الحرية في الأعراض

يريد كل امرئ أومضت فيه بارقة من العقل أن يكون عِرضُه محل الثناء والتمجيد وحرمًا مصونًا لا يرتع حوله اللامِزون، وهاته الإرادة هي التي تبعثه على أن يبدِّد فريقًا من ماله في حل عِقال ألسِنة؛ لتكسُوَه من نسْج آدابها حُلَّة المديح، أو يسُدَّ به أفواهًا يخشى أن تصب عليه من مرائر أُحدوثتها عَلقمًا، قال بعضهم:

أصُون عِرضي بمالي لا أدنِّسه
لا بارك الله بعد العِرض في المال

وقد تتقوَّى هذه الداعية فتبلغ به إلى أن يخاطر بحياته، ويَنصب جَنبَه لسِهام الرزايا عندما يُرْجَمُ بشتيمة تلوِّث وجه كرامتِه، ويتجهَّم بها منظرُ حياتِه، قال أبو الطيب المتنبي:

يهُون علينا أن تُصَابَ جسُومُنا
وتسْلَمَ أعراضٌ لنا وعقول

ولا يتفاضل الناس في مراقي الشرف والمَجَادة أو تتَسفَّل هممُهم إلى هاوية الرَّذالة، إلا بمقدار ما تجد بينهم من التفاوت في عُقدة هذه الإرادة قوة وانحلالًا، فبقوة هذه الإرادة يتجلى لنا في مظاهر الإنسانية مطبوعًا على أجمل صورة من الكمال، وبسبب ضعفها تنزل به شهواته من سماء الإنسانية إلى أن يكون حيوانًا مُهمَلًا، وأعظمُ مثال يكشِف لك عن فَنائها وسكون نبضها رجلٌ يأتي الفاحشة ويعانق الرذيلة غيرَ مستور عن أعين الشاهدين، ويرى أثرها بمثابة وِسامِ افتخارٍ في صدر رجل من مشاهير الأمة، فحال هذا الرجل مستثناة من عموم النصوص الواردة في حفظ عرض الإنسان في غيبته، إذ يُعَدُّ اختيارُه لجلسته بقارعة الطريق وهتكُه لسِتر كرامته بنواجذه دليلًا واضحًا على عدم تحرُّجه ومبالاته بذلك، فينزل منزلةَ الإذن الصريح لغيره أن ينشر عوراتِه التي خرَقها هو بنفسِه علانيةً.

ونستفيد من هذا أنه لا يَحِق للطاعن أن يتخطى المعائب التي يجهَر بها صاحبها إلى النقائص التي يُحرِزها بغطاء الستْر والكِتمان؛ لقوله: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ، وقوله تعالى: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، وفي هذا التشبيه إشارةٌ إلى أن عِرض الإنسان كَدمِه ولحمِه، وهو من باب القياس الظاهر؛ لأن عِرض المرء أشرف من بدَنه، فإذا قبُح من العاقل أكلُ لحوم الناس لم يَحسُن منه قرضُ أعراضِهم بالطريق الأَوْلى، فالمذامُّ التي تلتصِق بالشخص خِفْيةً لا يسُوغ لآخر تكشَّف عليها أن يُحرِّك بها لسانَه، ويتمضمضَ بإذاعتها في المجامعِ إلا في مواضعَ يدورُ حكم الاستباحةِ فيها على درء مَفسدةٍ تنشأ عن عدم التعريف بها، كإبدائها على وجه النصيحة الخالصة لمن عزَم على ربط العلاقةِ مع صاحبِها بمصاهرةٍ أو معاملةٍ مالية مثلًا، وكإنهائها إلى من له طاقةٌ على إقلاعه عنها وانتزاعِها منه مثل الأمير الأعلى والمعلِّم المطاع، وما يَسلكُه أهل الصحافة في أرباب الولايات من تتبُّع مناكرهم وعَرضِ مظالمهم على أنظار الحكومة لا يخرج عن هذا القبيل، ولكن على شريطة التجرُّد عن الأغراض الشخصية، والتحقُّقِ من صحة ذلك بإسناده إلى حُجَّة قوية مع اللطف في العبارة، وصنيعُهم على هذا الشرط يدٌ شاملة يُطوِّقون بها جِيدَ الأمة، ويدينون بها الحكومة العادلة.

ومثلُ هذا في الإباحة للضرورة تمكينُ الخصوم من إثبات الجَرْحة في الشهود، فإن الحاكم لا يقضي بشهادة امرئ إلا إذا صحَّت عدالته، وقد يرمي أحدُ الخصمين الشاهدَ بريبة تقتضي بطلان شهادته عليه، ويستند في ذلك إلى بيِّنة تُصدِّق دعواه، فلا غنى للحاكم هنا عن فتح السبيل للقدح في عدالة الشاهد وذكره بما يسوء عِرضه في مجلس القضاء؛ لئلا تَضيعَ الحقوقُ بشهادة السفهاء من الناس.

ولما تجاسر كثير من أهل الأهواء على اختلاق أحاديثَ يفترونها كذبًا ويُسْنِدونها إلى رسول الله ؛ ليؤيدوا بها مزاعمهم أو يَقضوا بها حاجةً في نفوسهم قام العلماء بحق الوراثة المنوطة بعُهدتهم من قِبل صاحب الشريعة، وأخذوا في نقد ما يُرْوَى من الأحاديث؛ حتى يتميز الخبيثُ من الطيب والصحيحُ من غير الصحيح، فاحتاجوا إلى التعرُّض لحالة الرواة، وإذا علموا من أحد سُوءًا بادروا إلى الجَهْر به وتعيين اسمه؛ ليَحذرَه الناس ولا يتلقَّون روايته بالقبول، وهكذا الحكم في كل طائفة تحمَّلت في عُهدتهم أمرًا يُشْتَرَط فيه الثقةُ والأمانةُ كالقضاء والفتوى؛ ولهذا لا نرى أهل الورَع من العلماء يُهمِلون في كتب التراجم ذِكرَ من تصدَّروا للأحكام أو الفتوى والتصريحَ بما يقع في سيرتهم، أو يَنطوي في سريرتهم من الأحوالِ المانعةِ من الاقتداء بهم والأخذِ بمذاهبِهم، وربما استطردوا بيانَها في أثناء تحاريرهم العلمية، ونضرب لك في صحة هذا مثلًا، يقول المالكية: لا حكم ولا إفتاء إلا بما جرى به العمل. ويُقرِّرون في شروطه أن يكون الذي أجرى العمل أهلًا للاقتداء به قولًا وعملًا، إذ كثيرًا ما هَزَلَت هذه المناصبُ حتى سامها كل مُفلِسٍ من العلم فقيرٍ من التقوى، ولولا ما تُسطِّره أقلامُ الكرام الكاتبين وتنطق به الثقاتُ روايةً ما اهتدينا إلى معرفة من يجب الاقتداء بأحكامه وفتاويه، ومن يجب الإعراضُ عن الاقتداء به صَفحًا.

الجنايةُ على الأعراض غيرُ منضبِطة، بل تختلف آحادُها اختلافًا كثيرًا، فرُبَّ صفةٍ يُنعَت بها رجل فلا تَحطُّ من شأنه، وتُعلَّق على آخر فتنقلب سِبابًا، ومن أجل اختلافها في التأثير على حال المجني عليهم لم تضع الإسلامية بإزائها عقوبةً محدودة، وفوَّضت تعيينَها وتقديرَها إلى اجتهاد الحاكم، فإذا وقعَت الواقعة تلقَّاها بمزيد الضبط، ثم اجتهد في عقاب الجاني رأيَه، ما عدا حَدَّ القذف بالزنا، فقد قرَّرت له جزاءً مفروضًا هو الجَلْد ثمانين سَوطًا، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، ووجب هذا الحد في القذف بالزنا، ولم يجِب على من يرمي غيرَه بالكفر الذي هو أكبرُ جريمةً وأعظمُ إثمًا؛ لأن فاحشة الزنا يأتيها الشخص خِفيةً، ويبالغ في سَتْرها ما استطاع، فإذا رمى بها أحدٌ إنسانًا احتمل أن يكون صادقًا، ولا سبيل للعلم بكذِبه، وأما إذا رماه بالشرك فإن تلبُّسَه بشِعار الإسلام والناسُ ينظرون يكفي شاهدًا على كَذِب من رماه، ثم إن العار الذي يلحَق من قُذِفَ بالزنا أعلقُ من العار الذي ينجَر إلى من رُمِيَ بالكفر وأبقى؛ فإن التوبة من الكفر على صدق القاذف تُذهِب رِجسَه شرعًا، وتغسِل عاره عادةً، ولا تُبقي له في قلوب الناس حِطَّة تنزل به عن رتبة أمثاله ممن وُلِدُوا في الإسلام بخلاف الزنا، فإن التوبة من ارتكاب فاحشتِه وإن طهَّرت صاحبَها تطهيرًا ورفَعَت عنه المؤاخذةَ بها في الآخرة يبقى لها أثرٌ في النفوس يَنقُص بقدْره عن منزلة أمثالِه ممن ثبَت لهم العفافُ من أول نشأتهم، وانظر إلى المرأة يُنْسَبُ إليها الزنا كيف يَتجنَّب الأزواج نكاحَها، وإن ظهرت توبتُها، مراعاةً للوصمة التي أُلْصِقَت بعِرضها سالفًا، ويرغبون أن ينكحوا المشركة إذا أسلمت رغبتَهم في نكاح الناشئة في الإسلام.

وخفَّف الله عن الرجلِ القاذفِ لزوجه، وشرع له مَخْلصًا عن الحد باللعان؛ لاحتياجه إلى دَفْع ولَد الزنا عنه، وقَطْع نسَبِه الفاسد منه، ولأن الغالب من حال الرجل مع امرأته أنه لا يقذفها إلا عن حقيقة، إلا أن شهادة الحال وحدها لا تكفي في صحة ما يدَّعيه عليها، فأُضِيفَ إليها ما يُقوِّيها من الأيمان؛ قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.

ولما كان الشاهدُ بالزنا يلتبِس أمرُه بالقاذف شديدًا، فربما ينوي الرجل قذف آخر، فيرميه بالزنا في صورة الشهادة عليه، والذي هو شاهد حقيقة قد يدفعه المشهود عن نفسه، ويزعم أنه قاذفٌ يستحق العقوبة أقام الشارع فرقًا فاصلًا بينهما، فاشترط في صحة الشهادة على الزنا أربعةَ عدولٍ، فإن القاذف يتميز عن الشاهد بوصفين: التهاون بأمر الدين، والغِل الواغر في صدره بالنسبة للمقذوف، ومن البعيد اتفاقُ هذين الوصفين في جماعة من المسلمين عُرِفوا بالعدالة، فإذا لم يَتِمَّ نصابُ الشهادة التحق الشاهد بالقاذف، وأُجْرِيَ الحدُّ عليه.

وكثير من أحكام الشريعة ما هو مبنيٌّ على مبدأ صيانة الأعراض كرعاية الكفاءة في الأزواج؛ فإن اقترانَ المرأةِ بمن هو أدنى منها حسبًا وأخفَضُ منها حالًا لا يخلو عن حِطَّةٍ في العادة يشملها عارُها، ثم يمتدُّ إلى وليِّها وذوي قرابتِها، ويُعرِّض بولدها لأن يُلاقي من عشيرته مقتًا وهوانًا، قال الشاعر العربي:

وإن ابنَ أختِ القوم مُصغًى إناؤه
إذا لم يزاحِم خالَه بأَبٍ جَلْد

ويؤثِّر عدم الكفاءة في المعاشرة بين الزوجين شغْبًا واضطرابًا بسبب فَخار المرأة وتطاولها، وربما نَزَع من يد الزوج سلطتَه التي يحوط بها عفَّتَها، ويصون بها كرامتَها، لإباية النفوس طبيعةً من الطاعة لمن هو دونَها مدنيةً وآدابًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤