤًى مستقبلية وتحولات جمالية» (٢٠٠٧)، أقول بأنه حين تنتقل الأجناس الأدبية من أدب الكبار إلى أدب الأطفال، فإنها لا تُحفَظ فحسب، ولكنها تتجدد وتستعيد رونقها أيضًا. ويمكن رؤية أمثلة على مثل هذا النوع من التجديد في النسخ النسائية المنقحة للقصص الخيالية، واستخدام أدب الهراء من قِبَل كُتَّاب ما بعد الحداثة مثل سلمان رشدي، وخلط الحكايات التقليدية لخلق أساليب لغوية ورسائل جديدة في الأفلام مختلطة الجمهور مثل «سلسلة أفلام شريك» (٢٠٠١، ٢٠٠٤، ٢٠٠٧، ٢٠١٠).

إن الأجناس الأدبية لأدب الأطفال حساسة من الناحية الثقافية؛ فهي تتغير أو تُعَدل استجابةً لمخاوف المجتمع، وفي بعض الأحيان تكون حساسة لتطورات الكتابة للكبار. لذا، فعلى سبيل المثال، ارتبطت قصص مغامرات الأطفال في الأساس بفترات الاستعمار، والاستكشافات، والصراعات وازدهرت فيها، كما أنها كانت تميل لأن تُستخدَم في دعم الخطاب القومي/الوطني، وغالبًا ما تمتزج بنظرة ذكورية للعالم. والأشكال أو الفرص الجديدة لمثل هذه الأنشطة — استكشاف الفضاء واستعماره، على سبيل المثال — تثير أشكالًا جديدة من قصص المغامرات. ولكن لكي تعتبر هذه الأنواع من القصص قصصَ مغامرات، يتعين عليها أن تحتفظ بالعديد من العناصر التقليدية، مثل بطل صالح يتعرض لابتلاءات، ورحلة إلى أماكن بعيدة، وصراعات مع الأشرار/الأعداء/المنافسين، ونهاية ناجحة، ودائمًا ما تتضمن العودة إلى الديار. وبالمثل، حين تكون التقاليد المرتبطة بجنس أدبي معين مستمدة من أسلوب حياة أو مجموعة من السلوكيات التي أصبحت أقل وضوحًا وتأثيرًا في المجتمع، فإن هذا الجنس الأدبي سيتقلص أو يخمل.

وتعتبر القصة الدينية مثالًا على الأجناس الأدبية التي تضمحل. فكما تبين النظرة العامة التاريخية التي أوردناها في الفصل الأول، تكمن الجذور الأولى لأدب الأطفال في هذه المنطقة، ولكن خلال القرن العشرين، حين أصبحت المجتمعات الغربية أكثر علمانية، فإن الشخصيات والتقاليد المرتبطة بصورة تقليدية بالقصص الدينية — الأطفال الأتقياء، والهداية الدينية، والمبشرين، والميتات الهانئة لهؤلاء الذين عاشوا حياة تقية — باتت تعتبر عتيقة الطراز واختفت إلى حدٍّ كبير. في الواقع، أصبحت القصص الدينية موضوعًا للسخرية، وباتت الشخصيات الدينية تجسد أدوار الشر في العديد من الأجناس الأدبية الأخرى، بدءًا من رجال الدين الزائفين في رواية جون ماسفيلد الخيالية «صندوق المسرات» (١٩٣٥)، وحتى الشخصية المؤذية التي تُعرف باسم «المتنبئ» في رواية «المختار» (٢٠١٠) لكارول لينش ويليامز، وهي رواية واقعية حول النشأة وسط طائفة دينية أصولية. ومع دنو القرن الحادي والعشرين، أثارت ظاهرتين — تزايد ظاهرة السكان متعددي الثقافات في الكثير من البلدان وظهور الأصولية — إحياءً لتقليد كتابات الأطفال التي يلعب فيها الدين دورًا محوريًّا. وكما يتضح من مناقشة سلسلة كتب «المنبوذين» (١٩٩٨– ) للمؤلفَين تيم لاهاي وجيري بي جنكينز الواردة في الفصل السادس، فإن هناك مؤشرات لنشاط جديد في هذا المجال من النشر للأطفال. ومع ذلك، ونظرًا لأن العديد من السمات الرئيسية لهذا الجنس الأدبي قد تلاشت أو تغيرت تغيرًا جذريًّا، ومعظمها بات يدمج الحبكات التي تنطوي على ملامح دينية بعناصر من الأجناس الأدبية الأخرى (القصة العائلية، وروايات المشكلات، وقصص الحرب، والقصص البوليسية، وقصص المغامرات)؛ فقد يثبت أن الاهتمام الذي تجدد بالكتابة الدينية إنما يتعلق بتطوير موضوع رئيسي أكثر مما يتعلق بإحياء لجنس أدبي مندثر.

يمكن تعلم الكثير حول ما يكشفه أدب الأطفال للأطفال حول الكيفية التي يسير بها العالم من حولهم من خلال تعقب ظهور واندثار الأجناس الأدبية المختلفة، ولكن قد يكون اكتشاف المزيد من خلال ملاحظة كيف تحتفظ الأجناس الأدبية المختلفة بسمات جوهرية بينما تتكيف مع الظروف المتغيرة. وتعد القصة العائلية أحد أقدم الأجناس الأدبية وأكثرها ديناميكية؛ مما يجعلها وسيلة جيدة لاستكشاف التغيرات الرئيسية في أدب الأطفال على مدار الوقت. وكما سيتضح، فإن القصة العائلية كما تُروى في نصوص الأطفال تعد مصدرًا مهمًّا للمعلومات عن المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شكلت مؤسسة الأسرة منذ أن بدأ النشر التجاري للأطفال في القرن الثامن عشر. والأكثر من ذلك، أن القصة العائلية تبرز كواحدة من وسائل ضبط وتنظيم فهم ماهية الأسرة وكيف تؤدي وظيفتها. ولتمييز التغيير، من الضروري أن نبدأ بالنظر إلى جذور وتراث القصة العائلية.

الروايات العائلية و…

بالنسبة لمعظم الأطفال، تدور أحداث فترة الطفولة في كنف الأسرة، ويهيمن تواجد الأسرة على أدب الأطفال؛ بدءًا من نماذج آباء الطبقة المتوسطة الحذرين الذين تناولهم كُتَّاب القرن الثامن عشر وحتى الآباء المهملين وغير المتحضرين والحمقى في رواية «ماتيلدا» (١٩٨٨) للمؤلف رولد دال. تشير الغالبية العظمى من كتب الأطفال إلى حيوات الشخصيات الأسرية والمنزلية بدرجة ما. والعائلة في القصص التي يتشكل منها هذا الجنس الأدبي — الذي يشار إليه في بعض الأحيان بالقصة المنزلية — لا تقدم سياق الأحداث فحسب، بل وموضوع الرواية كذلك. وعلى أحد المستويات، يسهل هذا من تمييز القصص العائلية؛ حيث إنها تركز على الأفراد الذين يشكلون العائلة المركزية والعلاقات القائمة بينهم. وبطبيعة الحال، العائلة محل النقاش تبدأ كعائلة نواة محبة ومتكاملة تتكون من أبوين وتحيا حياة سعيدة ومريحة. ودائمًا ما توضح هذه القصص ما يحدث حين يتعكر صفو حياة الأسرة — على سبيل المثال — بغياب أو وفاة أحد الوالدين أو كليهما، أو بفعل أزمة مالية، أو الحاجة إلى الانتقال إلى بيت جديد في مكان بعيد (وفي الغالب، تتضافر هذه العوامل الثلاثة معًا).

وتعد رواية «نساء صغيرات» (١٨٦٨) للويزا ماي ألكوت واحدة من أشهر القصص العائلية وأكثرها تأثيرًا؛ فهي تبدأ — على نحو مميز — بغياب السيد مارش عن عائلته (حيث يقوم على خدمة ورعاية الجنود إبان الحرب الأهلية الأمريكية). وعلى الرغم من أن عائلة مارش من الطبقة المتوسطة في التعليم والقيم والدور الاجتماعي، فإن دخلها قد تقلص إلى حدٍّ كبير؛ مما تسبب — بالإضافة إلى غياب السيد مارش — في أن تواجه العائلة التي تتكون من إناث أزمةً ماليةً. وتتحرك البنية بين الفصول التي تركز على المسرات والأزمات التي تمر بالحياة الأسرية، والفصول التي تتابع كل أخت من الأخوات على حدة وهي مضطرة إلى مواجهة مغرياتها الخاصة. وفي النهاية، يجتمع شمل العائلة، وعند تلك النقطة، يصبح من المؤكد أن الفتيات قد أصبحن النساء الصغيرات اللاتي كان والدهن يتمنى أن يُصْبِحنَ عليه لدى عودته. فقد تعلمن أن يؤثرن الآخرين على أنفسهن، وأن العمل يأتي قبل اللهو، وقد تشربن الرسائل المسيحية المرتبطة بكتاب «رحلة الحاج»، حيث تزخر الرواية باقتباسات من هذا الكتاب الذي يمثل العمود الفقري السردي لها. إن نضج فتيات السيد مارش يُعزَى إلى حدٍّ كبير إلى التربية الجيدة؛ فالأم مارمي كانت متواجدة دائمًا، تراقب وتستجيب لاحتياجات بناتها، في حين أن غياب السيد مارش وتوقعاته بشأن ما سيجد عند عودته تدعم من طرف خفي سلطته وتأثيره. وفي خضم العمل على الارتقاء إلى مستوى توقعات الأب، تعامل الفتيات والدهن كأنه صوت الضمير — الأنا العليا الأبوية — ومن ثَمَّ يتمكنَّ من التحكم في تصرفاتهن. وتتمثل إحدى الرسائل الدائمة للقصص العائلية في أن المسافة والاضطرابات لا تقسمان العائلة أبدًا، بل تلقيان على عاتقها بواجبات قد تمثل مصدر قوة لها.

يتكرر بنية ونمط رواية «نساء صغيرات» في العديد من القصص العائلية الأخرى. فنجد في محور سلسلة الروايات التي تتناول حياة عائلة بيبر (١٨٨١–١٩٦١)، للمؤلفة مارجريت سيدني (هارييت إم لوثروب)، شخصية مامسي، وهي أم أرملة على طراز شخصية مارمي، ساعدها اجتهادها وشخصيتها القوية القويمة على الحفاظ على تماسك العائلة وإخراج أفضل ما بداخل أبنائها الخمسة الصغار. يقضي القراء بعض الوقت مع كل ابن من الأبناء الصغار على حدة قبل أن تُكافأ الأسرة على فضائلها حين يأخذ رجل خيِّر ثريٌّ أفرادَ العائلة ليعيشوا بمنزله ويعولهم. كذلك تلتزم قصص الكاتبة إي نيسبيت بهذا التقليد: عائلات سعيدة تمر بأوقات عصيبة، وموت الأمهات، وغياب الآباء، ثم تستعيد الأسرة سيرتها الأولى. وتعتبر القصص العائلية لنيسبيت كذلك مثالًا نموذجيًّا على هذا الجنس الأدبي من حيث الطريقة التي تضع بها قصصها شخصية كل طفل في مركز مغامرة معينة، والتي تلقن درسًا محددًا في السلوكيات. ولكنها، مع ذلك، تشير إلى تغير جدير بالملاحظة، ألا وهو: غياب الرسالة الدينية الضمنية التي كانت تميز القصص العائلية الأولى. وقد اقترن هذا التغير بتقلص أهمية الوالدين باعتبارهما مرشدَين وموجهَين للأبناء.

أصبحت العلمانية وما صاحبها من تقزيم لسلطة الوالدين السمتين الأساسيتين للقصص العائلية طوال القرن العشرين. فعلى الرغم من أن والد الكاتبة نويل ستريتفيلد كان أسقفًا، فلم يَرِد ذكْر للرب أو لعقيدة دينية في القصص العائلية التي كتبتها ما بين عامَي ١٩٣٦ و١٩٦٨، وكان الآباء أو أولياء الأمور الآخرون يتسمون في الغالب بالسذاجة والافتقار إلى المهارات العملية، مما يعني أنه يجب على الأطفال تدبر أحوالهم بأنفسهم، بل وفي بعض الأحيان يعولون أنفسهم. ليس الفنانون وحدهم من يمكن أن يكونوا غامضين على المستوى الأسري؛ فالأبوان العالمان العبقريان في سلسلة كتب مادلين لانجل حول عائلة موري (١٩٦٢–١٩٧٣) يعتمدان كذلك على أبنائهما الأكْفَاء، الذين يزرعون الحديقة، ويعدون المشروبات الدافئة في منتصف الليل، وينقذون أبويهم وبعضهم بعضًا من قوى الشر التي أخرجتها تجارب العلماء إلى النور. (تتجلى عقيدة لانجل المسيحية في كتاباتها، إلا أن أفراد عائلة موري لم يصوروا كمسيحيين ورعين.) الأمر نفسه ينطبق على عائلة كاسون في سلسلة كتب «هيلاري ماكاي» (٢٠٠١–٢٠٠٧)، والتي تدور حول أربعة أطفال لأبوين فنانين يعيشان منفصلين، وكلٌّ منهما مستغرق في لوحاته؛ فيعيش الأطفال مع أمهم الحنون، ولكنها مشتتة الذهن؛ ومن ثَمَّ فإنهم يرعون بعضهم البعض إلى حدٍّ كبير ويديرون شئون المنزل.

تطرح الأمثلة السابقة بعض الطرق التي استجابت بها القصص العائلية إلى التغيرات الاجتماعية والثقافية في طبيعية العائلة، ولكنها لا تُظهِر إلى أي مدًى حلت الأسر التي تمثل بصورة أكبر الأسر الواقعية في المجتمع محل الأسرة البيضاء من الطبقة المتوسطة التي تمثل نواة المجتمع التي طالما هيمنت على أدب الأطفال حتى وقت متأخر من القرن العشرين. ومنذ ستينيات القرن العشرين، ظهرت عائلات الطبقة العاملة، والعائلات ذات الخلفيات العنصرية والعرقية المختلفة، والعائلات التي لا يرأسها والدان من جنسين متقابلين في القصص العائلية. إلا أن تضمين أنواع أكثر من العائلات لم يؤثر بالضرورة على الخصائص الأساسية للقصة العائلية. فتلتزم روايات ميلدريد دي تايلور حول عائلة لوجان — وهي عائلة من السود من الجنوب الأمريكي تعيش في ثلاثينيات القرن العشرين — بتقاليد هذا الجنس الأدبي الذي وضعته رواية «نساء صغيرات». فيقوم على تربية أفراد عائلة لوجان أبوان قويان ميولهما الجنسية سوية وماهران وجديران بالاحترام، وكل طفل في العائلة عليه التعامل مع المشكلات، ويواجه أفراد العائلة أزمة معًا؛ مما يوطد من أواصر علاقتهم أكثر وأكثر. ويتمثل الاختلاف عن تقاليد القصة العائلية في رواية عائلة لوجان في أنها عائلة من السود، وفي أن الرواية تناقش قضية العنصرية التي تؤثر على الكيفية التي تحيا بها العائلة. وهذا يعني أن رواية «يا دوي الرعد، اسمع صراخي» تولي تفاعلات العائلة مع العالم الواسع اهتمامًا أكبر مما تفعل العديد من القصص العائلية الأخرى.

في الحقيقة، هناك خيط يمر في ثنايا هذا الجنس الأدبي يتضمن العائلات التي تعيش بعيدًا جدًّا عن المجتمع لدرجة تندر معها مثل تلك التفاعلات، هذا إن وُجدت من الأساس. فبدايةً من رواية «عائلة روبنسون كروزو» للكاتب السويسري جوهان ديفيد وايس (تُرجمت إلى الإنجليزية عام ١٨١٤، وتُعرف الآن على نطاق واسع باسم «عائلة روبنسون السويسرية») ومرورًا بقصص رحلات عائلة إينجالس عبر أراضي الولايات المتحدة الممتدة، والتي ترويها لورا إينجالس وايلدر (١٩٣٢–١٩٤٣)، أدى أدب الأطفال إلى ظهور جنس أدبي فرعي مكتمل التطور من القصص التي تدور حول العائلات المغامرة والمكتفية ذاتيًّا. فلقد بدأت كلٌّ من عائلتَي روبنسون وإينجالس رحلتيهما لتحسين ظروفهما المعيشية، مما يشير إلى أحد العوامل الأقل وضوحًا ولكن الأقوى تأثيرًا في القصة العائلية، وهو: دور العائلة كوحدة اقتصادية.

تزامن مع بداية النشر التجاري لكتب الأطفال ظهور العائلة البرجوازية، وهيمنة الرأسمالية، وهما قوتان مؤثرتان تشكلان الطريقة التي تصور بها العائلات في روايات الأطفال. (أومالي ٢٠٠٣؛ رينولدز ٢٠٠٧). وفي عصرنا الحالي الذي يتسم بالأسفار السريعة، وطرق التواصل الفورية، يمكن أن تجتمع العائلة فعليًّا أو افتراضيًّا عند الضرورة في الغالب، ولكن القصص العائلية للأطفال ظلت لوقت طويل من تاريخها تعكس واقعًا مختلفًا. فبدايةً من القرن الثامن عشر وحتى العقود الأولى من القرن العشرين، كان تاريخ العائلة في الغالب زاخرًا بالفراق الطويل، سواء بدافع الحاجة إلى ملاحقة فرص العمل، أو الحالة الاقتصادية في أوقات الاستعمار، أو متطلبات بناء الإمبراطورية، أو التقلبات السياسية، أو ما تمليه الحياة العسكرية والإدارية والدينية من أوامر؛ وقد يفسر هذا الإصرار على أهمية وحدة الأسرة في القصص العائلية من ناحية، وكذلك قدرة أفراد العائلة على أن يزدادوا قوة بالافتراق من ناحية أخرى. قد تكون وحدة العائلة فكرة مثالية، ووهمًا نتمنى تحققه؛ فحقيقة الفراق يشار إليها بشكل مباشر في ظاهرة غياب أحد الأبوين المتوطنة وفي القصص العديدة عن الأطفال الذين يُرسَلون للعيش مع الأقارب. في الأساس، كانت مثل هذه القصص تميل إلى تصوير الأطفال الأيتام؛ أما اليوم، فقد أصبح تغيير العائلة على الأرجح نتيجة للطلاق والزواج مرة أخرى. وسواءٌ أكان التغيير الناتج عن العلاقات الأبوية الجديدة مُرحَّبًا به ويشكل مصدرًا للبهجة — كما هو الحال في رواية «الاستحواذ» (١٩٨٢) للكاتبة مارجريت ماهي — أو يبدأ بالرفض ثم ينتهي الصراع نهاية سعيدة — كما في رواية «عينان جاحظتان» (١٩٨٩) للكاتبة آن فاين، ورواية «الغول بالطابق السفلي» (١٩٧٤) لديانا وين جونز — أو كان سببًا في شعور الطفل بعدم القدرة على البقاء في المنزل فيبحث عن ملاذ لدى أقاربه — كما هو الحال في رواية ميج روزوف «كيف أعيش الآن» (٢٠٠٤) — فإنه غالبًا ما يسلط الضوء على المزايا المرتبطة بالعائلات في القصص العائلية التقليدية.

النزاعات العائلية

تستجيب القصص العائلية دائمًا للنظريات المتغيرة حول الأطفال والطفولة، إلى جانب أنها تتشكل بفعل العوامل العامة مثل التوجهات الاقتصادية والدينية. بعدما أصبح علم نفس الأطفال فرعًا علميًّا معترفًا به، فإن رؤاه العميقة — على سبيل المثال — بشأن العوالم الداخلية للأطفال وتطورهم الإدراكي واحتياجاتهم العاطفية، غزت أدب الأطفال بشكل عام وأثرت بقوة على القصة العائلية بشكل خاص. ويمكن رؤية ذلك بوضوح في فيض القصص العائلية للأطفال الصغار، والتي — بعيدًا عن تسليط الضوء على غياب الأبوين والعائلات التي تُجتَث من أصولها أو تُبتَلى بأزمات — تؤكد على الاستقرار والروتين المنزلي. وتتمثل الأمثلة النموذجية على هذه الرؤية في قصص دوروثي إدواردز «أختي الصغيرة الشقية» (١٩٥٢–١٩٧٤) وروايات بيفرلي كليري التي تدور حول بيزوس كويمبي وشقيقتها الصغرى رامونا (١٩٦٨–١٩٩٩). وعلى الرغم من اسمَي الأختين كويمبي الغريبين وصفة «الشقية» التي تصف بها الأختُ الكبرى — وهي الراوية — أختَها الصغيرة في قصص إدواردز، فليس هناك شيء غير معتاد يقع في أيٍّ من هذه القصص. وإنما تظهر العوالم الداخلية للأطفال ودراما الحياة اليومية في إطار العائلة. وفي حين أن أبطال هذه القصص مألوفون من واقع القصص العائلية التقليدية، فإن البناء السردي التقليدي الذي يعكس الاضطراب — حيث تُبتلى العائلات بمحن ثم تنتصر — غائب إلى حدٍّ بعيد عن هذه القصص. وهذه القصص تستهدف قراءً أصغر سنًّا إلى حدٍّ كبير من هؤلاء الذين استهدفتهم القصص العائلية السابقة، كما أنها — في السياق نفسه — تتكون من سلسلة من الحلقات المنفصلة بدلًا من تطوير بناء سردي مطول.
fig7
شكل ٤-٢: رسم شيرلي هيوز لقصة «في الحفل»، إحدى قصص مجموعة «أختي الصغيرة الشقية» (١٩٥٢)؛ حيث يصور الأخت الصغيرة الشقية وهاري السيئ وهما يأكلان خفية كل الحلوى في حفل عيد الميلاد لينتهي بهما الحال بألم في معدتيهما.2

يمكن الزعم بأن معظم القصص العائلية اليوم موجهة للقراء الأصغر سنًّا. وتتشابه قصص فرانشيسكا سايمون العديدة بعنوان «هنري المروع» (١٩٩٤– ) — والتي دائمًا ما تأتي في مجموعات قصصية متنوعة — في طبيعتها مع كتب إدواردز وكليري، بَيْدَ أن الجمهور يمكنه متابعة حظ هنري المروع في صيغ عدة. أما التغيير الأكثر جذرية الذي طرأ على الشكل، فهو فكرة القصة العائلية ككتاب مصوَّر. من الصعب على الكتاب المصوَّر بصورة فردية أن يخلق الإحساس بحميمية الأسرة الذي كان يميز القصص العائلية التقليدية. ومع ذلك، فإن القصص المترابطة مثل كتب شيرلي هيوز التي تدور حول لوسي وتوم (١٩٦٠– ) أو ألفي وآني روز (١٩٨١– ) تتعقب أحداث حياة العائلة على مدار الزمن وعبر مجموعة متنوعة من الأحداث اليومية والدراما العائلية البسيطة. وربما تكون لورين تشايلد أول مؤيدي فكرة القصة العائلية ككتاب مصوَّر، وتوضح أعمالها كيف تغيرت العائلات، وكذا طريقة تمثيلها في كتب الأطفال بمرور الوقت. فعلى سبيل المثال، مقارنةً بالروتين الهادئ الذي يسهل توقعه والذي يميز قصص لوسي وتوم، يبدو منزل كلاريس بين فوضويًّا. ومن بين الجوانب المهمة كذلك، أن لورين تشايلد تجعل كلاريس تروي قصصها بنفسها (١٩٩٩– )، وهكذا يختبر القارئ اضطرابات حياتها العائلية من منظورها الزاخر بالمشاعر؛ ومن ثَمَّ تختلف عن الوصف الدقيق الذي يأتينا بضمير الغائب، والذي يوضح كيف يقضي لوسي وتوم يومهما مع أمهما. ويعد تفضيل صوت الطفل ومنظوره تطورًا منطقيًّا للاهتمام بشأن العالم الداخلي للطفل الذي طُرِح في القرن الماضي، ويظهر كيف أن السياسات العائلية قد تغيرت بعمق بمرور الوقت. ويمكن رؤية ذلك بوضوح شديد في الطريقة التي تعالج بها المشادات بين الإخوة في القصص العائلية.

فحين يتشاجر أطفال فيرتشايلد على دمية في رواية ماري مارثا شيروود «تاريخ عائلة فيرتشايلد» (١٨١٨)، يُضرَبون بالعصا على أيديهم ويُعاقَبون بالوقوف في أحد الأركان طوال الصباح بدون تناول الإفطار، وفي المساء يُصحَبون لرؤية المشنقة التي تتدلى منها جثة رجل قتل أخيه فحُكِم عليه بالإعدام. ويوضح النص أن الأبوين فيرتشايلد يفعلان ما بوسعهما لأنهما يحبان أبناءهما، ويؤمنان أنه من واجبهما معاقبتهم أملًا في منعهم من أن يلقوا مصير الإخوة الذين لم يُعاقَبوا على شجارهم معًا. أما العقاب الذي يتبع الشجار الذي نشب بين جو وآمي مارش بعدما حرقت آمي بدافع من الحقد النسخةَ الوحيدةَ من الكتاب الذي كانت تكتبه جو، فهو عقاب ذو طبيعة أخرى، ولكنه صادم بالقدر نفسه، ويعتبر كذلك أن التنافس بين الإخوة أمر آثم ومهلك. ولشدة غضبها، لم تُحذِّر جو أختها آمي من أن الجليد في المنطقة التي تتزلج بها ليس آمنًا، فكادت آمي أن تغرق. ويتضح شعور جو بالندم حين تقر بأفعالها ومشاعرها لمارمي؛ ومن ثَمَّ لم تكن هناك حاجة لعقاب آخر. وتظهر شجارات الإخوة بصفة منتظمة في روايات «كلاريس بين» لحياتها العائلية. فكلاريس دائمًا ما تتشاجر مع أخيها الأصغر مينال — ولكن بعيدًا عن الإشارة إلى أي نزعة شريرة فطرية أو الانزلاق إلى منحدر الهلاك — فإن سلوكهما يعتبر جزءًا طبيعيًّا من الطفولة والحياة العائلية المعاصرة. وفي رواية «كلاريس بين، هذه أنا» (١٩٩٩)، عوقبت كلاريس على قيامها بقلب طبق من المكرونة الإسباجيتي على رأس مينال أثناء مشاجرة لهما، ولكن بدلًا من التأكيد على أهمية الإجراء التأديبي، أفسدت لورين تشايلد العقاب. وعلى مدار الكتاب، كانت كلاريس تتوق للحصول على بعض الهدوء والسكينة بعيدًا عن عائلتها؛ ومن ثمَّ فإنها تستمتع تمامًا بالثلاث ساعات الهادئة التي تقضيها في حجرتها كعقاب. كلٌّ من الكتب الثلاثة السابقة يشيد بحب الأسرة، ولكن سلوك كلٍّ منها تجاه المشاجرات التي تنشب بين الأطفال وأشكال العقاب تُظهر بوضوح الطرق التي تغير بها التفكير على مدار القرون.
fig8
شكل ٤-٣: من رواية لورين تشايلد «كلاريس بين، هذه أنا» (١٩٩٩). غرفة نوم كلاريس، توضح الطريقة التي تحاول بها كلاريس الفصل بين الجزء الخاص بها وذلك الخاص بأخيها من غرفة نومهما المشتركة في محاولة منها للحصول على مساحة شخصية لها في حياتها العائلية الصاخبة.3

وبينما قد تستخف كتب الأطفال بالخلافات بين أفراد العائلة، فبالنسبة للقراء الأكبر سنًّا، مثل هذه الخلافات لا تزال تظهر كشيء مضر. بدأت القصص العائلية للقراء الأكبر سنًّا تعكس الوعي بالنظريات الجديدة التي تُنسج حول العائلة مثل تلك المرتبطة بالطبيب النفسي آر دي لينج [أحد نشطاء حركة مكافحة الطب النفسي]. لقد كان لينج ناقدًا قويًّا للمؤسسة الأسرية، حيث كان يتهمها بأنها كيان قمعي يمنع الأفراد من استخدام مواهبهم، وبأنها أصل كل الأمراض العقلية. ومنذ ستينيات القرن العشرين، أصبحت روايات صغار الشباب تتضمن قصصًا عائلية مثل رواية إس إي هينتون «السمكة رامبل» (١٩٧٥)، ورواية روبرت كورماير «إننا جميعنا نسقط» (١٩٩١)، حيث تصور العائلة على أنها تهمل أفرادها وتستغلهم وتسيء معاملتهم وتخذلهم؛ ومن ثم تخذل المجتمع بشكل عام، وليست كيانًا لتقديم التوجيه والحماية والمساعدة على النمو.

العائلات والأصدقاء

بدأت هذه النظرة الشاملة بالإشارة إلى صمود القصة العائلية، رغم العديد من الضغوط التي مورست عليها مع اختلاف شكل العائلة على مدار الوقت. يتضح هذا الصمود في عدد من الروايات التي تبدو ظاهريًّا أنها حادت عن تقاليد القصة العائلية. على سبيل المثال، تحكي رواية جاكلين ويلسون «فتيات عائلة دايموند» (٢٠٠٤) قصةً عن عائلة مكونة من أم عزباء وخمس بنات كلٌّ منهن من أب مختلف. وشخصية سو دايموند نموذج مختلف تمامًا عن شخصية مارمي التي تتميز بالحكمة والتحكم في النفس: فسو تعيش على الإعانات التي تمنحها لها الدولة، ولا يبدو أنها قادرة على رعاية شئون المنزل، ولا تهتم بإطعام أطفالها على نحوٍ صحي أو التأكد من ذهابهم إلى المدرسة. وعلى الرغم من إخفاقاتها وحقيقة أن بناتها بدأن يكررن نفس أخطائها (حيث حملت إحداهن بنهاية الرواية)، فإن بناتها يحببنها ويحببن بعضهن بعضًا، ووفقًا لمعايير هذه الرواية العائلية، فإن هذا يجعلها أمًّا صالحة، ويجعل عائلة دايموند عائلة ناجحة. ورغم أن هذه الرواية مبهمة وترسل رسائل مختلطة حول سمات العائلة الصالحة في القرن الحادي والعشرين، فإنها تلتزم بالعديد من تقاليد القصة العائلية، وربما يكون ذلك في أوضح صوره في الطريقة التي تنتهي بجمع شمل أفراد الأسرة معًا والتأكيد على أن علاقتهم قد توطدت بفضل المشكلات التي واجهوها.

وعلى صعيد آخر، تعتبر رواية «ويتزي بات» (١٩٨٩) لفرانشيسكا ليا بلوك، نسخة مختلفة تمامًا للقصة العائلية المعاصرة. تنتمي رواية «ويتزي بات» إلى تيار داخل القصة العائلية يهتم بالعائلات المكونة من خلال الاختيار الحر وليس بفعل الاختيار البيولوجي. مثل هذه القصص تستجيب إلى نقد فكرة العائلة النواة من قِبل أنصار الحركة النسائية والمنظرين غريبي الأطوار الذين يرونها كيانًا ذكوريًّا هرميًّا غير ديمقراطي. وتسعى هذه القصص العائلية الجديدة إلى تطوير روح الاعتماد المتبادل بين الأشخاص، والتي تقوم على أساس المساواة وليست مستمدة من هياكل القوى التي تقوم على النوع والسن وتتحكم فيها قوى قانونية و/أو دينية. وفي رواية بلوك، يرث كلٌّ من ويتزي وصديقها المثلي ديرك — اللذين تركا الدراسة بالمرحلة الثانوية — منزلًا ويكوِّنان عائلة تتشكل من شريك حياة ويتزي، وشريك حياة ديرك، وطفلة ويتزي، التي حملت فيها بمساعدة الرجلين المثليين، وطفل شريك حياة ويتزي من علاقة سابقة غير موفقة. وهذه العائلة حديثة الطراز المكونة من الأصدقاء — أو «العائلة المختارة» — أصبحت قاعدة ثابتة قائمة على العواطف في عالم فوضوي عقيم. على الرغم من أن بنيان العائلة في رواية «ويتزي بات» جديد، فإن القيم والقواعد ليست كذلك. فعلى سبيل المثال، وفقًا للقصة العائلية التقليدية، فإن العائلة في هذه الرواية هي موضوع الكتاب، وكل شخصية تُفرَد لها مساحة خاصة. ويرتكب أفراد العائلة أخطاءً، ويتعاملون معها معًا، ولا يترتب على هذه الأخطاء أي نتائج مدمرة. ويكمن الاختلاف الرئيسي هنا في أن ويتزي وأصدقاءها يشكلون عائلتهم كما يريدونها أن تكون، وليس وفقًا للتعريف القانوني أو الديني أو البيولوجي للعائلة.

تمثل رواية «ويتزي بات» وغيرها من الروايات التي تسلط الضوء على العائلات المختارة أعراض نزعة راديكالية ناشئة متعلقة بمفهوم العائلة التي يعكسها ويطورها هذا التيار من القصة العائلية الحديثة. وفي حين أن الروايات غير التقليدية التي تركز على الحياة العائلية تحتفظ ببعض العناصر الأساسية للقصة العائلية التقليدية — لا سيما تركيزها على الأحداث التي يُبتلَى بها أفراد العائلة الذين يجمعهم الحب والوفاء — فإنها تحث القارئ أيضًا على تأمل آثار تغير طبيعة العائلة وهيكل القوة الخاص بها على الأفراد والمجتمع. وبذلك، فإن مثل هذه القصص تطرح بعض الجوانب القمعية والموروثات (عقدة أوديب، على سبيل المثال) المرتبطة بالنشأة في عائلة تقليدية، أو قد تنجح في محوها أو إزالة جوانبها السامة أو إعادة التوازن إليها. وكما يتضح من روايتَي «ويتزي بات» و«فتيات عائلة دايموند»، تستمر القصة العائلية في التطور، دون أن تتأثر قدرتها على الصمود.

تبين قضية القصة العائلية أن الوضوح الشديد للجنس الأدبي وقصص الجنس الأدبي في أدب الأطفال لا يشير إلى التحفظ الأدبي أو التبعية الإبداعية. أما الفصل التالي، على النقيض، فيدرس ما يحدث حين يدخل أحد أنواع أدب الأطفال في مرحلة الاحتضار.

هوامش

(1) The Bodleian Library, University of Oxford (Harding A236 (1787 edition), p. 48).
(2) From My Naughty Little Sister, by Dorothy Edwards. Text copyright © Dorothy Edwards 1952. Illustration copyright © Shirley Hughes 1952. Published by Egmont UK Ltd. London and used with permission.
(3) First published in the UK by Orchard Books, an imprint of Hachette Children’s Books, 338 Euston Road, London NW1 3BH2.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤