المساواة

خلَق اللهُ الناسَ بحسب فطرتهم متماثلين، وكذلك ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا متكافئين، ولكن دخولهم في ملاحم الحياة الاجتماعية يَنزِع عنهم لباس التماثل والتساوي، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات، وقد جمع هذه الأطوارَ الثلاثة قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ فقوله: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى رمز إلى فطرتهم الأولى، وقوله: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إيماء إلى نشأتهم الاجتماعية، وقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ تلويح إلى طور التمايز والتفاضل، وإيذان منه تعالى بالوسيلة التي نبتغيها إلى مقام الكرامة عنده وهي التقوى.

وقد رُوعِيَ في الإسلامية فطرةُ الله التي فطَر الناسَ عليها، فوُضِعَت تكاليفها على شكل التكافؤ، وأُدِيرَت سياستها على قطب المساواة، فلا فضل فيها لشريف على وضيع، ولا امتياز لملك على سُوقيٍّ، والعقوبة الموضوعة على صعلوك الأمة هي المحمولة على سيدها بدون فارقة، فلو ادَّعى أبو بكر الصديق أو عمر بن الخطاب على أدنى الناس وأفسقهم درهمًا واحدًا، لم يُقْضَ له باستحقاقه إلا بشهادة عادلة، وهذا المعنى عامٌّ في جملة الشريعة وتفاصيلها، ولا يبعُد استفادته من الآية التي كنا بصددها؛ فإن قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ وضع جميع الامتيازات وطرحها عن محل العناية والاعتبار ما عدا التقوى. والتقوى نفسها لم يجعل الشارع لها أثرًا في تغيير الحدود أو الاختصاص بحظ زائد من الحقوق، ضرورة أن التقوى عبارة عن العمل طِبق أحكام الشريعة بنيَّة وإخلاص؛ فالشريعة سابقة على العمل، والعمل تابع لها، ولم يخرج عن هذا الأصل إلا بِضعةُ أحكام خَص بها النبي أفرادًا من الصحابة بأعيانهم، كجعل شهادة خزيمة بشهادتين؛ فإنه أسرع دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله بأنه قد بايع الأعرابي، واستند في شهادته إلى البراهين الدالة على وجوب تصديقه في كل ما يُخبر به، لا فرق بين ما يُخبر به عن الله وبين ما يُخبر به عن غيره، فتفطُّنه لأخذ حكم هذه القضية من الأدلة العامة مَزِيَّة استحق بها هذه الخصوصية.

ونظرًا إلى قاعدة المساواة قال علماء الأصول: خطاب الشارع لواحد إن لم يدل الدليل على اختصاصه بالحكم يعم جميع الأمة. ولكن تنازعوا في طريق العموم، قالت الحنابلة: يتناولها بنفس الصيغة. وقال غيرهم: يتناولها بالدليل المرشد إلى تساوي الأمة واشتراكها في الأحكام.

ومن أدلة المساواة قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أخذت هذه الآية بعَضُد المستضعَفين من الناس، وأوقفتهم في مرتقى أولي القوة جنبًا لجنب؛ إذ المعروف في الإخوة اتحادهم في النسب، وهو يقتضي عدم تفاضلهم وتمايزهم في الحقوق؛ فالآية وإن دلت على التوادد والتراحم من جهة لا تخلو من الدلالة على المساواة من جهة ثانية.

وسار أبو بكر الصديق بعد النبي بسيرة القرآن، فلم تشغله مقاليد الخلافة في يده أن يقوم خطيبًا على ملأ من المسلمين بقوله: «أيها الناس، قد وُلِّيتُ عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق إن شاء الله تعالى.» ثم قال: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.» فعيَّن بهاتِه الخطبة للحكومة الإسلامية مركزًا ثابتًا تدير عليه أمور سلطتها؛ وذلك قوله: «أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.» وفتح في وجوه الرعية فُرَجًا يرددون منها أنفاس الحرية مع أولي الأمر، وأمر بالإنكار والمعارضة عندما تنحرف تلك السلطة عن مركزها يمينًا أو شمالًا؛ وذلك قوله: «وإن أسأت فقوموني.» وجعل بيدهم عُقدة عزل الأمير وتركه غير مأسوف عليه إن لم يُقوِّم اعوجاجَه، ويرجع بسلطته إلى دائرتها المرسومة لها شرعًا، وذلك قوله: «فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.» وقوله: «والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق.» من دلائل المساواة.

وانظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف يخاطب رعيته بقوله في بعض خطبه:

إن كان بيني وبين من هو منكم شيء من أحكامكم، أن أمشي معه إلى من أَحبَّه منكم، فينظر فيما بيني وبينه.

وهذا نهاية ما يُحتَجُّ به للمساواة؛ لما فيه من التصريح بأن كل واحد من الرعية محكوم من وجه حاكم من وجه آخر، فلا يَسوغ للحاكم أن يقضي لنفسه، كما لا يجوز له القضاء بشهادته لغيره، بل يرفع الخصومة إلى غيره من الحكام، وإن لم يكن معه حاكم، رفع ذلك إلى رجل من رعيته، كما فعل عمر — وهو خليفة — حين قاضى رجلًا إلى أُبي بن كعب، وأبي بن كعب ليس بذي سلطان.

وكتب عمر في رسالته إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:

آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك؛ حتى لا ييئسَ الضعيف من عدلك، ولا يطمعَ الشريف في حَيْفك.

ولم يقتصر على التعاليم القولية حتى عزَّزها وشد نطاقها بمثلها من الأعمال المطابِقة، كقصته مع جبلة بن الأيهم — ملك غسان — وما شاكلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤